الإبداع
(١) نبع الإبداع
هذه هي الأبيات الأولى من قصيدة صامويل تايلور كولريدج الشهيرة «قوبلاي خان» التي يُسميها كذلك «رؤيا في حلم: مقطوعة»، التي صدرت عام ١٨١٦. القصيدة منظومة، مثل قصائد شكسبير، على الوزن الأيامبي، وتقوم على تشبيه الفن بنهر «ألف» المقدَّس الذي يتفجَّر من نبعٍ مسحور («كما لو كانت الأرض تلهَث في زفراتٍ ثقيلة متتابعة») ويجري عبر المجتمع فيجعله خصيبًا، ويمنعه من الركود.
في صيف عام ١٧٩٧ ألمَّ مرضٌ بالكاتب، فانعزل في منزل ريفي بعيد بين بورلوك ولينتون … ووُصِف له — نتيجة توعُّك خفيف أصابه هناك — عقارٌ مسكِّن، نام على أثره … وظلَّ الكاتب قرابة ثلاث ساعات في سبات عميق، ولو بحواسِّه الخارجية فقط، وكان على يقين من أنه لا بد وقد ألَّف في هذه المدة ما بين مائتين وثلاثمائة بيت على الأقل، إنْ جاز أن يُطلَق على ما كتب تأليفًا؛ فقد كانت الصور تظهر أمامه كالأشياء، وبمُوازاتها تلوح التعبيرات المناسبة لها، دونما أدنى إحساس أو وعي أو جهد. وعندما استيقظ كان يتذكر كل ما رأى بوضوح تام، فانطلق إلى قلمه ومحبرته وأوراقه، وانكبَّ من فوره على كتابة الأبيات (الأربعة والخمسين) المدوَّنة ها هنا. في تلك اللحظة، استدعاه للأسف شخصٌ جاء لأمور تخصُّ العمل من بورلوك، وظلَّ جالسًا معه ما يناهز الساعة، وعندما رجع إلى غرفته أخيرًا تملَّكته المفاجأة والإحباط؛ لاكتشافه أنه على الرغم من تذكُّره لصور غامضة باهتة عن فحوى الرؤية في العموم، تاهت البقية كلها؛ باستثناء ثمانية أو عشرة أبيات مبعثرة …
الفكرة المضلِّلة الأولى هي قَصْر الإبداع على قلَّة، وهم العباقرة المتصلين بعرائس الوحي. وهذا غير صحيح؛ فالإبداع متاحٌ لنا جميعًا، وهو متاح بطرق عدة، إحداها — وهي موضوع هذا الفصل — هي ما نفعله حينما نتفاعل مع القصص الخيالية باعتبارنا قراءً ومشاهدين وكتَّابًا. والإيحاء المضلل الآخر يأتي من إغفال كولريدج مقدار ما بذله هو نفسه من وقتٍ وتفكير وجهد على مدار سنواتٍ عديدة من تعلُّم كتابة الشِّعر، وممارسة الكتابة، والتفكُّر فيها. وسوف أتناول مسألة بذْل الوقت في القسم التالي بقليل من التفصيل، ولكني سأركِّز عليها بعمق أكبر في الفصل السادس.
أما في الفصل الحالي، فينصبُّ تركيزي على الجوانب الإبداعية — البنائية — للقصص الخيالي. إذا كان اللعب هو أصل القَصص الخيالي في النُّشوء والارتقاء وفي الطفولة، إذًا فالبناء الإبداعي هو أصل القَصص الخيالي في كيفية عمل العقل. والأحلام تُظهِر جانبًا من جوانب النشاط البنائي لدى الإنسان؛ بينما تُوضِّح القراءة والتذكُّر هذا النشاط بطرق أخرى.
(١-١) الاستثنائي والمعتاد
بدأ داروين بكتابة أسئلة محدَّدة عما إذا كانت الأرض ومخلوقاتها قد تغيرت منذ أن بدأ العالم، وكانت نقطة بداية، مع بدء رحلته على متن السفينة «بيجل»، هي التشكيك في فكرةٍ آمَن بها أغلب الناس؛ وهي أن العالم خُلِق في زمن معيَّن، وأن كل نوع من الكائنات خُلِق في الوقت نفسه؛ بحيث يتلاءم تمامًا مع مكانه في هذا العالم. عرف داروين من أحد أساتذته، قبل انطلاقه في رحلته، أدلةً على أن الأرض قد تغيرت عما كانت عليه وقت خَلقِها، وكان جزءًا من أهدافه أن يرى إنْ كان بإمكانه العثور على أدلة جديدة وأكثر إقناعًا على هذا التغيُّر، وقد وجد بالفعل ما كان يبحث عنه؛ حيث اكتشف — على سبيل المثال — أن الشِّعاب المرجانية التي تحتلُّ مساحات شاسعة من البحار في المناطق المدارية وشبه المدارية مكوَّنة من تراكم الهياكل العظمية لأعداد مهولة من الكائنات المرجانية الصغيرة، وبما أن الشعاب المرجانية تكوَّنت عن طريق هذه الكائنات؛ فإن هذا يعني أن الشعاب المرجانية لم تكن موجودةً وقْت خلق الأرض، وكانت تلك خطوة أولى. بعدها استنبط داروين أن أنواع الكائنات التي صلحت للعيش في البيئة المميزة للشعاب المرجانية لم تكن صالحةً لذلك منذ خلْق الأرض، وكانت تلك خطوة أخرى.
ولعلَّ داروين توصَّل إلى أبرز اكتشافاته — الذي قد يكون صاح: «وجدتُها» حين توصَّل إليه — من خلال القراءة؛ إذ قرأ بعد رجوعه من رحلته كتابًا لتوماس مالتوس يتحدَّث عن نزوع المجتمعات البشرية للتزايد بأعداد أكثر مما تدعمه الموارد المتاحة لها، وأدرك من خلال هذا أن كل أنواع الكائنات تُنجِب عددًا أكبر مما يمكن أن يعيش، وأطلق على هذا اسم مبدأ «الوفرة المفرطة». بعد ذلك، ومن خلال خطوات أخرى، توصَّل داروين إلى أنه في ضوء هذه الأسباب فإن البقاء يكون للأصلَح فقط من بين الذرية الزائدة لأيِّ نوع، وأن سلالة الأنواع الأقل صلاحيةً سوف يكون مصيرها الفناء. وبناءً على هذه الأفكار صاغَ داروين أشهر مبادئه، ألا وهو الانتخاب الطبيعي، الذي يتمكَّن من خلاله الأصلحُ في كل نوع من البقاء في ظل بيئة معيَّنة، ونقل الخصائص التي مكَّنته من البقاء إلى الأجيال التالية.
إن ما حقَّقه داروين من إبداعٍ — استثنائي ومؤثر — كان نتيجة تطبيق عملياتٍ نفسية هي عادية في حدِّ ذاتها: طرح أسئلة تدريجية، ومحاولة التوصُّل إلى إجابات. وأتناول في الفصل السادس شخصياتٍ — كتَّابًا — قدَّمت أعمالًا معترفًا بها على نطاق واسع.
(١-٢) المساحة البينية
هو أكثر ما يجعل الفرد يشعر أن الحياة تستحِقُّ العيش … لقد عاش العديد من الأشخاص تجارب إبداعية مثيرة بما يكفي لجعلهم يدركون أنهم يعيشون حياتهم بلا إبداع أغلب الوقت، كما لو أنهم كانوا أسرى في إبداع شخص آخر أو في آلة. (ص٦٥)
وعكْسُ الإبداع الإذعان لفروض خارجية، أو الانحناء أمام إرادة طرف آخر لسبب ما. والقَصص الخيالي هو استمرار للعب الطفولة الإبداعي، ولا يقتصر على الكُتَّاب، ولكنه يشمل القراء أيضًا، ويحدث — كما ذكرت في الفصل السابق — فيما أسماه وينيكوت المساحة البينية: وهي المساحة بين الطفل وأمه أو شخص آخر قائم على رعايته، ولكنها تتَّسع لتُصبح المساحة بين الذات والآخرين، وهي نفسها المساحة التي تنمو فيها الثقافة. وهنا يمكن أن يتسع تخيُّل القارئ دون تضييق، وفي هذه المساحة يستطيع القارئ استقبال كلمات الكاتب وتأمُّلها، ويمكن أن تصبح تجربة الكتاب تجربة القارئ نفسه. والألعاب والمحادثات والفن هي جميعها الامتدادات الإبداعية للعب الطفولة.
(١-٣) معاينة الخبرات وتدفقها
علاوةً على ذلك، أجرى تشيكسينتميهاي مقابلات مع مشاركين في دراساته، كانت من بينهم سيدة تبلغ من العمر ٦٢ عامًا وتعيش في جبال الألب الإيطالية، وكانت تشعر بحالة التدفُّق في رعاية بقراتها وبستانها؛ «أشعر بنوع خاص من الرضا عندما أرعى النباتات، وأحبُّ أن أتابع نموَّها كل يوم.» وكان أحد المقابَلين الآخرين راقصًا، وصف الحالة التي يشعر بها الفنان عندما يُحسِن الأداء قائلًا: «يكون تركيزك تامًّا، وعقلك غير مشتت، ولا تُفكِّر في شيءٍ آخر؛ تكون منهمكًا تمامًا فيما تفعل.» بينما قالت أمٌّ شابةٌ لطفلةٍ صغيرة: «تقرأ لي، وأقرأ لها، وفي تلك اللحظات أفقدُ الإحساس ببقية العالم، وأكون مستغرقة بكل كياني فيما أفعل.»
يكمن أهم جوانب التدفُّق — أي العيش بإبداع — في أن ينهمك المرءُ تمامًا فيما يفعله؛ حيث تُصبح الذات والنشاط واحدًا، وهذا هو بالطبع ما يحدث عندما نقرأ روايةً أو نشاهد مسرحية أو فيلمًا نستمتع به، ولا يتعلق الأمر بانتظار أن يأتينا العالم بالمباهج، فالاستمتاع هو تلك الحالة التي نختار فيها أن نفعل ما نفعله.
(٢) العلاقة الفردية بالأدب
ما الدليل على أن الأشخاص العاديين يتفاعلون تفاعلًا إبداعيًّا مع أعمال القصص الخيالي التي يقرءونها؟ أحد الأدلة الأولى موجود في كتاب آي إيه ريتشاردز «النقد التطبيقي»، الذي يدور حول ما يفهمه الناسُ من الأدب. أعدَّ ريتشاردز الدراسة حينما كان يُدرِّس الأدب الإنجليزي، وكان يُعطي طلابه الجامعيين قصيدة قصيرة كل أسبوع، ويطلب منهم أن يقرءوها ويُعلِّقوا بحُرِّية على ما فهموه منها كتابةً، وكان يُخفي عن طلابه شخصيات الكُتَّاب، كما كان حريصًا على ألا يؤثِّر عليهم بخصوص القصائد قبل أن يكتبوا تعقيباتهم عليها، وبعد أن يجمع تعليقات الطلاب، كان يُحاضِرهم في الأسبوع التالي عن القصيدة وتعليقاتهم عليها.
كرَّر ريتشاردز هذا الإجراء مع ١٣ قصيدة، وكتب أن الطلاب الذين كان يُعلِّمُهم — وهم من خيرة طلاب اللغة الإنجليزية في جامعة كامبريدج وبعض الجامعات الأخرى — كشفوا عن «تشكيلة مدهشة من ردود الأفعال الإنسانية»، وبدا أن أغلبهم لم يفهموا معاني القصائد التي أعطاها لهم.
كانت القصيدة الثالثة التي كلَّف بها ريتشاردز طلابه هي «السونيت المقدَّسة رقم ٧» للشاعر جون دون، ومطلعها كالآتي:
كان من بين التعليقات التي كتبها قراءٌ مختلفون عن القصيدة: «ليست جذَّابةً على الإطلاق» … «نوعًا ما، لا تُثير القصيدة قدر المشاعر التي يتوقَّعها المرء منها» … «حادة، لكنها غامضة» … «بعد قراءتها مرارًا، لا أملك إلا الشعور بالاشمئزاز» … «مُذهلة، ولكن لا تترك انطباعًا محدَّدًا، كما تخلو من الصور» … «ينخفض الصوت في السِّسْتت، وتتغير رغبة الشاعر في الرؤيا إلى الشعور بالخنوع» (الصفحات ٤٣–٤٨).
وقد اعتبر ريتشاردز أن أغلب التعليقات على هذه القصيدة كانت محاولات لتفادي التفاعل معها، أو نتاجًا لضعف الخبرة الشعرية، أو انتقادات فنية من أجل تبرير أحكام سلبية، وغير ذلك، ولم يرَ من بين التعليقات الاثنين والعشرين على القصيدة إلا ثلاثةً فقط (ومنها التعليق الأخير المقتبَس أعلاه) عدَّها صادرة عن «قُرَّاءٍ يبدو أنهم فهموا القصيدة» (ص٤٧).
كان كتاب ريتشاردز بداية انطلاق حركة أصبحت تُعرَف باسم «النقد الجديد»، وفيها تعلَّم الطلاب قراءة الأعمال الأدبية قراءة متعمقة، وفكرة أن لكل عمل أدبي فهمًا صحيحًا — أو أفهامًا إذا كان عملًا غامضًا — يجب أن يتوصل إليه القارئ.
إذا كانت دراسة ريتشاردز لقراءة القصائد وحركة استجابة القارئ تُؤشِّران إلى إبداع القراء من خلال تنوُّع أساليبهم في التفاعل مع العمل الأدبي، فكيف نفهم العمليات النفسية التي تحدث بها أيُّ عملية تفاعل؟
(٣) شخصنة القصص
طلب بارتلِت من المشاركين قراءة قصة من ثقافة مختلفة عن ثقافتهم، وكانت القصة التي اختارها التقطها عالم إثنوجرافي في نهاية القرن التاسع عشر من مجموعة من السكان الأصليين في أوريجون، وكان عنوانها «حرب الأشباح»؛ حيث لم يُخبر بارتلِت المشاركين بأي شيءٍ عن القصة، ولم يطلب منهم سوى مطالعتها مرَّتين بسُرعتهم المعتادة في القراءة، ثم إعادة تقديمها بعد مرور ١٥ دقيقة، كما هي بقدر ما يمكنهم من الدقة، ثم طُلب منهم العودة إلى المعمل من حين إلى آخر ليُقدِّموا القصة مرات أخرى (وأطلق على هذه الطريقة اسم «إعادة التقديم المتكررة»).
ذات ليلة، نزل شابَّان من إيجولاك إلى النهر لصيد الفُقمات، وبينما هما منهمكان في صيدهما؛ إذا بالضباب والسكون يلفُّهما، ثم سمعا صيحات الحرب، وظنَّا أن تلك «ربما تكون سَرية محاربين»؛ ففرَّا إلى الشاطئ واختبآ خلف جذع شجرة. (ص٦٥)
ثم تروي القصة كيف اقترب زورقٌ من الشابَّين ودعاهما ركَّابُه للانضمام إليهم لشنِّ حرب على أناس آخرين أعلى النهر. أحد الشابَّين لم يرغب في الذهاب، فادَّعى في البداية أنه لا يملك سهامًا، ثم قال إن أقاربه لن يعرفوا أين ذهب. ولكنَّ الشاب الآخر صاحَب الرجال في الزورق. وفي المعركة التي نشبت، أصيب ذلك الشاب، ولكنه لم يشعر بالألم، فقال لنفسه: «إنهم أشباح.» وبعد انتهاء المعركة عاد إلى دياره، وانتهت القصة هكذا:
قَصَّ كلَّ ما حدث، ثم سكت. وعندما أشرقت الشمس سقط، خرج من فمه شيءٌ أسود، فَفَزَّ القوم عن أماكنهم واقفين، وهم يصيحون.
لقد مات.
لم يُعِد القراء الإنجليز سرد القصة بدقة. حذفوا منها أجزاءً، لكنهم لم ينسَوا الأحداث فحسب، بل غيَّروا في تفاصيل القصة أيضًا؛ بحيث صارت أقرب إلى الطابع الإنجليزي؛ على سبيل المثال: كتب أحد المشاركين بعد مرور ٢٠ ساعة: «خرج رجلان من إيدولاك لصيد الأسماك، وبينما هما منهمكان في النهر سمعا ضجيجًا من بعيد.» تحوَّل «صيد الفقمات» إلى «صيد الأسماك»، واستُبدل بالأجواء المخيفة الغامضة في بداية القصة الملبدة «بالضباب والسكون» شيء آخر أشبه بتقرير إخباري.
لقد تذكَّر أغلب المشاركين في التجربة بعض التفاصيل البارزة من القصة؛ مثل أن «شيئًا أسود» خرج من فم الشاب، ولكن بينما مات الشاب في القصة الأصلية عند شروق الشمس، كتب بعض القراء أنه مات عند غروبها؛ إذ إن هذا الوقت أنسب للوفاة بالنسبة إلى الإنجليز.
قد يكون تحرِّي الدقة مهمًّا لأغراض معيَّنة؛ كتقديم دليل في دعوى قضائية، ولكن ما اكتشَفَه بارتلِت من خلال هذه التجربة، ومن تجارب مشابهة، هو أننا نادرًا ما نحقِّق الدقة، وعندما نتذكَّر قصةً أو صورة أو أي شيء آخر، يتأسَّس تذكُّرنا على البناء من ملخَّص تخطيطيٍّ لهذا الشيء، وعلى فهم عامٍّ للمُجمل، وبعض التفاصيل البارزة. ومن هذا، ومن معرفتنا بكيفية عمل العالم، نُنشئ نسختنا الخاصة.
… هو إعادةُ بناءٍ تخيُّلية قائمة على علاقة توجُّهاتنا إزاء مجموعة كاملة نشطة من ردود الأفعال والخبرة السابقة المنظَّمة، وإزاء تفاصيل بارزة صغيرة … لذا، قلَّما تكون دقيقةً … ولا يوجد داعٍ لأن تكون دقيقةً أبدًا. (ص٢١٣)
على الرغم من أن بارتلِت لم ينشر كتابه «التذكُّر» قبل عام ١٩٣٢، فقد أجرى تجربته القائمة على قصة «حرب الأشباح» قُبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان أغلب المشاركين في تجاربه من الذكور ذهبوا إلى الحرب أو واجهوا احتمال الذهاب، وهكذا لم يكن موضوع طلب الذهاب للقتال غريبًا عليهم. أما المشارِكات، فكان موضوع فقدان الأقارب والأصدقاء أمرًا مهمًّا لهنَّ. يقول بارتلِت إنه من بين مجموعاته المكوَّنة من ٢٠ مشاركًا، لم يتذكر سوى عشرة فقط في نُسَخِهِم الأولى من القصَّة الحُجة الأولى للشاب حينما قال إنه لا يحمل سهامًا، لكنهم تذكَّروا جميعًا — فيما عدا رجلًا وامرأةً — الحجة الأخرى حين قال إن أقاربه لن يعرفوا إلى أين ذهب. وعلَّق بارتلِت على ذلك، فكتب أن مخاوف الفِراق كانت بارزةً في ذلك الوقت، فكان المشاركون منشغلين بالفراق، ولعلَّ هذا هو ما جعل الفكرة تدخل إلى عقولهم بسهولة، وسهَّل عليهم تذَكُّرها.
(٣-١) المخطط والتغيير
لا تقتصر عملية البناء التي وصفها بارتلِت على الذاكرة، ولكنَّها تشمل كذلك ما يحدث أثناء خبرة قراءة قصة ما، أو خبرة إدراك العالَم من حولنا. فنحن نستوعب ما نقرؤه أو ما نراه من خلال ما يمكننا فهمه، ونحن نفهم من خلال ما نُضفيه على أي قصة أو مشهد. استخدم بارتلِت مصطلح «المخطط» لوصف ما نعرفه، والمصطلح مؤسَّس على فكرة الرسم التخطيطي التي نراها على سبيل المثال في كُتيِّب الإرشادات المصاحِب لأي جهاز لشرح طريقة عمله، وحسب علم النفس المعرفيِّ الذي أنشأه بارتلِت، فإن مخططاتنا في حالةِ تطوُّر مستمر، وتمتاز باتساقها الداخلي؛ فهي بمنزلة نماذج عملية لما نعرفه حول طريقة سير العالم، فحينما تقع أحداث أو تُقال أشياء في قصة أو في الواقع، نستوعب هذه الأحداث والأشياء ضمْن مخطَّطاتنا، ولكن تلك الأحداث والكلمات لا تُمتَصُّ دون معالجة، فلسنا كاميرات فيديو. ما نراه وما نقرؤه يُستوعَبان بقدر ما يكتسبانه من الأهمية بالنسبة إلينا؛ بأن يُصبِحا أجزاءً من نماذجنا التخطيطية ونظرياتنا الضِّمنية لما نعرفه عن العالم.
يستعين إرنست جومبريش في كتابه «الفن والوهم» — وهو أفضل كتاب (أعرفه) عن علم نفس الفنِّ المرئيِّ — بالفكرة نفسها (المأخوذة عن بارتلِت)، ليُوضِّح كيف أن تصوير رسَّام ما لمشهدٍ معين ينطوي أولًا على مخطط تبدأ منه اللوحة، ويليه إدخال بعض التغييرات على المخطط لإظهار خصوصية ما يُصوَّر، ولجعل العمل الفني جديدًا ومدهشًا، وينطوي فهم اللوحة أيضًا على مخطط، وإدراك للتغييرات عليه.
وهكذا نرى كيف أن القَصص الخيالي (شأنه شأن الفنون الأخرى) لا يُحدِث أثره من خلال استقبالنا له فحسب؛ بل إن كل فردٍ منا يبني أفهامه الخاصة للعمل الأدبي الذي يُطالعه، أو المرئي الذي يشاهده، أو الموسيقِيِّ الذي يستمع إليه على أساس مخططاته. نستوعب المادة من خلال تحويلها بإبداع؛ بحيث تصير مفهومة لنا على نحوٍ شخصيٍّ. يأتي بعد ذلك كينيث كريك، طالب الدكتوراه تحت إشراف بارتلِت، ليُوَسِّع فكرة أستاذه الخاصة بالمخططات إلى نظرية التفكير باستخدام النماذج العقلية التي تناولتُها في الفصل الثاني. وهذه الفكرة نفسها مركزية لهذا الكتاب، فحينما نواجه جانبًا من جوانب العالم، أو عملًا من أعمال الفن الأدبي، فإننا نؤسِّس فهمنا له على أحلامنا ونماذجنا ومُحاكاتنا، ونجعله عملنا بفعل تغييراتنا عليه.
يمتاز الناس بالإيجابية حينما يقرءون، وإذا كنتَ عضوًا في جماعة قراءة فستَعرف إلى أي حد تختلف القصة الواحدة اختلافًا بيِّنًا من شخص إلى آخر. (تُعَدُّ جماعات القراءة في ظني ظاهرةً مهمَّةً في علم نفس القصص الخيالية، وهي موضوعٌ أناقشه في الفصل الثامن.)
(٣-٢) القراءة بعين القارئ وبعين الكاتب
- (١)
التأويلي؛ وهو سبيل القارئ لحلِّ ألغاز النص.
- (٢)
التجريدي؛ وهو نظامٌ توحي فيه الأشياء بكياناتٍ تجريدية.
- (٣)
التداعوي؛ وهو نظام الأحداث وتسلسلات ما يتبع ماذا.
- (٤)
الرمزي؛ وهو النظام الذي تُقرأ من خلاله نقاط الغموض في نص.
- (٥)
الثقافي؛ وهو النظام الذي يشير من خلاله النصُّ إلى معانٍ مشتركة في إطار ثقافة معينة.
يستطيع قارئٌ ما الاستعانة — على سبيل المثال — بالنظام الأول لمتابعة ألغاز النص، وبعض النصوص — مثل القصص البوليسية — تدعونا لهذا تحديدًا، أو قد يتبع قارئٌ ما النظام الثالث من أجل تتبُّع الأحداث وتأثيراتها، منتبهًا إلى الحبكة؛ للتنبؤ بما يمكن أن يحدث لاحقًا، وقد يتبع بعض القراء أحد هذه الأنظمة في وقتٍ ما، ويتبعون آخر في وقت لاحق، ويتبعون اثنين معًا في وقت ثالث، وهكذا. وفي المرة القادمة التي يقرأ فيها أحد القراء النصَّ نفسه، قد تُتبَع هذه الأنظمة ولكن بترتيبٍ مختلف وبطرق مختلفة.
يفترض بارت أنه بالإضافة إلى ما يُسمِّيه القراءات من وجهة نظر القارئ (تَلقِّي النصوص تلقيًا سلبيًّا نوعًا ما) توجد قراءات من وجهة نظر الكاتب، وفيها يكتب القارئ (أو يُعيد كتابة) ما يقرؤه، وهنا أود أن أطرح اقتراحًا أقوى، وهو أننا حتى في أكثر القراءات سلبية نكتب نسختنا الخاصة مما نقرأ.
تميل أنواع من الأدب إلى تقييد القراء بمجموعة محدودة من التأويلات والخبرات، وأحبُّ أن أفكِّر في هذه الأنواع على أنها أفعوانيات في ديزني لاند. حدَّد مصممو ديزني مجموعةً معينة من الخبرات التي تمرُّ بها، سواء بجسدك وهو يتأرجَح حول الأركان ويندفع للأسفل في المنحدرات الحادة، أو بإدراكك للمناظر والأصوات. هذا هو ما تفعله أنواع معينة من جنس القَصص الخيالي أيضًا؛ فهي تأخذك إلى جولة محدَّدة بعناية؛ ومثال ذلك أعمال الإثارة الشائقة التي تقوم على تعريف القارئ أولًا بشخصية جذَّابة هي شخصية البطل، ثم تتعرَّض هذه الشخصية — بل ربما العالم بأكمله — إلى خطر داهم. تُقلِّب الصفحات بلهفة وقلق حتى يصل البطل والعالم وأنت معهم إلى برِّ الأمان أخيرًا. تُثير مثل هذه الأعمال المُقولبة مخططات معينة بتعبير بارتلِت (الذي أخبرتكم توًّا بملخصه)، وتقدم للقارئ ما يتوقَّعه منها بدرجة كبيرة، ويمكن أن تكون ممتعة، ومثلها مثل لحظة النزول عن الأفعوانية، على الرغم من أنك قد تتذكَّر ركوبك فيها، وتتذكر ارتجاف قلبك في لحظة معينة، فإن مخططاتك وذاتك تظلان كما هما دون تغيير، ولكن في القصص الخيالية الأكثر تعقيدًا لا يحدث كل شيء فيها كالمتوقَّع، وفي قراءاتنا من وجهات نظر الكُتَّاب قد تتغيَّر مخططاتنا. وكما يقول عالِم النفس المعرفي جيروم برونر في كتابه «عقول حقيقية وعوالم محتمَلة»: «أعتقد أن الهدية التي يُقدمها الكاتب «العظيم» إلى قارئٍ ما هي أن يجعله كاتبًا «أفضل»» (ص٣٧).
(٤) إسهام القارئ
حُلم ساعة
بقلم كيت شوبان
كانت السيدة مالارد تشكو من ضعف قلبها، فاستدعى هذا حرصًا شديدًا في إبلاغها بخبر وفاة زوجها برفْق ولُطف شديدَين.
نقلت إليها الخبر أختُها جوزفين في جُمل متقطِّعة وتلميحاتٍ خفية، تكشَّفَت بالتدريج، بينما كان ريتشاردز صديق زوجها حاضرًا بالقرب منها. كان موجودًا في مكتب الصحيفة عندما وصلت أخبار كارثة القطار، وكان اسم برينتلي مالارد يتصدَّر قائمة «القتلى». تريَّثَ فقط حتى يتثبَّت من الحقيقة بنفسه ببرقية ثانية، ثم سارع ليَسبق أي صديق آخر أقل حرصًا وعطفًا في توصيل الخبر الحزين.
لم تتلقَّ السيدة مالارد الخبر كما تلقَّته نساء كثيرات بتلك الصدمة التي تُجمِّدهن فيعجزن عن تصديق ما وقع، ولكنَّها أجهَشَت من فورها بالبكاء، واسترسلت فجأةً ذارِفةً الدمع المرير بين ذراعَي أختها. وبعد أن مرت عاصفة الأسى، اعتزلت إلى غرفتها وحدها، رافضةً أن يتبعها أحد.
هناك، كان يستقرُّ في مواجهة النافذة المفتوحة كرسيٌّ فسيح مريحٌ بذراعين، غاصت فيه وقد ثقلت بما تحمل من إرهاق نال من جسدها، وبدا كأنما قد طال روحها.
ومن ذاك المربَّع المفتوح، رأت قِمم الأشجار القائمة أمام بيتها، وهي تتمايل مع أنفاس الربيع الوليد، ورائحة المطر الشهية تُعبِّق الأجواء. وفي الشارع أسفل نافذتها، كان بائعٌ يصيح مناديًا لبضاعته، ومن بعيدٍ وصلت إلى أذنَيها ألحانٌ خافتة لأغنية كان يُغنيها شخصٌ ما، بينما كانت أسراب العصافير تُغرِّد على إفريز سطح المنزل.
كانت رُقع السماء الزرقاء تلوح هنا وهناك من بين السحابات التي تلاقت وتجمَّعَت الواحدة فوق الأخرى ناحية الغرب أمام نافذتها.
كانت تنظر وقد ألقت برأسها إلى الخلف على مسند الكرسي في سكون تام لم يُعكِّره إلا شهقة تصعد من حين لآخر إلى حلقها، وتهزُّها كما يتواصل نشيج الطفل بعد أن يغلبه النعاس من كثرة البكاء.
كانت شابةً جميلة هادئة الطلعة، تنمُّ خطوط وجهها عن كبتٍ دفين، ولكن تعكس معه قوةً ما، ولكنها الآن كانت تُحملق بعينين ذابلتَين بعيدًا في إحدى تلك الرقع الزرقاء في غير تأمُّل، بل بنظرة كشفت عن عقل خلا من كل تفكير.
كان ثمَّة شيء آتٍ إليها، وكانت هي تنتظره في توجُّس، ماذا كان؟ لم تكن تعرف. كان خفيًّا تصعب معرفته، ولكنها شعرت به يتسلَّل خارجًا من السماء إليها عبر الأصوات والروائح والألوان التي ملأت الجو.
والآن كان صدرها يعلو ويهبط بانفعال وتوتُّر، وقد بدأت تدرك ما هو ذاك الشيء الذي كان يقترب ليتملَّك روحها، وكانت تُحاول جاهدةً ردعه بإرادتها، عاجزةً كعَجْز يديها النحيلتين البيضاوين عن ردِّهِ.
وعندما أرخت لنَفسها العنان، أفلتت من انفراجة شفتيها كلمة صغيرة هامسة، وكرَّرتها وكرَّرتها بصوتٍ خفي: «حرة، حرة، حرة!»
دعونا أولًا نقارن بين تفسيرين مختلفين للقصة؛ تفسيري وتفسيركم. رأيي أن هذه القصة كُتِبَت في بدايات الحركة النسوية في الولايات المتَّحدة، والكاتبة تدعو فيها القراء للتفكير في العلاقات الزوجية من وجهاتِ نظَرٍ بديلة، وأظنُّ أن كيت شوبان تُحب أن تصدم قراءها، كما أعجبني كثيرًا وصفها لشعور ينمو من شيءٍ ملحوظ ولكن غير محدَّد الملامح إلى شيءٍ قوي ومميز، إلى جانب الإشارة الضمنية التي يحملها إلى ما يمكن أن يكون عليه مستقبل تطور الحركة النسوية.
ما رأيكم؟
ترجع هذه الذكرى إلى أيام طفولتي، ولم أكن حينها طويلةً بما يكفي لأتمكن من الإطلال من نافذتي وأنا واقفة … كنت أستطيع رؤية الأشجار تهتز مع النسيم خارج غرفتي. ناديتُ أمي لتأتي وتخرجني من فراشي كما أفعل كل صباح، وكنتُ حينها طفلة وحيدة في الرابعة من عمري، ولكن هذه المرة أتت جدَّتي وأخبرتني أني أصبح لديَّ الآن أختٌ صغيرة.
خطر لي أني أردتُ أن يتحقَّق موقف شبيه بذلك — ولكن دون حادثة الوفاة — لفلانة. تمنَّيت لها الحرية والسعادة بعيدًا عن رفيقها.
كل هذه الذالات والشينات والفاءات التي يمكن أن تُدوَّن على الهامش أثناء القراءة تدل على أنه حتى عندما يبدو أن دَوْرنا مقصور على استيعاب المكتوب في القصة، فإننا نضيف إليها إضافاتٍ إبداعية.
وفي تجربة أخرى، توصلتُ أنا وسيما ناندي إلى أن المشاعر التي شعر بها الناس عندما قرءوا قصةً معينةً؛ أثَّرَت في أسلوب فَهمهم لتلك القصة. طلبنا من المشاركين قراءة قصة راسل بانكس القصيرة «سارة كول: لون من قصص الحب». تبدأ القصة براوٍ يتحدَّث بضمير المتكلم، ويقول في وقت حدوث القصة: «كنتُ بالغ الوسامة»، وكانت سارة «أقبح امرأة عرفتُها في حياتي.» ويقول إنه يسرد القصة بعد مرور عشر سنواتٍ على حدوثها، وإنه سيتحرى الموضوعية في سرده حتى لا يكون متحيزًا، ثم يتابع بصيغة الغائب مشيرًا إلى نفسه بكلمة «الرجل». يبدأ الرجل علاقةً غرامية مع سارة، وبعد استمرار العلاقة بضعة أشهر، يُنهيها بقَسوة قائلًا: «اتركيني الآن أيَّتها الساقطة القبيحة المقزِّزَة.»
لم نطلب — ناندي وأنا — من القراء التعبير عن المشاعر بكتابة حرف (ش) على الهامش، وإنما طلبنا منهم تحديد درجة إحساسهم بمجموعة من المشاعر قبل قراءة القصة (على مقياس من صفر إلى ١٠)، ثم مرة أخرى بعد قراءتها. وتحدَّدَت تلك المشاعر بقائمة بأسمائها: السعادة، والحزن، والغضب، والقلق، وهكذا. صنَّفنا بعد ذلك الاستجابة الشعورية العامة للقصة لدى الأشخاص بناءً على أعلى نسبة تغيُّر طرأت على أيٍّ من تلك المشاعر؛ استنادًا إلى الدرجات التي حدَّدها الأشخاص لقوة مشاعرهم قبل القراءة وبعدها. وقد أثارت القصة مجموعةً متباينة من المشاعر باختلاف القراء؛ إذ شعر بعضهم بالغضب بالدرجة الأولى، والبعض الآخر بالحزن، والبعض الآخر بالاشمئزاز.
وبعد الانتهاء من القراءة أيضًا، سألْنا القراء ثلاثةَ أسئلة تفسيرية حول النهاية الغامضة للقصة، واكتشفنا أن الأشخاص الذين شعروا بالحزن جراء قراءة القصة مالوا إلى التفسير بأسلوب يُطلق عليه علماء النفس المعرفي اسم التسلسل الرجوعي، بدءوا فيه بنتيجة، ثم أخذوا يعرضون مبرراتهم لتبنيها. وإليكم مثالًا لهذا النوع من الاستجابة لسؤالنا الأول الذي كان: «من وجهة نظر الراوي، لماذا في رأيكم تقول القصة: «تحوَّلَت إلى أقبح امرأة رآها على الإطلاق»؟»
هو لم يعُد يرى أن سارة تنتمي إليه، فهي تنفصل عنه بقوة ربما كانت أكبر من محاولته هو الانفصال عنها، وهو لا يقدر أيضًا على عيش علاقة حبٍّ حقيقية ومُحترمة … وربما يشعر بالذنب والحقد عليها لأنها كانت مِعطاءةً في العلاقة التي لم يكن هو مخلصًا فيها قطُّ.
على العكس من ذلك، مالَ القراء الذين شعروا بالغضب جراء قراءة القصة إلى التفسير بأسلوب التسلسل التقدُّمي؛ حيث بدءوا بالافتراضات، ثم استخلَصوا منها النتيجة، وإليكم مثالًا لهذا النوع من الاستجابة لسؤالنا الثاني الذي كان: «من وجهة نظر الراوي، لماذا في رأيكم تقول القصة: «لم يكن الأمر كما لو أنها ماتت؛ بل كما لو أنه قتَلها»؟»
كان يعرف أنها تعرف هي والجميع أنها «قبيحة»، ولعلَّ السبب في ارتباطه بها كان انحرافًا منه أو شفقةً، ولكنها على الرغم من مظهرها المادي الذي كانت تُعاني منه، كانت لديها مشاعر … ولذلك ربما كان شعوره بالذنب هو ما دفعه إلى قتلها عاطفيًّا؛ أو بالأحرى جرَح رُوحها جرحًا غائرًا.
لقد أدهشَنا التوافق الشديد بين المشاعر الغالبة التي شعر بها القراء، مع أنواع التفكير التي تُصاحب مشاعر معيَّنة في المعتاد؛ ففي الحزن يبحث المرءُ بطريقة رجوعية عن أسباب تُفسِّر الخسارة التي تسبَّبت في الحزن؛ كان نمط التفسير السائد (وعلى نحو ملحوظ) بين القراء الذين شعروا بالحزن جراء قراءة القصة هو التسلسل الرجوعي. أما في الغضب فالمرء يتطلَّع إلى خطط يُثبت بها ذاته أمام الشخص الذي أغضَبه، وقد كان نمط التفسير السائد (وعلى نحو ملحوظ) بين القراء الذين شعروا بالغضب جراء قراءة القصة هو التسلسل الأمامي.
(٥) عناصر البناء
لمتابعة النظر في مسألة الإبداع وعلاقته التفاعلية بالأدب، أظن أننا بحاجة إلى تأمل بعض عناصر القصص، لنرى أيَّ أنواع الإبداع مطلوب من الكُتَّاب والقراء في كلٍّ منها.
(٥-١) الفابيولا والسوزيت
إليكم سردًا بهذه الطريقة لأحداث مسرحية «هاملت» بتسلسلها الزمني: قتل كلوديوس الملكَ أخاه، يصبح هو الملك، ويتزوَّج من جيرترود، أرملة الملك السابق ووالدة الأمير هاملت. يظهر شبح الملك السابق للحرس أثناء مناوبتهم ولهوريشيو، صديق هاملت، ويُخبره هوريشيو بظهور الشبح. في الليلة التالية، يظهر شبحُ الأب لابنه هاملت، ويُطالبه بالثأر لمقتله. تصل فرقةٌ مسرحيةٌ إلى البلاط، ويطلب منهم هاملت تقديم مسرحية معيَّنة، يقول إنه سوف يقحم فيها بعض الأبيات.
من معاني السوزيت، أو بنية الخطاب: نصُّ العمل القصصي المكتوب على الورق، أو الأداء الذي يشاهده جمهور ما. وهي فعليًّا عبارة عن مجموعة من المؤشِّرات حول ماهية الأحداث (في بنية الحدث)، علاوةً على التلميحات أو التوجيهات حول ما يتعلق بها، وهو ما يدفع كلَّ قارئ أو مشاهد لدخول بناءٍ متخيَّل يجعل الحياة تدبُّ في الأحداث.
يُخبر شكسبير الجمهور في مسرحيته «الملك هنري الخامس» عن علاقة الأحداث بالتوجيهات التي سيُعبِّر عنها هو والممثلون، وعن دور الجمهور، وهو إنشاء القصة في خيالهم. وتدور المسرحية حول حدث في التاريخ الإنجليزي، وهو معركة أجينكورت «هذا الخبر الجلل»، وإليكم ما يقوله ممثِّل للجمهور:
•••
(الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ١٨)
يمثِّل الممثلون — «الأصفار» — الأحداث (في بنية الحدث)، وفي الوقت نفسه يُعطون الجمهور توجيهاتٍ صريحة حول علاقتهم بها؛ إذ إن أفراد الجمهور هم مَن يجب أن يتلقوا ما يرون وما يسمعون، ثم يُطبقوا عليه التوجيهات، ويُسيِّروا الأمر كله.
ولكن المؤلِّفين لا يكونون على هذا القدر من الصراحة في المعتاد، فإذا حضرتَ — على سبيل المثال — عرضًا لمسرحية «هاملت» وكانت أحداثه لا تدور في الزمن الحديث، سوف ترى على الأرجح ممثلَيْن يرتديان الدروع يدخلان إلى خشبة المسرح، ربما معًا، وربما أحدهما وبعده الآخر. وها هي الكلمات الافتتاحية من المسرحية:
تحرُّك الممثلَيْن وحديثهم ليسا مجرَّد أحداث، بل يشكلان أيضًا توجيهات للجمهور لتخيُّل مشهد قَلِق تقَع أحداثه قبل ٤٠٠ عام فوق أبراج حراسة إحدى القِلاع في بلدٍ متأهِّب للحرب، ولكن لا يقول أحد من الممثلين في هذه المسرحية: «الحارسان اللذان نلعب دورَيهما قَلِقان، لهذا هلا تتفضَّلون يا معشر الجمهور بالشعور بالقلق.» لكن هذا هو ما يرميان إليه. إذا كنتَ تقرأ المسرحية، فسوف تستنبط أن جملة برناردو الأولى هي تحدٍّ. والجملة الثانية، التي يقولها فرانشيسكو، تحمل تحديًا مقابلًا: «بل أجِبني أنت.» وهنا نرى أن التوجيه الضمني هو أن أيًّا منهما غير متأكِّد من هوية الآخر؛ أصديق هو أم عدوٌّ؟ أما إذا كنتَ تُشاهد هذا الحوار على خشبة المسرح فسوف يؤديه الممثلان بحيث يدفعك قلقهما إلى الشعور بالقلق أنت أيضًا.
استعرض كذلك الجملتين الافتتاحيتين من رواية «كبرياء وتحامل»، ستجد أنهما توجيهات لكي تبدأ في تصوُّر الطبقة الوسطى في إنجلترا قبل ٢٠٠ عام، وتبدأ في التفكير في العلاقة بين الحب والثروة. الحدث الأول في الرواية يبدأ بقول السيدة بينيت: «عزيزي السيد بينيت، هل علمتَ أن نيذرفيلد بارك قد أجِّرَت أخيرًا؟» وهكذا يُعطينا الراوي الفرصة نحن القراء لمعرفة الأحداث، مثل ذلك الذي قالته السيدة بينيت، كما يُعطينا توجيهًا حول ما يتعلق به. كيف يجب أن نتخيل الحدث الذي تقول فيه السيدة بينيت أن نيذرفيلد قد أجِّرَت؟ يجب أن نتخيله بالطريقة التي أهَّبَتنا له بها أول فقرتين من الفصل، أيُّ رجل ثري يصل إلى حيٍّ من الأحياء سوف يُعَدُّ ملكية مستحَقَّة لابنة أحد سكان ذلك الحي. وتكمل السيدة بينيت قائلة إن السيد بينجلي المستأجر الجديد لنيذرفيلد شابٌّ ذو ثروة. وهكذا فهي ترى أن هذه الثروة وصاحبها يمكن أن يصبحا مِلكًا لإحدى بناتها.
تتَّسم توجيهات رواية «كبرياء وتحامل» بطابع لَعِبيٍّ؛ فجملتها الافتتاحية جملة ساخرة، ولعلَّ هذا يوجِّهنا إلى التعامل مع المشهد بشيءٍ من الاستخفاف. وعندما نتبع هذه التوجيهات قد نتساءل عما إذا كانت السيدة بينيت من السذاجة بحيث لا تُدرك أن زوجها يغيظها، أم أنها على الرغم من مغايظة زوجها القاسية لها، فإن طموحاتها لبناتها ستُؤخذ بجدية كبيرة بالفعل؟
المشاهد أو القارئ هو مَن يتلقى التوجيهات والأحداث، ويجمع بينهما بطريقته، وكما قد تلحظون، فإن الطرق التي نتلقى بها هذه الأحداث وتلك التوجيهات متنوعة.
والمشاهدون والقراء هم مَن يجب أن يحركوا الشخصيات، ودون هذا النوع من الإبداع تموت كلمات القصة الخيالية؛ فحينما نقرأ القصص الخيالية نتفاعل مع «السوزيت»، فتدبُّ فيه الحياة؛ ومن خلالها نبني لأنفسنا «الفابيولا» أو بنية الحدث، بطريقة تجعل له معنى بدلًا من أن يكون مجرد تسلسل للأحداث.
(٥-٢) الدفاني
تضم بنية الخطاب (السوزيت) مجموعة من التوجيهات العامة حول كيفية إقامة المحاكاة داخل العقل والحفاظ عليها. وكما بَيَّن ويليام بنزون، فكل عمل أدبي يتميز بشكل معين لا يتغير باختلاف القراء. ولكن يوجد عنصر آخر يتطلب مزيدًا من إبداع القارئ، ويتعلق بما تعنيه القصة لك. الذكريات والمشاعر والأفكار التي نعيشها هي كلها مؤشِّرات شخصية إلى وجود هذا العنصر الثالث، وليست عامة. ويُعَدُّ هذا العنصر الدافع لإسهامك الشخصي في القصة، ولكن النظرية الأدبية الغربية لم تتعمَّق في تناول هذا العنصر الثالث، وإنما تناولته النظرية الأدبية-النفسية الشرقية التي بدأت في الهند على يد بهاراتا موني الذي يُعتَقَد أنه عاش بعد زمان أرسطو بما يقرب من مائة عام أو مائتين. إن روح الشِّعر والقصص الأدبية في تلك الثقافة هي الإيحاء، وتعني باللغة السنسكريتية «دفاني»، وهذا هو العنصر الثالث من عناصر القصص.
من أبرز المنظِّرين في الأدب الهندي الفيلسوف والكاتب المسرحي وصاحب النظريات الأدبية أبينافاجوبتا (الذي ذاع صيتُه في زمانه ولم يخفت حتى اليوم). عاش أبينافاجوبتا وخطَّ مؤلَّفاته منذ ١٠٠٠ عام في المنطقة المعروفة الآن باسم كشمير. وفي شرحه لمعنى مفهوم الدفاني، يستعرض المثال الآتي من مسرحيةٍ يصل فيها أحد الرحَّالة إلى بيتٍ، ويتعرَّف فيه على امرأة شابة وحماتها في غياب زوج المرأة الشابة. يمرُّ طيف الحب بين الزوجة الشابة والرحَّالة، فتخاطبه من خلال هذه الأبيات:
تبدو الأبيات مباشِرة وحرْفِيَّة، ولكنها تؤتي ثمارها من خلال الإيحاء أو حتى الإيعاز؛ يقول أبينافاجوبتا إن الزوجة الشابة في هذه الأبيات القصيرة تتحدَّث علانيةً أمام حماتها، وفي الوقت نفسه تُقدم دعوة للرحَّالَة بنَهْيِه عنها. ويلحظ المرءُ أن الإيحاءات تُمرَّر في العمل القصة الخيالية الجيِّدة من خلال كلام يُقال، ويُقصد به غير معناه الحرفي. إذا لم تُدرك الحماة ما تقوله الزوجة الشابة فهذا هو المطلوب، وإذا لم يُدركه المسافر فهذا من سوء الحظ، أما إذا لم تفهمه أنت أيُّها القارئ فقد فاتك المغزى من الحوار، ولكن يمكن تدارك الموقف بشرحه لك.
وبهذا تكون لدينا — إضافةً إلى بنية الحدث (الفابيولا)، وبنية الخطاب (السوزيت) — بنيةُ الإيحاء (الدفاني). وبينما تضمُّ بنية الخطاب توجيهاتٍ عامة حول كيفية إقامة المحاكاة، فإن بنية الإيحاء هي مجموعة من التلميحات، يتعامل معها القارئ بطريقة شخصية، ولهذا فهي تعتمد على إسهام القارئ أو المشاهد. ويمكننا إدراك هذا الفهم في اكتشاف بارتلِت وجود مجموعة شخصية من المخططات المتأثِّرة بالثقافة المحيطة، والتي نربط بينها وبين قصة خيالية ما، وكذلك الذكريات (ذ) والمشاعر (ش) والأفكار (ف) الشخصية التي تُثيرها عملية القراءة كما بيَّنا فيما سبق.
تحتوي إدراكات الناس للقصة الواحدة على عناصر مشتركة؛ إذ يتَّفق الناس في العموم مثلًا على أحداثها، إلا إذا كان المؤلِّف قد تعمَّد إضافة بعض نقاط الغموض إليها، لكنَّ المعاني الشخصية التي يتوصَّل إليها كل شخص قد تختلف بعض الشيء. وحتى إذا كانت هذه القصة على هيئة فيلم يبدو كما لو كان قد اختصر خطوات لتخيُّل الشخصيات والأماكن، يظلُّ على المشاهد تأدية دوره في تجميع لقطات الفيلم في إطار القصة التي يُنشئها هو بإدراكه المتميز لها، قصة تستحث ذكرياته ومشاعره، وتوحي بأفكاره الخاصة.
ثمة فرقٌ بطبيعة الحال بين قراءة الرواية ومشاهدة النسخة المقتبسة منها على الشاشة، ولكن حتى في النسخة السينمائية من رواية «كبرياء وتحامل» ينبغي عليك أيها المشاهد تكوين رؤيتك الخاصة للسيد بينيت وزوجه، بالطريقة نفسها تقريبًا التي تتبعها إذا قرأتَ الكتاب؛ عليك مثلًا أن تُقرِّر ما إذا كانت إغاظة السيد بينيت لزوجه قاسيةً أم لاعبةً؟ عليك أن تراه رجلًا استسلم في زواجه لامرأة كانت يومًا جميلة، أو ساخطًا على كل ما تفعله؟ كما يتعيَّن عليك أيها المشاهد للنسخة المعدَّلة، وأنت أيها القارئ للرواية تحديد ما إذا كانت السيدة بينيت ساذجةً بالفعل، وعليك كذلك أن تُقرِّر شكل العلاقة بين السيدة بينيت وابنتها إليزابيث الذكية الفَطِنة المضطرَّة رغم ذلك — مثلها مثل جميع بنات عصرها من الطبقة الوسطى — إلى عرض نفسها للزواج أمام الخُطَّاب المحتمَلين.
نتعمَّق في الفصل التالي في تلك الأمور المتعلِّقة بالشخصيات في القصص الخيالية، وكيفية التفكير في الأحداث الناشئة عن أفعالهم، ولكن لنتطرَّق أولًا إلى مسألة كيف تستثير اللغة إبداعنا.
(٦) اللغة الإبداعية
كتبْتُ في بداية الجزء الرئيسي السابق عن الشكلانيين الرُّوس، وشرحت فكرتهم عن تكَوُّن القصص من «الفابيولا» (تسلسل الأحداث في القصة) و«السوزيت» أو بِنية الخطاب (التي تشتمل على التلميحات أو التوجيهات التي يقيم منها القُرَّاء تجسيدًا للقصة داخل عقولهم). إلَّا أن الإبداع يقوم كذلك على الكاتب الذي يجذب الانتباه لعناصر معينة في نص ما، وعلى القارئ الذي يتفاعل بطريقة ما مع موضوع الاهتمام المشترك. ومن بين الأفكار التي طرحها الشكلانيُّون أن الكاتب يجذب الانتباه إلى ما صار مألوفًا لدرجة أنه أصبح غير ملحوظ. ويحقق الكاتب هذا بتجاور الكلمات أو الأفكار بعناية. وبعد جذب الانتباه يُجري القارئ جانبًا من التجاور بنفسه.
(٦-١) التغريب
كنتُ أنظف غرفة، وأتحرك داخلها دون تركيز، ثم اقتربتُ من الأريكة، ولم أستطع تذكُّر إنْ كنتُ نفضتُ الغبار عنها أم لا. ولأن هذه التحركات معتادة، وتتمُّ دون وعي، لم أتمكن من التذكر، وشعرت باستحالة تذكرها … إذا كانت أعمار كثير من الناس كاملة بتعقيداتها تمر دون وعي، فجميعها تمُر كأنما لم تكن.
فهمتُ ما قاله عن الضرب بالسياط تمام الفهم … ولكن لم أفهم أبدًا لماذا وكيف يُعقَل أن يتحدثوا عني باعتباري مِلكًا لشخص ما. الإشارة إليَّ، أنا الكائن الحيَّ، بكلمة «حصاني» صدَمَتني بغرابتها كما لو أن أحدهم قد قال أرضي أو جوِّي أو مائي. (تولستوي، ص٨٦)
الفنُّ هو خلخلة الحقائق (أي تحريفها، أو نزع تناسبها) بهدف إبراز الملامح الأهم في تلك الحقائق بوضوح أكبر. وقد يلحظ المرء تلك الملامح إذا نُقِلَت أو رُوِيَت كما هي بالضبط، ولكنها سوف تُهمَل على الأرجح. ولهذا لا يُعَدُّ «المذهب الواقعي» فنًّا. (ص٢٣٩)
عندما نقرأ، ثمَّة نسقان يعملان معًا. الأول يقدمه شكل العمل الأدبي؛ فهو يقيم ما يُحتمل أن نمنحه انتباهنا، وكذلك ما سوف ندركه عندما نمنحه انتباهنا بالفعل. أما النسق الثاني فمنبعه من داخلنا، من دفاعاتنا الشخصية. نحن ندرك العمل بطريقة تتيح لنا استخدام دفاعاتنا لضمان استمتاعنا. (ص١٥٩)
لا تصير اللغة «أدبية» إلا حين تتيح لنا التصرف بها بطرق معينة؛ بمعنى تحويلها إلى جزءٍ مُرْضٍ من أنماط توقعاتنا، مثل تجنب الاستياء، وتصوُّر الأهداف، وتحقيق الأهداف. وحينما نجدها «مفاجئة»، فإننا نستوعبها «جيدًا». حينئذٍ تصير لغة «أدبية». (ص٢٤٦)
ولهذا، فعلى الرغم من أن أساليب التغريب تعتمد على إبداع الكاتب، فإنها تعتمد كذلك على إبداع القارئ. القارئ هو مَن يُجذَب انتباهُه بالتجاور غير المألوف بين الكلمات، أو الطرق غير المألوفة للرؤية؛ ومن ثمَّ يبْعث الحياة في الفكرة في نفسه. وأظن أن الأمر يمكن أن يتضح من خلال الفكرة التالية عن العلاقة بين التعبيرات اللفظية ومعانيها.
(٦-٢) العقل الهجين
(٧) الكلمات والتصورات
تصف إيلين سكاري عملية وصف الخلفيات المادية بأن الكاتب يجب أن يعطي توجيهاتٍ للقارئ حول كيفية بناء المشهد. وتقدم مجموعة من المبادئ، والأمثلة من كُتَّاب متميزين في هذا الجانب تحديدًا، مثل توماس هاردي، ومارسِل بروست. من بين هذه المبادئ أن يصف الكاتب الانعكاسات والظلال والأضواء الساطعة على الجدران والأثاث. تحريك الظل والنور على بساطتهما على الأسطح يُحفِّز القارئ على بناء مشهد عقلي ثلاثي الأبعاد، تتوَزَّع فيه الأشياء في ترتيب مكاني معين. وتوصي سكاري كذلك بأن يصف الكاتب حركات البطل عبر المساحات، وتحركاته المرتبطة بالأشياء. يتلاءم هذا والنتائج التي لم تعلم بها سكاري حول حقيقة أن أنواعًا معينة من الأفعال تتسبَّب في حدوث نشاط في مناطق معينة في الدماغ.
من الأفكار التي تسترعي الانتباه أننا عندما نفهم شيئًا ما نعالجه باعتباره عباراتٍ لفظية وحدْسيات. وعندما نطبِّق هذا على العبارة أعلاه، نجد أن قراءة عباراتها تحفِّز الخيال على تصوُّر بئر سلم به نافذة سقف، وتُنَشِّط كذلك مناطق في الدماغ ترتبط بأفعال كصعود الدرَج جريًا، والإمساك بالدرابزين، وفتح الأبواب.
(٧-١) أشبه بذكرى
إحدى أعمق التجارب وأبلغها تلك التجربة التي يعيشها قارئ الشعر والإبداع النثري وهو يعطي موافقته على الكلمات التي يعرضها عليه الكاتب، وفي الوقت نفسه، يحقِّق إدراكًا جديدًا داخل وحدة المعالجة الترابطية-الحَدسية، وهو ما عبَّر عنه جون كيتس في خطاب أرسله لأحد أصدقائه حين قال: «الشعر … يجب أن يفاجئ القارئ وكأنه صياغة لأرقى أفكاره، وأن يبدو له أشبه بذكرى» (ص٢٦٧). أي إن «صياغة … أفكاره» تكون صادقة بحيث تبدو عند تفاعلها مع خبرات القارئ أنها «أشبه بذكرى».
وهكذا، ينبغي على القراء بعد أن يقدِّم الكاتب شيئًا غير مألوف أن يربطوا بين الكلمات وحدسهم حتى تصبح الكلمات وكأنها كلماتهم هم. وحين يتمكن القراء من فعل ذلك، يفتحون ممرًّا من الكلمات في طبقة اللغة، وفي الوقت نفسه يُنشِئون صلات مع طبقة الارتباطات والحَدسيات.
قد يفترض المرءُ أن للكُتَّاب ميزة خاصة في إنشاء مثل هذه الروابط، لكن الراوي في رواية مارسِل بروست «الزمن المستعاد»، وهي الجزء الأخير من سلسلة «بحثًا عن الزمن المفقود»، يُصِرُّ على أن الكاتب الفنان ليس هو فقط من يفعل ذلك:
الحياة الحقيقية، تلك الحياة التي اكتُشِفَت أخيرًا واتَّضَحَت، الحياة الوحيدة التي يعيشها المرءُ لهذا السبب كاملة، هي الأدب. وهذه الحياة موجودة بدرجة ما داخل كل البشر طوال الوقت بقدر وجودها داخل الفنان، إلا أن أغلب الناس لا يدركون ذلك؛ لأنهم لا يحاولون توضيحها. (ص٢٥٧)
… بل لن أكون دقيقًا إن اعتبرت أن مَن يقرءون كتابي هم قُرَّاؤه؛ لأنهم من وجهة نظري لم يكونوا قُرَّائي. بل كانوا قراء أنفسهم إذا تحرينا الدقة، أما كتابي فيُعَدُّ نوعًا من العدسات المكبرة … واستطعت من خلاله أن أقدم لهم الوسيلة ليقرءوا داخل أنفسهم. (ص٤٢٤)
أما وقد تحدثت في هذا الفصل عن الإبداع، وعن اللغة، وعن صنع الروابط اللفظية مع خبراتنا، فسألتفت في الفصل التالي إلى بعض أهم عناصر القصص الخيالية: الشخصيات، والأحداث التي تقع حين تفعل الشخصيات وتتفاعل فيما بينها.