لمسات من روح العصر
كان حديثًا مشبوبًا بانفعالٍ ملتهبٍ بيني وبين صاحبي، قال لي فيه: إنَّك ما تنفكُّ داعيًا إلى العصر والمعاصَرة، كأنَّما ترانا وقد سُدَّت في وجوهنا أبوابُ الحضارة، فلهَوْنا خارج أسوارها، لا نسمع منها إلا صريرَ أقلامها وأصداءَ عجلاتها؟ ولستُ في الحق أرى ما تراه، إذا كان هذا هو الذي تراه، فها هي ذي مطابعنا تدور بألوفٍ من الكتب والصحف والمجلات، فنُتابع خلالَها ما يجري في أنحاء العالم من شرقِه إلى غربه، وها هي ذي مَعاهدنا وجامعاتنا تُنتج العلوم وتُخرِّج العلماء، وإذا أدرتَ البصرَ في أرجاء بلادنا رأيتَ يابسها وماءها وسماءها تَعِجُّ بكل ضروب الأجهزة والمكنات، في البيوت وفي الشوارع وفي المصانع، وحيثما وجَّهت البصر، فماذا تريد؟ لا، بل إننا بعد أن نقَلْنا هذا كلَّه من عصرنا فعاصرناه، زدنا عليه حفاظًا على الأخلاق، فلم تنهدم أركانُها هنا كما انهدمَت هناك!
فقلت: إنَّ أربعين سنةً قضيتُها في التعليم — والتعليمُ عندي معظمه حوارٌ سقراطي، يُخرج خَبيء المعاني — قد علَّمَتني بدورها درسًا، هو أنَّ الفجوة فسيحة فسيحة، وعميقة عميقة، عند الكثرة الكاثرة من الناس، بين فروع المعرفة وأصولها؛ أعني بين سطوحها البادية وأعماقها المضمَرة، أو بين ما يظهر منها وما يخفى، فقِلةٌ قليلة جدًّا منَّا — نحن المثقفين ودَع عنك سوادَ الناس — هي التي تريد، وإذا أرادت، تستطيع أن تردَّ الأفكار الدائرة على أطراف الألسنةِ في الأحاديث الجارية إلى جذورها المستورة، لتطمئنَّ إلى ما بين الفكرة وجذورها من اتِّساق، فأنت لا تكاد تغوص مع محدِّثك إلى ما قد غيَّبه في حنايا الصدر من معتقَدات دفينةٍ راسخة الأسس، حتى ينكشفَ لك — ولا أقول ينكشف له؛ لأنَّه في معظم الحالات يرفض أن يرى — كم يكون من التضادِّ بين ما يُعلنه من الفكر وما يُخفيه من المعتقَد، لا عن عمدٍ خبيث منه، بل عن غير وعي، حتى تلفتَ إليه وعيَه، وهو في أكثر الحالات — كما قلت — يُغمض عينَيه على أوجه التضادِّ حتى لا يراها فتفزعه، ولقد شهدتُ بعيني وسمعتُ بأذني عشراتٍ من «العلماء» المتخصصين في فروع الفيزياء والكيمياء وغيرِهما من ضروب «العلم» بأحدثِ معانيه، لا يُقلقهم أن يقفوا في معاملهم وأمام تَجارِبهم طيلة نهارهم، حيث لا يأخذون إلا بما تشهد لهم به تجرِبةٌ يرونها ويسمعونها، إن لم يكن بأجهزة السمع والرؤية، فلا أقلَّ من أن يكون ذلك بالحواسِّ العارية، حتى إذا ما خلَعوا عن أجسادهم معاطفَهم البِيض، وخرجوا من معاملهم إلى حيث يستريحون ويَسمُرون؛ رأيتَهم يُديرون الحديث — بكل نفسٍ مطمئنَّة — عن خوارق، إذا صدَق ما يروونه عنها انهدمَت علومهم من أساسها، وهيهات لك أن تُشير إلى فجوة التضادِّ بين «علم» النهار و«خوارق» الليل!
فإذا سمعتَ الناس يُحدثونك عن العصر وفكره وحضارته، وظننتَ أنَّهم قد أجْرَوا في شرايينِهم عُصارة زمانهم، فلا تنخدع، وصابِرْهم على تحليل مكنوناتهم، وأغلبُ ظني أنَّك كاشفٌ في دخائلِهم رواسبَ قرونٍ خلَت، برغم ما قد صبَغوا به جلودهم من ألوان القرن العشرين وزخارفه، وسأضرب لك أمثلةً توضح ما أريد:
أحسب ألَّا خلافَ على أنَّ فكرة «التقدم» هي من أبرز ما يُميز العصر الحديث كلَّه، لثلاثةِ قرون مضَينَ وإلى يومنا، فلا أظنك مُصادقًا في جموع الناس أحدًا يرضى لنفسه أن يكون عدوًّا «للتقدم» في شتى جوانب الحياة العقلية والمادية؛ فمهما يكن مذهبه الذي يدعو إليه، فهو يزعم لنفسه وللناس أنَّه مذهبٌ يعمل على تقدُّم الحضارة بكلِّ فروعها، وإلَّا لما دعا إليه.
إلى هنا والناس على إجماع، فلنأخذ في تحليل الفكرة لنرى كم منهم يظلُّ صامدًا في دعوته إلى «التقدُّم»: إنَّك لكي «تتقدَّم» من حالةٍ إلى حالة، لا بدَّ أن تُعدَّ الحالة الأولى متخلِّفة بالنسبة للحالة الثانية، فالنقلة لا تكون تقدمًا إلَّا إذا كان وراء ذلك فرضٌ هو أنَّها نقلة مما هو أسوأ إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسَن آخر، فضلًا عن أن تكونَ نقلةً من الأفضل إلى الأسوأ! ومعنى ذلك في عبارةٍ صريحة هو أنَّ «الماضي» دائمًا، وفي كل الظروف، أقلُّ صلاحيةً من «الحاضر» دائمًا وفي كل الظروف؛ ذلك أنَّ زعْمنا أنَّ الحضارة «تتقدم» وإلا فقدَت هذه الكلمةُ معناها.
وها هنا نضع أصابعنا على ركيزةٍ أُولى، لا مَحيصَ لنا عن قَبولها إذا أردنا أن نتشرَّب روحَ عصرنا، وهي أن نُزيل عن الماضي كلَّ ما نتوهَّمه له من عصمةٍ وكمال؛ فمهما تكن وسائلُ الماضي الثقافيةُ والحضارية ملائمةً لظروف عصرها؛ فهي بالضرورة تفقد هذه الصلاحيةَ في ظروف عصرنا، فإذا وجدتَ مكابرًا يدعي بأنَّه عصريُّ الوقفة والنظر، ثم وجدتَه — في الوقت نفسِه — يتمنى لو كرَّت الأيامُ راجعةً، بحيث تعود إلى الناس ما كان للأسلاف من رؤيةٍ وسلوك، فاعلم أنَّ سطحه الفكريَّ مُناقض لأعماقه، وأنَّه بعيدٌ عن عصره بُعدَ ما بين السطح والأعماق! وليس يعني هذا بترًا للماضي، كلَّا؛ فبغير الماضي لا تكون للحاضر هُوِيَّتُه! وإنَّما يعني تطويرًا له، فالشباب لا ينسخ الطفولةَ نسخًا، لكنَّه يُطوِّرها، بحيث تظل هُوِيَّة الشخص الواحد قائمة، والرجولة لا تنسخ الشباب، لكنَّها تُطوِّره، ليكون حاضرُ الإنسان امتدادًا لماضيه، امتدادًا لا يُكرِّر ذلك الماضي، بل ينبثق منه كائنًا جديدًا، يحمل من ماضيه بعضَ ملامحه، ويُضيف إليها بحاضره ملامح أخرى.
إذا آمنَّا «بالتقدم» إيمانًا يُجاوز نُطقَنا باللفظة صوتًا تفوهُ به الشفتان، كانت النقلةُ الفكرية بعيدةً بُعدًا فسيحًا؛ لأننا عندئذٍ سنقلب الميزان، فنجعل معيارنا هو المستقبلَ المرجوَّ، بعد أن كان الماضيَ الذي خلفناه وراء ظهورنا؛ أي إنَّ معيارنا بعدئذٍ لا يكون هو «المبدأ» بل «المنتهى»، لا ما قد كان بل ما سوف يكون، فلو سُئلنا عندئذٍ: ماذا ترى في هذا السلوك المعيَّن يسلكه الأفراد، أو في هذا التشريع المعين تَسُنُّه الدولة، أو في هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الحضارة السائدة، لم يكن جوابنا عندئذٍ: انتظر حتى أقيسَه إلى سلوك الآباء وتشريعهم وأوضاعهم الحضارية، بل يكون الجواب: انتظر حتى أحسبَ النتائج المترتِّبةَ على هذه الأشياء، فإذا وجَدتَ النتائج مزيدًا من علم ومن صحة ومن حرية … إلخ، قبلت السلوكَ ورضيتَ بالتشريع وأقبلتَ على الأوضاع الحضارية الجديدة، إنَّ المُعَوَّل عندئذٍ لا يكون: ماذا كان بالأمس؟ بل يكون: ماذا سيكون غدًا؟
كان «للمبادئ» رهبةٌ تدنو من التقديس، إن لم تكن هي التقديس نفسَه، وكان سرُّ الرهبة كامنًا في أنَّ مصدر المبادئ مجهول، فازدادت بذلك ألغازًا يصرفنا عن تحليلها والنظر في محتواها، هل يصلح مقياسًا للعصر أو لا يصلح؛ ولذلك رأينا فلاسفة الأخلاق على طول الزمن، من اليونان الأقدَمين إلى مَشارف العصر الحديث، لا يسألون أنفسَهم: ما حقيقتها؟ بل يسألون: من أين جاءت؟ وهنا اختلَف الفلاسفةُ في ذلك مذهبًا، فقال قائل: إنَّها منبثقةٌ من فطرة الإنسان، سواءٌ كانت هذه الفطرة عندهم «عقلًا» أو «ضميرًا» أو ما شاء لكلٍّ منهم مذهبه، وقال قائلٌ آخر: بل نزلَت من السماء وحيًا يهدي البشرَ سواءَ السبيل، على أنَّ ما نزل على الناس وحيًا، وما انبثق من دَخائلهم يتساويان آخِرَ الأمر، كأنَّما الشريعة السماوية عقلٌ ظاهر، والعقل في توجيهه شريعةٌ باطنة، وهكذا أخذَتهم الحيرةُ أمام «المبادئ» بين ظاهرٍ وباطن، بين سطح وأعماق، على اختلافهم بعد ذلك في ماذا يكون السطح، وماذا تكون الأعماق: أيكون على السطح رغباتٌ وأهواء ربما جمحَت بصاحبها لولا أنَّ في أعماقه عقلًا يُوجهها نحو ما ينبغي أن يكون؟ (هذا هو الفيلسوف الألماني «كانت» في القرن الثامن عشر)، أم يكون «العقل» هو القشرةَ السطحية البادية، وأمَّا أعماقه فوجدان صادق، يوجِّه ويُملي؟ (وهذا هو «جان جاك روسو» في القرن الثامن عشر أيضًا)، تُرى هل يكون على السطح الظاهر مجتمعٌ يفرض على الأفراد ما أراده لهم من تقاليد، يتقيَّد بها هؤلاء الأفرادُ وكأنَّها قيودٌ من حديد، وإذن لا نتوقع في الخفيِّ الباطن إلا جيَشانًا وغليانًا يلتمسُ طريقه إلى الخروج في ثورات الاحتجاج حينًا بعد حين؟ (وهذا شيء قريبٌ مما ذهب إليه «ماركس») أو لعلَّ الذي خفي عن الأبصار هو تقاليدُ المجتمع وأوامر الدولة، خفيَت عن الأبصار واتخذَت لنفسِها كِيانًا مطويًّا في حنايا النفس، ونُطلق عليها «الضمير»، وأمَّا الذي ظهر على السطح فهو النزوات الفردية التي تنزو بأصحابها أن يُفلِتوا من رقابة المجتمع والدولة، فما يلبثون أن يسمعوا صوتَ الضمير في أنفسهم صارخًا ومؤنِّبًا؟ أم هل يكون الظاهرُ وعيًا صاحيًا مدركًا لكلِّ ما فُرض علينا من قيود، يُبَطِّنُه اللاوعي أو اللاشعور، الذي إذا لم يجد لنفسه متنفَّسًا في عالم الصَّحو التمسَه في دنيا النُّعاس والأحلام؟ .. مذاهبُ اختلفَت كما ترى في أيُّ الجوانب هو ظاهرُ الإنسان وأيُّها هو باطنه؟ لكنَّها اتفقَت جميعًا على افتراضٍ ظاهر وباطن معًا، وما ذلك كلُّه إلا لأنَّهم سلَّموا بمقدمةٍ لم يُجادلوها، وهي أنَّ ثَمة «مبادئ» ترسم صورَ السلوك الأمثل، فمن أين جاءت يا تُرى؟!
والذي يفرض قيامَ هذه المبادئ قبل خوض التجربة الحية، إنَّما يكون قد خطا بالناس أجرأَ خطوةٍ نحو صورةٍ من صور الاستبداد السياسي؛ لأنَّ المبادئ قواعد، فإذا أنت جعلتَني أقدِم على حياتي ونُصب عينَيَّ هذه القواعدُ الأولية فقد حدَّدتَ الإطار العامَّ لسلوكي، ثم ما هو إلا أن يخرج على الناس ماردٌ من هؤلاء المردَة الجبابرة، فيأخذَ لنفسه حقَّ تفسير هذه القواعد، ليضعَ أعناق العباد في أي شكيمة أراد، مُسدِلًا على وجهه قناعَ «المُثُل العليا» التي يسعى إلى تحقيقها، والويلُ عندئذٍ لمن أخذَته في الأمر رِيبةٌ أو اجترأ على طرح سؤالٍ على الملأ! وفِيمَ الرِّيبةُ وفِيمَ السؤال؟ إنَّ «القواعد» بحُكم طبيعتها ومنطقها تُبرر نفسها، خُذ قواعدَ لعبة الكرة مثلًا، فهل يحقُّ للاعب وهو في مَعْمعان اللعب أن يسأل: لماذا يكون خطُّ الجزاء هنا وليس هناك؟ ولماذا يجوز مسُّ الكرة بالقدم ولا يجوز مسها بالأصابع؟ لا، إنَّها «قواعد» اللعبة التي تُقبَل ابتداءً؛ لأنَّه بغيرها لا يكون لعبٌ يُمكن الحكمُ عليه بالصواب أو بالخطأ؛ ولذلك «فالحَكَم» في لعبة الكرة هو حاكمٌ مطلق، وله أمرُه، وأمره نافذ، وهكذا قُل في كل ضروب «القواعد»، بما فيها قواعد الأخلاق، فإذا نحن سلمنا بقيامها قيامًا مسبقًا، فقد مهَّدْنا الطريقَ أمام الحاكم المستبد، يظهر كلما ظهر الشخصُ الذي يريد ذلك ويستطيعه.
ومع الحاكم المستبدِّ يظهر ما يُسمُّونه بالبيروقراطية؛ أي ذلك الضرب من الحكومة الذي يُجيز أن تهبط الأوامرُ من أصحاب المكاتب والمناصب، لِتَهوي على أرواح البشر وهم في ميادين نشاطهم، كأنَّها ضرباتُ القدَر، وقد تسألني: لكن القواعد الخُلقية نراها مفروضةً حيث يظهر الحكم المستبدُّ والبيروقراطية، وحيث لا يظهران على السواء، فلماذا تُرتِّب على قيامها الحالةَ الأولى، ولا تُرتبُ عليه الحالةَ الثانية؟ والجواب هو أنَّ الشأن في هذا هو كالشأن في أشياءَ كثيرةٍ أخرى، فالماء يَرويك من ظمأ، والماء يقضي عليك بالغرق فيه، والنار تُنضج لك الطعام، والنار تُدْلِع الحريق المدمِّر، فكذلك القواعد أيًّا كانت حين يُقال عنها إنَّها مفروضة من حيث لا ندري، فهي إمَّا تصلح أداةً للحاكم المستبد، وإمَّا تُتخذ أداةً لحُكم الشورى، والفرق بين الحالتين هو أنَّ الحاكم المستبدَّ يُطبق القواعد على الناس ويُعفي نفسَه منها، وأمَّا الحاكم الديمقراطي فهو يُطبق القواعد على الناس وعلى نفسه، سواءً بسواء.
من أجل هذا كلِّه، تسود عصرَنا هذا فكرةٌ أخرى، يريد أصحابُها أن يُحِلوُّها محلَّ «المبادئ» أو القواعد التي كان يُقال إنَّها مفروضة علينا من حيث لا ندري، ألا وهي فكرة «الأهداف»، فنحن ندخل حياتنا — أو ينبغي لنا — وليس في أيدينا القيد، ولا في أرجُلِنا الأغلال، وإنَّما ندخلها وفي رءوسنا «أهداف» يُراد تحقيقها، وكل سبيل نراه محقِّقًا لها، لا رؤية «فردية» شخصية، بل رؤية «جماعية» مشتركة، فهو السبيل النموذجيُّ الأمثل، وواضحٌ أنَّه كلَّما تبدَّلَت الأهداف تبدلَت السبُل، وبالتالي تغيرَت المُثُل العليا، وها هنا فليسأل مَن شاء أن يسأل: لماذا نسلك هذا السبيلَ ولا نسلك ذاك؟ لنُبين له أنَّ سبيلًا منهما يؤدي إلى الهدف المقصود والآخَر لا يؤدي.
إني لَأخشى أن يكون هذا الاستطرادُ الطويل قد شتَّت معالم الطريق، فلنذكر أننا أرَدْنا أن نوضِّح كيف أنَّ الناس كثيرًا ما يعيشون في القرن العشرين، بما يدور على ألسنتهم من كلمات، أمَّا ما وراء ذلك في بواطنهم فهم يعيشون به في القرن العاشر! أأقول القرن العاشر؟ لماذا أظلم القرن العاشر وهو قرن الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا؟ لماذا أظلمه وهو عصر المتنبِّي في الشعر، وأبي حيَّان التوحيديِّ في النثر، الذي يعمق بالفكرة ولا يزخرف باللفظ.
ولكي أسوق مثلًا يوضِّح ما أردتُ توضيحه أخذتُ فكرةً واحدة تصف العصر بغير حاجة إلى جدال، وهي فكرة «التقدم»؛ فهي حديثة الظهور في تاريخ الفكر، وأمَّا قبل ظهورها على مَرِّ القرون الطويلة، فكان الأغلب على الناس ليس هو أنَّ العالم يسير من نقصٍ إلى كمال، بل أنَّه يسير من كمالٍ إلى نقص، يكفي تصويرًا لهذا الاتجاه المضاد قصصٌ كثيرة كانت تُروى لتؤكد أنَّ العصر الذهبيَّ إنَّما هو عصرٌ مضى وهيهات له أن يعود، إذن ففكرة «التقدم» طابَعٌ يُميز فِكرَنا المعاصر، وسَلْ من شئتَ من الناس: هل تؤمن «بالتقدم»؟ وكُنْ على يقينٍ أنَّه سوف يُجيبك بالإيجاب المصحوب بالدهشة على أن يكون ذلك موضعًا لسؤال، لكن امضِ معه بعد ذلك في تحليل الفكرة لتُخرجَ له مكنونها، فيعلم أنَّه يتحتَّم نتيجةً لقَبوله هذه الفكرة أن يكفَّ عن دعوة الحاضر إلى اتخاذ الماضي نموذجًا، وأن يُمسك عن إقامه مُثُله العليا من مبادئَ هبَطَت إليه من حيث لا يدري، لتُقيِّده دون الحركة الحرة نحو تحقيق أهدافه، فعندئذٍ سترى أيَّ شخص تُخاطب، سترى ذلك الذي قَبِل فكرةَ «التقدم» لنفسه حتى يكون معاصرًا، قد ثار عليك ثورة، أخشى عليك من آثارها؛ لأنَّها يغلبُ أن تركبَ صَهْوة الغضب الجَموح، فصاحبنا — كما ترى — مُعاصر باللفظة، متخلفٌ باللُّبَاب.
وبعد ذلك فلْأنتقل بك إلى فكرةٍ أخرى مما يميز العصر، لترى مرةً أخرى كم من الناس حولك يقبلها بفروعها الظاهرةِ وجذورها الخافية معًا، وكم منهم تَكفيه ألفاظُها على طرَف اللسان، وأمَّا أن تورطه في مضموناتها فدون ذلك خَرْطُ القَتاد، كما كان قدماؤنا يقولون، وأعني فكرة «التغيُّر» في مقابل «الثبات»، والتغير نسبي، والثبات مطلق.
الحق أنَّه خلال ما يقرب من قرنَين من الزمن، بادئًا من أوائل القرن التاسعَ عشر، وإلى يومنا الراهن، ودنيا الفكر بأسرِها تدور حول محورٍ جديد لم تألَفْه بهذا الاطِّراد وبهذا الإصرار، فيما مضى، ألا وهو مِحور «التطور»، والفرق بعيدٌ عن ثقافةٍ تُقيمها على افتراض وجود الثوابت الأزلية الأبدية، وثقافة أخرى تُقيمها على تطورٍ لا يلبث على حالةٍ بعينها حتى يتحولَ بها إلى حالةٍ أخرى، ولقد كان افتراضُ الثوابت هو مَشغلةَ الفلاسفة جميعًا منذ نشأتْ على وجه الأرض فلسفة؛ وذلك أنَّ هؤلاء الفلاسفة، كسائر عباد الله، نظروا حولهم فوجدوا تيارًا دافقًا من ظواهرَ ما تنفكُّ تتحوَّل وتتبدَّل؛ فألوانٌ يتبع بعضُها بعضًا، وأشكال وطعوم، وكائنات تجيء وكائناتٌ تذهب، وفصول تتعاقب، ونهارٌ بعد ليلٍ وليلٌ بعد نهار، إلى آخر هذا الخِضمِّ الهائل من ظواهرَ متغيرة، فسألوا أنفسهم: هل يمكن أن تكون هذه المتغيراتُ هي البدايةَ والنهاية، والظاهرَ والباطنَ جميعًا؟ ذلك عندهم مُحال، إذن فماذا يا ترى تكون الأسسُ الثابتة وراء هذه التحوُّلات؟ وأخذ الفلاسفة يُجيبون، وما زالوا إلى يوم الناس هذا يُجيبون! كلٌّ بجوابٍ يقترحُ به ثابتًا يراه، أو عددًا من ثوابتَ بحسَبِ ما يرى، ثم أسْمَوا هذه الثوابتَ «جوهرًا»، وأمَّا ما يطرأ عليها من تغيراتٍ ظاهرة فهي «أعراضٌ» لذلك الجوهر، بل هم لم يتصوروا كيف يمكن أن نقول عن شيء إنَّه تغير، دون أن يتضمَّن هذا القولُ افتراضًا بأنَّ له جانبًا ثابتًا هو الذي طرأ عليه ذلك التغيُّرُ، كأنَّما هو يَنْضو ثوبًا ويرتدي ثوبًا، أمَّا هو فهُوِّيَته ثابتة لا تتغير بما نضا وما ارتدى، ولقد جعل أرسطو أسسًا للتفكير الإنساني، بغيرها لا يكون تفكيرٌ على الإطلاق، وأولها ما أسماه «قانون الهُوِيَّة»، الذي يتصور عمليةَ التفكير أمرًا مُحالًا إذا لم يكن هنالك هُوِيَّة ثابتة لكل شيء، هي التي نُدير عليها عمليةَ التفكير هذه.
ولستُ أطيل؛ لأنَّها قصةٌ شرحُها يطول، وحسبي الآن أن أقرر أمام القارئ بأنَّ الخلفية الثقافية والفكرية كانت دائمًا وعلى امتداد التاريخ تفترضُ للأشياء حقائقَ ثابتة، ثم تجيء عليها موجاتُ الظواهر المتغيرة، وتنحسرُ لتجيءَ سواها، فإذا استطعنا أن نعرف هذه الحقائق الثابتة بما يُحددها ويُعين قوانينها كنَّا بذلك قد أمسكنا بناصية الطبيعة كلِّها، في هذه الحالة — وأرجو من القارئ أن يتأملَ ذلك على مهلٍ لأهميته — في هذه الحالة يكون «الزمن» غيرَ ذي شأنٍ في عِلمنا بحقائق الأشياء؛ إذ ماذا يكون شأنُه إذا كان الجوهر الثابت لكائنٍ ما، هو بحكم تعريفه «ثابت» على حالةٍ واحدة، فكان ماضيه كحاضره، وكما سوف يكون في مستقبلِه؟ ماذا يكون شأنه لو عُمِّر ألفَ عام أو ألفَ ألفٍ أو آلافَ الملايين؟ إنَّه «ثابت» على جوهر واحد، ولا يتغير عليه إلا ما يطرأ من ظواهر، والظواهر ليست بذات موضوع في إدراكنا للحق كما هو قائمٌ من أزله إلى أبده .. أو هكذا كانوا يقولون؛ ولذلك كانوا يؤمنون بأنَّ لمحةً واحدة تُدرك بها إدراكًا صحيحًا لما هو قائم في هذه اللحظة الحاضرة من مجرى الزمن، كفيلةٌ لك — إذا أحسنت الاستدلال — أن تكرَّ بها راجعًا إلى الماضي كلِّه، وتجري بها قُدمًا إلى المستقبل كلِّه، فتعرف منها وحدَها — عن طريق الاستدلال — كلَّ ما مضى، وكلَّ ما هو آتٍ! ولِمَ لا وامتدادُ الزمن، طالَ أو قَصُر، لا يُغير من حقيقة الأمر شيئًا؟
هكذا كانت الحالُ حتى جاء عصرنا بتصورٍ جديد وضَع «التغير» مكان الثبات، وجعل «التطورَ» أساسًا وحيدًا تُفسَّر على ضوئه الأشياء، ولا يكون تباينٌ بين شيئين أشدَّ من التباين بين ثقافتين؛ إحداهما تجعل سُكونية الثبات والدوام أساسَها، وأخرى تجعل دينامية الحركة والتطور أساسًا لها، ومصدر التباين بينهما كامنٌ في فكرة كلٍّ منهما عن حقيقة «الزمن»: أهو خطٌّ أشبهُ بالخط الهندسي، ليس بين أيِّ جزأَين متساويين من أجزائه فرقٌ جوهري؛ إذ لا فرق بين طولٍ مقدارُه سنتيمتر في أول الخط وطولٍ آخر بالمقدار نفسِه في آخر الخط؛ أي إنَّ الطول نفسه لا يدلُّ بذاته إن كان قد تقدَّم في ترتيبه من التعاقُب أو تأخَّر، وهكذا قُل في «الزمن» على ضوء هذه الفكرة: فإذا كان القرن طوله مائة عام مما نعرف، فلا فرق في الجوهر بين قرنٍ زمني جاء في قديم وآخَر جاء في حديث، أم أنَّ الزمن طبيعته ليست هندسيةً رياضية على هذا النحو، لكنَّها أقربُ شبهًا بمخروطٍ يتَّسع كلما استطال، وفي هذه الحالة يكون الفرقُ كلُّ الفرق بين طولَين متساويين تأخذهما من موضعَين مختلفين؛ لأنَّ أحدهما سيكون أغنى حصيلةً من الآخر وأوسعَ أفقًا.
هذا التطور المخروطي للزمن إنَّما يكون إذا ما تصوَّرنا العالمَ متطورًا ناميًا، فهو الآن أغزرُ حياةً منه في أي عهدٍ مضى، وسوف يكون في مُقبل الزمن أغزرَ حياةً مما هو الآن، هذه واحدة، والأخرى هي أنَّ الفكرة القديمة كانت تُلازمها فكرةٌ أخرى، هي أنَّ الأشياء لا تتحركُ بدفعة داخلية فيها؛ ولذلك فهي تحتاج دائمًا إلى مُحرك خارجي يُحركها كيف شاء، وأمَّا الفكرة التطورية بمعناها السائدِ في عصرنا (هي ليست بهذا المعنى عند دارون) فيُلازمها أيضًا فكرةٌ أخرى، وهي أنَّ العالم مدفوع متحرك من ذاته، كالكائن الحي حين ينمو بحركةٍ ذاتية منبثقة من طبيعته، ولك على ضوء هذا القول أن تُراجع فلاسفةَ التطور المعاصرين، من أمثال برجسون ومورجان وألكسندر ووايتهد، ومَن شئت، لترى كيف انعكسَت هذه الفكرة الجديدة في فلسفاتهم، وإذن فأنت مُساير لعصرك ظاهرًا وباطنًا، إذا وجدتَ نفسك على استعدادٍ كامل لقَبول هذا التصوُّرِ بكل ما يقتضيه من نتائج، وأقلُّ ما يقتضيه هو استحالةُ أن يكون الماضي أكثرَ رشدًا من الحاضر وأخصبَ فكرًا وأهدى سبيلًا، أمَّا إذا وجدت نتيجة كهذه لقمةً عَسِرة الهضم في معدتِك، لا تميل إلى الأخذ بها وأنت مطمئنٌّ؛ فلك الخيار، ولكن اعلم في يقينٍ أنَّك مُعاصرٌ باللفظة وحدَها، عتيقٌ إذا قِيس أمرُك بمضمونها وفحواها.
لعل موضوع الحديث لم يغِب عن أبصارنا؛ فنحن نزعم منذ بدايته أنَّ الناس كثيرًا ما يظنون بأنفسهم المعاصرة، مخدوعين بما يُحيط بهم من أدواتٍ هي من نِتاج العصر، حتى إذا ما حلَّلنا مواقفَهم الفكرية، لا من حيث ما «يقولونه» باللفظ عن أنفسِهم، بل من حيث ما نكشف عنه في خفايا نفوسهم، وجدناهم لا ينتمون إلى هذا العصر إلا بأوهنِ الأسباب، وأخذنا نضربُ الأمثلة؛ فمن خصائص هذا العصر إيمانُه بالتقدم، وما أهونَ أن يصف الناسُ أنفسهم بأنَّهم من أخلص المناصِرين للتقدم، فإذا ما بيَّنتَ لهم على أي النتائج تنطوي هذه الفكرةُ جَزِعوا وأنكَروا! ثم انتقلنا إلى مثل آخَر يتصل بأسُس الأخلاق، فهل تُقاس أفضليةُ الفعل إلى مبدأ توارَثناه جيلًا بعد جيل على أنَّه النموذجُ الأسمى، أو تُقاس تلك الأفضلية إلى هدفٍ يتحقق أو لا يتحقق دون أن نُكبِّل أنفسَنا بأفكار مسبقة، ها هنا أيضًا قد نجد من الناس مَن يظنون بأنفسهم عصريةَ الروح، حتى إذا ما واجهناهم بهذه النسبية الأخلاقية، التي هي من مَعالم العصر، أخذهم الفزعُ مما يسمعون، وبعدَئذٍ عرَضْنا مثلًا ثالثًا، هو الانتقال مِن تصور الثبات المطلَق لحقائق العالم إلى تصور التغيُّر والتطور الذي يجعل كلَّ حقيقة أمرًا نسبيًّا مرحليًّا، يُنسب إلى ما يؤدي إليه، وأوضحنا للقارئ بعضَ ما يترتبُ على هذه النظرة من رُؤًى عند مقارنة الماضي بالحاضر، على وجه الخصوص، وخُيِّل إلينا أنَّ هذا القارئ ربما أبَتْ نفسُه قَبول هذه الرُّؤى. أمثلة تُبين كلها كم منَّا لا يصلح لعصره بحكم تكوينه الفكري، مهما زعَم أنَّه متجددٌ متطور مساير لحركة الزمن.
ولْنضرب مثلًا رابعًا وأخيرًا، هو تصور «الفردية» التي نودُّ أن تتميز بها أشخاصُنا وأوطاننا، فقد كانت الفكرة القديمة عن هذه الفردية أنَّها «ذات» مستقلةٌ قائمة برأسها، حتى لو لم يكن في الدنيا سِواها، وإنَّك لترى هذا التصوُّرَ منعكسًا في الفلسفةِ قديمِها ووسيطها وحديثها على السواء (ولم أذكر المعاصرة منها لأنَّها تختلف)؛ فهذا هو سقراط يُطالب الإنسانَ أن يعرف «نفسه» على ظنٍّ منه أنَّ هذه المعرفة فيها مِفتاحُ معرفته لسائر الأشياء؛ وذلك لأنَّك إذا أمعنت النظرَ في نفسك حتى عرَفتَها، عرَفتَ بالتالي طرائقها في الإدراك، ومتى تظفر بالصواب، وكيف تزلُّ في الخطأ، ومعرفة الإنسان لنفسه على هذا النحو لا تشترط أن يكون إلى جواره ناسٌ آخَرون، فهو وحده — كالجزيرة المعزولة — يمكن أن يستبطنَ ذاته من داخل، فيعلم ما يريد أن يعلمه، وذهب الزمانُ وجاء ديكارت بقولته المعروفة: «أنا أفكر، فأنا — إذن — موجود»، اكتفى بأن ينظر إلى دَخيلة نفسه ليرى «الأنا» وهي تُفكر، فجعل ذلك برهانًا على وجوده، بل جعله أساسًا لكل برهانٍ سِواه، ثم تبعه في ذلك ليبنتز، الذي أفاض القولَ في أنَّ الذات الإنسانية — بل كل ذاتٍ مهما كان نوعها — هي كالذرَّة المصمَتة، التي ليس لها نوافذُ تطلُّ منها على سواها، فهي في حقيقتها أقربُ إلى شريطٍ ملتفٍّ على نفسه، وما حياةُ الكائن الحيِّ بعد ذلك إلا أن يبسط هذا الشريطَ شيئًا فشيئًا حتى ينتهي، وإذا خُيِّل إلينا أنَّ أفرادَ الناس يتبادلون الآراءَ وغيرها؛ ما قد يدل على أنَّ بينهم صِلاتٍ لا تكون إلَّا إذا كانت لديهم الوسائلُ التي يطلُّون منها بعضُهم على بعض، أنبأنا ليبنتز هذا بأنَّ ذلك وهم، فما التوافق الذي تراه بين فردَين أو أكثرَ إلَّا كالساعات المضبوطة، كلها تدلُّ على الزمن الصحيح دون أن يكون بينها «تفاهم»، ولا اتفاق بالتبادل.
صورةٌ من فردية الفرد كان يسهل على الناس قَبولها، وقد ظهرَت في صورة أدبية أو فكرية كثيرة، فانظر — مثلًا — إلى قصة روبنسن كروسو، وهو في فردانيته على الجزيرة المعزولة، وانظر في تراثنا الفكري العربي إلى ما تصوَّرَه ابنُ باجه في «تدبير المتوحد»، أو إلى ما تصوَّره ابنُ طُفيل في «حيِّ بن يَقْظان»، تجد تصويرًا للفردية المستقلَّة بذاتها، بغضِّ النظر عمَّن يُحيط بها من آخرين، واتسعَت فكرةُ الفردية هذه بعضَ الشيء لتشمل فكرة الإنسان عن قومه أو أمته، فكأنَّما هذا «القوم» أو هذه «الأمة» فردٌ ضخم متعددُ الأعضاء، لكنَّه متميزٌ كلَّ التميز عن سائر الأقوام وسائر الأمم.
وجاء العصر الراهن بتعديلٍ أساسي في هذا التصور لفردية الإنسان، وهو تصورٌ انعكَس بدوره في الفلسفة وفي الأدب، بل وفي مذاهب السياسة نفسِها، وخلاصته أنَّ الفردية القديمة ضربٌ من المُحال؛ «فالأنا» لا وجود لها بغير «الأنتَ»، أعني أنَّك لكي تكونَ على علم بنفسك، لا مناصَ لك من مُخاطبة سواك، فلئن قال سقراط «اعرِف نفسك» فقد جاء عصرنا ليُضيف إلى النفس سِواها حتى يُمكنها أن تعرف، فكان الأصوبُ أن يُقال: «اعرف نفسك عن طريق معرفتك لسواك»، وإذا كان ديكارت يقول: «أنا أفكر فأنا موجود»، فقد قال له الفلاسفةُ المعاصرون (مثل هوسرل) تُفكِّر في ماذا؟ فلا فكرَ إلا فيما عداه، وبالتالي فلا «أنا» إلَّا بسواها.
وسِّع هذا المعنى يكُنْ لك اتجاهُ عصرنا في التصور «الجماعي» للفرد؛ فالفرد «عضو» لا مجردُ فرد قائم بذاته، إنَّه عضوٌ ينتمي حتمًا إلى جماعاتٍ مهما يكن نوعها، وبغير هذا الانتماء الضروريِّ يفقد ذاته ويَتيهُ في ضياع؛ ولذلك لم يَعُد انتماء الفرد إلى وطنه أو إلى أمته أمرًا عرَضيًّا له أن يختاره وله أن يرفضه، بل هو في صميم الصميم من وجوده، إذا تنكَّر له تنكَّر لحياته نفسِها، وحتى إذا أصرَّ على رفضِه الانتماءَ لأمته، فعليه أن يبحث له عن مجموعةٍ أخرى ينتمي إليها، حتى إن كانت مجموعةً غير مجتمعةٍ في مكان واحد، كأن ينتميَ إلى العلماء إذا كان صاحبَ علم، أو إلى رجال الفن، إذا كان منهم، أو إلى العمَّال إذا كان عاملًا، أو إلى الشباب إذا كان في مرحلة الشباب … وهكذا.
وهذه الفردية الجماعية — إذا صحَّ هذا التعبير — ما تزال توسِّع من حلقاتها، حتى لتراها توشكُ أن تجمع الإنسانية كلها في مجموعةٍ واحدة، فأنا «مصري» أنتمي إلى بَني وطني، ولكن هذا الوطن المصري يظلُّ قَلِقَ الوجود ما لم يدخل في دائرةٍ أعمَّ كالوطنِ العربي الكبير، وبهذا أُصبحُ مِصريًّا عربيًّا، وسرعان ما ترى الدائرةُ العربية أنَّ وجودها يتطلب انتماءً أوسع، فلا عجب أن نشهدَ العالمَ متكتلًا في أحلافٍ تجمع أجزاءه على أساس الأهداف المشتركة، والأملُ هو أن يجيءَ اليوم الذي يشعر الناسُ فيه بإيمانٍ صادق — لا بمجرد ترديد اللفظ على طرَف اللسان — أنَّ هذا الانتماءَ الضروريَّ الحتمي لن تكتمل دائرتُه إلَّا إذا أصبحت الأرضُ وطنًا واحدًا يسكنه مُواطنوه الذين هم بَنو الإنسان، وهيئة الأمم المتحدة بدايةٌ متعثِّرة نحو هذه الغاية القصوى، لكن الطريق قد يستقيم لها بعدَ حين. ذلك هو عصرنا، فإذا أحسستَ في نفسك نُفورًا من أن تدمج نفسَك مع سِواك في وحدة تربطكما معًا في وجودٍ واحد، كنتَ غريبًا في عصرك بمقدار ما عندك من نفور.
لستُ أشك لحظةً واحدة في أنَّ أساسًا عميقًا لبناء الفكر القديم بشتى ظواهره قد تشقَّق بحيث أصبح البناءُ كلُّه منهارًا، أو على وشك الانهيار، ليحلَّ محلَّه أساسٌ جديد يُقام عليه بناءٌ فكري آخر، فبعد أن كانت فكرةُ «الجوهر» — بمعناها الفلسفيِّ — هي المحورَ الرئيسيَّ للتفكير، ويُقصَد «بالجوهر» النَّواةُ التي تلتفُّ حولها خيوطُ الظاهرة المعينة دون أن تتكشَّف هي لأيِّ ضرب من ضروب الإدراك الحسي، وإنَّما يُفرض وجودها لاستحالةِ تعليل الظواهر إلا بها؛ أقول بعد أن كانت فكرةُ «الجوهر» هي محورَ التفكير، رأينا اليوم أنَّه لم يَعُد لافتراض وجودهما ضرورة؛ إذ استطعنا أن نُفسر الظواهر جميعًا بغيرِ حاجة إليها، كنَّا لا نتصورُ ظواهر الإنسان — مثلًا — إلَّا مُعلَّقة على مِشْجَب داخلي غير منظور، هو «الجوهر»، وهو الذي نُطلق عليه اسم العقل أو النفس، أو ما له هذا المعنى من الأسماء، فأصبحنا اليوم نفهم هذه الظواهرَ على صورة أخرى، وهي أنَّها مجموعةٌ متلاحقة من أحداثٍ يرتبط بعضُها ببعض بضروبٍ من «العلاقات» حتى لنتوهَّم أنَّها قد أصبحت — لتماسُكِها — ذاتَ هُوِيَّة واحدة، على حينِ أنَّها في حقيقتها مجموعةُ أحداث يتكوَّنُ منها قطعةٌ من تاريخ، وعلى هذا الأساس نفسِه نفهم اليوم كلَّ شيء، فمثلًا، ليست مَدينة «القاهرة» شيئًا محددًا له ثباتٌ ودوام، بل هي أفراد وأحداث تموج مع زيادةٍ أو نقص، ويتصل بعضُها ببعض على نحوٍ يوحي بأنَّ تلك المجموعة متماسكةٌ في شيء واحد معيَّن، على حينِ أنَّ شأنها أقربُ إلى خلية النحل، فيها مفرداتٌ وحركة، لكنها تتشكَّل في مجموعةٍ ذات إطار تقريبي يحفظ لها نوعًا من الهُوِيَّة، وعلى هذا الغِرار نفسِه تستطيع أن تفهم الأشياء جميعًا، من الذرَّة الصغيرة إلى المجرَّة الفلَكية، ومثلُ هذا الفهم الجديد ينتهي بنا إلى نتائجَ بعيدة المدى؛ لأنَّ أهمية «الكيانات» المعينة — أشخاصًا وأشياءَ وأممًا وأوطانًا وغيرها — ستنتقل إلى «العلاقات» التي تربط مجموعةً من الأطراف، ومِن ثَم جاءت صورةُ «الفردية الجماعية»، التي أشرنا إليها، وجاءت أيضًا فكرةُ التغير الذي لا يجعل أمرًا واحدًا يستقرُّ على وضع واحد، إلا ريثما يتحولُ إلى وضع جديد.
هذه الانتقالة البعيدة من رؤية الدنيا على أنَّها «أشياء» و«كائنات» إلى رؤيتها على أنَّها «علاقات»، قد نقلَت منطقَ الفكر نفسِه من إقامة التدليل والبرهان على أساس الإدراك الكيفيِّ للأنواع والأجناس، إلى إقامة ذلك التدليل والبرهان على أساسٍ رياضي بحت؛ ما أخرجَ لنا ما يُسمونه اليوم بالمنطق الرياضي، الذي جاء ليحلَّ محل المنطق الأرسطي القديم، كان أرسطو — مثلًا — يكفيه دقةً في العبارة أن يُقال: «كلُّ إنسان فانٍ»، كأنَّما «الإنسانية» و«الفناء» أمران نُدركهما بالبصر المباشر، مع أنَّ كلَّ فكرةٍ من هاتين الفكرتين قِوامها مجموعةٌ ضخمة من التفصيلات التي يتركَّب بعضُها على بعض بعلاقات تخضع لدقةِ الحساب، وإلَّا لظلَّ معناها مَرِنًا غامضًا يختلف فيه المدركون، كلٌّ على حسَب خبرته وثقافته، أمَّا اليوم فدقةُ الإدراك العلميِّ تقتضينا ألَّا نقبَل ألفاظًا عائمةَ المعاني كهذه، بل نُحللها إلى الذرات الفكرية الصغيرة البسيطة التي تدخل في تكوينها، ونَصوغ هذه الذراتِ الفكريةَ في دالَّةٍ رياضية تضبطُ لنا روابطها الداخلية التي برَّرَت أن نعدَّها تصورًا ذهنيًّا واحدًا، وأنَّ تحليلًا كهذا قَمِينٌ أن يغوصَ بنا في تشكيلاتٍ من رموز، يبدو للوهلة الأولى أنَّها عقَّدَت علينا ما كان بسيطًا، مع أنَّها في الحقيقة حوَّلَت لنا ما كان غامضًا إلى صيغةٍ رياضية دقيقة، والحق أنَّه تحوُّلٌ لا يُسيغه من أَلِفَ قَبول المعاني المُبهمة، حتى لقد وَجَدَت هذه النزعةُ الفلسفية التحليلية الجديدة معارَضةً أشدَّ المعارضة، وسخريةً أمَرَّ السخرية، عندما أدخَلها إلى الفكر العربي لأول مرة العبدُ الفقير لله كاتبُ هذه السطور، وممن كانت المعارضة وكانت السخرية؟ مِن أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية أنفسِهم، حتى لقد كتَبوا يُعارِضون ويسخرون، والله وحدَه عليمٌ بمقدار ما علموه من هذا الاتجاه الفلسفيِّ المعاصر، وهل يكفي لإبداء الرأي فيه أو لا يكفي.
أمَّا بعد، فلْنعُد إلى ما بدأنا به حديثَنا: لقد عَجِب صاحبي الذي كنتُ أحدثه كيف أتشكَّك في مُسايرتنا لروح عصرنا، ودُنيانا قد امتلأَت بعلوم العصر وأجهزته ومكناته، فأجبتُه بأنَّ ذلك كلَّه قشرةٌ على السطح نقَلناها، ولم تمسَّ منَّا اللُّباب، وبيَّنتُ له على مدار الحديث، بأمثلةٍ كثيرة أورَدتُها، كيف يحدث غالبًا ألَّا يكونَ عند الإنسان من الفكرة المعينة إلا اسمُها، فيقبل الاسم ويظن أنَّه قد قبِل كذلك معناه بكلِّ أبعادِه ولواحقه، حتى إذا ما تكشَّفَت له تلك الأبعادُ واللواحق أخذَه الفزع والنفور.
وليس لأحدٍ سُلطانٌ على أحدٍ في أن يُسايرَ العصر أو أن يتنكَّر له، لكن الذي ليس من حقِّك ولا من حقي، هو أن تدَّعيَ الانتماء للعصر بفِكره وثقافته عندما تكون في حقيقتك منطويًا على ما يُناقضه، فأحدُ أمرين: إمَّا أن تعتدَّ بما في دَخيلة نفسِك، فتمحوَ ما يبدو على ظاهرك، وإمَّا أن تعتدَّ بما هو ظاهرٌ في لفظك، فتُغير ما قد ترسَّب في طَويَّتك من رواسبِ الماضي، أمَّا أن تُعاصر زمانَك بظواهر اللفظ وتُعارضه بباطن الإيمان، فذلك موقفٌ أقلُّ ما يُقال فيه إنَّه غموض في الرؤية، أو هو نفاق ثقافي لا ترضاه.