الواقع وما وراء الواقع
الناس رجلان في طريقة النظر إلى الأشياء من حولهم، وكثيرًا ما تتجاور الطريقتان في ثالث.
أمَّا الأولى فهي أن يحصر الإنسانُ إدراكَه في حدود الشيء الذي يُدركه؛ فليس له من هذا الشيء إلا ما يقعُ عليه البصر أو ما تَمسُّه الأيدي، أو غير ذلك من جوانبَ مما له صلةٌ بهذه الحاسة أو تلك، فكأنَّما هو حيالَ ذلك الشيء أداةُ تصوير أو تسجيل، تلتقطُ ما هنالك من ظواهر الضوء والصوت والحجم والوزن، وما إلى هذه الحقائق التي يمكن إدراكُها بالحواس، أو بمختلِف الأجهزة التي تُعين الحواسَّ بكثيرٍ أو قليل من ضبطٍ ودقة.
وأمَّا الطريقة الثانية من النظر إلى الأشياء، فهي التي لا يكتفي أصحابُها بالشيء كما تراه العينُ أو تسمعه الأذن أو تمَسُّه الأصابع؛ لأنَّ هذه «الظواهر» عندهم هي أشدُّ جوانب الشيء تفاهةً وقِلةَ شأن، وإنَّما وراء هذه الظواهر «بواطن» هي التي تؤلف حقيقةَ الشيء ولُبَّه وصميمَه، وإذن فما تلك الجوانبُ الظاهرة للحواسِّ إلا رموزٌ تشير إلى حقيقةٍ تخفَّت وتستَّرَت، بحيث لا يكون إدراكها بالبصر والسمع واللمس، بل يكون إدراكها بقوةٍ أخرى، يتفاوتُ الناس في أنصبتِهم منها، وإن شئتَ فسَمِّها «بصيرة»، تُدرك ما لا يُدركه البصر، فلئن كانت الأشياءُ كما نُصادفها في دنيا الواقع المُحَسِّ هي الحقيقةَ نفسَها التي لا حقيقة وراءها من وجهة نظر الطائفة الأولى؛ فهي لا تَعْدو عند الطائفة الثانية أن تكون رموزًا ترمز إلى مجهولٍ وراءها، وإمَّا أن يكون لديك من قوة البصيرة ما يُمكِّنك من رؤية هذا الوراء المجهول، وإمَّا ألَّا تكون هذه القوة الإدراكية من نصيبك، فعندئذٍ سوف تُحدق بالعينَين ما تحدق، دون أن ترى شيئًا، فتنكر أن يكونَ لهذا الوراء الخافي وجود.
والطائفة الأولى هي زُمرة العلماء، وأعني علماءَ الكيمياء والفيزياء وما شابهَهم من سائر العلماء الذين يتَقصَّون بالنظر «ظواهرَ» الطبيعة ليستخرجوا قوانينَها، وأمَّا الطائفة الثانية فرجالها كثيرون، يتشكَّلون أنواعًا وصنوفًا، ولعلَّ ذروتهم أن تكون في جماعة «المتصوفة» الذين يَنشُدون رؤية «الحق» عن غيرِ طريق الحواس، بل عن غير طريق العقل، وإنَّما عن طريق ما يُسمى «بالحَدْس» أو البصيرة أو العيان الرُّوحاني المباشر.
على أنَّه كثيرًا ما يحدث أن يكون للرجل الواحد هاتان النظرتان معًا، يستخدم كلًّا منهما في مجال، فهو يتشبَّث بالواقع المحسوس إذا كان في مجال بيع أو شراءٍ أو طعام وشراب، إنَّه لا يرضى وهو في هذا المجال العملي أن يدفع ماله ثمنًا لدار يشتريها أو لثوبِ قماش، ثم يرضى بعد ذلك أن يعود خاليَ اليدَين مما اشترى، على زعمٍ له من البائع أنَّ الدار التي اشتراها أو ثوب القماش، ما هو إلا رمزٌ لما وراءه، فليترك هذا الرمزَ لينصرف إلى البحث عمَّا يرمز إليه في دنيا الطيِّ والخفاء، لا، إنَّه في مجال الحياة العمَلية يقبض على الواقع بكِلتا يدَيه؛ لأنَّه آنَئذٍ هو كلُّ ما يعنيه، لكنَّه في ساعات الفراغ المتأمل، بعد أن يكون قد طَعِم وشرب واكتسى، لا بأس عنده في أن «يتفلسف» على النحو الذي يوهم بأنَّ كلَّ هذه الأشياء التي نشط لكسبِها بياضَ نهاره، ليست إلا «ظواهر» طافيةً كرِغْوة الماء على سطح الوجود، وعلى الحكيم أن يمحوَ غِشاوتَها من أمام عينيه، ليرى بواطنَها الخافية، التي هي الحقُّ الثابت الدائم الذي لا يتبدل ولا يتحوَّل ولا يزول، ومن هذا الطِّراز من الرجال، أعني الطراز الذي يتمسَّك «بالواقع» في حياته العمَلية — أو العِلمية — ثم لا يلبَثُ أن يتنكَّر له في حياته المسترخية المستريحة من قيودِ ذلك الواقع، أقول إنَّ مِن هذا الطراز من الرجال تتألَّف الكثرةُ الغالبة من البشر، وأمَّا الذين يحدُّون أنفسَهم بحدود الواقع في كل الظروف، فقِلةٌ قليلة، وكذلك هم قِلةٌ قليلة أولئك الذين يُصروُّن على مُجاوزة الواقع إلى ما قد خفي وراءه في كلِّ الظروف كذلك.
الفرق واضح — فيما أرى — بين أن يكون الشيءُ الواقع حقيقةً مقصودة لذاتها، وبين أن يُتَّخذ دليلًا على سِواه؛ فالضوء الأحمر في علامات المرور هو ضوءٌ كأي ضوء آخَر مما يقعُ على العين المبصِرة، ولكنَّه قد يُتَّخذ دليلًا على أمرٍ أصدره الشرطيُّ بأن تقف السياراتُ العابرة حتى يأذنَ لها باستئناف الحركة، وعَلَم الدولة هو قطعةٌ من قماش، كأيِّ قطعة أخرى من قماش، لكنَّه قد يُتخذ رمزًا يدلُّ على دولة قائمةٍ واجبةِ الاحترام، وعقارب الساعة وهي تُشير إلى أرقام رُقمت على وجهها، هي قِطَع من معدن تتحرَّك كما يتحرك سِواها من أجزاء المادة المتحركة، لكنَّها في كل وضعٍ من أوضاعها تدلُّ على «زمن»، ونستطيع أن نمضيَ في ذكر الأمثلة مئاتٍ وألوفًا لأشياءَ نراها على وجهٍ ونتَّخذُ منها دليلًا رامزًا على وجه آخر، وأول هذين الوجهين هو الواقع كما تُدركه حواسُّنا، والوجه الثاني هو ما وراء هذا الواقع، فإذا أنت توسَّعتَ في هذه التفرقة ووعَيتَها، وجدتَ الإنسان الحي: واقعه المحسوس بدن بكل ما فيه من أجهزةٍ للهضم والتنفُّس وغيرهما، وما وراء هذا الواقع روحٌ نستدلُّها ولا نراها، ووجدتَ الطبيعة كلَّها بما فيها من أكوانٍ فلكية، واقعها هو هذا الذي تراه وتلمسه، ووراء هذا الواقع قوةٌ عُظمى تستدلُّها ولا تراها.
على أنَّ الناس — كما أسلفنا القول — يختلفون درجاتٍ في محور التركيز: نفرٌ قليل ينحصر في الواقع المرئيِّ المحسوس غاضًّا نظرَه عن مهمة الرمز التي قد ينسبها آخَرون إلى هذا الواقع، ونفرٌ قليل آخرُ يُجاوزون الواقعَ المرئي، لا يقفون عنده لحظة، إلَّا ريثَما يطعمون بأقلِّ الزاد، ويكتَسون بأقلِّ الثياب؛ لكي يُسارعوا إلى ما وراءه، ثم كثرةٌ كاثرة تُحاول الجمع بين النظرتين، فتجعل من يومهم ساعاتٍ للواقع يقفون عنده من حيث هو، وساعاتٍ أخرى لما يفرضون وجوده وراء ذلك الواقع.
وعلى هذا النحو نفسِه تختلف العصور، وتختلف الأمم، فمِن عصور التاريخ ما تغلب عليه النظرةُ إلى الواقع كما تقع صورتُه على حواسِّ المشاهدين — مثل عصرنا الراهن في جُملته — ومنها ما تغلبُ عليه النظرةُ الأخرى التي تتَّخذ من هذا الواقع رمزًا، ثم تُحاول البحث وراءه عمَّا يرمز إليه — مثل العصور التي اشتدَّت فيها روحُ التدين — ومنها عصورٌ حاولَت أن تُوازن بين النظرتين كما حدثَ في ظني إبَّان القرن الماضي حين كادت تتجاوزُ مثالية هيجل مع وضعية أوجست كونت، وكذلك تختلف الأممُ كما تختلف العصور، ولقد جرى عُرف الناس في أحاديثهم الجاريةِ على أن ينعَتوا الشعوبُ التي يغلبُ عليها الوقوفُ عند حدود الواقع لا يُجاوِزونها ما استطاعوا، بأنَّها شعوبٌ «مادية» — كما نقول اليومَ عن الشعب الأمريكي مثلًا في وقفاته العِلمية الصارمة — وأن ينعَتوا الشعوب التي يغلبُ عليها الميلُ إلى مُجاوزة الرمز إلى المرموز إليه — أعني مجاوزة الواقع إلى ما وراءه، بأنَّها شعوب «روحانية» — كما نقول نحن عن أنفسنا أحيانًا، وعن الشعب الهندي، وعن الشرق كلِّه بصفة عامة.
أمَّا بعدَ هذا التمهيد الشارح، فإني أعرِضُ للمشكلة الكبرى التي تَشغلني وتشغل سِواي من رجال الثقافة في الأمة العربية، وهي: كيف نلتمسُ لأنفسنا طريقًا في عصرنا هذا، بحيث نُعاصره حقًّا وفعلًا وإيجابًا، ونحافظ في الوقت نفسه على المقوِّمات الأساسية التي تجعلنا أمةً عربية؟
إنَّ أغلب الظن عندي هو أنَّ أوضح سِمة تُميز العربيَّ في ثقافته — وذلك حين يكون هذا العربيُّ في عصور قوته — هي أنَّه يُوازن في دقةٍ وبراعةٍ بين وجهَي الحياة؛ فللواقع المحدودِ المحسوس مجال، ولما وراءه مجالٌ آخَر، بحيث لا يطغى أحدُ المجالين على الآخر، بل يتكاملُ المجالان في حياةٍ سوية متَّزنة، وربما كان المعنى المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسانُ لدنياه كأنَّه يعيش أبدًا، ولآخرتِه كأنَّه يموت غدًا، هو وجوبُ مراعاته لهذا التوازنِ بين النظر إلى الواقع حين ينبغي أن يحصرَ رؤيتَه فيه، ثم النظر إلى ما وراءه باعتبار الواقع في هذه الحالة رمزًا يُشير إلى ما هو أرفعُ وأسمى؛ فالواقع مهما كانت قيمته، إنَّما هو جزئيةٌ عابرة تجيء وتمضي، وأمَّا ما يمكن أن يُشير إليه فمُطلقٌ أزلي لا يتَعاورُه الحدوثُ والفناء.
لكن الأمة العربية لم تكن دائمًا بهذه القوة التي تُوازن بين الطرَفَين في اتساقٍ وتوازن، بل أصابها الضعفُ حينًا، ولعلها ما زالت تئنُّ من بعضِه إلى يومنا، فماذا يصنع ضعيفُ البِنية إلا أن يفرَّ من حمل الأعباء الثِّقال؟ ماذا يصنع ضعيفُ المعدة سوى تجنُّب الطعام؟ ومثل هذا الفرار رأيناه في العربيِّ الضعيف، حين رأيناه يفرُّ من الواقع لائذًا بما وراه، فتكون النتيجة أن يضيع منه الجانبان معًا، عندئذٍ يكثر التواكل والتخاذل، وتشيع الخرافة، ويضيعُ الإيمان بالعلم وروابطِه السببية! إذا أراد الناس قمحًا ليأكلوا، فلماذا يلتمسونه على أرض الواقع ما دام في وُسْع أصحاب الخوارقِ أن يضَعوا أيديَهم في أوعيتهم الخاليةِ فإذا هي مليئةٌ بالخبز والأرز واللحم والمَرَق؟
على أنَّ ضعف العربي الضعيف لم يَظهر دائمًا في صورة الفرار من الواقع، بل كثيرًا ما ظهر — وما يزال — في الوقوف عند الواقع المحسوس، لا وقفة العلماء يُحللونه ويُركِّبونه ويخترعون منه الأجهزةَ العلمية ويخلقون منه حضارةً جديدة، بل وقفة الخُلَعاء يُكثِرون من الطعام والشراب والثياب والبذخ واللهو الفارغ، وسواءٌ لَهَا العربيُّ الضعيف عن الواقع أو انغمس فيه، فهو في كِلتا الحالتين صورةٌ شائهة للثقافة العربية إبَّان قوتها.
ومع ذلك فهذا كلام جاء عرَضًا في سياق الحديث، وليس هو ما قصدتُ إليه، وإنَّما قصدتُ إلى بحثٍ للثقافة العربية الحديثة عن وقفةٍ تُحقق بها ذاتها وتُشارك بها عصرها في آنٍ معًا، وهي إنَّما تُحقق ذاتها — ولا جدالَ في هذا — بأن تُضيف إلى الواقع ما وراءه، ولكن كيف؟
تستطيع أن تقول عن عصرنا هذا أيَّ شيء تريد، لكنك لا بدَّ ناعِتُه بأنَّه عصر علمي من الرأس إلى أخمَصِ القَدَم، ولا ينفي عن العصر عِلميتَه هذه أن نراه يلجأُ في دنيا الأدب والفن إلى ضروبٍ يتحلَّل فيها من روابط المنطق، مستهدفًا بذلك أن يُزيح عن ظهره صرامةَ العلم ومنطقَه ولو لبضع ساعاتٍ ليستريح، وإذا قلنا عن العصر إنَّه ذو طابَع عِلمي ظاهر في أدواته وآلاته وتقنياته، فقد قلنا بالتالي إنَّه عصرٌ يرتكز على «الواقع» وحدَه، وإلا فهل يترك عالمُ الضوء — مثلًا — ظاهرةَ الضوء لينظرَ إلى ما وراءها؟ هل تريد لعالم الطبيعة الذريَّة أن يغضَّ النظر عن الذَّرة التي هي موضوعُ بحثه ليبحث عن خَفاءٍ كامنٍ خلفها؟ لا؛ فالعلم مربوطٌ بالواقع أوثقَ الروابط، والعالِم مشدودُ العنق إلى موضوع بحثه، يصبُّ عليه المشاهدة، ويُجري عليه التجارِب، ليستخرجَ خصائصه وتفاعلاته مع غيره، ثم ليصوغَ له القوانين آخِرَ الأمر في صورةٍ رياضية ليتمكَّنَ الإنسانُ بعد ذلك من إلجام الظواهر الطبيعية بكلِّ ما استطاع من شكائم، فيركبها ويوجِّهها، كما يفعل مهَرة الفرسان في جيادهم.
فإذا شاء العربي أن يُعاصر زمانه، فلا مندوحةَ له عن العلم، ثم العلم، ثم لا ثُم بعد العلم، وإنَّما عنَيتُ العلم بمعناه الطبيعي، لا بالمعنى الذي يتصوَّره بعضُنا حفظًا لما ورد في صحائف الأقدَمين، فلن تزدادَ عصريةً لو رويتَ عن ظهر قلبٍ ألفَ ألفِ بيت من الشعر، لكنَّك تزداد عصريةً لو شاركتَ في العلم بالإلكترون وفي تسييره لخدمةِ الإنسان، وكما أنَّ الحياة يقَظة للنشاطِ المنتج، ونعاسٌ للراحة والأحلام، فكذلك حياة الإنسان الثقافية: يقَظتُها في دراسة العلم الطبيعي وتطبيقاته، ونُعاسها الحالم في رحاب الأدب والفن.
ولنترك المعاصَرة ووسيلتها؛ فما أظن عليها بين أولي الرأي اختلافًا ولا خلافًا، ولْنعُد إلى سؤالنا الأهم والأعوص، وهو: ماذا عسانا أن نُضيف إلى العلم مِن لدنَّا لنُصبح عربًا، بعد أن بِتْنا بالعلم معاصرين؟ .. الجواب هذه المرةَ يكمنُ فيما وراء الواقع؛ فلئن كان الواقع المرئي، الذي هو مجال العلوم الطبيعية، مشتركًا بين الناس أجمعين، فإنَّ ما وراء الواقع تختلفُ صورته باختلاف الأمم، بل إنَّها لتختلفُ في الأمة الواحدة باختلاف الأفراد في أنصِبَتِهم من الثقافة.
ولو أمعنتَ النظر حولك في أحاديثِ الناس ومَسالكهم لرأيتَ هذه الحقيقة ماثلةً أمام عينيك، لا، بل إنَّك لتراها مُلقاةً أمامك على قارعة الطريق، لا تتطلَّب منك إمعانًا للنظر، وهي أنَّنا لا نكاد نَغفل عمَّا وراء الواقع في حياتِنا لحظة؛ فذلك — كما أسلفتُ القولَ — هو طابَعُنا الثقافيُّ الأصيل المميز، ولا عجبَ أن كنَّا نحن الأمةَ التي عن طريقها عرَفَت الدنيا رسالاتِ السماء، ومعنى ذلك أنَّنا بحُكم الوراثة الثقافية نفسِها مُعَدُّون أتمَّ إعداد لإضافة الباطن الخفيِّ إلى الظاهر البادي، فإذا استطعنا — بالمشاركة في الحركة العِلمية — أن نشارك عصرنا في هذا الظاهر البادي للبصر والسمع، فما أيسرَ علينا بعدَئذٍ أن نُميز أنفسنا بنظرتنا الخاصة إلى ذلك الخفيِّ الباطن!
غير أنَّ هذه الإضافةَ — إضافة الباطن إلى الظاهر — لسوءِ الحظِّ لا تتَّخذ عندنا صورةً واحدة من الطِّراز الذي يعلو بصاحبه، بل إنَّ لها عندنا صورتَين: إحداهما قد تراها في قِلةٍ ضئيلة من المثقَّفين، وأمَّا الأخرى فلها الشُّيوع في السَّواد الأعظم من الناس، أمَّا في الحالة الأولى، فالماورائيةُ تَبني لنفسها نسَقًا متينًا من القيم السامية، التي من شأنها أن تُحدد الأهدافَ العليا ثم ترسُم لها خُطوات الوصول، وبذلك تُصبح فعَّالةً محرِّكة نحو الأرقى والأفضل، وأمَّا في الحالة الثانية، فالماورائية تتحوَّل إلى مجموعةٍ من السمادير والأوهام، فتَرِينُ على القلوب وتَغْشى الأبصار، وما هي إلا أن تتجمَّدَ الحياة في شرايينها، فلا سير ولا حركة، بلْهَ أن يكون ارتفاعٌ وارتقاء.
ونغضُّ أنظارنا عن أصحاب الأوهام والسمادير، برغم كونِهم الفئةَ الأكثر عددًا والأوسعَ انتشارًا؛ لأنَّهم إذ يُجاوزون دنيا الواقع إلى ما وراءها، لا تقعُ أبصارهم في هذا «الوراء» الخِصب الغنيِّ الملهم، إلا على ما يُشتِّت الأذهان ويُبعثر الجهود ويُضِلُّ السائرين عن جادَّة الطريق، نغضُّ النظر عن هؤلاء؛ لأنَّهم يلتمسون فيما وراء الواقع كل ما من شأنه أن يهدم بُنيان العلوم، فالعلوم قائمةٌ على اطِّراد القوانين، أمَّا هؤلاء فيبحثون عن رواياتٍ يَرْوونها ليُثبتوا بها ألَّا قوانينَ ولا اطِّراد، فإذا كانت قراءةُ مخطوط معيَّن تتطلب في الحياة الواعية العاقلة عيونًا ترى، جعَلوها لك أمرًا ممكنًا بغيرِ رؤية، وإذا كان الانتقال من نقطةٍ إلى نقطة أخرى تتطلَّب اجتيازَ المكان الواقع بينهما، جعلوا لك هذا الانتقالَ ممكنًا بغير اجتيازٍ للمكان، وهكذا وهكذا، ألوفُ الأمثلة والروايات يسوقونها لك ويروونها، ولو صدقتَ لكذب العلم، وبالتالي لاستحال علينا مشاركةُ العصر في عِلميته بكل عقولنا وقلوبنا.
نغض أنظارنا إذن عن هؤلاء برغم كثرتهم، ويكفي لإهمالهم من حِسابنا أن نعلم أنَّ أوهامهم هذه، ولو زيدَت أضعافًا مضاعفة، لما زادت غِلالُ القمح حبة، ولا أقامت للمُضيَّعين من الناس جدارًا، ولا نسَجَت للعُريان ثوبًا، هي أوهام تهدم ولا تبني، وتقيد العقول لا تَفكُّ أغلالها ولا تُفسِح أمامها آفاقَ النظر.
نغضُّ أنظارنا عن هذا اللون المريض من مُجاوزة الواقع إلى ما وراءه؛ لنحصر تلك الأنظارَ في طريقٍ آخر، يُميزنا ونستطيع أن نَفخر به ونُفاخر، وذلك هو الطريق الذي نبني به وراءَ الواقع الماديِّ منظومةً من القيم، بينها وَحدةٌ واتِّساق، وفيها ديناميةٌ محركة، ولها القدرةُ على رسم حياةٍ مُثلَى، يكون فيها العمل والأمل، وهي منظومةٌ من القيم لم تُعرَف بها أمةٌ كما عُرِفنا، ومن ثَمَّ فهي التي يُمكن أن تُمدَّنا بالطابَع الفريد الذي يُحقق لنا الأصالة، التي إذا أُضيفت إلى المعاصرة عن طريقِ اكتسابنا للعلوم؛ حقَّقنا وجودَنا من طرَفَيه، فكنا بذلك عربًا ومُعاصرين في آنٍ معًا.
وهي مجموعةٌ من قيمٍ لن تحتاج منَّا إلى بحثٍ طويل للكشف عنها؛ لأنَّها على أطراف أناملِنا، نُردِّدها ألفَ مرة كل يوم، يحفظها صِبْية المدارس، ويُجْريها الراشدون في أحاديثهم الجارية، لكن — وا أسفاه — يحفظها أولئك ويردِّدها هؤلاء ألفاظًا، لكنَّهم لا يعيشونها حياة، وإنَّما عنَيتُ القِيمَ المتمثلةَ في أسماء الله الحسنى.
هذه الأسماء هي في حقيقتها دلالاتٌ تُشير إلى قيمٍ تضبط السلوكَ وتُوجِّه مجرى الحياة إلى أهدافٍ تليق بالإنسان كما تتصوَّرُه وتُصوِّره الثقافةُ الإسلامية العربية، هي صفاتٌ تكون مطلقةً بالنسبة إلى الله سبحانه، ومنقوصةً متدرِّجةً نحو الكمال بالنسبة إلى الإنسان، فلو استطعنا — عن طريق التربية بصفةٍ خاصة، وعن طريق الفكر والنشر بصفةٍ عامة — لو استطعنا ألَّا نجعلها مجردَ ألفاظ نُرددها على حبَّات المسابح، بل نجعل منها معاييرَ حيةً نابضة نترسَّمُها ونهتدي بهَدْيها، إذن لكانت بين أيدينا منظومةٌ منسَّقة كاملةٌ من القيم التي تُضاف إلى دُنيا الواقع فتُخرِجُ الإنسانَ الكامل المتكامل. من وجهة نظرٍ إسلامية، وفي ظروف هذا العصر، عصر العلم والصناعة.
إننا لَنُبصر بأعيننا ونلمسُ بأيدينا كيف انتهى العلمُ الطبيعي والصناعة التقنية في البلاد التي تقدَّم فيها العلم وتقدَّمَت الصناعة، كيف انتهى بها هذا العلمُ وهذه الصناعة إلى حالةٍ من العرَج الحضاري، فكأنَّما هي تَحجِلُ على ساقٍ واحدة، فكان ما كان مِن تمرُّد الإنسان على نفسِه في الفن والأدب، حتى لقد أعلَنوها صريحةً بأنَّهم لم يعودوا يُطيقون العقلَ والمعقول، واندفعوا وراء اللامعقول والعبث، فأيُّ إضافة عظيمة تستطيع الثقافة العربية الأصيلة أن تُضيفها إلى حضارة هذا العصر، لو أنَّها جسَّدَت قيمتها في أبنائها أولًا، فاستطاعت بذلك أن تُعطيَ للعالم المعاصر معانيَ إنسانية في مقابل ما تأخذه من علمٍ وتقنيات؟!
كان من بين ما أوحى إليَّ بهذه النظرة إلى الأسماء الحسنى، وهي النظرة التي تجعل منها قِيمًا للسلوك البشري، كتابٌ صغير عميق مُلهِم، هو كتاب الإمام الغزالي: «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»؛ فالإمام في كتابه هذا يُلقي على الأسماء الحسنى أضواءً ساطعةً تُبرز معانيَها الخافية، وهو يُعقب على شرحه لكلِّ اسم منها بقوله: إنَّ نصيبَ العبد من هذه الصفة كذا وكذا، فيُبيِّن للقارئ كيف يسلك في حياته العَملية على ضوء هذه الصفة المعيَّنة أو تلك من «المجموعة بأسْرِها».
وإنني لعلى ظنٍّ يبلغ درجةَ الرُّجحان الشديد، بأنَّ المتأمل لهذه المجموعة من الصفات، يستطيع آخِر الأمر أن يقِيم منها بناءً واحدًا متسقًا، وإنَّما قصدتُ ﺑ «البناء المتَّسق» هنا ما نقصد إليه في دراساتنا الفلسفية حين نُرتب القضايا ترتيبًا تنازليًّا، يبدأ بالأعمِّ وينتهي بالأخص، بحيث تجيء كلُّ خطوةٍ نتيجةً منطقية لازمة لزومًا ضروريًّا عن الخطوة السابقة عليها، وفي الوقت نفسِه تكون مقدمةً ضرورية بالنسبة للنتيجة التي تَلزم عنها في الخطوة التي تليها، ولو استطعنا بناءَ هذه القِيَم على هذا النحو المتسِق أولِه مع آخره، كان لنا بذلك — لا مجرد عددٍ متناثر من القيم، بل — مجموعة «موحَّدة»، ويكون مثلُ هذا «التوحيد» في القِيَم عندئذٍ جانبًا مهمًّا من التوحيد الذي هو أمْيزُ ما يُميز عقيدةَ المسلم، وعندئذٍ كذلك يكون هذا التوحيد في القيم ضامنًا للإنسان ألَّا يتمزقَ سلوكُه يَمْنةً ويَسْرة، فلا يدري إلى أين يتَّجه؟ فمن نقائص عصرنا — بشهادةِ رجال الفكر أجمعين — أنَّه عصرٌ أدَّى بشبابه إلى حالةٍ من التمزق والتفسُّخ والضياع، لماذا؟ لأنَّ القيم التي ينطوي عليها هذا العصرُ ليست كلُّها على اتساقٍ بعضِها مع بعض؛ فترى هذه القيمةَ المعيَّنة تُغري الناسَ بالتزام العقل الصارم (في دنيا العلوم مثلًا)، بينما تُغريهم تلك القيمةُ الأخرى بالخروج والعصيان وتفضيلِ الغريزة والوجدان على العقل ومنطقِه (كما هو مُشاهَدٌ في كثير من نِتاج الأدب والفن، وفي تمرد الشباب)، فلو استطعنا نحن أن نُقدِّم للعالم مجموعةً متَّسقة الأجزاء من القيم الهادية للإنسان على طريق الحياة، كان هذا دورنا في بناء الحضارة المعاصرة.
ولا يتَّسع المقامُ هنا لبحثٍ شامل كالذي اقترحتُه، فلْأقنَعْ بمثال واحد، لعلي أُوَفَّق به إلى توضيح ما أريد:
أعتقد أنَّ لصفة «الحياة» في هذه المجموعة صدارةً منطقية؛ فمنها تتفرَّع سائر الصفات، وفي ذلك يقول الزَّبيديُّ في شرحه لكتاب الغزالي «إحياء علوم الدين» (ج٢): إنَّ تأخير ورودِ «الحياة» بعد ذِكر صفاتٍ أخرى؛ كالقدرة والعِلم، هو بمنزلة تأخير المدلول عن الدليل؛ فمن شرطِ العالم القادر أن يكون حيًّا، ومع ذلك فكلُّ ترتيب نجعل به صفةً تسبق أخرى، لا يعني ترتيبًا في الظهور؛ لأنَّ هذه الصفات كلَّها أزلية معًا.
وبعد هذا التحفُّظ أعودُ فأقول إنَّ لصفة «الحياة» صدارةً منطقية، فماذا نعني بها حين ندعو الإنسانَ إلى أخذ نصيبه منها فيكون «حيًّا»؟ المقصود «بالحياة» هنا جانبان أساسيان، هما «الإدراك» و«الفعل»، فللإنسان حياةٌ بقدرِ ما لديه من إدراكٍ ومن فعل، إنَّه قد يتنفَّس ويتغذى ويتناسل، ومع ذلك كلِّه لا يُعدُّ «حيًّا» بهذا المعنى المقصود، شرط الحي أن يكون على وعيٍ كامل بما يدور حوله وبما تعتلجُ به نفسه، ثم لا يقف أمامَ إدراكه هذا ووعيِه موقفًا سلبيًّا سكونيًّا؛ لأنَّه لو فعل لَما تغيَّرَت الدنيا على يدَيه، بل لا بدَّ أن يكون «فاعلًا» نشيطًا منتجًا مشاركًا في دفع تيَّار الحياة بحياته، وإلى أين يدفعُه؟ يدفعه إلى حيث تسمو وترتقي، فالواقف على جانب الطريق ينظر إلى رَكْب الحياة ولا يُسهِم في دفعه؛ ليس حيًّا، والذي يحاول الرجوعَ بتيار الحياة إلى وراء ليعودَ به إلى حيث بدأ؛ ليس حيًّا بمعنى الحياة الإيجابي الذي أسلفناه، الحيُّ يقود ولا يَنْقاد، ويكون متبوعًا لا تابعًا، ما دامت «الحياة» بحُكم تعريفها السابق خَلْقًا وإبداعًا وابتكارًا وإضافةً للجديد.
كان العربيُّ من الأوَّلين «حيًّا» لأنَّه ما انفكَّ بانيًا في كل مجال: بانيًا في مجال الفكر وفي مجال الحرب وفي مجال السياسة، ولأنَّه كان تامَّ الإدراك لدنياه، وشديدَ الفاعلية فيما حوله، والإدراك والفعل — كما أسلفنا — هما عصبُ الحياة بالمعنى المقصود، فإذا رأيتَ العربيَّ من المتأخرين — وأعني العربَ في حالتهم الراهنة — إذا رأيتَه سطيحًا تحت وطأةِ المستعمرين، ينقاد لإمامتهم ولا يقود، ويأخذ من حضارتهم ولا يُعطي، فاعلم أنَّه قد فقدَ مِن نفسه قيمةً عُليا من قيمه، ولو استردَّها لاستردَّ عروبته بها، إنَّ العربي لا يكون عربيًّا لمجرد تَكْراره لهذه اللفظة ملايينَ المرَّات، إنَّما يكون العربيُّ عربيًّا حين يتشرَّبُ القيم العربية الأصيلة، وأوَّلُها صفةُ «الحياة» بالمعنى الذي قدَّمناه.
خط الحياة كخط الزمن، فانظر إلى ما شئتَ من الكائنات الحية؛ إلى شجرة — مثلًا — تجدُها تُنوِّع فاعليتَها — والحياة فاعلية — بتنوُّع مراحلها، إنَّ الفعل الذي تبذله في بناءِ جذورها ليس كالفعل الذي تبذله في صُنع الأوراق والثمر، هي شجرةٌ واحدة من جذورها إلى ثمارها، لكنَّها لو قالت لنفسِها عند مرحلة الثمر: لا، اترُكي حاضرك وارجعي إلى ماضيكِ الجليل الجميل، لعادت إلى بناء الجذور مرةً أخرى، ولألغَت بذلك وجودَها، وهكذا يفعلُ أعداء الحياة حين يَدْعوننا إلى العودة إلى ما كان، لقد كان لما كان خطرُه حين كان الملتقى الذي تنصبُّ عليه فاعليةُ الأحياء، أما وقد انتقل الأمرُ إلى مرحلةٍ تالية في عملية البناء وطريق السير، فلْننصرف بالحياة وفعلِها إلى هذه المرحلة الجديدة، شريطةَ أن نُخصص منها جزءًا لحفظِ الجذور الأولى، وهكذا ترانا نضلُّ طريقنا ونُخطئ فَهْم الحياة، لو ظننَّا أنَّ شرائحَ الزمن المتعاقبة يمكن أن يحلَّ بعضُها مكانَ بعض، فننزع المرحلةَ الأخيرة من سياقها لِنردَّها إلى مكان المرحلة الأولى.
العربي مُطالَبٌ بحكم تُراثه أن يكون «حيًّا»، فالله تعالى هو «الحي» بالمعنى المطلَق الذي يستحيل معه أن يتسرَّبَ إليه جمودٌ وموت، وأمَّا الإنسان فهو كذلك — أو ينبغي أن يكون — «حيًّا» بالمعنى النسبيِّ الذي يُعطيه من الحياة بمقدارِ ما يُدرك وما يفعل.
ولو استرسلتُ في حديثي لأنتقلَ من صفة «الحياة» إلى سِواها، مما يكون في مجموعه منظومةً متَّسقة للقيم الضابطة لسلوك الإنسان ووقفتِه؛ لطال الحديثُ وفاض، فحَسْبي هذه «القيمة» الواحدة نموذجًا لما أعنيه حين أدعو إلى أن تكونَ مُجاوزتنا للواقع العِلمي، مجاوزةً لا تنقلنا إلى تخليطِ السمادير والأوهام والشطح والخرافة، بل تنقلُنا إلى عالم القيم التي تؤيِّد العلم ولا تنقضه، وتبني الحضارةَ ولا تهدمها، وتجعل مِن الإنسان إنسانًا يسير على ساقَين، فها هنا العلم، وهناك ضوابطُ القيم.