المساحة البينية
(١) صنع العالم واللعب
في البدء، هما قرصانان يُبحِران بحثًا عن الكنز، ثم تتحطَّم سفينتهما، وتهاجمهما أسماك القرش المفترسة، لكنهما يصلان إلى برِّ الأمان على جزيرة، ويبنيان بيتًا (تحت الطاولة). يتوصلان إلى حلولٍ مبتكرة لمسائل مثل: ماذا نأكل؟ وكيف نطهوه؟ مغامرتهما المفصَّلة، وخلافاتهما التي سرعان ما يحسمانها (هل تهاجمهما أسماك قرش أم تماسيح؟) ومحاوراتهما المسهبة حول ما يجب أن يلي ذلك من أحداث، كل ذلك سجَّلته عدسة كاميرتنا من ركن الغرفة.
يدور المشهد في غرفة تضمُّ ملابس تنكُّريةً، وألعابًا، وطاولةً، وولدَين في الرابعة من العمر أصبَحا صديقين منذ عام واحد. أهي لعبة أم هي قصة؟
يأتي المشهد في بداية كتاب «صداقات الأطفال» بقلم جودي دان التي تُشير إلى «الاستغراق في السرد المشترك» عند الأطفال، وتشير كذلك إلى «قيام مغامرة القراصنة على كلا الطفلين»، وأن ما يدور بينهما «مشوِّق عاطفيًّا وأخَّاذ».
إليكم مشهدًا آخر لاحظته بنفسي: كانت ابنتي في الخامسة من عمرها تقريبًا، وكانت جالسةً بصحبة ثلاث من صديقاتها أمام تليفزيون، يشاهدن فيلمًا مسجَّلًا.
قالت ابنتي: «سأكون فلانًا»، مسمِّيةً إحدى شخصيات الفيلم الذي شاهدته الصديقات من قبلُ، ثم قالت للفتاة الجالسة بجوارها: «وأنت يمكن أن تكوني فلانًا.» ودار نقاشٌ بسيط بين الفتيات الأربع حتى استقرَّت كل واحدة منهنَّ على الشخصية التي تُريدها، ثم شاهدن الفيلم.
كانت اللعبة التي لعبها الصَّبيَّان تضمُّ الكثير من خصائص حكايات القراصنة التي تُقدَّم للأطفال، أما الفتيات الأربع فحوَّلن مشاهدة فيلم إلى لعبة ذات أدوار. باستطاعة الأطفال الانتقال دون عناءٍ بين نموذجَي اللعب التمثيلي والقصة، وهما تنويعان مختلفان من النشاط ذاته. في أحد النموذجين يلعب الطفلان أدوارًا؛ مثل القراصنة والناجين من تحطُّم السفن، ولا شك أنها مشتقة من قصص القراصنة التي سمعا بها. وفي النموذج الآخر تدخل الفتيات بأنفسهنَّ إلى عالم التخيُّل ليسكُنَّ إحدى القصص الخيالية بتقمُّص شخصياتها.
(١-١) جذور القصص الخيالية في مرحلة الطفولة
لطالما دفعَنا فضولُنا، نحن عامة الناس، إلى معرفة المصدر الذي يستقي منه ذلك الكائن العجيب، المؤلِّف المبدِع، مادته، وكيف ينجح من خلالها في ترك مثل هذا الانطباع علينا، وإثارة هذه المشاعر التي ربما لم نكن نظنُّ حتى أننا قادرون عليها. (ص١٣١)
كان فرويد — على حد علمي — هو أول مَن ربط القصص الخيالية بلعب الطفولة وبالأحلام؛ وقد قال إن اللعب في مرحلة الطفولة مصدر لذَّة غامرة، وأكَّد أننا لا نتخلى، على وجه العموم، عن لذَّاتنا، ولكنَّنا نُبدِّل مصادرها. وعلى الرغم من أن اللعب ينحسر مع نهايات الطفولة؛ فإننا نستبدل به أنشطةً أخرى مستقاةً منه، تمنحنا القدر نفسه من اللذة، مثل القصص الخيالية والرياضة. ويمكننا أن نتماهى في هذه الأنشطة مع بطل معيَّن أو مع فريق أو رياضي معين ونستمتع بنجاحهم.
نستطيع من خلال المشهدَين اللذين عرضتهما في بداية الفصل — مشهد الصبِيَّيْن المنهمكين في لعبة القراصنة، ومشهد الفتيات الأربع أثناء مشاهدتهن الفيلم معًا — أن نرى جذور القصص الخيالية في مرحلة الطفولة. هذان المشهدان المفعمان بالتخيُّل هما مرحلتان مبكرتان في تسلسلٍ يقودنا في النهاية إلى دانتي وويليام شكسبير وفيرجينيا وولف.
(١-٢) الأسس التطوُّرية
سأستخدم، لوصف أنشطة قراءة القصص الخيالية أو سماعها أو مشاهدتها، مفهوم الاستمتاع؛ لأنه يحمل معنى الانهماك التام فيما نفعله، بدلًا من مفهوم اللَّذَّة. أتَّفق مع الرأي القائل إننا نستمتع بالقصص حقًّا؛ لأن جنسنا مهيَّأ لذلك وراثيًّا، غير أنني أظن أن علينا التمييز بين هذا النوع من المتعة وبين اللَّذَّة المستمَدَّة من تناول الأطعمة الحلوة، حتى وإن كان الفارق الوحيد بينهما هو أن القصص الخيالية عملية، أما تناول الأطعمة الحلوة فهو غاية.
يطرح برايان بويد في كتابه «أصل القصص» وجهة نظر شبيهة بما أناقشه، وهي أن اللعب هو أصل القصص الخيالية، ويُرجِع ممارسته إلى فكرة الانبهار بالأنماط، ويضرب مثالًا لذلك بلعب الدلافين بتيارات الفقاقيع التي تصنعها. وهو يرى أن جوهر اللعب يكمن في صُنع الأنماط وتجريبها والاستمتاع بها. ويواصل الفن الإنساني، ومنه القصص الخيالية، هذا الانبهار، ويمنح البشر ميزة انتقائية بفضل الممارسة المفيدة الناتجة عنه.
(٢) من اللعب إلى القَصص الخيالي عبر الاستعارة
حصلنا من الاعتبارات التي ناقشتُها حتى الآن على إجابة واحدة على الأقل عن سؤال: لماذا نستمتع بالقصص الخيالية؟ فهي نوع من اللعب نستطيع الانغماس فيه بالكامل، واللعب والقصص كلاهما ابتكاريان. علاوةً على ذلك، فالاستمتاع بالقصص يرجع في جانب منه إلى متعة اكتشاف أن شيئًا واحدًا يمكن أن يكون هو نفسه، وأن يكون شيئًا آخر في الوقت نفسه.
وهكذا، فإن الشيء الواحد في اللعب التمثيلي يكون هو نفسه ويكون شيئًا آخر، واكتشاف هذه الماهية الجديدة ممتع.
في عالم اللغة، الذي تُمثل القصص جزءًا منه، يُسمى اكتشاف معانٍ جديدة استعارةً، وهي تقوم على الفكرة ذاتها. الاستعارة هي تعبير تحمل فيه كلمةٌ معناها الأصلي بالإضافة إلى معنى آخر، فيصبح «هذا» هو «ذاك». والنماذج التي ناقشناها في الفصل الأول استعارية أيضًا؛ إذ صار مسرح شكسبير (هذا) نموذجًا للعالم (ذاك).
(٢-١) الاستعارة فيما قبل التاريخ
افترض ستيفن ميثِن أن القدرة على صنع الاستعارات وثيقة الصلة بجوهر الإنسانية، ووثيقة الصلة بجوهر الفن؛ فهي القدرة على اكتشاف أن شيئًا ما يمكن أن يكون هو نفسه ويكون شيئًا آخر. لكن، على حدِّ قول ميثِن، لم تظهر هذه القدرة التطورية إلا مؤخَّرًا، ومن المحتمَل أن اكتسابنا لها كان بمنزلة عبورٍ للعتبة الفارقة بين العقل البشري القديم والحديث، كما أن الدلائل الحفرية تشير إلى أن هذه القدرة قد ظهرت بيننا مؤخرًا نسبيًّا.
اكتشف عبد الجليل بوزوكار وزملاؤه أصدافًا مثقوبة لاستخدامها كالخرز عمرها ٨٢ ألف سنة، واكتُشِفَت آلة موسيقية — فلوت — عمرها ٤٣ ألف سنة، أما أقدم رسوم الكهوف المعروفة لنا فترجع إلى ٣١ ألف سنة مضت، وفي تلك الفترة تقريبًا بدأ الناس يدفنون موتاهم. ويوضِّح ميثِن أن مثل هذه التوضيحات تُبَيِّن بدء ظهور أشياء من صنع الإنسان تُستخدم على نحو استعاريٍّ؛ بمعنى أنها تكون نفسها وتكون شيئًا آخر معًا، مثلما كانت الصَّدفة خرزةً، وصارت قطعة الخشب آلةً موسيقية، وكانت العلامات المرسومة بالفحم وأكسيد الحديد على جدار كهف خرتيتًا أيضًا. وفي قصة محكية في مقبرة، كان الميت حيًّا على مستوى آخر.
الفن هو إحدى الوظائف الأساسية للعقل البشري الحديث إذًا؛ باعتباره فنًّا، وبوصفه شيئًا آخر. يكمن الفنُّ في قدرة عقولنا على ابتكار الاستعارات وفهمها، وتتلخَّص نظرية ميثِن المفسِّرَة لهذه الفكرة في أن المجالات العقلية للمعرفة كانت في فترة من الفترات غزيرة ولكن منفصلةً. لم يزل بإمكاننا رؤية أمثلة على هذا الانفصال حتى يومنا هذا، فمهارات ركوب الدراجات لا تتحوَّل إلى مهارات لحلِّ مسائل الجبر. لكن هذا الانفصال — على حد قول ميثِن — بدأ في التقلُّص بين بعض هذه المجالات منذ أقل من ١٠٠ ألف عام. على سبيل المثال: كان القدماء يعرفون الكثير عن مصادر الطعام في بيئتهم، كما كانوا يعرفون الكثير عن العلاقات الاجتماعية داخل جماعتهم الاجتماعية، وبعد ذلك بدأت هذه المجالات المنفصلة تتداخل ليُصبح عشبٌ معين صديقًا، ووُلدت الاستعارة، وأتت مع الاستعارة إمكانية صنع النماذج.
طالما اعتُبِرَت الاستعارة عمومًا شيئًا لا يوجد إلا في الأعمال الأدبية، وإذا اتَّبعنا فرضية ميثِن فسنجد أن أهميتها تتعدى ذلك بكثير؛ فالاستعارة أساسيَّة لأسلوب تفكيرنا، وهي مفيدة وممتعة في آنٍ واحد.
(٢-٢) الادعاء والافتراض
(٢-٣) الاستعارة والمجاز
الاستعارة، في عملية الاختيار، هي اختيار كلمة أو عبارة تختلف في الظاهر عما يتحدَّث عنه المرء، ولكن تتشابه معه. تتداخل الأطُر المختلفة للمعنى؛ على سبيل المثال: في مسرحية «هاملت» يصل روزِنكرانتز وجيلدنستيرن، صديقا هاملت من الجامعة في ألمانيا، في زيارة غير متوقَّعة إلى البلاط الملكي في الدنمارك، ويسألهما عن سبب زيارتهما.
في هذه الاستعارة، يُدخِل هاملت فكرة المملكة في فكرة الإقامة الجبرية.
أما المجاز، في عملية التركيب، فهو ترتيب الكلمات أو الصور أو الأفكار فيما بينها. ويحوي حوار هاملت وصديقيه، روزِنكرانتز وجيلدنستيرن، مثالًا للمجاز في جزء لاحق؛ حين يسألهما هاملت عما إذا كانا استُدعِيا للحضور إلى البلاط. (هو يتساءل هل كان كلوديوس الملك قد أرسل في طلبهما، ويشكُّ أنه قتل أباه) يحاول كلا الصديقَين المراوغة، فيقول هاملت: «في هيئتكما شيء من الاعتراف.» وهنا يدلُّ الجزء، الذي ربما يكون نظرة توتُّر بدت في أعينهما، على الكل الأكبر المتمثل في اتفاقهما مع كلوديوس. كان روزنكرانتز وجيلدنستيرن استُدعيا بالفعل من قِبَل الملك، ربما للتجسُّس على هاملت. وهذه العملية التي يدلُّ فيها الجزء على الكل يُطلَق عليها اصطلاحًا اسم «مجاز مرسَل علاقته الجزئية». وعادةً ما يرتبط الجزء عمومًا ببقية الكل (الذي يكون الجزء قطعةً منه أو يُجاوره)، أما في هذه الصورة المجازية، فلا تلزم الإشارة إلى أكثر من الجزء («هيئتكما»)، لكي، نستنبط نحن وهاملت، الكل («الاعتراف» بما حدث). ويشيع استخدام أسلوب المجاز المرسَل الذي تكون علاقته الجزئية في الأفلام، مثل: اللقطة المقرَّبة التي تشير إلى شخصية كاملة، وينتشر استخدام أسلوب التجاور المجازي في الفن وغيره. يمكن — على سبيل المثال — في إعلانٍ أن تُوضَع صورة شخص جذَّاب إلى جوار صورة منتَج يوَدُّ المعلنون أن تشتريه. وفي لقطة مقرَّبة من الفيلم، تنضح ابتسامة بفكرة أن الشخصية بكاملها ودودة، وفي الإعلان تتسرَّب فكرة الجاذبية من الموديل حَسن الطلَّة إلى المنتَج.
(٢-٤) بناء النماذج بالعقل
إن فكرة اعتبار المسرح نموذجًا للعالم — التي أعتقدُ أن شكسبير توصَّل إليها — لا تقتصر على استخدام الاستعارة في العبارات، ولكنها تشمل الاستعارة بالمعنى العام، وهي فكرة المحاكاة بمعنى صنع العالم. من الوظائف الأساسية للعقل — بل لعلَّها أهم وظائفه — أن يصنع نماذج عقلية للأمور التي تُهمُّنا، بهدف فهمها.
أثبتَت جودي ديلوتش أن الأطفال في العصر الحديث يستطيعون استخدام النماذج لفهم الأشياء. عُرِضَ على أطفال في سنِّ الثالثة نموذج مصغَّر للعبة أثناء دسِّها خلف نموذج مصغَّر لكرسي داخل نموذج مصغَّر لغرفة، فتمكَّنوا من استعادة لعبة حقيقية من مكانٍ مناظر داخل غرفة حقيقية (هي التي مثَّلها النموذج). ولم يتمكَّن أطفال في الثانية والنصف من العمر من فعل ذلك.
ترتبط صناعة النماذج باللعب التمثيلي الذي يُصبح معتادًا مع سنِّ الثالثة، حيث تصير كل دمية شيئًا وشخصًا أيضًا، وكل سيارة لعبة شيئًا يمكن التقاطه باليد، وسيارة أيضًا.
(٢-٥) الاستعارات التي نحيا بها
لا يكون للاستعارات، عمومًا، أيُّ أثر إلا إذا أراد الكاتب لها ذلك، بتقديم شيء غير مألوف عادةً. ويمكن تجديد الفكرة على مستوى الكلمات، أما على مستوى القصص، فالمجازات هي استعارات بالمعنى العام، كما في مسرحية «حلم ليلة صيف» حينما بدا الوقوع في الحبِّ أمرًا صادمًا عندما قدَّم شكسبير رؤيته للمسرح باعتباره حلمًا. وعلى المستوى الأكبر، فالاستعارة، كما بيَّن ميثِن، هي العملية المحورية في الفن، حينما يتعمَّد الفنان تقديم شيء ما ليكون هذا الشيء هو نفسه وشيئًا آخر أيضًا، وعندما يحدث ذلك يمكن أن يقع التداخل بين المجالات، وتستنير رؤيتنا بضوء جديد، نرى من خلاله الشيء بأسلوب مختلف.
تضمُّ الأبيات مجموعة من الاستعارات: يُعبِّر الشيء الساقط من السماء عن حدَثٍ مهمٍّ، والصخرة تشير إلى الصديق، أما الحلم فينبئ عن قُرب وقوع أمر ما. وما يحدث في القصة أن جلجامش يكسب صديقًا بالفعل، هو إنكيدو، ونرى في القصة كيف يتطوَّر تطبيق الاستعارة، لا فقط على فكرة أو حدث — مثلما عبَّر وصول نجم إلى الأرض عن وصول صديق — ولكن على القصة بأكملها، في استعارة بالمعنى العام، أو حكاية رمزية، أو معنى مجازيٍّ، نفهم منه أن الجنس البشري منفصل عن الآلهة القوية، وأننا مهما تمرَّدْنا على هذه الآلهة، فوجودنا بأسره معرَّض لفقد معناه مع فقدان صديق حميم. وهنا نواجه الحاجة الإنسانية للعثور على المعنى لدى الآخرين.
تُسهم الاستعارة في الاستمتاع بالقصة؛ لأننا نحبُّ أن نكون مستكشفين، ولدينا استعداد وراثي للاستمتاع بالأفكار الجديدة التي قد تحدث عندما يصبح هذا هو ذاك، وهذه الاكتشافات هي امتدادات للاكتشافات التي توصَّلنا إليها في اللعب التمثيلي؛ حيث يمكننا اكتشاف أن طاولةً يمكن أن تصير بيتًا.
(٣) طبيعة اجتماعية جدًّا
يشتمل اللعب على الاستكشاف، لكن ثمَّةَ عنصر أساسي آخر؛ وهو أن معظم اللعب اجتماعي، وهو يُتيح لنا استكشاف أنفسنا والآخرين في عالم الإنسانية الذي يطغى عليه الطابع الاجتماعي، فالمشاهد الشبيهة بلعبة القراصنة التي قدمتُها في بداية هذا الفصل لم تقتصر على الابتكار، ولكنها اشتملت على المشاركة، والتعرُّف على عقل آخر، وهذا ما وصفته جودي دان — التي اقتبَسْتُ من كتابها مشهد لعبة القراصنة — بأنه بشائر الألفة.
يُمضي الأطفال في سن الرابعة تقريبًا أوقاتًا طويلة في اللعب التَّخَيُّلي الذي يتضمَّن أدوارًا، ومن أمثلة ذلك توزيع الأدوار بين الفتيات الأربع الذي وصفتُه في بداية هذا الفصل أيضًا، ومن الأمثلة الأخرى كذلك لعبة الغميضة التي تُصبح شائقةً للأطفال في سن الرابعة تقريبًا، قد يعني الاستمتاع بها، إذا كنتَ تلعب دور المختبئ، الجلوس داخل خزانةٍ تحت السلَّم، وما لم تكن تعرف كذلك دور الصياد في اللعبة فلن تتمكَّن من تخيُّل الصيَّادين في اللعبة وهم يقتربون، ويبحثون عنك هنا وهناك، ثم، أخيرًا، يبحثون في المكان الذي تختبئ فيه.
أيضًا، إذا كنتَ طفلًا يلعب المصارعة مع أحد إخوته، أو لعبة السكرابل مع أحد أبويه، أو لعبة القراصنة مع أحد أصدقائه، فأنت تُدرك أن اللعب غير حقيقي وحقيقي في الوقت ذاته؛ فمصارعة الأطفال، على سبيل المثال، ليست قتالًا حقيقيًّا. ولكنها حقيقية تمامًا من حيث مشاركتك في علاقة مع شخص آخر وتنافُسِك معه (مثلما تفعل في العلاقة الحقيقية)، وكذلك من حيث حرصك على تجنُّب إيذاء الطرف الآخر (مثلما تفعل في العلاقة الحقيقية).
(٣-١) الدببة والدببة الدُّمَى
إليك مثالًا يجمع بين اللعب التمثيلي المذكور في الجزء الأول من هذا الفصل والعنصر الاجتماعي بالغ الأهمية الذي نتحدَّث عنه. إذا زرتَ كندا، وتوجَّهتَ للتنزُّه في الريف، فسوف يخبرونك عن الدببة. يبلغ عدد سكان كندا الحقيقية حوالي ٣٤ مليون نسمة، وقد تطلع علينا الصحف كل عام بخبرٍ عن مقتل شخص في كندا بسبب الدببة. وهذه الاحتمالية الضئيلة كافية، على الرغم من ذلك، لتأكيد أن الدببة مسألة محل اهتمام عام. فإذا ذهبتَ للتنزُّه في الريف، سيكون لزامًا على الكنديين أن يُخلِصوا لك النصيحة. قد ينصحونك بإحداث جلَبة تُزعج الدببة التي تُعَدُّ — كما قد يقولون — مخلوقات خجولة، ولذا فستبتعد عنك. أو قد ينصحونك بالعكس: لا تُثر الانتباه بإحداث ضوضاء، وإذا رأيتَ دبًّا فتجنَّب النظر في عينيه … وهكذا. ولأنه يندر أن تلقى دبًّا، ولأن فكرة لقائه مثيرة، قد ينصحونك بأنك إن أردت حقًّا رؤية دبٍّ، فعليك أن تذهب حين الغسق إلى أحد مَكبَّات النفايات البلدية، حيث تذهب الدببة للتنقيب بين النفايات. هذا هو العالم العادي المحيط بالدببة.
ثم يوجد عالم الدببة المرتبط باللعب التمثيلي، عالم الدببة الدُّمَى، الذي يكشف لنا المزيد حول سبب الأهمية البالغة للنماذج بالنسبة إلى طريقة تفكيرنا، وسبب أهميتها للقصص الخيالية. توجد تماثُلات معينة بين نوع الدبِّ العادي ونوع الدب الدمية؛ مثل: الأطراف الأربعة، والأذنين، والفرو الناعم، وما إلى ذلك. لكن بعض التماثلات المحتملة بين الدببة النماذج والدببة الحقيقية لا يحدث؛ مثل أنك لا تشعر بالخوف عند اقتنائك دبًّا دمية، كما أنك لستَ بحاجة لزيارة مواقع خاصة لرؤيته. والتشابه في حد ذاته ليس هو المهم في عالم الدبِّ الدمية، ولكنَّ المهم هو (فكرة) النموذج نفسه، فإذا كنتَ في السن المناسبة وفي المزاج الملائم فالدبُّ النموذج يقدم لك شيئًا مختلفًا تمامًا؛ فهو يقدم تجربةً علاقيةً مما يُطلِق عليه دارسو علم نفس النمو: التعلُّق، وهي التي تشمل تجربة العناق، والشعور بالقُرب من شخص تحبه.
إن التماثل بين عين الدبِّ الكندي الحقيقي الموجود في العالم العادي وعين الدب الدمية الزجاجية غير دقيق؛ فالمعنى الذي يحمله نموذج الدببة الدُّمى مختلف، فهو يتعلق بعالم خيالي خاص بالتعلُّق، بشيء علاقي، شيء مجرد، شيء حميمي.
القصص الخيالية، بهذا المنطق، حقيقية وغير حقيقية كذلك؛ فهي تتناول العالم الاجتماعي الحقيقيَّ، ولكنها متخيَّلة في الوقت نفسه، وأهم عناصر اللعب والقصص الخيالية هي أننا نستطيع من خلالهما استكشاف ملامح من الآخرين، كأن نستكشف أنواع الشخصيات الجديرة بالثقة، وكذا استكشاف أنفسنا، كأن نُحدِّد إذا ما كنا سنستعين بمهاراتنا الإبداعية في الانتصار في ظل ظروف معينة، أم أننا قادرون على تحمُّل تجربة العجز عن الانتصار.
افترض إد تان أن فهم العلاقة بين اللعب والقصص الخيالية يقتضي الفصل بين الدوافع المباشرة والدوافع التكيُّفية التطوُّرية للأفعال. على المستوى التطوري يمكننا افتراض أن الجماعات البشرية التي مارست ألعاب المطاردة التمثيلية وما شابهها قد تمتَّعت، بفضل ممارسة تلك الألعاب، بميزات انتقائية معيَّنة؛ لأنها مرت بممارسة مهارات اجتماعية معينة، وعرفت معنى أن يُطارِد المرء آخر أو أن يكون هو نفسه مطارَدًا. وسيكون أطفال هذه الجماعات قادرين على اختراق عقل مَن يلعب الدور الآخر. ويفترض تان أنه بمجرد الفصل بين الدوافع المباشرة والدوافع التطورية سنرى كيف أن الرابط بينها هو المشاعر الاجتماعية التي تُعَدُّ دوافع مباشرة، وفي الوقت نفسه هي الوسيلة التي تعتمد عليها الجينات لتمرير أنماط معيَّنة من التحفيز.
أما من حيث المباشرة، فالاندماج شعوريًّا في اللعب أمر ممتع. وكما أن كل الثدييات تلعب، فجميعها تمتلك مخزونًا من المشاعر الاجتماعية. فكِّر، على سبيل المثال، في لعبة المطاردة عند الأطفال، هي نسخة تمثيلية من الملاحقة. نستطيع مشاهدتها في الملاعب في جميع المدارس الابتدائية، وهي تُتيح تجربة الشعور بالعجَلة، والشك فيما إذا كان المطارِد سيلحق بالمطارَد أم أن المطارَد سيُفلت؛ لذا فإن الدافع المباشر للعبها هو المشاركة في مثل هذه الأنشطة الشعورية. يأتي القَصص الخيالي امتدادًا لهذا النوع من البدائل، وتكرَّر اللعبة نفسها في كل مرة تحدث فيها مطارَدة بالسيارات في فيلم حركة، وكلَّما يلاحق ضابطٌ مشتبهًا به في قصة بوليسية. يُقدِّم البالغون للأطفال الأدوات المساعدة مثل ملاعب المدارس، أما البالغون أنفسهم، فيجدون الوسائل المساعِدة في الروايات والأفلام، وكما يقول تان: فإن «تجربة الترفيه هي حلقة من المشاعر استجابةً لعملية متواصلة من التخيل الموجَّه.» فكما جعلت جيناتنا الأطعمة الحلوة ممتعةً لأن التمتُّع بصحة جيدة من المزايا التكيفية، جعلت اللعب — وفرعه، القَصص الخيالي — ممتعًا؛ لأن اكتساب مهارات التفاعل والتحكُّم في المشاعر من المزايا التكيُّفية أيضًا.
قد يشعر الإنسان بالخوف من الإمساك به في ألعاب المطاردة أو الغميضة، والأمر نفسه ينطبق على القصص الخيالية، حين يُصبح من الممكن التحكم في الخوف — الذي عادةً ما يتجنَّبه المرء في حياته اليومية — بل والتمتُّع به أيضًا في إطار السياق الأكبر الذي يتيح استكشافه واكتشاف كيفية التعامل معه.
(٣-٢) المتعة في الألعاب
تبثُّ الألعاب الحياة في العالم، ولكن في حدود. تحافظ معظم الألعاب على تحقيق التفاعل الاجتماعي بين الأشخاص، وهذا ما يميِّز أسلوب الإنسان في الحياة، ولكن بشكل آمن ومكرَّس لحوافز منتقاة (أهداف) مثلما يحدث في المسابقات، وحركات محدَّدة مثل قلب أوراق اللعب أو تنطيط الكرة.
وهكذا نجد أن لعبة الشطرنج — على سبيل المثال — هي نسخة مصغَّرة من حروب العصور الوسطى، يُشارك فيه جيشان متساويان ومتطابقان. والهدف هو حماية الطبقة الأرستقراطية العليا؛ أي المَلِكَيْن. أما الأرستقراطيون الآخرون، مثل الوزيرَين والأحصنة والأفيال فيمكن تحريكها في أنحاء ميدان المعركة على نحوٍ مثير، بينما لا تستطيع البيادق، التي تمثِّل الفلاحين الفقراء، إلا أن تتقدم مربعًا واحدًا في المرة الواحدة، وهي معرَّضة للقتل بمجرد أن يخطر ذلك على بال أحد اللاعبين. في بعض الألعاب القديمة، مثل قتال المصارعين، كانت الفعاليات نفسها ألعابًا من وجهة نظر المشاهدين، بينما لم تكن كذلك من وجهة نظر المشاركين فيها. وقد اختفت اليوم بدرجة كبيرة مثل هذه الألعاب التي يُقتَل فيها المشاركون، ولم يتبقَّ منها سوى آثار طفيفة؛ ومن ذلك قذف كرة صلبة في اتجاه الهدف في لعبة الكريكيت، بدلًا من رمي الرمح في اتجاه الخصم، والتلويح بالمضرب في رياضة البيسبول.
وكما بيَّن جوفمان، يمكن أن تصير اللعبة عالَمًا بذاته، عالَمًا نموذجًا، سواء أكانت لعبة ارتجالية من ألعاب الطفولة، أم رياضة احترافية مثل الكريكيت والبيسبول، فهي تصير موضوعًا للنقاش والتعليق، ثم يُكتب تاريخ تُسرَد أحداثه المرة تلو الأخرى، وتعمُر مثل هذه العوالم بكائنات توجد في برزخ ما بين اللعب والحياة اليومية، ويُصبِح نجوم الرياضة شخصيات قصصية خيالية.
من غير المعتاد أن تكون رواية أو فيلم أكثر فعالية في «بث الحياة في عالم المرء» من امرئ آخر، ولكنها يمكن أن تكون فعَّالة بالقدر نفسه؛ لأنها تحتفظ، بحكم خصائص صنع العالم الموجودة فيها، بعنصر العلاقة مع شخص آخر، فضلًا عن إمكانات نوع جديد من الإبداع؛ فصنع العالم ليس شيئًا يفعله المؤلِّف فقط، ولكن القراء والجمهور يفعلونه هم أيضًا.
(٤) الصداقة ونظرية العقل
أغلب الثدييات ذات طبيعة اجتماعية، لكنَّنا نحن البشر أكثر الثدييات اجتماعيةً، وبيئتنا الإيكولوجية الملائمة هي العالم الاجتماعي، فمثلما تبني القنادس السدود، يبني البشر الصداقات.
ولهذا فإن تفاعلنا مع غيرنا ممَّن يجمعنا بهم الودُّ مصدر جانب كبير من متعتنا في الحياة؛ مثل عناق من نحبُّهم، ومحادثة الأصدقاء، والنشاطات المشتركة للأُسَر أو غيرها من الجماعات الاجتماعية. ويأتي القَصص الخيالي امتدادًا لهذا النوع من الاستمتاع. صحيح أنه رمزيٌّ، لكنه يقوم على الأساس العلاقي نفسه مع رواة وشخصيات القصص الخيالية، وهو مؤسَّس على منظومة المشاعر نفسها الموجودة في العالم الاجتماعي العادي، وإن كان يخلو من الاحتمالات المدمِّرة التي أحيانًا ما ينبثق منها بعض من هذه المشاعر في الحياة الواقعية.
في القراءة تعود الصداقة فورًا إلى نقائها الأصلي، ولا وجود لاعتبارات اجتماعية إجبارية مع الكتب. إذا قضينا أمسيتنا مع أولئك الأصدقاء — أي الكتب — فهذا يعود لرغبتنا الصادقة في ذلك، وحينما نتركهم نتركهم آسفين، وحينما نكون غادرناهم لا يخطر ببالنا أيٌّ من تلك الأفكار التي تُفسد الصداقة: «كيف كان رأيهم فينا؟» «هل ارتكبنا خطأً وتحدَّثنا بفظاظة؟» «هل أعجبناهم؟» ولا يوجد تخوُّف من أن ينسونا ويستبدلوا بنا غيرنا. كل هذه الأفكار المثيرة للاضطراب تتلاشى بمجرد دخولنا صداقة القراءة، الطاهرة الهادئة. (ص٤٠)
تستعرض جودي دان في كتابها الذي اقتُبِسَ منه مشهد الصبيَّيْن وهما يلعبان لعبة القراصنة في مستهلِّ الفصل بدايات الصداقة. وتوحي فكرة بروست باعتبار الكتب أصدقاء، كيف تصبح عوالم اللعب المشتركة أساسًا للقصص الخيالي، وكيف أن القصص الخيالية قادرة هي الأخرى على منح شعور بالحميمية: معرفة عقل شخْص آخر.
(٤-١) نظرية العقل
كيف نعرف العقول الأخرى؟ أحد الموضوعات الأساسية التي تُناقَش في إطارها هذه المسألة في علم نفس النمو هو نظرية العقل، التي يُطلَق عليها كذلك اسم اتخاذ المنظور، والتعقُّل. وهنا نعود مرةً أخرى إلى المعنى الاستعاري وصنع النماذج؛ حيث يتخيَّل عقلنا عقلَ شخص آخر، أو يتبنى جانبًا منه. كيف يبدأ الأطفال في اكتساب هذه المقدرة؟ وفي أي مرحلة من مراحل النمو؟
يبدو أن الأطفال، قبل سن الرابعة تقريبًا، لا يكونون قادرين على التفكير في أن ما يعرفه شخص آخر يختلف عما يعرفونه هم أنفسهم، ولا يرون الأمور إلا من خلال منظورهم، وبهذا المعنى لا يمكن القول إنهم يملكون أي نظرية بشأن عقول الآخرين. في عام ١٩٨٣، أظهرت تجربة أجراها هاينس فيمر وجوزيف بِرنر تغيُّر هذا المفهوم المرتبط بسنِّ ما قبل الرابعة. قصَّ فيمر وبرنر على أطفالٍ قصةَ طفل صغير يُدعى ماكسي معه بعض الشوكولاتة، وضَع الشوكولاتة في خزانة زرقاء وخرج للعب، وأثناء وجوده بالخارج أخذت أمه الشوكولاتة من الخزانة الزرقاء، واستخدمت بعضًا منها في خَبْز كعكة، ثم وضعت بقية الشوكولاتة في مكان مختلف، في خزانة خضراء. سُئل الأطفال في التجربة: «عند عودة ماكسي من الملعب، سوف يرغب في تناول بعض من شوكولاتته. فأين سوف يبحث عنها؟» كانت إجابة أغلب الأطفال الذين تقلُّ أعمارهم عن أربع سنوات: «في الخزانة الخضراء.» كانوا يعرفون أن هذا هو مكان الشوكولاتة؛ ولذا ظنوا أن ماكسي سوف يبحث هناك، أما الأطفال الذين كانوا في الرابعة أو أكبر، فكانوا أمْيَل إلى القول: «في الخزانة الزرقاء.» فقد استطاعوا أن يحتفظوا في عقولهم بأن هذا هو المكان الذي يعرف ماكسي أنه ترك شوكولاتته فيه، وأدركوا أن ما يعرفه ماكسي يختلف عما يعرفونه هم.
وهذا ينطبق إلى حدٍّ بعيد على الأطفال أنفسهم، فلا يدرك الأطفال أن أفكارهم ومشاعرهم في الوقت الحالي قد تختلف عن أفكارهم ومشاعرهم في الماضي إلا بعد بلوغهم سنِّ الرابعة تقريبًا. وقد درَست أليسون جوبنيك وجانيت آستينجتون هذه المسألة، وفي إحدى التجارب قُدِّمت علبة سمارتيز (وهي عبارة عن حبات حلوى صغيرة الحجم) إلى أطفال تتراوح أعمارُهم بين الثالثة والخامسة، ثم سُئلوا عما يظنون أنه بداخل العلبة، فأجاب الأطفال: «حلوى سمارتيز.» ثم فتح الإخصائي العلبة، وأظهر أنها تحتوي على أقلام ألوان، بعد ذلك سُئل الأطفال عما كانوا يظنون أنه داخل العلبة قبل فتحها، فأجاب الأطفال الأصغر سنًّا بأنهم ظنوا أن العلبة كانت تحتوي على أقلام ألوان، ولكنَّ الأطفال الذين كانوا يبلغون الخامسة من أعمارهم كانوا يعرفون أنهم اعتقدوا في البداية أنها كانت تحتوي على حلوى سمارتيز. وهذا التغير في قدرة الطفل على تمييز معتقداته الذاتية السابقة يحدث في سن الرابعة تقريبًا، مثله مثل قدرة الطفل على التفكير بأن الآخرين يعرفون أشياء غير التي يعرفها.
على كثرة ما سمعتُ جوبنيك وآستينجتون تُناقشان هذه التجربة، لا أذكر أنهما ربطتا بينها وبين «اعترافات القدِّيس أوغسطين» التي كتب فيها أن إدراك المرء أخطاءه التي ارتكبها في حياته السابقة والاعتراف بها هما سبيله الوحيدة إلى التغيُّر. لكن ما لم يعلمه أوغسطين نفسه، وتشير إليه النتائج الحديثة حول نظرية العقل، هو أن الرُّوح لا تدخل الجسد مع بدء الحمل، ولكن في سنِّ الرابعة.
(٤-٢) الذكاء الاجتماعي
ترجع إحدى الخطوات المبكِّرة في دخولنا عالم الآخرين إلى أن الأطفال في سن العامَيْن يتعاملون مع أنفسهم ومع الآخرين باعتبارهم فاعلين، قادرين على عمل أشياء في العالم، وهذا أمر أساسيٌّ لحيواتنا ذات الطابع الاجتماعي البالغ التي نحياها، كما أنه يُفرِّق بيننا وبين أكثر أبناء عمومتنا من الرئيسيات شبهًا بنا: قرود الشمبانزي.
علاوة على ذلك، عندما يبدأ الأطفال في التكلُّم بما يزيد على كلمات مفردة، وهو ما يحدث غالبًا في النصف الثاني من عامهم الثاني، تكون لغتُهم قائمةً على الأفعال — مثل ذهب وأكل ووضع — وتتخلَّلها مكونات أخرى تشير إلى الفاعل وعناصر أخرى للفعل؛ على سبيل المثال: سجَّل عالِم النفس الروائي تشارلز فيرنيو في ملاحظاته حول مراحل تطور ابنته أثينا أنها سألته وهي في شهرها الثامن عشر تقريبًا (في حديث متبادل): «نحن نفعل ماذا اليوم؟» (ص١١٦). نلحظ أن الفعل الذي اختارته أثينا (باستخدام وظيفة الاختيار لدى جيكوبسون) هو «نفعل»، وهذا فعل يقوم به شخص فاعل، ثم (باستخدام وظيفة التركيب لدى جيكوبسون) رتبت الكلمات حول هذه الكلمة المعبِّرة عن الفعل: «ماذا» للسؤال عن نوع الفعل، و«نحن» للإشارة إلى الأشخاص الفاعلين، و«اليوم» للإشارة إلى زمن الفعل. لقد بدأت لغة أثينا في هذه المرحلة من حياتها تنظِّم أفكارها وخططها، وكما عبَّر فيرنيو عن ذلك: «أيًّا ما كان التفكير الذي كانت أثينا تمارسه قبل اللغة، فلم يكن مترابطًا — وكان تفكيرًا بيولوجيًّا — ونظَّمته اللغة، وعندما زال التشوش عن وعيها بدأت القصة أخيرًا في الاتساق» (ص١١١).
(٤-٣) نظرية العقل والسرد
يسود الاعتقاد بأن عوامل عديدة تُسهم في نظرية العقل. أحد هذه العوامل هو قدرة الأطفال الرُّضَّع ومن يرعَونهم على تشاطر الانتباه إلى شيء يرونه، بالإشارة إليه على سبيل المثال، وهو ما يفعله الأطفال الرضَّع تلقائيًّا قبل أن يُتِمُّوا عامهم الأول، ولا تفعله القردة في الغابة على الإطلاق. ويصير الانتباه المشترك إلى الأشياء عنصرًا مهمًّا في التواصل، وفي الفن.
اللغة عامل آخر فني يسهم في نظرية العقل، فقد اختبرت جانيت آستينجتون وجنيفر جينكينز في دراسة ممتدة أطفالًا في الثالثة من أعمارهم، ووجدتا أن القدرات اللغوية الأكثر تبكيرًا تُنبئ بأداء أفضل لمهام نظرية العقل (وإن كان امتلاك نظرية عقل في وقت أبكر لا يُنبئ بمستوى الأداء اللغوي في المستقبل).
وفي دراسة أخرى، اختبرت جينكينز وآستينجتون الآثار المحتملة لنظرية العقل على لعب الأطفال ألعابًا تتضمَّن أدوارًا؛ حيث اختبرتا أطفالًا تتراوح أعمارهم بين ثلاثة أعوام وأربعة، وجرى تقويمهم ثلاث مرات على مدار سبعة أشهر، وفي كلٍّ من تلك المرات الثلاث، قيس مستوى نظرية العقل لدى الأطفال، وسُجِّل لعبهم مع أحد الأصدقاء بكاميرا فيديو. وأعدَّت جينكينز وآستينجتون مقاييس للعب التمثيلي، ولكيفية تعاون الأطفال في رسم الخطط فيما بينهم. وانتهت الدراسة إلى أن فهم نظرية العقل يُنبئ بمقاييس التعاون في رسم الخطط أثناء اللعب، بينما لم يُنبئ أيٌّ من تقويمات اللعب بنظرية العقل.
عملت جولي كوماي مع أطفال تتراوح أعمارهم بين الرابعة والسابعة، وطُلِب من كل طفل إعادة سرد حكايتَين خياليتَين، وأن يقرأ قصَّتين من وحي خياله. سجَّلت كوماي القصص، كما قاست مفردات الأطفال، والذاكرة العاملة، ومهمتين من مهام نظرية العقل. وقد وجدت تطورًا كبيرًا مصاحبًا للعمر؛ حيث مالت قصص أطفال سن الرابعة إلى أن تكون تسلسلات أحداث بسيطة، بينما دمجت قصص أبناء السادسة والسابعة وجهات نظر الشخصيات والجمهور، وبدأت تُظهِر حبكات معقَّدة. أما من حيث الفروق الفردية، فاتسمت قدرة كل طفل على تقديم وجهة النظر بالاتساق عبر القصص الأربع، وكانت قدرة الأطفال على التأقلُم مع وجود الجمهور مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالميل لرسم العوالم الداخلية للشخصيات.
يحتاج الجمهور، من أجل فهم مسرحية «عطيل»، إلى التعامل مع أربع طبقات من الحالات العقلية في نموذجه، لكنَّ المؤلف احتاج إلى التعامل مع خمس طبقات، ونستطيع القول، إذا ما اتَّبعنا أسلوب دَنبار نفسه في ترقيم الطبقات إن نظرية العقل هي «تخمين» [١] ما قد «يفكر ويشعر» به [٢] شخص آخر، ويصل هذا إلى ثانية هذه الطبقات وحسب. أما الطبقة الثالثة فمن الوارد أن يكون أسلافنا من البشر قد بلغوها في الفترة نفسها تقريبًا التي ظهرت فيها اللغة الحوارية. وهذه الطبقة الثالثة يسيرة لنا نحن البشر الحديثين؛ لذلك نستطيع عند المشاركة في حوار أن «نفكر» [١] ونقول: «لن تخبره شيئًا لا «تريد» [٢] أن «يعرفه» [٣] الناس جميعًا.» تستطيع قرود الشمبانزي التعامل مع طبقة ونصف الطبقة فقط.
قد نعرف في العالم الاجتماعي ما يدور في خَلَدِ شخصٍ ما؛ لأنه أخبرنا به لتوِّه، أو نعرف ما يشعر به لأننا شاهدناه حالًا يتصرَّف بطريقة عبَّرت عن مشاعره، لكننا إن أردنا أن نعي أي أمر على نحو أمثل، حتى وإن كان أمرًا قيل مباشرةً في إحدى المحادثات، فعلينا جمع هذا الأمر مع كثير من المعلومات الأخرى عن المتحدِّث وعن الموقف. قد لا تُثبت هذه الطريقة دقتها طوال الوقت، ولكنها غالبًا ما تؤتي ثمارها، سواء أثناء التفاعل، أو في إطار صنع نموذج عقلي لشخص ما بمرور الوقت، ويمكننا تخيُّل أنفسنا داخل عقل أحد الأصدقاء، أو عقل شخصية في قصة خيالية.
تفترض ليسا زانشاين في كتابها «لماذا نقرأ القصص الخيالية» أن القصص الخيالي كلَّه أو جُلَّه قائم على نظرية العقل، أو اتخاذ منظور الآخر، واكتشاف الأسباب وراء تصرُّفات الأشخاص. وهي تقول إن سبب استمتاعنا بالأدب هو إجادتنا لفنِّ اكتشاف خطط الآخرين ونياتهم، ونظرًا لأننا نستمتع بما نُجيد فعله، فإننا نستمتع بالقصص الخيالية. يُزوِّدنا المؤلِّف في القَصص الخيالي بمعلومات تتيح لنا إطلاق نظرية العقل لدينا؛ إذ تُقدَّم شخوص القصص الخيالية بحيث نكوِّن فكرةً عنها، مع صعوبة تبيُّن بعض الملامح (كما يحدث مع الأشخاص الذين نعرفهم في الواقع)، أو ربما يُقدِّم هؤلاء الشخوص أنفسهم على نحو معيَّن بينما تدور أمور أخرى تحت السطح، ولعلَّ السبب يكون تارةً افتقاد الثقة بالنفس، أو الشعور بالمرارة والحسد تارةً أخرى، أو أحيانًا الشعور بالحزْن. فضلًا عن ذلك، فإنَّ بعض أنواع القصص الخيالية؛ مثل القصص البوليسية (الألغاز)، تختص، فيما يبدو وكأنه موضوعها الأوحد، باستكشاف ما يفكِّر به شخص ما ويشعر به بينما يبذل هو قصارى جهده لإخفائه، ومن السبل المتَّبعة لتحقيق ذلك ما أوصى به شيرلوك هولمز والأب براون من وضع أنفسنا داخل عقل الآخر.
إن محاولة شكسبير تمكيننا من رؤية ما يعتمل تحت السطح الظاهر للسلوك تتمثَّل في حثِّنا على تخيُّل الأسباب التي تدفع الناس إلى التصرف بطريقة معينة، أما قدراتنا نحن على تخيُّل مثل هذه الحالات فهي تعتمد على اللعب الاجتماعي الذي لعبناه في طفولتنا ونحن نتلمَّس طريقنا نحو تحقيق الألفة والحميمية مع الآخرين، تلك الحميمية التي تعني التمكُّن من دخول عقولهم.
(٥) رواية لَعِبية
يُسعدني الإعلان عن نتائج مسابقة أفضل جملة افتتاحية لرواية أو رواية قصيرة أو قصة قصيرة:
المركز الثالث من نصيب فرانز كافكا عن جملة: «استيقَظ جريجور سامسا ذات صباح من أحلامٍ مزعجة، ليجد نفسه وقد تحوَّل في فراشه إلى حشرة ضخمة.»
ويأتي في المركز الثاني ليو تولستوي بجملة: «كل البيوت السعيدة سواء، أما البيوت البائسة فينفرد كلٌّ منها بلونه الخاص من ألوان الشقاء.»
أما المركز الأول فتستحقه جين أوستن عن جملتها: «من الحقائق المعترَف بها عالميًّا، أن الرجل متى ما كان أعزب وبحوزته ثروة كبيرة، فلا شك أنه سيكون بحاجة إلى زوجة.»
ومن الأسباب التي جعلت المركز الأول من نصيب أوستن (على الرغم من المواضع الغريبة لاستخدام الفاصلات في الجملة بالنسبة إلى القارئ الحديث) هو أن هذه الجملة تُعَدُّ من الجمل الاستفزازية والألمعية الباهرة في الوقت نفسه.
والآن أطرح — بحذر — فكرة أن رواية «كبرياء وتحامل» رواية لَعِبِيَّة، وأن السخرية والطبيعة اللَّعِبية مهمتان ولا شك في الأدب الإنجليزي. وأقول «بحذر» لأني أجد نفسي في موضع مَن يحتاج إلى شرح نُكتة، بما ينطوي عليه ذلك من أذًى لا يعادله أذًى تقريبًا إلا فيما ندر. رواية جين أوستن هزلية، حسبما أرى؛ لأن نساء الطبقة الوسطى في تلك الفترة التي كانت أوستن تكتب فيها (وتعيش كذلك) لم يكن لهنَّ عمل يتَكَسَّبْن منه، وعلى الرغم من ذلك، كانت مسائل كالحب والصداقة والزواج لا تنفصل عن المال والثروة، ولهذا فلقد كان الموضوع جدِّيًّا حقًّا. جين أوستن نفسها لم تتزوج قَطُّ، ولهذا عندما تُوفِّي والدها، اضطرت هي ووالدتها وأختها للانتقال للعيش في كوخ داخل عزبة أخٍ لها تبنَّاه قريب ثري للأسرة كان بحاجة إلى وريث. كيف ينبغي على المرء التعامل مع موضوع كهذا بجدية على ما أظن؟ ولكن أوستن تقرِّر ألا تفعل ذلك؛ فأسلوبها مازح، وتأثير كلماتها مرهف.
وعندما سألْتُ عن بيته، أخبروني أن أتجه عبر هذه الغابة إلى البيت الذي ترونه هناك. وهكذا دخلت بقلبٍ مستبشر بما سيلقاه من سعادة عند رؤية محَيَّاه، وتابعتُ سيري حتى هنا، ولكني فوجئتُ بما يعوق قدمي عن السير، واكتشفتُ عندما نظرت في السبب أنني وقعت في أحد الشِّراك الحديدية التي تنتشر في أراضي النُّبلاء.
هنا صاحت ليدي ويليامز: «يا لحسْنِ حظنا أن قابلناكِ، وإلا كنا سنلقى الحظ العاثر نفسه.» (أوستن، ١٩٩٣، ص٢٠)
هكذا كانت أوستن في صغرها تتهكم على الروايات الرومانسية الرائجة في تلك الفترة، حتى إنك تستطيع تخيُّل أصوات ضحك الأسرة عند الاستماع إليها. ومع خروج أولى رواياتها إلى النور في بدايات العقد الرابع من عمرها كانت قد استبدلت بالتهكُّم الاستهزاءَ الساخر.
من الحقائق المعترَف بها عالميًّا، أن الرجل متى ما كان أعزب وبحوزته ثروة كبيرة، فلا شك أن سيكون بحاجة إلى زوجة.
ورغم الغموض الذي يحيط بمشاعر مثل هذا الرجل، ومواقفه عند ظهوره للمرة الأولى في أي حيٍّ من الأحياء، فإن رسوخ هذه الحقيقة داخل عقول الأسر المحيطة يهيِّئ لهم أنه مِلْكية مستحَقَّة لواحدة أو أخرى من بناتهم.
توجَّهت السيدة بينيت بالحديث إلى زوجها ذات يوم قائلة: «عزيزي السيد بينيت، هل علمت أن نيذرفيلد بارك قد أُجِّرَت أخيرًا؟»
فأجاب السيد بينيت بالنفي.
فردَّت عليه زوجه: «ولكنها أجِّرَت بالفعل. كانت السيدة لونج هنا للتو، وأخبرتني بكل شيء.»
لم يرُدَّ السيد بينيت.
هنا صاحت زوجه بنفاد صبر: «ألا تودُّ معرفة مَن استأجرها؟»
««أنت» تريدين إخباري، ولا مانع عندي.»
كان هذا تشجيعًا كافيًا لها.
«يجب أن تعرف يا عزيزي؛ لأن السيدة لونج أخبرتني بأن المستأجر شاب ثري من شمال إنجلترا، وأنه وصل يوم الإثنين بعربة يجرُّها أربعة أحصنة لتَفَقُّد المكان، وأنه سُرَّ به للغاية، حتى إنه أبرم اتفاقًا مع السيد موريس على الفور، وأنه سيتسلَّم الضيعة قبل عيد القديس ميخائيل، وأن بعض خدمه سيحضرون إلى البيت قبل نهاية الأسبوع القادم.»
«ما اسمه؟»
«بينجلي.»
«هل هو متزوِّج أو أعزب؟»
«بل أعزب يا عزيزي بلا شك! أعزب وثري، ودَخْله يصل إلى أربعة آلاف أو خمسة في العام. يا لها من فرصة لبناتنا!»
«كيف ذلك؟ ما علاقة هذا بهنَّ؟»
«عزيزي السيد بينيت، كيف يمكنك أن تكون ضَجِرًا إلى هذه الدرجة؟! لا بد أنك تعرف أني أفكر فيه زوجًا لإحداهن.»
«وهل هذا غرضُه من الإقامة هنا؟»
«غرض! هذا كلام فارغ، كيف يمكنك قول هذا؟ ولكن من المحتمل جدًّا أنه «قد» يقع في غرام واحدة منهنَّ، ولهذا عليك زيارته فور وصوله.»
«لا أرى مناسَبةً لذلك. يمكنك الذهاب أنت والفتيات، أو تستطيعين إرسالهنَّ وحدهنَّ، وهذا أفضل، لأنك لا تقلِّين جمالًا عن أي واحدة منهنَّ، وقد يُعجَب بكِ السيد بينجلي أكثر منهنَّ جميعًا.»
مع بداية الفصل التالي، نعرف أن السيد بينيت كان من أوائل زوار السيد بينجلي، وأنه كان ينوي زيارته طوال الوقت.
وهنا نرى كيف أن السخرية — مثلها مثل الاستعارة — هي نوع من اللَّعب يكون فيه الشيء هو نفسه وشيئًا آخر في آنٍ واحد. والفصل الأول من «كبرياء وتحامل» له مذاق ممتع، ولكن به مرارة في الآن عينه؛ لا لأنه ليس ساخرًا في حد ذاته فقط، لكن لأنه يثير السخرية من عملية المغايظة المثيرة للسخرية بذاتها.
فالسيد بينيت يغيظ زوجه، وهذا فكاهي في حدِّ ذاته، ولكن ما يجعله فكاهيًّا على نحو ساخر هو أن الموضوع الجاد المتعلِّق باحتياج الشابَّات إلى الزواج ليتمكَّنَّ من العيش عُولِجَ باستخدام صورة لَعِبِية للزيجة الكارثية التي تجمع بين السيد والسيدة بينيت، ترتسم ملامحها من حوارهما. ونحن القراء أسرى للمسألة نفسها: كيف نستطيع، في عالم تغلب عليه خيبة الأمل، أن نفهم تورطنا في أمور الحب هذه؟ بل حتى كيف نجد الحب في حياتنا؟
كان السيد بينيت مزيجًا فريدًا من الذكاء والتهكُّم والتحفُّظ وتقلُّب المزاج؛ بحيث لم تكفِ ثلاثة وعشرون عامًا من الزواج لمساعدة السيدة بينيت على فهم شخصيته. أما هي فقد كانت عقليتها أيسر في فهمها؛ إذ لم تكن امرأة متوقدة الذكاء، وكانت محدودةَ المعرفة، سريعة الغضب، وكانت تتصور حين استيائها أن أعصابها قد أتلِفَت. أما شغلها الشاغل في الحياة فكان تزويج بناتها؛ وسلْواها تبادل الزيارات ومعرفة الأخبار.
يصف دي دبليو هاردينج هذه الفقرة الأخيرة في الفصل الأول من رواية «كبرياء وتحامل» بأنها مثال لما يُسمِّيه «الكراهية المنظَّمة» لدى أوستن لحالة التداخل ما بين الحب والمال عند نساء عصرها.
وكما يقول الراوي في «كبرياء وتحامل»، فإن هدف السيدة بينيت الأساسي واضح وصريح: هي تريد تزويج بناتها، ولكنها، مثلنا جميعًا، لها أهداف أخرى؛ فهي تريد لهنَّ وضعًا ملائمًا، وتريد مع هذا الوضع الملائم، وبعاطفة صادقة تجاه فتياتها، ما يضمَن لهنَّ السعادة. أما إذا تأملنا فيما تحت سطح أفعال السيد بينيت — وعلى نحو ما يتضَّح تدريجيًّا في الجزء الأول من الكتاب — فسنجد أن دوافعه أكثر تعقيدًا. يدور الكثير تحت السطح الظاهر؛ فقد كان هدف السيد بينيت عند زواجه أن يكون له وريثٌ ذكَرٌ يستطيع أن يورِّثَه تركته، ولكن السيدة بينيت خيَّبَت أمله في هذا؛ فهو لم يكن يُريد كل هؤلاء الفتيات، وعادةً ما يدعوهنَّ بالحمقاوات، باستثناء إليزابيث التي تُعجبه. لقد تزوج السيدة بينيت لأنها كانت جميلة في شبابها، أما الآن فقد فعلت مرحلة منتصف العمر بها فعلها، وخيَّبت أمله مرةً أخرى حين لم تكن له صديقة ورفيقة العمر، وهذا هو النموذج المثالي للزواج الذي تسعى نحوه رواية «كبرياء وتحامل». إنها ليست متوقِّدة الذكاء، وأحيانًا تُسبب له الإحراج. وأسلوبه الفكاهي التهكُّمي هو حيلته للتعبير عن مرارته وخيبة أمله، وللحفاظ على مظهر أسرته في الوقت نفسه. والآن ينبغي على إليزابيث بينيت أن تخطو أولى خطواتها نحو سعادتها الزوجية من وسط حُطام زيجة والدَيها المهدَّمَة. أليس هذا ساخرًا؟