صراع الأجيال
فكرة «الجيل» فكرةٌ غامضة، فلستَ تدري — إلَّا على وجه التقريب — متى يبدأ الجيل ومتى ينتهي؟ فالحياة تيَّارها دافق، يتعاقبُ فيها موج الأحياء لحظةً بعد لحظة، وساعةً بعد ساعة، ويومًا بعد يوم؛ ولو استطعتَ أن تُدرِجَ الأحياء بحسَب أعمارهم صعودًا أو هبوطًا، لوجدتَ خطَّ البيان موصولًا، يظهر فيه بين كلِّ مولودَين مولود؛ فهو خطٌّ يبدأ من كائنات شهدَت نورَ الحياة لتَوِّها، وينتهي عند كائنات عُمِّرت كذا من السنين — فليس هناك حدٌّ أقصى نعرفه — وفيما بينَ البداية والنهاية أعمارٌ تتفاوت، لكنها مسلسَلةٌ رياضية لا تترك بين حلقاتها ثغرةً خالية، وأمام هذا التدرُّج المتصل، كيف يجوز الوقوفُ عند نقطةٍ بحيث نقول عنها إنَّ جيلًا يبدأ هنا وجيلًا ينتهي؟ إني لَألحظ الأسرة المعينة وهي تحتوي على جَدٍّ ووالدٍ وولد، فأسأل: تُرى هل تكون هذه الأسرة ممثلةً لثلاثة أجيال: فالجَدُّ جيل، وابنُه جيلٌ ثانٍ، وحفيده جيلٌ ثالث؟ لكنني سرعان ما أجد أنَّ مَن هو جَدٌّ هنا قد يتساوى في عمره مع أبٍ هناك، ومع حفيد هنالك، فتأخذني الحيرةُ إذا أردتُ أن أرسم خطًّا أفقيًّا يقسم مجموعةَ الأسر إلى أجيال، برغم أنَّ الأسرة الواحدة قد أمكنَ فيها أن نرسم خطًّا عموديًّا يقسمها أجيالًا متعاقبة.
ومع ذلك ففكرة «الجيل» — على غموضها — فكرةٌ لازمة ونافعة، عند الحديث عن حركة التاريخ الحضاري، كيف تنتقل في سيرها إلى الأمام من «جيل» إلى «جيل»؟ حتى لقد قيل إنَّه يكفينا من تحديدها أن نعدَّ القرن الواحد مشتملًا على ثلاثةِ أجيال، كأنَّما مَجرى الزمن — ومعه مجرى الحياة — يعرف في تدفُّقه هذه «المحطات» العُرفية التي اتَّفق الناس على أن يُؤرِّخوا بها الحوادث، فيقولوا عن سنةٍ معينة إنَّها نهايةُ قرن، وعن سنةٍ تليها إنَّها بدايةُ قرن جديد؛ لكنَّه شيءٌ كالقدَر المحتوم، كُتب على الإنسان في مناهج فكره ألَّا يجد أمامه مَندوحةً عن استخدام كلمات لازمة ونافعة في التَّفاهم، برغم بُعدها البعيد عن الدقة الرياضية التي تعرف كيف تُفرق بين المثلث والمربع والدائرة؛ فنحن — في تفاهمنا اليوميِّ — نُباين بين الكثبان والتلال والجبال، لكنْ هيهاتَ لنا أن نتفقَ على ارتفاع معيَّن يكون مرتفعُ الأرض قبله كثيبًا، ويكون بعده تلًّا، ويكون بعدَ بعدِه جبلًا. ونحن — في تفاهمنا اليومي — نُباين بين ذَوي الرءوس الصَّلعاء وذوي الرءوس المكسوَّة بفِرائها، ولكن مَن ذا يستطيع القطع فيقول عند أي شعرة ينتقل الرأسُ من حالة الاكتساء إلى حالة الصلع؟
وأتوسَّع في هذا السياق قليلًا — لأهميتِه عندي وأرجو أن تكون له أهميةٌ عند القارئ — فأقولُ إنَّ التفاهم اليوم كثيرًا ما يكتفي من درجات التحديد بذِكر الأضداد، فيكفيه أن يُقال: حارٌّ وبارد، طويلٌ وقصير، شابٌّ وشيخ، ثقيلٌ وخفيف، غالٍ ورخيص … وهَلُمَّ جرًّا إلى مئات الأمثلة التي من هذا القبيل؛ مع أنَّ الضدَّين في كلِّ حالة من هذه الحالات هما طرَفان أقْصَيان، ليس الذي بينهما خَلاءٌ وفراغ، فبينهما درجاتٌ متدرِّجة في تسلسلٍ متَّصل، لا ينقطع عند ثغرةٍ أو عند فجوة؛ فدرجات الحرارة مثلًا تسير مع سلسلة الأعداد السالبة والموجبة في تتابُع متلاصق، بادئًا من درجة كذا تحت الصفر، إلى درجة كذا فوق الصفر، دون أن يكون في هذا الخطِّ الطويل فاصلٌ معين تقول عنده: هنا ينتهي الحارُّ ويبدأ البارد؛ وقل هذا في حالة الشباب والشيخوخة — وهما طرفان متصلان بالحديث عن «الأجيال» — فإذا استطعنا أن نُحدد بداية الشباب بحالةِ بلوغ الرشد، فلن نعرفَ بعد ذلك أين ينتهي إلَّا على سبيل التقريب الشديد؛ وإنَّ الأمر لَيزداد عُسرًا إذا احتكَمْنا إلى الشخص نفسِه نسأله: متى تنتهي عندك مرحلةُ الشباب؟ ذلك لأنَّه لولا الشواهدُ الخارجية لما استطاع إنسانٌ أن يعرف عن نفسه — محتكمًا إلى دَخيلة نفسه — أشابٌّ هو أم بلغ الكهولةَ أو الشيخوخة، وأعني بالشواهد الخارجية شيئًا كشهادة الميلاد، أو ما يرويه الناسُ الآخَرون من حوادث تدلُّ على عددِ ما عاشه من سنين، أو ما يُصادفه في حياته من تحدِّيات تقيسُ قدرته الجسدية فتُشير إلى انحدارها بدرجةٍ معينة؛ كان فيما مضى — مثلًا — يستطيع أن يقفز على سلالم البيت قفزًا، وهو الآن لا يستطيع، كان يستطيع أن يَعْدوَ في الطريق عدْوًا ليلحق بالسيارة أو بالقطار، وهو الآن لا يستطيع؛ كان يهضم صنوفًا من الطعام، وهو الآن لا يَقْوى على هضمِها، كان شعره أسودَ فدبَّ فيه البياض، كان حديدَ البصر، قويَّ السمع، وهو الآن يتحسَّس الأشياء ليراها، ويُكوِّر كفَّه حول أذنِه ليجعل منه بوقًا يُعينه على السمع، وهكذا، فمتى ذهبَت القوة ودخل الضعف؟ في أي عام ابْيضَّ الشعر الأسود وتجعَّدَت بشَرة الوجه؟ إنَّه لا يدري، فكيف يدري متى خرج من جيلٍ ودخل في جيل؟
لكن الفكرة شائعة ونافعة بأنَّ الناس «أجيال»، بل إنَّ الفكرة شائعة، وإن لم تكن نافعةً كلَّ النفع، بأنَّ تلك الأجيالَ المتعاقبة في صراع لا ينتهي؛ فالجيل اللاحق ناشبٌ بأظافره المحنقة المغيظة في أعناق الجيل السابق، الجيل اللاحق — هكذا يزعم أصحابُ هذه الفكرة — ساخطٌ دائمًا على سابقه، غاضبٌ دائمًا، ثائر دائمًا، يريد أن يُفلت من معاييره وأحكامه، ويظن أنَّه متسامحٌ غايةَ التسامح إذا قَبِلَ أن يبقى من سلفه السابق على خيطٍ رفيع يُمسك على الأمة تاريخَها، ويحتفظ لها بطابَعِها المميز؛ لأنَّ هذا الدوام لا يُرضيه إلا نفاقًا؛ إنَّ الشباب في بلدٍ يظنُّ أنَّه أقوى رِباطًا بالشباب في سائر البلدان، منه بالشيوخ في بلده، إنَّه يظن أنَّ الرابطةَ بينه وبين شيوخ بلدِه رابطةٌ مَكانية لا تعني شيئًا كثيرًا، وأما الرابطة بينه وبين سائر الشباب في سائر الأقطار فرابطةٌ زمانية تَعني الكثير؛ فروح العصر مرهونةٌ بعصرنا الزمني، لا بهذا المكان أو ذاك؛ المكان ثابت والزمان متحرك؛ إنَّ النهر هو النهر، والوادي هو الوادي، والصحراء هي الصحراء منذ آلافِ السنين، أمَّا النصف الثاني من القرن العشرين فشريحةٌ من الزمن، لم تقع قبل ذلك، ولن تقعَ بعد ذلك.
فإذا قَبِلنا قِسمة التيار الزمني — الذي هو متصلٌ في حقيقته — إلى مراحلَ منفصلةٍ نُطلق عليها اسم «الأجيال»، تيسيرًا للتفاهم؛ فهل نقبل أنَّ هذه الأجيال «متصارعة» دائمًا؟ أصحيحٌ أنَّ القيم الجديدة والأفكارَ الجديدة والنُّظم الجديدة هي مِن خلق الشباب، يُمْلونها على الشيوخ، فإذا قَبِلوها كان خيرًا، وإذا رفَضوها وقع الصراع؟
الحق أني أكرهُ الخبط العشوائي في أمثالِ هذه الأمور، وأتمنى أن ينبنيَ الحُكم فيها على إحصاءاتٍ من الواقع، فإذا فرَضْنا أنَّ الجيل الأول — في الفترة المعيَّنة — يتألَّف ممَّن هم دون الخامسة والثلاثين، وأنَّ الجيل الأوسطَ يمتدُّ من هذه السنِّ إلى الستين، وأنَّ الجيل الثالث يقعُ فيما فوق هذه السن، فكم هي نسبةُ الذين حرَّروا السياسةَ والاجتماع والاقتصاد والأدب والفنَّ والعلم والتعليم من قيودِ التقاليد لتنطلقَ مع العصر الجديد، أقول كم هي نسبةُ هؤلاء من الجيل الأول، الذي هو جيلُ الشباب؟ وإذا وُفِّقنا إلى هذه النسبة، لم تكن وحدها كافية؛ إذ لا بدَّ أن نُثبت معها أنَّ أبناء الجيلَين الأوسطِ والأعلى قد تَنكَّروا للجديد؛ لأنَّهم إن قَبِلوه لم يكن ثَمة بين الأجيال ما يزعُمونه من صراع.
وليس بين يدَيَّ إحصاءات عن شيءٍ من هذا كلِّه، لكنني أتصوَّر — بالانطباع المبهَم العام — أنَّ العشرينيَّات من هذا القرن، وكذلك الخمسينيَّات — وأنا هنا أضربُ المثل من حياتنا الفكرية — كانتا فترتَين من الفترات التي شهدَت صراعَ الأجيال واضحًا في كلِّ هذه الميادين تقريبًا: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الأدب والفن، والعلم والتعليم، وإذا تجاوزنا قليلًا في الحدود التي وضعناها للشباب، جاز لنا القولُ بأنَّ الدعوة إلى الجديدِ في هذه الميادين كلِّها قد جاءت من الشباب، وأنَّ هذه الدعوةَ قد لقيَت اعتراضًا — منطوقًا أو صامتًا — من الجيل الأقدَم، ولكنَّه اعتراضٌ أخذ يزول زوالًا سريعًا أو بطيئًا في حومة الصراع؛ إذ كانت الدعوةُ إلى الجديد أقوى من الحفاظ على القديم.
فليست الحياةُ النيابية التي يُشارك فيها الفلاحون والعمَّال بالنصف على الأقل هي كالحياة النيابية التي كانت الكلمةُ فيها مقصورةً على أصحاب الجاه والمال، وليست الحياةُ الاجتماعية التي تنبني أساسًا على الاعتزاز بالعروبة هي كالحياة الاجتماعية التي كان الاعتزازُ فيها باللُّكنة الفرنسية أو الإنجليزية، تتردَّد بها الألسنة المُعوجَّة في الصالونات، وليست الحياة الاقتصادية التي تجعل أموالَ الشعب مِلكًا للشعب، وتُحرِّم على إنسانٍ أن يستغلَّ إنسانًا، هي كالحياة الاقتصادية التي تكون فيها السيادة لمن يملكون على مَن لا يملكون؛ وليس الأدب من مسرحٍ وقصة وقصيدة ومقالة، الذي يتحسَّس طبيعة الإنسان العربيِّ كما تتجسَّد في سلوكه وفي خفايا ضميرِه وفي آلامه وفي آماله، هو كالأدب الذي يترك هذا الإنسانَ ليكتفيَ بما يُطالعه في بطون الكتب قديمِها وحديثها .. لا، ليست حياتُنا الجديدة في الخمسينيات هي كسابقتها، ولا كانت الحياة الفكرية في العشرينيات كسابقتها، وكان التجديد في كلتا الفترتَين من صُنع الشباب بصفةٍ عامة، وكانت هنالك مقاومة، وكان هناك صراع، سُمِّي في العشرينيَّات صراعًا بين القديم والجديد، وسُمِّي في الخمسينيات صراعًا بين الرجعيَّة والتقدُّمية، وكان محور التقسيم في الحالة الأولى هو الحياة الفكرية؛ من أين نستقيها؟ هل نستقيها من الغرب أو من تُراثنا العربي؟ وأمَّا محور التقسيم في الحالة الثانية فهو — أساسًا — وضعُ الفرد بالنسبة إلى المجتمع، أيكونُ الفرد من أجل المجتمع، أم يكون المجتمع وسيلةً لسعادة الفرد؟ وفي كلتا الحالتين تأدَّى الصراعُ بين الأجيال إلى نُصرة الجديد.
على أنَّ صراع الأجيال يتجلَّى في أوضح صورةٍ حين تشتدُّ قبضة التقاليد على رِقاب الناس، فلا تترك لهم خيارًا في ملبس أو مأكل أو أيِّ وضع من أوضاع الحياة، فتضيق النفوسُ بهذه القيود كلها، فينفجرُ الشباب ثائرًا ساخطًا غاضبًا، حتى يتطرفَ في ثورته وسخطه وغضبه، بحيث لا يدعُ شيئًا إلا حاولَ تغييره، فلا يُبقي على مَلبس قديم، ولا على مأكل، ولا على طريقةٍ من طرق استخدام الفراغ، وهنا تتبدَّل العلاقاتُ الاجتماعية بين الأفراد تبدلًا جوهريًّا يقلب القيمَ القديمة رأسًا على عقب.
وأوضحُ مثلٍ أستطيعُ أن أقدِّمه لمثل هذه الثورة الغاضبة من الشباب على جيلهم القديم، هو ما شَهِدتُ بعضَه وسَمِعتُ أو قرأت عن بعضه، مما حدث ويحدث في أوساط الشباب في إنجلترا، والمثل هنا واضح؛ لأنَّ إنجلترا كانت هي القوةَ الاستعمارية الأولى في العالم لفترة طويلة من الزمن، وكان هذا الاستعمار يعود على أبنائها بثرواتٍ منهوبة، فكان تمسُّكها بتقاليدها عندئذٍ — برغم أنَّه قد بلغ حدًّا مضحكًا في كثيرٍ من الأحيان — هو من قَبيل الحرص على وضعٍ نافع لها، ولم يكن للشباب عندئذٍ أن يَثوروا على تلك التقاليد؛ إذ فيمَ الثورة عليها وهي تقاليدُ تعود عليهم بتلك البُحْبوحة كلِّها، وبتلك السيادة كلها؟! لكن التغيُّر العميق الذي شمل العالمَ فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان من أهم أركانه تحرُّرُ الشعوب من رِبْقة المستعمر، قد أفقدَ إنجلترا سُلطانَها وثراءها، فلم يعد هنالك في أعين الشباب ما يُبرر أن يُقيدوا أنفسَهم بقيودٍ تضرُّ ولا تنفع، فانطلقوا في ثورةٍ عارمة، هي التي نسمع عن أطرافٍ منها في أنباء تلك الجماعات الغريبة التي تلجأ إلى الغريب الشاذِّ في ثيابهم وفي قصِّ شعورهم وفي طرائق عيشهم؛ لكنَّهم لم يَقِفوا عند هذا الحدِّ السطحي الظاهر، بل تجاوَزوه إلى ميادين الأدب والفن، فكان لهم موسيقاهم ومسرحُهم وقِصتهم وشِعرهم.
لقد مرَرتُ بإنجلترا صيفَ عام ١٩٦٤م، وكنتُ لم أشهدها منذ أعقاب الحرب، أعني أنني لم أشهدها لما يقربُ من عشرين سنةً قبل ذاك، فعجبتُ لهذا التحولِ العميقِ يُصيب أمةً كهذه، في مثلِ هذه الفترة القصيرة، وكان من أظهرِ مظاهر هذا التحوُّلِ هؤلاء الشبَّانُ الذين كنتُ أراهم في زيِّهم المميز — ولكل جماعة منهم زيٌّ خاص — فيصعب أن أميزَ فيه بين فتًى وفتاة؛ لقد كان سلوكهم الاجتماعي أقربَ جدًّا إلى سلوك الجانحين، حتى ليتعذَّر عليك أن تُصدق أنَّهم في حقيقتهم هم الشباب العادي الذي يختلف إلى معاهد الدرس، أو ينتظمُ في مكاتب العمل، وبهذا كادت الفوارقُ تنمحي بين السلوك الجانح والسلوكِ المألوف، أو قُل بين سلوك الإجرام وسلوك الحياة المشروعة، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أنَّ انحراف السلوك عن العُرف القديم، قد اتَّسع مَداه، حتى كاد يكون بدَوره عُرفًا لا حقَّ لأحدٍ أن يعترض عليه.
ليس الجديدُ في هذه الجماعات الثائرة من الشباب هو تمرُّدَهم على الأوضاع المألوفة؛ لأنَّ شيئًا من التمرُّد جزءٌ لا يتجزأ من طبيعة الشباب، تشكمه تقاليدُ المجتمع فينشكم ويتجانس المواطنون في سلوكهم الاجتماعيِّ المميز لهم، لكن الجديد في هذه الجماعات الثائرة من الشباب هو جرأتهم على مواجهة المجتمَع بتمرُّدهم، بحيث لا تكون للمجتمع قوةُ الشكم ولا يكون في وُسْعِه أن يفرضَ التجانس بين أفراده؛ لقد كان للشباب دائمًا منظماتُهم، لكنَّها كانت منظماتٍ تجري — في الأغلب — على صورٍ معروفة مألوفة من أوجُهٍ للنشاط في مجالات السياسة أو الفكر أو التعاون الاجتماعي، وما إلى ذلك، أمَّا هؤلاء الشبَّانُ الثائرون اليوم فيرفضون هذه الصورَ المألوفة لنشاط الشباب؛ لأنَّهم بادئَ ذي بدءٍ يرفضون «النظام» في حدِّ ذاته، لأنَّه يقتضي الولاء، وهم يحاربون أن يكون ثَمة ولاءٌ منهم لأحدٍ أو لفكرة أو لنظام أو لشيءٍ كائنًا ما كان؛ ولك أن تعجَب من جماعاتٍ «تُنظِّم» نفسَها لتُحاربَ «النظام»!
ويُعلل علماء الاجتماع عندهم هذه الظاهرةَ الاجتماعية بعواملَ عميقةِ المدى في صُلب المجتمع الإنجليزيِّ ذاته، أو قُل إنَّها عواملُ تعتمل في أصلابِ المجتمعات الأوروبية الغربية والأمريكية بصفةٍ عامة؛ وأهم تلك العوامل فِكاك الشبان من رِقابة المجتمع الصغير، الذي كان فيما مضى لا يجاوز قرية أو حيًّا من أحياء مدينة؛ لأنَّ النشأة والدراسة والعمل والزواج والسكن، كانت — في معظم الأحيان — تتم كلُّها في مثلِ هذه الدائرة الضيقة، وبذلك كان كلُّ فرد يعرف جميعَ الأفراد في القرية أو الحيِّ، ومن هنا كانت تنشأُ معاييرُ اجتماعية وأخلاقية، تضغط بقوةٍ على الأفراد، فلا يملكون إلا أن ينصاعوا لها ولو بعد حين؛ لم تكن وسائلُ المواصلات بهذه الكثرة ولا بهذه السرعة، وبالتالي لم يكن العامل يسكنُ على مسافةٍ من مكان عمله تمتدُّ إلى عشَرات الأميال أو مئاتها، كما هي الحال اليوم، وقد أدَّى ذلك إلى أن يحيا الفردُ الواحد معظمَ وقته بين «غرباء» لا يُجاورونه ولا يُساكنونه، ومن ثَم لا تكون لهم عليه رقابة تُحدد سلوكه؛ فهل ينتج عن هذا التباعد شيءٌ سوى أن تتنوَّع صورُ السلوك بتنوع الأمزجة، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يقول أيُّها هو الصواب وأيُّها هو الخطأ؟ لا، بل إنَّ هذا التنوع سرعان ما انتهى إلى نتيجته الطبيعية، وهي أنَّه بدلًا من أن يستهدفَ المواطنُ أن يتجانسَ مع سائر مواطنيه، كما كانت الحال من قبل، أصبَح يستهدفُ التميز الشخصي، الذي يُباين بينه وبين سائر الأفراد، فلا يُشبههم في ملبس، ولا في طريقةِ التمتع بالفراغ، ولا في مِزاجٍ ثقافي بصفة عامة؛ وتسرَّبَت هذه العوامل كلُّها في نفوس الشباب، تم تجمَّعَت وتبلورَت حتى أصبحَت عداءً صريحًا منهم للمجتمع القديم.
وازدادت الهُوَّة اتساعًا بين الجيلَين بزيادة التغلغل الذي تغلغلَت به التقنياتُ (التكنولوجيا) الحديثة في الصناعة وفي شِعاب الحياة نفسِها؛ لأنَّه إذا كان على الجيل الأصغر — فيما مضى — أن يخشى سطوةَ الجيل الأكبر، فما ذلك إلَّا لأنَّ هذا الجيلَ الأكبر كانت في رأسه المعرفة، وفي يده المهارة، فلا مندوحةَ للجيل الأصغر من التبَعية الصريحة، حتى يكسب لنفسه المعرفة ويكتسب المهارة، لكنَّه إذا ما تمَّ له هذا الكسب والاكتساب، كان قد انتقل به الزمن من جماعة الشباب إلى جماعة الكهول، وهكذا دواليك؛ أما وقد أصبح الأمرُ موكولًا لتقنياتٍ تعمل بالأزرار، تضغطها إصبعٌ من شاب، أو إصبعٌ من كهلٍ على حدٍّ سواء؛ فقد زال المبرِّر الذي يُحتم على الجيل الأصغر أن يُصغِيَ بالتوقير والإذعان إلى أبناء الجيل الأكبر.
فسرى في الشباب ما يُشبه التمرُّد، وهو في الحقيقة رغبةٌ في استقلالهم وتقريرِ أشخاصهم على الأوجُه التي يرونها، وليس لأحدٍ أن يعترضَ ما داموا يؤدُّون أعمالهم بطريقةٍ منتجة؛ بل ربما حدث — وكثيرًا ما يحدث — أن يكون الشبانُ ألصقَ عهدًا بالتقنيات الحديثة، وأمهرَ من سابقيهم على استخدامها، ومن هنا ينقلبُ الوضع القديم، ويكون الأولى بالاحترام والتوقير هو الشابَّ من الشيخ، لا الشيخَ من الشاب، كما كان الأمر.
وإذا كان الشباب قد انتقل إلى مواقع القيادة في العمل وفي الأدب وفي الفن، فهل نستكثرُ عليهم أن يتوقَّعوا من القائمين على محالِّ التسلية وعلى أدواتها من إذاعةٍ مسموعة أو مرئية، ومِن صحافة، وسينما ومسرح، وأندية، وغناء، ووسائل اللهو وتزجية الفراغ؛ أقول هل نستكثر على الشباب أن يتوقَّعوا من القائمين على هذه الوسائل كلها أن يُقدموا لهم ما يتفق وميولَهم الجديدة؟ وهكذا كان، فأصبح الشيوخ هم الذين يلتمَّسون وسائلَ المتعة التي تتناسبُ وأعمارَهم وثقافاتهم فلا يجدونها إلا قليلًا؛ لأنَّ تلك الوسائلَ قد شغَلَت نفسها بما يُرضي الشباب.
وانظر بعد ذلك إلى شبابنا نحن، بالقياس إلى جماعات الشباب التي رأيتُها في إنجلترا سنة ١٩٦٤م، والتي ما زلتُ أسمع عنها وأقرأ، فأجد شبابَنا باعثًا على الأمل من جهات عديدة، مثيرًا لعدم الرضى في نفسي من جهاتٍ قليلة، أم يا ترى يرتدُّ عدمُ الرضى عندي إلى غَيْرةِ جيلٍ هابط من نشاطِ جيل صاعد؟ لست أدري.
وأمَّا أنه باعث على الأمل؛ فذاك لأنَّهم — برغم التغيرات الحضارية التي أزالت عن الكبار مبرراتِ احترامهم والإذعان لهم — لم يسخطوا السخطَ الذي يؤدي بهم إلى ضروب الانحراف التي ألمَّت بشباب المجتمعات الغربية؛ نعم إنَّهم يُشبهونهم في طرائقِ مَلء فراغهم بما يُثير العاطفةَ ويُحرك الشهوة، ويُشبهونهم في البحث عن أسهل الطرق وصولًا إلى القمة، بغضِّ النظر عن قيمة تلك الطرق في تكوين شخصياتهم وفي تقوية أقدارهم الذاتية، وفي مَلء صدورهم بما يُشبع طبائعَهم الإنسانية الفطرية؛ أعني أنَّ شبابنا يُشبه شبابَهم في أنَّه قد جعل النجاحَ والمتعة مَدارَين تدور عليهما الحياة، فلا ضير عند هؤلاء وأولئك في أن تفرغ الرءوس من المعرفة وفي أن تخلوَ الصدور من القيم المُثْلى، وفي أن يحسَّ الإنسان في دخيلة نفسه أنَّه إنَّما ينطوي على خَلاء وخواء، ما دام هذا الإنسان الخاوي من داخل، قد ظفر بمكانٍ مرموق من مجتمعه، يأمر فيه وينهي، ويُحرك ويوجه ويدير.
لكن شبابنا لا يشبه شبابهم في الشعور الزائف بأنَّ المجتمَع قد أحبطَهم فوجب عليهم أن يُناصبوه العداء؛ ليس في حياتنا هذا الانفصامُ الغريب الذي يشطر المجتمع شَطرَين يتقاتلان: شبابٌ وشيوخ، أو جيلٌ جديد وجيل قديم؛ فمهما يكن بين الجيلَين عندنا من أوجُه التباين، فما يزال الشعورُ عميقًا بأننا في مجتمَع واحد يستهدفُ هدفًا واحدًا؛ وشبابنا لا يُشبه شبابهم في اصطِناعه لحياة التشرُّد عن مبدأٍ وعقيدة، وفي التنكُّر لروابط الانتماء إلى الأسرة، وفي أن يُحِلُّوا محلَّها روابطَ جديدة بانتماءٍ جديد، تجعل الشبابَ فردًا في مجموعةِ شباب يسخطون بطريقةٍ واحدة، ويتشرَّدون بطريقةٍ واحدة، لا فردًا في أسرة تُراقب السلوكَ وتضبطه؛ وشبابنا لا يُشبه شبابَهم في هذا اليأس المرير الذي يدفعُهم إلى الانحراف الجنسي، وإلى أخذ المخدِّرات بهذه الدرجة البشعة التي نسمع عنها ونقرأ؛ واختصارًا، فإنَّ الأمل في مستقبلٍ أسعدَ ما زال يُحرك شبابنا على الطريق، على حينِ يتحرك شبابُهم على غيرِ طريق؛ لأنَّ المستقبل لم يعد يحملُ لهم أملًا يُرتجَى، أو هكذا يظنون.
فلو أضاف شبابنا إلى جَذْوة الأمل التي أغنَتْهم عن الانحراف، جِدِّيةً في الوسائل المحقِّقة لذلك الأمل؛ لو أضاف شبابنا إلى انفعالهم فكرًا يُسدِّده، وإلى عاطفتهم عِلمًا تستقيمُ به وتهتدي؛ لو أضاف شبابُنا إلى سلامة الطويَّة سلامةَ فعل، وإلى وثَبات الطموح رُسوخًا في العمل؛ لو أضاف شبابنا إلى رغبتهم في النجاح العَملي وسائلَ الكدِّ والكدح لا وسائلَ الوساطات التي تطير بهم على أجنحتِها إلى ارتفاع لا يستندُ إلى عمدٍ وركائز، لو أضاف شبابنا هذا كلَّه؛ لما وجَد فيه جيلُ الكهول وجيلُ الشيوخ شيئًا يُعاب.
ليس صراع الأجيال عندنا كالصراع الذي شَهِدناه في المجتمعات الغربية؛ لأنَّ الأجيال عندنا — صغيرها وأوسطها وكبيرها — قد وجدَت في العدو الخارجي المشترك ما يجمعها على هدفٍ واحد، فلا يبقى للخلافات الداخلية بينها إلا حيزٌ ضئيل سُرعان ما ينتهي فيه الخلافُ إلى اتفاقٍ أو ما يُشبه الاتفاق، فنحن اليومَ على تفاوُتِ أجيالنا، نوشك أن نتفقَ على معيارٍ واحد لحياتنا الجديدة.