منطق جديد .. لفكر جديد
لم يكن تحليلُ الأشياء إلى «ذرات» تتألفُ منها، بالفكرة الجديدة التي جاء عصرُنا ليستحدثَها من العدم؛ إذ الفكرةُ قديمة قِدَم اليونان الأوَّلين، فرأيناها عند ديمقريطس، ثم رأيناها عند نفرٍ من فلاسفة العرب ومتكلِّميهم، ولبثَت بعد ذلك قائمةً تتردد ظهورًا وخفاءً. لكن الجديد فيما استحدثَه عصرنا هو بناء الذرة كيف يكون، وإذا استطاع القارئُ أن يتصور النقلةَ التي انتقلَتها فكرةُ الذرة في عصرنا، استطاع بذلك أن يُمسك بخيطٍ رئيسي تتعلقُ به أوجهٌ كثيرة من حياتنا العِلمية والفكرية؛ ممَّا ينتهي بنا إلى طابَعٍ عام يجعل من العصر الحاضر عصرًا متميزًا مما عداه، وإنه ليكفيه في هذا التصور أن يَعلم أنَّ «الذرة» الأولية بعد أن كانت — عند مَن جعلوها نهايةَ التحليل للوجود المادي — قطعةً صمَّاء لا يَنفُذ خلالها شيء؛ لأنَّها ملاءٌ كلها ليس فيها خلاءٌ بأيِّ معنًى من مَعانيه، وهي تستعصي على التجزئة بطبيعة الحال، وإلَّا لما كانت أوليةً بسيطة ينتهي عندها التحليل، أقول إنَّ صورة الذرة — عند القائلين بها — بعد أن كانت على هذا النحو المُصْمَت الصُّلب المليء، أصبحت عند عصرنا كِيانًا مخلخلًا، يتشابهُ تكوينه مع تكوين المجموعة الشمسية — مثلًا — فنُوَيَّة أو نُوِيَّات في مركزها، تدور حولها كهارب في أفلاك، إلى آخر تفصيلات هذه الصورة الجديدة للذرة، مما نستطيع مُراجعته مبسَّطًا في كثيرٍ جدًّا مما يُنشر عن تبسيط العلم في الكتب والمجلات.
ولو كان قارئنا ممن ألَمُّوا بشيءٍ من الدراسة الفلسفية — قليلٍ أو كثيرٍ — لَأدرك من فوره أنَّ أهمَّ فارق يميز هاتين الصورتين للذرَّة إحداهما من الأخرى، هو أنَّ الذرة في صورتها القديمة كانت «جوهرًا» (بلُغة الفلاسفة)، وأما في صورتها الجديدة فهي «تاريخ»، وبين هاتين الفكرتين يَكمُن الفرق العميق بين فكرٍ قديم وفكر جديد .. لكنْ مهلًا، فمِن حق القارئ علينا شيءٌ من الأَنَاة، حتى يستوثقَ أولًا مما نعنيه — في الفلسفة — بكِلتا هاتين الفكرتين: «الجوهر» و«التاريخ».
أما فكرة «الجوهر» فلستُ أطمع في شرحٍ مفصَّل للكثير من وجهات النظر التي اتخذَها الفلاسفة حيالَها، ولا عجب؛ فقد كانت هذه الفكرةُ من أهم ما شغَل الفلسفةَ قديمها ووسيطها وحديثها، وحسبي أن أقول عن «الجوهر» هنا إنَّه هو — من أيِّ كائن — ما يستحيلُ إزالته؛ لأنَّه بزواله يزولُ الكائن، أي إنَّه مهما تغير الكائنُ حجمًا وشكلًا ولونًا، ففيه عنصرٌ ذو دَوام، هو الذي يعطي الكائنَ هُوِيَّته منذ لحظةِ وجوده وإلى لحظة فَنائه، بل إنَّه بالنسبة لبعض الكائنات — كالإنسان — قد لا يكون «لجوهره» فَناءٌ حتى بعد أن يَفنى منه الجسدُ بكل ظواهره وتغيراته، خُذ فردًا من الناس تعرفُه، وانظر، تجده متغيرًا أبدًا لا يستقرُّ على حالةٍ واحدة لحظتَين؛ فقد كان رضيعًا ثم أخذ يتغيرُ ناميًا، حتى بلغ ما بلغ، لكنه مع هذا التغير الذي لم يجمد دقيقةً واحدة، كانت له «هُوِيَّة» واحدة، عُرِف بها وما يزال معروفًا، فعلى أيِّ أساس دامت له هذه الهُوِيَّة الواحدة برغم ما تعرَّض له من تحولٍ مستمر؟ لقد كان ذلك على أساس ما نزعمُه لأنفسنا في تكوينِه، وهو أنَّ مجموعةَ الظواهر المتغيرة فيه ليست هي حقيقتَه كلها، وإنما حقيقته هي «جوهره» وهو الذي تطرأ عليه التغيُّرات، حتى لقد قيل إنَّه بغير افتراضِ ذلك الجوهر، لما أمكَن أن يكون للتغير نفسِه معنًى؛ إذ ما الذي يتغير؟ ما الذي يستوعب الخبراتِ على مَرِّ الزمن؟ إنَّه ذلك الجوهر المفروض، يدوم ما دام الشيء، ولْيطرَأْ عليه بعد ذلك من التحوُّلات ما يجيء ويذهب، ما يظهر ويختفي، لكنه يبقى شيئًا «واحدًا» بفضل جوهره ذاك.
على أنَّ الأمر في هذا العالم لم يقتصر على أفراد الناس، بل يمتدُّ حتى يُصبح هو الطريقةَ التي لا طريقة للناس سِواها في تصوُّرِهم للأشياء كائنةً ما كانت، فهذه كرة يلعب بها على مَرْأًى مني الآن طفلٌ صغير، تجرى بدفعته، وتنط، وتنضغطُ وتنبسط بضغطاتٍ من أصابعه، فهل كانت هذه «الظواهر» البادية هي كلُّ حقيقة الكرة؟ كلا؛ لأنَّها لَمَّا اختفَت تحت قِطَع الأثاث، ظلَّ الطفل يبحث عنها، فحتى هذا الطفل قد أوحت إليه فطرتُه أنَّ وراء ظواهر الكرة المتغيرة، «كرةً» يبحث عنها إذا لم تَعُد لها ظواهرُ بادية، ومعنى ذلك أنَّ لها «دوامًا» في افتراضنا، ما دامت «الظواهر» متغيرةً لا تدوم؛ إذن لا بدَّ أن يكون الدوامُ خاصًّا بحقيقةٍ خافية، وهي «الجوهر» الذي جعل لكرة الطفل «هُوِيَّة» متصلة يميزها بها مِن سواها، بل إنَّه بغيرِ افتراض هذا الجانب الثابت الدائم، لما استطعنا أن نتحدثَ عن شيء، ألَا ترانا نقول — مثلًا — إنَّ الكرة مستديرة، والكرة بيضاء، والكرة متدحرجة أو ساكنة، إلخ إلخ؟ فانظر إلى مجموعة الجُمل التي يقولها المتكلمُ عن «الكرة» تجدها عنده «موضوعًا» يُراكم عليه ما يراه لها من صِفات، ومِن ثَمَّ كان التركيبُ اللُّغوي نفسُه لعباراتنا التي نقولها عن الأشياء شاهدًا على أننا «نفرض» قيام «موضوع» معيَّن، تتبدلُ عليه الصفات وهو ذو ثبات.
ثم قارن هذه النظرة في تفسيرِ فَهمنا للأشياء بنظرةٍ أخرى لا ترى من أيِّ كائن إلا أحداثَه التي تظهر، دون أن تُضطرَّ إلى افتراضِ حاملٍ خفي يحمل تلك الأحداثَ الظاهرة، فهي نظرةٌ لو سألتَ صاحبها: ما حقيقة هذا الفرد المعين من أفراد الناس، أو هذه الكرة التي يلعب بها طفلُنا هناك؟ أجابك: حقيقةُ كلٍّ منهما سلسلةُ «الأحداث» التي وقعَت، فاكتب لي تاريخًا مفصلًا لتلك الأحداث تكن لنا حقيقةُ الإنسان المعين أو الكرةِ المعينة أو ما شئتَ من كائنات؟ لكنك لن تطمئنَّ لجوابه هذا، وستُعاود سؤاله: إذا كان هذا الإنسانُ المعين لا يَزيد على كونه خطًّا من أحداثٍ تتابعَت، فما الذي يجعل له «هُوية» واحدةً مستمرَّة منذ نشأته حتى هذه اللحظة؟ هنا يُجيبك بأنَّ «الهُوِيَّة» الواحدة للكائن الواحد، ليست مرهونةً بقيام عنصرٍ مستقلٍّ، بل هي مرهونةٌ بمجموعة «العلاقات» الرابطة لتلك الأحداث، فحتى لو وقع ما كاد يستحيل أن يقع، وهو أن يتشابهَ فردان في الأحداث التي تُكوِّن تاريخهما، فلن تكونَ الروابطُ بين تلك الأحداث واحدةً في الحالتين، ومِن ثَمَّ ينتج لنا «نَمطان» أو تركيبتان مختلفتان، هما ما تُميز بهما بين الفردَين.
خلاصة القول: وجد الفلاسفة قبل عصرنا (فيما عدا استثناءات قليلة) أنَّه لا مندوحة لنا من «افتراض» جوهرٍ ثابت لكل شيء، وكان ذلك منهم على أساسِ أنَّه بغير افتراضِ هذا الجانب الثابتِ لما أمكَننا أن نفهمَ معنًى للتغير، ولَما استطعنا أن نُسند إلى الأشياء صفاتٍ معينة، وأما فلاسفة عصرنا فمُعظمهم على اتفاقٍ بأنَّ كِيان الشيء — أي شيء — ليس في جوهر له مزعوم، إنما هو في تسلسُل الأحداث التي تصنع تاريخَه، مضافًا إليها الطريقة الفريدة المتميزة التي ربطت بها تلك الأحداث، ولْنُلاحظ هنا أنَّ افتراض «جوهر» للشيء، يتضمَّن أنَّ ذلك الجوهرَ لا يتأثر بِمَرِّ الزمن؛ فالروح — مثلًا — هي الروح، سواءٌ مرَّت عليها ساعةٌ واحدة أو ألفُ ألفِ عام، والمربَّع هو المربع بالتعريف الواحد الذي يُحدد فكرتَه، بغضِّ النظر عن زمنٍ يطول بالكون ملايينَ السنين، وأما أن تجعل حقيقةَ الشيء مساويةً للأحداث التي صنَعَت تاريخه، فمعناه أنَّ الزمن عنصرٌ أساسي، لأنَّ الأحداثَ إنما تحدث على فترةٍ من الزمن، لا يكون الشيءُ المعين في أولها هو هو نفسَه في آخرها، وهاتان الوقفتان تنعكسان — كما قدَّمْنا — في تصوُّر الإنسان للذرَّات الأولية؛ ما وصفُها؟ فمع تصوُّر الدوام والثبات كانت الذرَّة جُسَيمًا صلدًا أصمَّ لا ينقسمُ ولا يتفتت ولا خلاءَ فيه، ومع تصوُّرنا لحقائقِ الأشياء على أنَّها تواريخُ يمتدُّ كلُّ تاريخ منها ما امتدَّت سلسلةُ الأحداث التي تُكوِّن هذا الشيءَ أو ذاك، تكون الذرة — كما نعرفها الآن — كهارب دوَّارة في أفلاكها حولَ نَواة، ويفصل الكهاربَ بعضَها عن بعض وعن النواة خَلاءٌ، فما تنفكُّ الذرة في حركة، يؤخذ منها بالإشعاع أو يُضاف إليها.
ولكي نَزيد المقارنةَ بين النظرتين وضوحًا، نسوق لك الأمثلة؛ فقد كان الظن أنَّ كلَّ اسم من الأسماء الواردة في لغة الناس، إنما يدلُّ — إذا دلَّ — على مُسمًّى معيَّنٍ ثابت بحكم التعريف القائم على طبيعة ذلك المسمَّى، أي القائم على «جوهره»، فإذا قلنا «إنسان» كانت الإشارةُ هنا إلى «حيوان ناطق»، أعني إلى كائنٍ حيٍّ عاقل؛ لأنَّ طبيعة الإنسان أو جوهره هو أنَّه حياةٌ عاقلة، لكن انظر معي إلى أسماءٍ كهذه: «تجارة»، «مدينة»، «مسرحية»، «موسيقى»، ولنسأل أنفسنا: ماذا تُسمَّى هذه الأسماء؟ هل هناك على أرض الواقع كِيانٌ معلومُ القسَمات محدودُ المعالم هو الذي أطلَقْنا عليه اسمَ «تجارة»؟ إنَّ نظرةً واحدة فاحصة تكفيك لتعلمَ أنَّ ما هنالك هو مجموعةُ «علاقات» بين أفرادٍ من الناس بعضهم مع بعض، فالذي أسميناه «تجارة» ليس «شيئًا» ولكنه نمطٌ من تفاعلات، كذلك قُل في «المدينة» ولتكن هي مدينة القاهرة مثلًا، إنَّ ما جعَلها كذلك هو مجموعةُ سكانها الذين يعيشون فيها، وهذه المجموعة تَزيد وتنقص وتموت وتُولَد وتنشط وتُتاجر، إنها كخليَّة النحل، يكون لها «شكل» عام، لكن المحتوى هو في حركةٍ دائبة لا تستقرُّ لحظة، وكذلك قُل في «المسرحية» وفي «الموسيقى»، كلها أنساقٌ من «علاقات» وأنماطٌ من حركة وأطُر من بناء، إنَّك لا تنتظر لترى موضوعَ المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول إنَّها مسرحية، بل يكفيك أن تعلم أنها قد صُبَّت في الإطار المعلوم الذي هو شكل المسرحية كما نعرفه أو كما نُريده، ولقد يُخيَّل إليك بعد هذه الأمثلة أنَّ الكائنات صِنفان: صِنف له طبيعة «الأشياء» الثوابت ذاتُ «الجوهر» المعلوم، وصنفٌ آخرُ له طبيعة الهيكل البنائي، تُحدده «العلاقات» الرابطةُ لأجزائه، لكن الجديد في وجهة النظر المعاصرة هو أنَّ كل حقيقة في دنيا الواقع أو في عالم الفكر إنما تُحددها طريقةُ بنائها، كما هي الحال بالنسبة إلى «الذرة» في التصور الحديث.
هاك مزيدًا من أمثلةٍ تُبين أبعادَ هذه الفكرة الخِصبة الجديدة لتتمثَّلَها في مختلِف أبعادها؛ لأنَّها من الفكر المعاصر بمنزلة الركيزة التي يعتمدُ عليها البناء، إذا سُئلت: ما الذي يجعل ملايينَ البشر نوعًا واحدًا؟ كان الجوابُ فيما مضى هو أنَّهم جميعًا يتميَّزون بما يُسمى عقلًا، وأما الجواب الأصحُّ فهو أنهم جميعًا ذَوو «بِنْية» واحدة، أو هم ذَوو «تشريح» واحد؛ أي إنَّ الطريقة التي تتصل بها الأعضاء بعضُها ببعض ليكتملَ بها بِناءٌ عضوي معين طريقةٌ واحدة فيهم جميعًا، كذلك قُل في كل نوعٍ حيواني على حدة، وكذلك قُل في عالم الحيوان كلِّه مأخوذًا معًا من حيث هو جنسٌ واحد، فالحيوان حيوانٌ لطريقة تركيبه وأدائه لوظائفه، وهكذا الأمر في أنواع النبات، وفي النبات جُملةً، ما الذي يجعلنا نجمع الهِملايا والأَلْب والأنديز في اسمٍ واحد هو «جبل»؟ إنَّ ذلك ليس مرجعُه نوعَ الصخور، بل مرجعه «البِنية» التي على هيكلها العامِّ قام الجبلُ .. تمامًا كما أصبحنا نُحدد ذرةَ الهيدروجين أو ذرَّة الكربون بطريقةِ بنائها النوعي، ونُحدد «الذرة» إجمالًا — بغضِّ النظر عن اختلاف أنواعها — بطريقة بنائها.
إنَّ القطعة الموسيقية الواحدة قد تتعددُ ظروف عزفِها، بل قد تتفاوت إجادةُ العزف في كل مرة، لكننا نظلُّ نقول عنها إنَّها قطعةٌ موسيقية بعينها في جميع الحالات؛ لأنَّ البِنْية الصوتية واحدة، ثم انظر! إنَّ هنالك هذه القطعةَ الموسيقية كما تقع في مَسمعك، وهنالك أيضًا هذه القطعة الموسيقية نفسُها مرقومة على «النوتة»، وهي نفسُها كذلك مسجَّلة على شريط أو على أحد أقراص الحاكي، صورٌ مختلفة، لكننا برغم ذلك نخلع عليها كلِّها هُوِيَّةً واحدة؛ لِما بينها من تشابُهٍ في طريقة البناء.
وقُل الشيءَ نفسَه في مسرحية تُمثَّل على المسرح كمسرحية هاملت، ثم تكون هي نفسُها مكتوبةً في كتاب، ويُشاهدها آلاف المشاهدين، وتتعدد مرات تمثيلها بمجموعات مختلفة من الممثلين، وقد يلقطها شريطٌ سينمائي لتُعاد على الشاشة صورًا متحركة، فما الذي يجعلك تقول على درجة تقربُ من اليقين بأنَّ الهُوِيَّة واحدة برغم هذا التعددِ والتنوع في الظهور؟ إنَّها البِنية الواحدة.
إنَّ الاعتماد على واحِديَّة البِنية في الحكم بواحدية الهُوِيَّة لَهُو في صميم المنهج العلمي نفسِه؛ فالعلماء يُجْرون التجارِبَ في المعامل حتى إذا ما اتفقَت تجرِبتان أو أكثرُ على نتيجةٍ واحدة، كنَّا على اطمئنانٍ معقول في قَبولها؛ فما معنى «اتفاق» التجارِب، أو «اتفاق» الشهادات عند مختلِف المشاهدين؟ إنَّ كل تجرِبةٍ وحدةٌ قائمة بذاتها، وكذلك كل مشاهدة يقوم بها مُشاهد، لكن الذي يجمعها معًا هو التشابهُ في البِنية، فكأنَّما عديدُ التجارب المتشابهة قد اندمَج بفضل هذه البِنية الواحدة فأصبح تجرِبةً واحدة، أو مشاهدة واحدة، إنَّهم لَيقولون إنَّ الموضوعية هي من أهمِّ شروط النظرة العِلمية، وما الموضوعية؟ هي أن ننظر إلى الأمر الواحد من زوايا مختلفةٍ (أو بأعيُن عدة مشاهدين) فنجد أنَّ البِنية المرئيَّة واحدةٌ برغم اختلاف الزوايا التي ننظر منها.
إنَّنا نقول عن خريطةٍ جغرافية إنَّها صحيحة، إذا راجعناها على الواقع الذي تُصوِّره فوجَدْنا الطرَفَين على بِنيةٍ واحدة، أعني أنَّ كل جانب من جوانب الواقع له ما يُقابله على الخريطة، وتقول إنَّ هذا الظل هو لِتلك الشجرة إذا رأيتَ اتفاقًا بينهما في البِنية، برغم ما قد يكون بينهما بعدَ ذلك من اختلافٍ في الأبعاد المكانية وفي مادة المضمون الفعلي، وما أكثرَ ما تهتدي الشرطةُ إلى مجرم مُعين ارتكب عدةَ جرائم، بالأسلوب الذي يرَونه مشتركًا بينها! فالجرائم قد اختلفَت وتعدَّدَت، لكنْ يُوحِّد بينها أنَّها قامت كلُّها على بِناء واحد، يقف المذيع أمام المِذياع ويرسل موجاتٍ صوتية، تتحول إلى موجات كهرومغناطيسية، ثم تعود في الطرَف الآخر إلى موجاتٍ صوتية كما كانت، والذي يجعلها — برغم هذه التحوُّلات على الطريق — تثبتُ على صورةٍ واحدة نسمعُها في الطرَف الآخر وكأننا نسمعُها عند نطقها في الطرف الأول، هو أنَّ البِنية تظلُّ واحدةً من أول الطريق إلى آخرِه، بل لماذا لا نضرب المثَل بأنفسنا إذا سمعنا مُحدثًا يتحدث إلينا مباشرة، إنَّه يبعث موجاتٍ صوتية تنتقل على الهواء إلى الأذن، ثم تتحول في عصَب السمع إلى حركة من نوعٍ آخر، وتصل إلى المخِّ على أسلاك الجهاز العصبي، لكنها مع تحولاتها هذه تحتفظُ ببِنيةٍ واحدة هي التي تضمنُ أن يكون الصوت المسموع مطابقًا للصوتِ المنطوق في الصورة وإن اختلَفا في المادة، وهكذا وهكذا، أمثلةٌ لا حصر لها من إدراكنا للأشياء مِن حولنا، ومن إدراكنا للأفكار العِلمية وغيرِ العلمية على السواء، كلها تؤكد أنَّ اعتمادنا في معرفة دنيانا لم يَعُد على إدراكنا ﻟ «جواهر» الأشياء، بل لطرائق بِنائها وأدائها لوظائفها وَفْق ذلك البِناء.
إلى هنا وقد أشرنا إلى لمحةٍ من الوقفة العصرية في أحدِ جوانبها، وخُلاصتها أنَّ المعوَّل في معرفتنا لحقائق الأشياء والمواقف، لم يَعُد على إدراكنا ﻟ «جوهر» غيبيٍّ قائم فيها، بل المعوَّل في ذلك إنَّما هو على إدراكنا لشكلِ بنائها، وبالتالي فهو على إدراكنا ﻟ «العلاقات» المحددة لصورتها، وبقي أن نُبين كيف أنَّ هذا الفكر الجديد قد اقتضى منطقًا جديدًا.
لا بدَّ لي بادئَ ذي بدء أن أُنبه القارئَ إلى مُجمل المعنى الذي يقصد إليه دارسُ الفلسفة بما يُسمى «منطقًا»؛ لأنَّ هذه اللفظة كثيرًا ما تُستخدَم في حياتنا الفكرية الجارية بمعانٍ أخرى، ليست هي المعاني التي اصطلح عليها الدارسون، فباختصارٍ شديدٍ نقول إنَّ المنطق هو استخراجٌ للصور الشكلية التي نظن أنَّ تفكيرنا العلمي يسير على نهجها، ولما كان هذا الفكرُ العلمي نفسُه يتوقف إلى حدٍّ كبير على ما «نعتقد» أنَّه الواقع، كان المنطق كذلك — في صوره التي يُتابع بها سير الفكر العلمي — متوقفًا أيضًا على ما «نعتقد» أنَّه حقيقة الواقع، كل ما هنالك من فرقٍ بين «العلوم» المختلفة في موضوعاتِ بحثها، وبين «منطقها»، هو أنَّ للعلوم مادةً معيَّنة، كالضوء أو الصوت أو النبات أو الحيوان، وأمَّا المنطق فهو يطرح من حسابه تلك المادةَ المعيَّنة ليُتابع «شكل» التفكير وكيف تتتابعُ خطواته، نتائجُ من مقدمات، لكن العلوم ومنطقها معًا يرتبطان بأوثقِ الروابط مع ما «يعتقد» الإنسان — في العصر المعين — أنَّه طبيعة الوجود.
وكان أرسطو — كما نعلم — هو واضعَ «المنطق» كما عرَفه عصره والعصور التالية لعصره حتى عهدٍ قريب، فكيف كانت «العقيدة» عندئذٍ فيما يختصُّ بطبيعة الوجود؟ كانت «الطبيعة» عندهم طبيعتين: إحداهما هي هذه الأشياء التي تظهر من حولنا وتختفي، هي هؤلاء الأناسيُّ، وأفراد الحيوان والطير، هي هذه الشجرات والصخرات والأنهار والبحار، هي هذه الشمس وهذا القمر وتلك الكواكب والنجوم … تلك هي إحدى الطبيعتين، ولمَّا كانت كائناتها — كما ترى — متغيرةً متحولة، فهي طبيعةٌ لا تصلح أساسًا لعلم ثابتٍ مَكين؛ إذ العلم الثابت لا بدَّ أن يكون علمًا بما هو ثابتٌ كذلك.
وهنا يأتي تصوُّرهم لطبيعةٍ أخرى، قِوامها «الأفكار» لا مفرداتُ الأشياء، والأفكار إنَّما تتعلَّق ﺑ «الأنواع» لا بالأفراد الجزئية، ففكرتُنا عن «المربع» ليست مرهونةً بمربعٍ يرسمه تلميذٌ على ورق؛ لأنَّ الرسم — مهما دقَّ — فلن يبلغ حدَّ الكمال في استقامةِ الخطوط واكتمال الزوايا، وإنما ترتهنُ فكرتنا عن المربع بتعريفٍ عقلي له، نُحدد به جوهره، وهكذا قُل في كل شيء، فكرتنا عن «الإنسان» لا ينبغي أن ترتكزَ على ما نشاهده في فلانٍ أو فلان؛ لأنَّ هؤلاء الأناسيَّ قد يتفاوتون كمالًا، لكن ليس فيهم واحدٌ نستطيع أن نقطع بأنَّه هو فكرة الإنسان في غاية كمالها، وإذن ففكرتُنا عن الإنسان قائمةٌ على تعريفٍ عقلي له، نُحدد به جوهرَ حقيقته، وهلمَّ جرًّا.
وعلى هذا الأساس — أساس «الجوهر» — أقام أرسطو «منطقه»؛ لأنَّه هو نفسه الأساسُ الذي أقام عليه العلمُ عندئذٍ بِناءه، وتستطيع أن تُدرك الفرق بين ما هو «فرد» متغيرٌ وبين ما هو «جوهر» للنوع، بأن تُقارن الأسماء التي نُطلقها على الأفراد بالأسماء التي نُطلقها على الأنواع، قارِنْ بين قولي «معاوية» وقولي «إنسان»؛ الأول اسمٌ لفرد، ولذلك لم يكن يُمثل عندهم «فكرة علمية»، وأما الثاني فاسمٌ لنوع، ولذلك فهو يتضمَّن فكرةً علمية لأنَّه يتضمَّن تعريفًا محددًا لنوعٍ بأسرِه.
من نقطة الابتداء هذه انطلقَ أرسطو يُبين لنا كيف تتَّحد في أذهاننا تصوراتُنا الذهنية عن الأنواع، ثم كيف تتدرَّج الأنواع في سُلمٍ هرمي تحت أجناسٍ أعمَّ منها، وهذه تحت أجناسٍ أعمَّ … وهكذا، فإذا نحن أحكَمْنا هذا البناء الهرميَّ الذي يشمل جميعَ «الأنواع» وأجناسها، كنا بمثابةِ مَن أحاط بعلم الطبيعة كما هي قائمةٌ في عالم الثبات العقلي، لا كما هي منظورة في جُزئيَّات العالم الحسي، ومن تصوراتنا الذهنية عن الأنواع نستطيع أن نبنيَ أحكامنا على حقائق الوجود، بأنْ نربطَ بين تصورَين منها ربطًا يُثبت أحدَهما للآخر أو يَنفيه عنه، وكلَّما انتهينا إلى حكم صادق من تلك الأحكام، كان لنا أن نستدلَّ منه أحكامًا أخرى، وهكذا دواليك.
الذي أكسبَ المنطق الأرسطي قوتَه الجارفة التي مكَّنتْه من البقاء أكثرَ من عشرين قرنًا، هو أنَّه يُساير إدراكنا الفطريَّ للأشياء، فنحن بالفطرة أميَلُ إلى الاعتقاد بأنَّ ما تقعُ عليه أبصارنا، أو أيةُ حاسة أخرى من حواسِّنا، كالكرسيِّ والقلم والفنجان والنافذة والسمكة والطائر والسحابة والشجرة، إنما هو ذو كينونةٍ مستقلَّة قائمةٍ بذاتها، وما علينا بعدئذٍ إلا أن ننتقلَ من الكرسي الفرد إلى الكرسي بالمعنى العام، ومن القلم الفردِ إلى القلم بالمعنى العام … وهكذا، فتكون لدينا «التصورات» التي نبني عليها عِلمَنا بالوجود، وحتى إذا وجَد الإنسان بين يديه ألفاظًا تُسمَّى كائنات مجردة، كالحرية والجمال والفضيلة وغير ذلك، فلن يرى في الأمر بعد ذلك عُسرًا حين يُجْريها في الطريق الاستدلاليِّ الذي رسَمه المنطقُ الأرسطي؛ لأنه لن يُطالب ﺑ «تحليل» هذه المعاني بحيث يردُّها إلى عناصرها الأولية، فما عليه — مثلًا — سوى أن يقول: إنَّ كل ما في الكون قد جاء على نظامٍ جميل، وهذا الواقع الفلاني هو جزءٌ من الكون، وإذن فلا بدَّ أن يكون على نظام جميل، فإذا لم تكن عيني ترى فيه النظامَ الجميل فلأنَّها عينٌ عشواء، أما أن يُحلِّل المتكلم معانيَ «الكون» و«النظام» و«الجمال» فليس ثَمة ما يُحتم عليه ذلك في منطق الفكر القديم.
فماذا — إذن — عن المنطق الجديد؟ أرجو ألَّا يكونَ القارئ قد نسي الجانبَ الذي ركَّزنا عليه القولَ في الفكر الجديد، وهو أنَّنا نلتمسُ حقائقَ الأشياء في طرائقِ بنائها، لا في «جوهر» أنواعها، أعني أننا نلتمسُ تلك الحقائقَ في «العلاقات» الرابطةِ بين الأطراف، أكثرَ مما نلتمسُه في الأطراف نفسِها المرتبطة بتلك العلاقات، وذلك نفسُه هو شأن «الرياضة»، فأنت حين تقول أنَّ: «٢ +٣ = ٥» تقولها ولا تدري ما هي «الأشياء» التي سترتبطُ بهذه العلاقة الرياضية؟ هل هي برتقالتان وثلاث برتقالات؟ أو هي كتابان وثلاثة كتب؟ ولم يَبعد برتراند رسل عن الصواب قِيدَ شعرة حين قال بطريقته الخاصة في التعبير: إنَّ الرياضيَّ هو الرجل الذي لا يعرف عمَّ يتحدث. وكذلك الشأن في المنطق الجديد: هو منطقٌ ﻟ «العلاقات» لا لحقائق الأشياء المتعلقة بها، وإذا أحكَمْنا بِناءه، كان لك أن تملأَ إطارَ تلك العلاقات بأي شيءٍ أردت.
إنَّها لم تكن مصادفةً عمياء في تاريخ الفكرِ المعاصر، أنْ ظهَرَت فكرةُ الوحدات الذرية في أكثرَ من ميدان، وعلى فترةٍ قصيرة، ففي وقتٍ واحد تقريبًا ظهرَت النظرية الذرِّية في الفيزياء، كما ظهر كذلك تحليلُ الكائنات العضوية إلى «خلايا»، كأنَّما الخلايا في البيولوجيا هي المقابلة للذرَّات في الفيزياء، ثم ظهرَت بعد ذلك بقليلٍ نظرية برتراند رسل في «الذرية المنطقية» وهي ما نُعْنَى به بصفةٍ خاصة في هذا الحديث.
فلقد كان معظمُ الخطأ في التفكير، ينشأ عن خلطِ الإنسان بين ما هو «فرد» وما هو «مجموعة» حتى كاد ألَّا يُفرق بين قولنا «هذه الشجرة» و«الشجر» أو بين قولنا «عباس العقاد» و«إنسان»؛ لذلك كان إذا ما صادفَ جملةً تتحدث عن مجموعاتٍ (والأكثرية العظمى مما يقوله الناس أو يكتبونه هو عن مجموعاتٍ لا عن مفردات) ظنَّ أنَّها تتحدثُ حديثًا مباشرًا عن الأشياء الواقعة، مع أنَّ هذه الأشياءَ الواقعة لا تكون إلا مفردات، فإذا جاء كلامُ المتكلم عن مجموعات، كان معنى ذلك أنَّ كلامه هذا يحتاجُ إلى خطوةٍ وُسطى تردُّه أولًا إلى صورةٍ لفظية تُشير إلى مفردات، قبل أن يتوافر لنا إمكانُ التقابل بين البناء اللفظيِّ وبناء الواقع الخارجي، فافرِضْ — مثلًا — أني قلتُ لك جملةً كهذه: «العرب روحانيُّون.» وأردتَ أن تفهم عني القول فهمًا علميًّا دقيقًا، فأولُ ما تصنعه هو أن تُحلل هذه الجملةَ التي يدور فيها الخبرُ حول «مجموعة» هي «العرب»؛ أي أن تُحلِّلها إلى قائمةٍ من جُمل يكون موضوعُ الحديث في كلٍّ منها شخصًا عربيًّا واحدًا يقعُ لك في مشاهداتك، وبعد أن تُحلِّل المقصودَ من لفظة «روحاني» إلى عناصرها المكوِّنة لها، عندئذٍ يكون بين يدَيك عباراتٌ عن أشخاص بأعينهم يتَّصفون بصفاتٍ معينة، فيكون التقابلُ بين العبارة والحالة الواقعة تَقابلًا مباشرًا، وبتعبير مختصرًا: لا بدَّ أن تُحلِّل الكلامَ المجمل إلى «ذرَّاته» لتتمكَّن من مراجعة كلِّ ذرة فكرية على الواقعة المفرَدة التي جاءت تلك الذرة لتصفَها، أما أن تتركَ الكلام على إجماله، ثم يُخيَّل إليك أنَّك قادرٌ على الحكم بصوابه أو ببُطلانه، فذلك هو المنزلَقُ الذي يؤدي إلى الضلال، وأهمُّ ما نَلفتُ إليه النظرَ هنا، هو هذا المعيار: إذا وجدتَ أنَّ الكلام المجمَل العامَّ يستعصي على الردِّ إلى ذراتٍ فردية في دنيا اللفظ وفي دنيا الواقع الذي يُقابل اللفظ، فاعلم أنَّ أرجحَ الرأي عندئذٍ هو أنك بإزاءِ كلام بغير معنًى.
لعلك قد سمعتَ بما يُسمى في عصرِنا ﺑ «المنطق الرياضي» (أو المنطق الرمزي)، بل لعلك قد سمعتَ كذلك بالاتجاه الجديد الذي بدَأه رجالُ التعليم في أقطارٍ كثيرة من أرجاء الأرض (وبينها بعض الأقطار العربية)، وهو أن يتخذ تدريسُ الرياضة صورةً جديدة تختلفُ اختلافًا واضحًا عن الصورة التي ألِفْناها في المدارس، وهو اتجاهٌ جاء نتيجةً مباشرة للمنطق الجديد الذي نتَج بدوره عن اللفتة الفكرية الجديدة في عصرنا الراهن.
وخلاصةُ هذا الاتجاه هي أننا قد كشفنا آخِرَ الأمر عن حقيقةٍ مهمة، وهي أنَّ تفكير الإنسان في حياته العادية وعن الأشياء المألوفة، إنَّما يجري — في أساسه — على أسلوب الرياضة في جرَيانها، لقد لبث الإنسانُ قرونًا، يظن أنَّ الفكر في مجال الرياضة له طريقتُه ورموزه التي نعرفها جميعًا، وأمَّا في الحياة المألوفة الجارية فقد تقول مثلًا: «البرتقال أصفر»، فيكون قولُك من نوعٍ آخر لا يمتُّ إلى الرياضة ورموزِها بسبب، ومن ثَمَّ جاء المنطق الأرسطيُّ القديم ليُواجه حالاتِ الفكر التي من هذا القبيل، بعبارةٍ أخرى، كان الظنُّ أنَّ الرياضةَ إنَّما تهتمُّ بدُنيا «الكم»، وأمَّا «المنطق» فيهتمُّ بدُنيا «الكيف».
فلما وقَف نفرٌ من أعلام الرياضة وأعلام المنطق خلال القرن الأخير، وقْفتَهم التي أرادوا بها أن يَزدادوا تحليلًا وفَهمًا للعلاقة بين الرياضة والمنطق، وقَعوا على هذا الكشف العلميِّ الخطير، وهو: أولًا: أنَّ أُسس الرياضة (كفكرة العدد) يمكن تحليلُها بأسرها إلى مفهوماتٍ من النوع الذي يتناولُه المنطق بالدراسة، وثانيًا: أنَّ المنطق بدَوره يمكن أن يُقام له بناءٌ جديد يقوم على الأسلوب الرياضي، بمعنى أن يُقنن جهاز من الرموز تُدار في إطاره عملياتُ الاستدلال، تمامًا كما تفعل الرياضة، حتى لا يتعثَّر الفكر بما تشتملُ عليه ألفاظُ اللغة العادية من مشحوناتٍ غامضة، وبهذا نكون قد ضمَمْنا عالمَي التفكير: التفكير فيما هو «كم» والتفكير فيما هو «كيف» في جهاز رمزي واحد، وهذا هو ما يُحاوله أصحابُ الفكرة الجديدة في تدريس الرياضة على أُسس المنطق الرمزي.
أنكون قد شطَحْنا بالقارئ إلى سماء التجريد أكثرَ مما ينبغي؟ قد نكون، لكننا لن نأمُل في إصلاح فكريٍّ إلا إذا تناولنا علةَ الفساد من جذورها، فالفكر العربيُّ ما يزال إلى يومنا غارقًا في ضروبٍ من الفكر عتيقةٍ ذهَب زمانُها، ولم يعد لها أثرٌ عند قادة الحضارة العِلمية الراهنة، وذلك من وجهَين على الأقل؛ أحدهما: أنَّه ما يزال يضمن في تفكيره عن الكائنات أنَّها ثوابتُ في طبائعها، كأنَّما لكل كائنٍ «جوهره» الذي لا يتغير مع الزمن، مع أنَّ عصرنا — كما أسلفنا — قد استبدل بهذه الفكرة فكرةً أخرى، وهي أنَّ الكائن المعيَّن أو الموقف المعين إنَّما هو «نمطٌ من علاقات»؛ أي إنَّ وجه الثبات هو في صورة البناء، لا في المضمون الذي يملأ تلك الصورة، إذ قد يتغيرُ هذا المضمون مع ثبات الصورة، فيبقى للشيء ثباتُه ودوامه، وثانيهما: أنَّه (أعني الفكر العربي) لا يكاد يعبأُ عند قَبوله الأفكارَ التي تُعرَض عليه، بأن ينظرَ ليرى إن كان في دنيا الواقع «مفردات» تؤيِّدها؛ ليكون على استعدادٍ لرفض أيِّ فكرة لا يجدُ لها وسيلةً للتطبيق.
أما عن الوجه الأول فانظر في حياتنا الاجتماعية كيف كان لوقفتِنا المخطئة أبلغُ الأثر، ويكفي أن نسوقَ مثلًا واحدًا: النظُم الاجتماعية بما في ذلك النظم السياسية، فانظر إلى بلد أُشرِبَ أهله باللَّفتة الفكرية الجديدة، تجدهم هناك على عقيدةٍ راسخة بأنَّ الجانب الثابت من النظم الاجتماعية والسياسية هو بِنْية الإطار، وأما الأفراد أنفسُهم فيجيئون ويذهبون، فليست العبرةُ بأشخاص الرجال في ذَواتها، بل هي في الدَّور الذي يؤدُّونه في المجموعة المنغومة التي هم أعضاؤها؛ ولذلك فقد يجيء حاكمٌ ويذهب حاكم، لكن إطار الحُكم نفسه باقٍ وثابت، إنَّ الديمقراطية أو الدكتاتورية أو أيَّ نظام سياسي شئتَ، إنَّما هي «تركيبة» معينة، إذا بقيَت على طريقةِ بنائها بقيَت صورةُ الحكم كما هي، مهما تبدَّل عليها أشخاصُ الحاكمين، قُل مثل ذلك في مؤسَّسات التجارة والصناعة وغيرِها من منظمات المجتمع المتطوِّر، تجدها هناك قادرةً على البقاء عشَرات من السنين متوالية؛ بسبب أنَّ أصحابها يُحافظون على «كيانها» الذي بُنيَت على أساسه، برغم تبدُّل الأشخاص الذين يتولَّوْن أمورها، الأمر في كل هذا كالأمر في فريق الكرة — مثلًا — حيث يكون الجانب المهمُّ فيه هو الدورَ الذي يؤديه الفردُ الواحد في موضعه من التكوين الجماعي، وليس هو أنَّه فلانُ بنُ فلانٍ من الأسرة الكريمة الفلانية، إنَّ المجتمع الحديث هو مجتمعٌ من نظُم قبل أن يكون مجتمعًا من أفراد، وليس في ذلك حَيْفٌ على الفرد، ما دمنا نفهمُ الفرد على أنَّه عضوٌ في جماعة .. قارن كلَّ هذا بما هو شائعٌ في حياتنا، تجد الوزن كلَّه — أو معظمه — في شخصية الفرد من حيث هو فرد، لا يربط علائقَه بالنظام الذي هو عاملٌ فيه بقدرِ ما يربطها بالأسرة التي جاء منها، المهمُّ عندنا هو «مَن هذا الرجل؟» لا «أين موقعُ هذا الرجل من البناء الاجتماعي وماذا يؤدِّيه؟» ولا غرابة أن نجد النظام — كائنًا ما كان، سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو تربويًّا أو غير ذلك — ليس له الأهميةُ الأولى بحيث يدخله الأفرادُ ليخدموه ثم يذهَبوا عنه وهو أكثرُ رسوخًا، بل إنَّنا لنجدُ عندنا أنَّ أيسر الأمور علينا هو أن يتحطَّم النظام القائم على يدَي كلِّ قادم جديد، لِيُقِيم هذا القادمُ الجديد نظامَه الخاص؛ إمعانًا منه في توكيد شخصه هو على حساب أيِّ بناء اجتماعي أو سياسي قائم.
وأما عن الوجه الثاني، الذي هو مراجعةُ القول على وقائع العالم، فحَدِّث في أمره وليس عليك مِن حرج؛ لأنَّك مهما أسرفتَ فلا مبالغة فيما أسرفتَ به، فإننا أمام الأقوال لَفي غيبوبة المنتشي بخَمْر، فننسى أنَّ القول إنَّما يقوله صاحبه — في ميادين الجِدِّ — ليعنيَ به شيئًا من مفردات الواقع، ننسى ذلك إلى الحدِّ الذي قد يميل بالرأي العامِّ بين المثقفين — ودع عنك جمهورَ الناس — إلى ازدراءِ مَن يُطالبهم بأن يكون معنى الكلام في دنيا التطبيق والعمل .. وإنَّ الحديث في هذه الآفة لَيطول، فإذا كان قادة الحضارة في عصرنا مشغولين «بالتكنولوجيا»، فنحن مشغولون — كما قلتُ مرةً في إحدى المناسبات العامة — ﺑ «الكلامولوجيا».
ألَا إنَّ في عصرنا لَفكرًا جديدًا، ولهذا الفكر الجديد منطقٌ جديد، فإمَّا قَبِلناهما في شجاعةِ من أراد لنفسه مُسايرةَ زمانه، أو رضينا بالتخلُّف الفكري في غيرِ شَكَاة ولا ضجر.