الشخصية والفعل والحدث
(١) وصف الشخصيات
دُعِيَت فيرجينيا وولف يوم ١٨ مايو ١٩٢٤ لإلقاء خطاب في جامعة كامبريدج. وكانت قد مرَّت بتجربة محبِطة من قبلُ، حين عجزت عن الالتحاق بتلك الجامعة للدراسة، وكان السبب ببساطة أنها امرأة. أما الآن، وإذ هي تُلقي خطابها، فقد تخطَّت مرحلة الدراسة الطلابية؛ كانت روائية.
ثم شَرَعَت في مناقشة موضوع الشخصية؛ قالت: على الرغم من أن «كل واحد من الحاضرين في هذه القاعة حَكَم على الشخصية»، وعلى الرغم كذلك من أنه «من المستحيل العيش سنة كاملة دون مكابدة نوع من المصائب إلا إذا مارس المرء شيئًا من قراءة الشخصية، وتمكَّن منها.» (ص٧٠)، فإن فكرة الشخصية بمثابة «السراب». إنها هوس الروائي بالتمكُّن منها.
واستطردت فيرجينيا وولف في حديثها لتصف إحدى الألعاب التي أحبَّت ممارستها. لعلَّها ليست لعبة، ولكنها تمرين على القصص الخيالي، تمرين على صنع العالم: أن ترى غريبًا فتتخيل ذلك الشخص على أنه شخصية أدبية.
وصفت وولف كيف كانت متأخرة على رحلة قطار متجهة من ريتشموند إلى ووترلو، وقفزت في أول عربة قابلتها؛ قالت: «انتابني شعور غريب ومزعج وأنا أهمُّ بالجلوس، أني أقاطع حديثًا دائرًا بين شخصين كانا جالسَين داخل العربة.» كانا يجلسان أحدهما في مقابلة الآخر. كان أحدهما، وهو الذي سمَّته وولف السيد سميث، وتجاوز الأربعين من عمره، «منكفئًا إلى الأمام، وبدا من أسلوبه واحمرار وجهه أنه كان يتحدث بحسم.» وأطلَقَت وولف على المرأة التي كان يتوجَّه إليها الرجل بالحديث اسم السيدة براون. «كانت إحدى هؤلاء السيدات المسِنَّات النظيفات الفقيرات اللاتي يوحي هندامهن — بأزرارهن المقفلة وثيابهن المحبوكة المربوطة بكل تفاصيلها المرفُوَّة والمرتوقة والمصقَّلة — بالفقر المدقع أكثر مما توحي به الأسمال والأوساخ.»
وعلى الرغم من أن السيد سميث بدا منزعجًا لمقاطعته، بدت السيدة براون مرتاحة نوعًا ما. حزرت وولف أن السيد سميث ليس من أقرباء السيدة براون. لعلَّه كان رجل أعمال من الشمال. وقالت: «كان واضحًا أنه كان لديه مسائل مكدِّرَة يسوِّيها مع السيدة براون؛ سِرٌّ من نوع ما، ربما كان سرًّا مشئومًا، ولم يكونا ينوِيان مناقشة أسرارهما في حضوري» (ص٧٢). ولإعطاء الانطباع الملائم لشخص غريب، شرعا في الحديث بدلًا من ذلك عن قدرة اليرقات على التهام جميع أوراق أشجار البلوط. في هذه الأثناء كانت وولف مشغولة بصنع قصص خيالية داخل عقلها. تخيلت أن السيدة براون ربما كان لديها ابن بدأ يفسد، وتخيَّلَت ما قد يكون سرًّا بينها وبين السيد سميث.
عندما اقترب القطار من محطة كلابام، قال السيد سميث: «بخصوص الموضوع الذي كنَّا نناقشه، هل سيكون كل شيء على ما يرام؟ هل سيكون جورج هناك يوم الثلاثاء؟» ومع دخول القطار إلى المحطة «زَرَّر معطفه، وأنزل حقيبته، وقفز من القطار قبل أن يتوقف» (ص٧٣-٧٤).
بقيت فيرجينيا وولف والسيدة براون وحدهما، ووصفتها وولف قائلة: «جلست في ركنها أمامي. بدت نظيفة جدًّا، وضئيلة جدًّا، وغريبة، وبدا أنها تعاني بشدة. كان الانطباع الذي تركته غامرًا، انساب منها كتيار هواء، كرائحة حريق» (ص٧٤).
ترسم وولف هنا صورة الشخصية بنفس أسلوب شكسبير في وصف كاسيوس وبروتوس في مسرحية «يوليوس قيصر»، وأسلوب جين أوستن في وصف السيدة بينيت في رواية «كبرياء وتحامل»، وأسلوب جورج إليوت في وصف السيد كازاوبون في رواية «ميدل مارش»؛ إذ ترسم لنا صورة السيدة براون التي ترتدي ثيابًا محكمة، وتبدو عليها المعاناة، وتتعرَّض في عربة القطار المتجه إلى ووترلو لمضايقات رجل يُدعى السيد سميث. من خلال هذا الأسلوب في وصف الشخصيات نرى الشخصية من الخارج نوعًا ما، ولكن مع لمحات عابرة من حياتها الشخصية التي نأمل أن نفهم المزيد عنها مع انجلاء المزيد من أحداث القصة.
في عام ١٩٢٥، بعد مرور عام من حديث فيرجينيا وولف في جامعة كامبريدج، و١٥ عامًا من اليوم الذي قالت فيه إن طبيعة الشخصية الإنسانية تغيَّرت، وصفت بنفسها أسلوب الشخصية الجديد في روايتها «السيدة دالوِي». وفي هذا الأسلوب الجديد ينصبُّ التركيز بدرجة أكبر على ما يدور داخل الشخصية، على انطباعاتها التي لا حصر لها، ومشاعرها العابرة التي يتعارض بعضها مع البعض الآخر، مع لمحات عارضة من الانطباع الخارجي عن الشخصية.
وفيما يلي نمط الشخصية الجديد، كلاريسا دالوِي، وهي تسير في شارع بوند في لندن في صباح أحد أيام شهر يونيو، بعد عام أو اثنين من انتهاء الحرب العالمية الأولى:
كان شارع بوند يبهرها؛ شارع بوند في الصباح الباكر في هذا الموسم؛ براياته المرفرفة؛ ومتاجره؛ بدون بهرجة؛ وبدون زخرف؛ لفة واحدة من التويد في المتجر الذي اشترى منه والدها بذلاته طوال خمسين عامًا؛ بضع لآلئ؛ سمكة سلمون على لوح ثلجي.
قالت وهي تنظر إلى محل السمك: «هذا كل شيء.» ثم كررتها: «هذا كل شيء.» وقد توقفت للحظات أمام نافذة متجر قفازات، حيث كانت تستطيع قبل الحرب شراء قفازات رائعة. كان عمُّها الكبير ويليام يقول إن السيدة تُعرَف من حذائها وقفازها. كان قد تقلَّب في فراشه ذات صباح أثناء الحرب؛ وقال «لقد اكتفيت.» القفازات والأحذية؛ كانت مشغوفة بالقفازات، ولكن ابنتها إليزابيث لم تعبأ يومًا بأيٍّ منهما. (ص١١-١٢)
يتحقَّق حلم وولف هنا من خلال فقرة تتحدث عمَّا تراه السيدة دالوي محددًا من وجهة نظر شخصيتها (مع فصل كل خاطرة عن سابقتها بفاصلة منقوطة)، تليها فقرة أخرى تتناول ما يجول داخل خاطرها. وفي هذه الفقرة الثانية نجد أن المشاهد التي تراها السيدة دالوي هي التي تثير خواطرها في البداية، وبعد ذلك تستدعي الخواطر بعضها البعض من خلال مجموعة من الروابط، منجذبة جميعًا في مسار واحد يصُبُّ في أحد همومها؛ حيرتها فيما إذا كانت تنشِّئ ابنتها كما يجب.
وهكذا توضِّح وولف كيف تستدعي الأفكار مزيدًا من الأفكار داخل عقولنا. رائع!
(٢) الشخصية فيما قبل التاريخ
أتناول في هذا الكتاب الشخصية باعتبارها أحد الموضوعات الثلاثة الأساسية في القصة الخيالية، والموضوعان الآخران هما: الفعل (الذي أعالجه هنا مع الشخصية)، والشعور (الذي أعالجه في الفصل التالي). والشخصية هي الهدف الذي من أجله أراد شكسبير التعمق في النظر وراء الظلِّ البادي للسلوك لرؤية المستور وراءه في العموم. ولكن لِمَ تستتر بعض جوانبنا؟
تُعَدُّ فكرة الشخصية جزءًا جوهريًّا من إنسانية أي امرئ. وأي إنسان وحدَه ليس بإنسان. تأمَّل فيما حولك: في الأغراض القريبة منك، أو في الكتاب الذي تحمله؛ جميعها من صنع أشخاص في الشبكات الاجتماعية الموزَّعَة التي نحيا فيها، والشاهدة على قدراتنا الاجتماعية القوية والمتغلغلة. ومن ثَمَّ فإن الصلات التي تربطنا معًا تقوم — على حد قول فيرجينيا وولف — على قدرتنا على الحكم على الشخصية، وعلى أن نكون شخصيات بأنفسنا.
الشخصية هي ما نعلمه عن الآخرين، وما إذا كنا نشعر تجاههم بالدفء أم أننا لا نحبهم، وما إذا كُنَّا نفهم ما يقولونه، وإلى أي مدًى يمكننا أن نثق بهم. الشخصية كذلك هي ما نعلمه عن أنفسنا، وما إذا كنا نستطيع الاعتماد على أنفسنا، وما إذا كان بمقدور الآخرين الاتكال علينا. لهذا فإننا نصدر أحكامًا على الشخصية لكي نتمكن من العيش في أي مجتمع بشري، ونُراكِم أحكامنا هذه على هيئة نماذج عقلية نُخصِّص نموذجًا منها لكل شخص نعرفه جيدًا، ونُخصِّص واحدًا لأنفسنا. وهذه النماذج مؤثرة وحاسمة في أسلوب تعاملنا مع من نعرفهم، ونماذجهم عنا مؤثرة ومهمة في أسلوب تعاملهم معنا.
تعيش الرئيسيات — وهي رتبة تضم الليمور والسعادين والقردة والبشر — في جماعات اجتماعية ازداد حجمها مع تطور الرئيسيات. يبلغ أقصى حجم لجماعة الليمور الاجتماعية (وهي من الرئيسيات البدائية نسبيًّا) حوالي ٩ أفراد، وبالنسبة إلى قرود الكبوشي حوالي ١٨، وقرود الشمبانزي حوالي ٥٠، وبالنسبة إلى الإنسان حوالي ١٥٠ فردًا. ويمثل هذا العدد بالنسبة إلى الجماعات البشرية عدد الأفراد الذين يمكن أن تُقام معهم علاقات شخصية؛ فهذا العدد على سبيل المثال هو الحد الأقصى الذي تزدهر فيه القُرى قبل ظهور الضغوط الدافعة إلى الانقسام إلى جزأين. أما سكان الحضر، فهذا العدد لا يمثل هؤلاء الذين تستطيع التعرف عليهم بالنظر، وإنما يمثل من تربطك بهم معرفة جيدة، كمن تقاسمْتَ معه وجبة طعام. وقد اكتشف دنبار ارتباطًا وثيقًا بين الحد الأقصى لحجم الجماعة الاجتماعية في أي نوع، وبين حجم القشرة الدماغية لدى هذا النوع، فكلما ازداد حجم الجماعة الاجتماعية ازداد حجم الدماغ. على سبيل المثال، يبلغ حجم القشرة الدماغية لدى قردة الليمور ١٫٢ ضعف حجم بقية الدماغ، و٢٫٤ في قرود الكابوتشين، و٣٫٢ في قرود الشمبانزي، و٤٫١ في الإنسان؛ أي إن القشرة الدماغية هي الجزء الأكبر في الدماغ لدى البشر؛ إذ يزيد حجمها عن ٨٠٪ من إجمالي الدماغ.
ولكن ما سبب هذه الزيادة في حجم الدماغ كلما انتقلنا من الرئيسيات التي ظهرت من أزمنة أبعد في التطور إلى الرئيسيات التي ظهرت في أزمنة أقرب؟ تقول فرضية دنبار إنه مع ازدياد حجم الجماعات التي يعيش فيها الأفراد، أصبح كلٌّ منهم بحاجة لمساحة أكبر في الدماغ؛ لحفظ المزيد من النماذج العقلية والمعلومات حول شخصية كل فرد من أفراد الجماعة، ويشمل ذلك ماضي كل فرد فيما يتعلق به. وهذا هو السبب — على حد قول دنبار — الذي جعل دماغ الشمبانزي ينمو لهذا الحجم، وأكثر منه دماغ الإنسان.
كيف تحافظ الرئيسيات على علاقاتها؟ عن طريق العناية الشخصية. لعمل العناية، يجلس الفرد بسكون بالقرب من الآخر، ويبحث في فرائه عن الحشرات والتشابكات. وكذلك عن طريق العِناق والتمسيد. ومن شأن كل هذا الحفاظ على الثقة بين الأفراد؛ ولهذا يكون على كل فرد فِعل هذه الأشياء بالتناوب مع جميع أفراد الجماعة التي يكون قريبًا منها، وهي تستغرق ٢٠٪ تقريبًا من وقت كل فرد من أفراد قرود الشمبانزي. وافترض دنبار أنه مع استمرار نمو حجم الدماغ وحجم الجماعة الاجتماعية لدى أسلافنا (أنواع البشر مثل الإنسان المنتصب (هومو إريكتوس) والإنسان الماهر (هومو هابيليس)) وصلنا إلى طريق مسدود. مع ازدياد حجم الجماعة ازداد الزمن المخصَّص لتبادل العناية الشخصية اللازمة للحفاظ على عدد العلاقات المتنامي داخل الجماعة ليصل إلى ٣٠٪ من الوقت. ووضع هذا حدًّا للأمر؛ إذ إن صرف أكثر من ٣٠٪ من وقت أي نوع من الرئيسيات على العناية الشخصية المتبادلة سوف يعوق عمليات أخرى مثل توفير الغذاء والتنقُّل والنوم، وغيرها من النشاطات التي تحتاج الرئيسيات لممارستها. وقد وصلت الرئيسيات لهذه النقطة منذ ما يقرب من نصف مليون عام مضت، وعندها نشأت المحادثة: العناية الشخصية اللفظية المتبادلة.
يمكن أن نرى في مخطط دنبار لتطور الفصيلة البشرية أن الخط المستقيم الرابط بين حجم القشرة الدماغية وحجم الجماعة (على المحور س) وبين حجم الجماعة (على المحور ص) أصبح أشد انحدارًا منذ حوالي نصف مليون سنة. عولِجَت لدى أسلاف البشر مشكلة كيفية إيجاد الوقت الكافي لتبادل العناية الشخصية مع كل هؤلاء الذين احتاج الفرد إلى الحفاظ على علاقة وثيقة معهم باستبدال الحديث بالعناية الشخصية. وهكذا فإن اللغة لم تنشأ لمناقشة أمور عملية كأماكن العثور على الغذاء، أو كيفية صنع الأدوات الصوَّانِيَّة، ولكن نشأت لأسباب اجتماعية؛ من أجل تبادل الحديث، والوظيفة الأساسية للحديث هي الحفاظ على العلاقات — على أعداد كبيرة من العلاقات — والحفاظ على حميمية تلك العلاقات.
لم نفقد نحن البشر تأثير اللمس والعناق. نشأت لغة المحادثة من أجل تعزيز هذه الوسائل. وبفضل المحادثة نستطيع نحن البشر إقامة ثلاثة أضعاف العلاقات التي يقيمها الشمبانزي. فنحن نستطيع تبادل الحديث ضمن جماعات، ويمكننا التحاور أثناء التجمُّع أو إعداد الطعام، وأثناء التنقُّل، وأثناء العمل.
تُعرَف فرضية دنبار باسم فرضية الدماغ الاجتماعي. ورغم أنها قوبِلَت ببعض التشكك في أوساط اللغويين وعلماء الحفريات القديمة، يرى الكثيرون الآن أنها من المكونات المهمة لفهم كيفية نشأة اللغة.
هذان شخصان تخيَّلتُهما يتحدثان عن أمر ما؛ وما أمهرنا نحن القراء بحيث إننا نستنبط بسهولة من خلال مثل هذه الإشارات البسيطة وجود علاقة من نوع ما بين بول وكلوي. وعلى مدار نصف مليون عام سوف يكون الناس قد تحادثوا عن: مَن ارتبط بمَن ونتيجة علاقتهما، ومَن حارب في صفِّ مَن وتبعات ذلك. بل إننا نستطيع من خلال المحادثة السابقة أن نبدأ في تكوين نموذجين عقليين عن بول وكلوي، وأن نرسم أحكامًا حول شخصيتيهما.
وهكذا نستطيع بسهولة أن نتخيل أن قصصًا ودِّية من النوع الذي ما زلنا نتبادله الآن في أحاديثنا كانت تُسرَد بإسهاب على هيئة روايات أطول أو حكايات شائقة. وقد اكتشف بعض الناس في أنفسهم القدرة على إجادة عملية السرد هذه؛ ومن ثَمَّ تمتعوا باهتمام الجماعة. وقد يكون من بين جماعتك الاجتماعية من يجيد الحكي على وجه الخصوص. أما الشخصية فهي في القلب من أي قصة. ويمكن النظر إلى الشخصية كما يقول إيرفينج جوفمان في عبارةٍ ذائعة بوصفها «كيفية تقديم الذات في الحياة اليومية.» القصص الخيالي هو مجموعة نُسخ مصنوعة بعناية من هذا النوع. وسر تشويقه لنا هو أنه قريب من جوهر الإنسانية: فهم الآخرين، وفهمهم في علاقتهم بنا، وفهم ذواتنا.
من الموضوعات الأخرى المتكررة في المحادثات البشرية كيفية تصرف الناس، بوصفهم شخصيات، في حبهم وغضبهم ومعاناتهم. القَصص الخيالي — مثله مثل المحادثة — هو إحدى سبل استكشاف مثل هذه الشواغل إذ تؤثر علينا، وإذ تساعدنا في فهم الآخرين.
(٣) الشخصية في التاريخ
من مزايا القَصص الخيالي المكتوب الممتعة أنه يترك أدلَّة على تاريخه. لم تظهر مناهج وشواغل القَصص الخيالي بين ليلة وضحاها، ولكنها تطوَّرت. ومن أوائل الأشكال المكتوبة الملاحم والقصص الشعرية التي غالبًا ما كانت تُقتَبَس من العروض الشفاهية، ومن أمثلة هذا النوع «ملحمة جلجامش» من منطقة سومر. كما كانت توجد حوارات مثل «حوار بين رجل وروحه» من مصر القديمة. وكانت ثمة قصص مهمة دينيًّا مثل قصص الإنجيل.
منذ ٢٧٠٠ عام تقريبًا، ظهر الشعر الرَّعوي والغنائي في اليونان، لتظهر الدراما بعده ببضع مئات من السنوات في اليونان والهند. أما الحكايات والقصص الفولكلورية والحكايات الخيالية، فالأرجح أنها سادت التراث الشفاهي للعديد من الشعوب لآلاف السنين. ومع اختراع الكتابة الأبجدية في اليونان دُوِّنَت قصص من تلك، مثل حكايات إيسوب. وبعد ذلك دُوِّنَ العديد من الحكايات والقصص في مجموعات مثل حكايات «ألف ليلة وليلة»، و«ديكاميرون» لبوكاشيو، و«حكايات كانتربري» لتشوسر.
ولكن الروايات تختلف عن كل ذلك؛ فهي أطول، وتؤَلَّف كتابةً بطبيعتها. تزعم مارجريت دودي أن أقدم الروايات ظهرت في العالم اليوناني واستمرت خلال العصور الرومانية. ولعل أشهر تلك الرِّوايات، بل الرواية الوحيدة التي نُشِرَت في نسخة ورقية، ويمكن شراؤها من أي مكتبة عادية هي رواية «الحمار الذهبي» التي ألَّفها أبوليوس باللاتينية قبيل نهاية القرن الثاني الميلادي.
وصف هنري جيمس في مقاله «فن القصص الخيالي» (الذي ناقشته في الفصل الأول) العلاقة بين الفعل والشخصية بقوله: «وماذا تكون الشخصية سوى تحديد للحدث؟ وماذا يكون الحدث سوى إيضاح للشخصية؟» شخصية أخيل في «الإلياذة» على سبيل المثال سماتها العنف والكِبْر. والحدث الذي يرتبط بها في بداية الملحمة أنه يغضب على قائد الجيش اليوناني في طروادة. يسحب سيفه ويوشك أن يقتل القائد. وهكذا تنبثق من سمات شخصيته أحداث من أفعالٍ تحركها المشاعر. ولأن قتل القائد أمر غير وارد، يعتزل أخيل المعارك مقَطِّبًا جبينه، ويرفض قتال جيش طروادة. وفي أعقاب ذلك تقع مجموعة أخرى من الأحداث. يبدأ اليونانيون في خسارة الحرب بعد أن خسروا محاربهم الأفضل.
يشمل الحدث (بالمعنى الذي يقصده جيمس) الفعل، الذي يقدم بنية الحبكة في أي قصة كما يقول أرسطو. وهو ينبع من الشخصية التي هي قلب القصص الخيالية؛ لأنها في قلب الإنسانية.
(٣-١) الشخصية بوصفها خيارًا
يقابل دانتي في الأنشودة العاشرة من «الجحيم» شبح كافالكانتي، والد أعز أصدقائه ومعلمه جويدو كافالكانتي. يتعرَّف الشبح على دانتي، فيجثو داخل قبره على ركبتيه، وينظر حوله، ثم يسأل عن ابنه. يجيبه دانتي بأنه ليس وحده، وأن معه فيرجيل الذي ربما كان ابنه يحتقره. وهنا يلحظ الشبح الزمن الماضي في إجابة دانتي عليه في حديثه عن ابنه، فيصرخ: «ماذا قلت؟ كان؟ أوَلم يعُد حيًّا؟» وعندما يتأخر دانتي في الرد، يسقط الشبح مرة أخرى داخل قبره.
ابن كافالكانتي أهم عنده من كل ما يلقاه من عذاب في الجحيم. لقد اختار بالفعل؛ فجويدو هو مركز حياته. يفترض أورباخ أن تلك لحظة مهمة للمفهوم الأدبي للشخصية. «الكوميديا الإلهية» قصة ذات طابع ديني عميق، ولكن بالنسبة إلى دانتي، لا تقع الأحداث الحقيقية في الكون حسب الترتيب الحتمي للإله، وإنما تقع فيما يُطلِق عليه أورباخ «العالم الدنيوي» الذي نعيش فيه نحن البشر الفانين، عالم علاقاتنا وخياراتنا.
دانتي هنا — كما يشرح أورباخ — يأخذ خطوة مهمة في تاريخ الأدب الأوروبي؛ إذ ينقل الفعل والحقيقة من السماء، أو من العالم الأفلاطوني المثالي، إلى الأرض هنا. إن مفهوم الشخصية لا يشير إلى أناس لا تفسير لسمات شخصياتهم، أو إلى قدَر لا يمكن استيعابه، بل إلى أناسٍ يقدِّرون الأحداث بناءً على مضامينها العاطفية بالنسبة إليهم، ويتصرفون، نتيجة لذلك، بناءً على ما يهمهم هنا على الأرض. وقد صوَّر دانتي في أحد أعماله السابقة — «الحياة الجديدة» — الناس (ومنهم الكاتب نفسه) وهم يعبِّرون عن هذا النوع من التقديرات العاطفية. على سبيل المثال، ينبهر الناس عندما يرون بياتريس، محبوبة دانتي، وهي تسير في شارع عادي:
(٣-٢) الشخصية المشتقة من الخبرة
تقدَّم تصوير الشخصية في الأدب الإنجليزي على يد جيفري تشوسر. وشخصياته في «حكايات كانتربري» هم جماعة من المسافرين في طريقهم لتأدية الحج. أكثر تلك الشخصيات تشويقًا هي الزوجة أليسون من مدينة باث. سماتها — كما تصف نفسها — هي البهجة والطاقة الجنسية. تشرح كيف كانت تخدع الناس أحيانًا بالكذب عليهم، وكيف أنها من خلال حياتها أصبحت فهيمة بطبيعة العلاقات بين الجنسين. وهذا هو ما يجعل منها شخصية. إنها هي التي تطرح التساؤل الذي ما فتئ يتردَّد منذ ذلك الحين، وهي التي تجيب عنه كذلك: ما الذي تريده النساء حقًّا؟ إن فهمها لهذا السؤال ليس مجرد جانب من الشخصية في صورة سمة مستمرة. فقد تطوَّر — حسب قصتها — من خبرتها الحياتية في الزواج والتَّرَمُّل من خمسة رجال.
(«ريتشارد الثالث»، الفصل الأول، المشهد الأول، البيت الأول)
تستند فكرة الشخصية لدى شكسبير — هنا — على العلاقة بين الظلِّ والجوهر التي سبق أن طرحْتها في الفصل الأول. تظهر شخصية ريتشارد بجسد مشوَّه، ويقول إن مظهره هذا منعه من ممارسة أشياء كالحب؛ ولهذا يقول إنه سيصنع ذاته، لا كما يتوقع الآخرون منه، وإنما كما يرضيه هو. إن شخصية ريتشارد كما تظهر في هذه المسرحية تصيبنا برجْفة؛ فنتابعه كما قد نتابع أفعى توشك أن تنقض على فريستها. وهو يُسِرُّ إلينا — نحن الجمهور — ما ينوي فعله قبل أن يُقدِم عليه، وهذا يزيد من قوة تأثير الظل والجوهر.
(«ريتشارد الثالث»، الفصل الأول، المشهد الأول، البيت ١٥)
والظل لدى شكسبير — كما شرحت في الفصل الأول — هو السلوك الخارجي، أما الشخصية فهي مقابَلة الظل بالجوهر الداخلي.
(٣-٣) الأهداف الشعورية واللاوعي
كانت مسرحية «يوليوس قيصر» باكورة العروض المسرحية على مسرح ذا جلوب الجديد، وتدور حول اغتيال قيصر وتبعاته. وفيها بنى شكسبير شخصياته على سيرتَيْ قيصر وبروتوس اللتين كتبهما بلوتارك. قدَّم بلوتارك ملخصات شفاهية للسمات والنزعات الانفعالية للشخصيات؛ فهو يقول على سبيل المثال في «حياة قيصر»: «كان السبب الذي جعل قيصر مكروهًا كراهية صريحة ومُهلِكة؛ هو شغفه بأن يُتوَّج ملكًا» (ص٢٩٩)، ويقول في «حياة بروتوس»: «… كان كاسيوس بمزاجه العنيف وكراهيته لقيصر — النابعة من حقده الشخصي عليه أكثر من أي بغض نزيه للاستبداد — هو من ألهب مشاعر بروتوس» (ص٢٢٩-٢٣٠).
كيف يفعل شكسبير ذلك؟ تصور جوهر كاسيوس باعتباره اختيار كاسيوس الذاتي (كما رأى دانتي)، وباعتبار أنه مدفوع بمشاعره. وهكذا، يخبر كاسيوس الذي صنعه شكسبير بروتوس مثلًا بأنه ذات مرة «في يوم بارد وعاصف»، تحدى هو وقيصر أحدهما الآخر بعبور نهر التيبر سباحةً، ولكن قبل بلوغهما الضفة الأخرى، صرخ قيصر: «ساعدني يا كاسيوس وإلا غرقت.» وأنقذه كاسيوس. ويواصل كاسيوس:
(الفصل الأول، المشهد الثاني، البيت ٢٠٥)
يجنِّد كاسيوس بروتوس في مؤامرة قتل قيصر. يسأله لماذا لم يعُد يُبدي ودَّه لأصدقائه كعهده، فيعتذر بروتوس لتجاهله صديقه، ويقول إنه كان «في صراع مع نفسه.» ويلي ذلك الحوار الآتي:
أخبِرني يا بروتوس الطيب هل يمكنك النظر إلى وجهك؟
إلا بالانعكاس، بأشياء أخرى.
وا أسفاه يا بروتوس
إذ ليس لديك مرايا كهذه لتعكس
قيمتك المخفية أمام عينيك
لترى انعكاسك.
ثم يقول كاسيوس إنه سيكون مرآةً لبروتوس، ويُفسِّر صراع بروتوس الداخلي على أنه سخط على طموح قيصر. والوارد أن يتردد بروتوس في قبول هذا دون تفسير كاسيوس، ولكن الأخير يساعده قائلًا:
سوف أكشف أمامك دون مغالاة
ما لا تعرفه بعدُ عن نفسك.
(الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ١٥٦)
•••
(٣-٤) الفعل والحبكة والشخصيات
تتطوَّر الشخصيات إذًا من النماذج العقلية التي نكوِّنها عن الآخرين، وعن أنفسنا، وتعَد مكوِّنًا رئيسيًّا من المحاكاة الأدبية-الحلم الأدبي. ومن الشخصية تنبع الأهداف والخطط والأفعال. وفي أي حبكة سردية نموذجية، تُنتج الأفعال أحداثًا، تقع على نحوٍ نموذجيٍّ بسبب التقلُّبات التي تطرأ على خطط الشخصيات. وتؤدي هذه في الحبكات المنسوجة بإحكام إلى نتائجٍ غير متوقعة إلى حدٍّ ما، ولكنها تبدو منطقية عند قراءة القصة؛ نظرًا إلى الظروف المحيطة. والسبب في أن فكرة الحبكة لا تزال مهمة في الأدب العالمي لا يرجع فقط إلى أن تصرفاتنا البشرية لها تأثيرات لا يمكننا توقعها بالكامل، ولكن كذلك لأننا لا نعرف دومًا ما نريده، وغالبًا ما نتصرف لأسباب لا نفهمها تمام الفهم، والحبكات تُعَد دراسات لهذا النوع من المشكلات، وكيفية التعامل معها.
الأهداف (من نوع وجداني) ← الأفعال ← الأحداث ← النتائج ← المشاعر
(٤) نشوء الشخصية من العلاقة
طالما أجاد القَصص الخيالي استكشاف كيف تحدِّد الشخصية الحدث، وكيف يوضح الحدث الشخصية، لكن الشخصية في الروايات والقصص القصيرة تُصوَّر إجمالًا في مرحلة بلوغها، على الرغم من معرفتنا أن أهم التغييرات المؤثرة في تكوين الشخصية تحدث في الطفولة، وعادةً ما يكون ذلك مع الوالدَين، وأحيانًا في غيابهما. ولعلَّ علم النفس سبق معظم القصص في هذا المجال.
تشير الأبحاث المهمة في هذا المجال إلى أن أسس الشخصية تُبنى في الأعوام الأولى من العمر في علاقتنا بأمِّنا أو من يقوم على رعايتنا. طرح هذه النظرية جون باولبي، وهو عالِم نفس عمل أثناء الحرب العالمية الثانية مع الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم جرَّاء الحرب. دفعت هذه الخسائر الأطفال في مراحل مختلفة من الحزن والاحتجاج؛ حتى وصلوا في النهاية إلى حالة من الاستسلام اليائس. أضير عامل أساسي في تطورهم — هو علاقتهم مع القائم على رعايتهم — وكان لهذا أثره البالغ على شخصياتهم. وقد أُعلِم باولبي من زملائه بأبحاث كونراد لورنز حول الارتباط الفطري، وهو نظام تُكوِّن فيه الطيور علاقة وثيقة مع أول شيء كبير الحجم بعض الشيء، ويتحرك حولها ويصدر أصواتًا. ولقد شاءت الطبيعة أن يكون هذا الشيء عادةً هو الأم، غير أن لورنز رتَّب الأمر بحيث يكون هو نفسه ذلك الشيء في بعض الأحيان، وهو ما كان له الأثر نفسه عند الطيور. وقد كتب لورنز عن الإوز وأنواع أخرى من الطيور التي صارت مرتبطة به فطريًّا.
وبناءً على فكرة الارتباط الفطري، وملاحظاته حول الآثار البالغة لانفصال الأطفال عن ذويهم، أدرك باولبي نظرية التعلُّق. ومفاد النظرية أن الأطفال البشر يكون لديهم استعداد بيولوجي للارتباط بمن يقوم على رعايتهم، وهو من يوفر لهم الحماية أو الرعاية. وكما إن الرَّضاعة في الصغر من الخصائص الفسيولوجية للثدييات، فإن التعلُّق هو المقابل النفسي لها.
وقد لاحظَت ماري إينزوورث — مساعدة باولبي — أن رابطة التعلُّق يمكن أن تأخذ أنماطًا مختلفة، صنَّفَتها هي وزملاؤها استنادًا إلى ما يحدث عند الفصل بين الطفل وأمه، ثم جمع شملهما مرة أخرى؛ إذ يُترَك الطفل والأم وحدهما معًا في غرفة تحت الملاحظة، ثم تغادر الأم الغرفة، وبعد بضع دقائق تعود مرةً أخرى. في أحد أنماط العلاقة — ويسمى التعلُّق الآمن — إذا غابت الأم لبعض الوقت ينزعج الطفل، وعند عودتها يكون اللقاء سعيدًا. أما في التعلُّق التجنُّبي يبدو الطفل وكأنه أدرك أن الأم لم تعُد متاحة، وعند عودتها بعد التغيُّب يتصرف بأسلوب استقلالي انطوائي ولا يحيِّيها. أما في التعلُّق المتردِّد فقد بدا وكأن الطفل اكتشف أن الأم لا يُعتمَد عليها، وعند رجوعها بعد التغيُّب يكون حانقًا عليها.
(٥) تحليل نفسي للشخصية
أعرض عليكم هنا واحدة من دراسات الشخصية؛ ألَا وهي دراسة شخصية كارل روجرز. كان روجرز الرابع بين ستة أطفال ينتمون إلى أسرة مسيحية أصولية موسرة. وكان يعاني وهو طفل من سوء حالته الصحية، لدرجة أن والديه خشيا على حياته، فكرَّسا له نصيبًا كبيرًا من اهتمامهما. كانت الأسرة دافئة المشاعر، ولكن بعض المشاعر كانت ممنوعةً مثل الغضب. بدأ روجرز بعد تخرجه في الجامعة بقليل حياة زوجية غلبت عليها السعادة، ومسيرة مهنية متميزة واستثنائية، أسس فيها نوعًا جديدًا من العلاج القائم على الإنصات بتفَّهُمٍ وتعاطفٍ إلى مرضاه، دون محاولة تأويل ما يقولونه. كتب في مذكراته أنه كان خجولًا، وأنه يفضل العمل منعزلًا على المستوى المهني، ولكنه امرؤ يستمتع بالعلاقات الوثيقة. وكان انطباع الناس عنه أنه شخص رفيق يكاد لا يغضب، بينما وجده بعض زملائه في المهنة «مزعجًا إلى درجات هائلة.» وتنقَّل روجرز كثيرًا إلى مناصب جديدة خلال مسيرته المهنية، ولعلَّ ذلك كان هربًا من مشكلاته مع زملائه.
يبدو أن علاقة التعلُّق الأولى في حياة روجرز كانت آمنة، وليست تجنُّبية أو مترددة. ولكن ربما كانت علاقاته مع الشركاء الاجتماعيين الآخرين مضطربة … من الوارد أن روجرز كان شديد الخجل، ولكنه رغم ذلك كان ينجذب إلى الناس، وعادةً ما كان ينظم جلسات علاج يعتمد فيها أسلوب مجموعات المواجهة. وكان غالبًا ما يجعل الآخرين مركزًا لحياته. كما كان في أغلب الأحيان في صراع مع الآخرين، إلا أنه لم يكن رجلًا «غاضبًا» أو عدوانيًّا على نحوٍ خاصٍّ. (ص٥٧)
تقترح ماجاي وهافيلاند-جونز أن روجرز كوَّن مخططًا ارتباطيًّا أساسيًّا كان يتوق من خلاله للعلاقات الوثيقة، ولكنه كان مشوبًا بقدر كبير من الخزي، ربما كان نابعًا من نشأته المسيحية الأصولية، مع أم على استعداد دائم للإشارة إلى نقاط القصور. بعد نعيم الطفولة الأولى الدافئة المحمية، صُدِم روجرز بحقيقة الحياة عندما التحق بالمدرسة، وتعرَّض كذلك لمضايقات إخوته وتنافسهم، ولم يفارقه قط اشتياقه للحميمية والقرب في العلاقات، ولكن لم يفارقه خجله كذلك. يُظهِر روجرز في أنماط تفاعله غير الشفاهية درجة عالية من الخجل تظهر سواء في إعراض عينيه أو في الأصوات التي تنم عن التردد في حديثه. أما في عمله، فقد كان رائدًا لأسلوب العلاج القائم على توفير جوٍّ من الارتباط الآمن لمرضاه.
وتشير ماجاي وهافيلاند-جونز (الخبيرتان في تحليل تعبيرات الوجه) إلى أن تعبيرات روجرز أثناء حديثه مع جلوريا في الفيلم تنم عن اهتمامٍ كبير، إلَّا أن حاجبيه المائلين قليلًا إلى الأعلى تجاه منتصف جبهته يوحيان بالحزن. لقد دعا روجرز جلوريا ضمنيًّا إلى الدخول في علاقة حمائية يمكن أن تتضمن التَّطرُّق إلى أمور حميمية، وبهذا تكون قد تفادت الخزي المصاحب للنقد الذاتي، واستفادت من الفرصة التي يمنحها روجرز دومًا لمرضاه بالاقتراب نحو درجة أعلى من قبول الذات. وقد علَّقَت جلوريا على الجلسة قائلة: «لقد استشعرتُ ذاتي المحبوبة الرقيقة العطوفة بقدر أكثر مع الدكتور روجرز، وشعرت بحرية وانفتاح أكبر، حتى عند التطرق إلى موضوعات جنسية، وهو ما فاجأني.»
كان في حالة تلقائية في هذه اللحظة، وتصاعد إحساسه بالإثارة وفرحة الفخر، وتغير تعبير وجهه في غمرة تلك اللحظة إلى تعبير آخر أكثر انفتاحًا وعفوية، ونرى في هذه النقطة التعبير النموذجي الوحيد للاهتمام «الخالص» في الفيلم بالكامل (مع ارتفاع حاجبيه وتقوسهما). وما يحدث بعد ذلك يكشف المزيد. بقي الحاجبان المرفوعان جزءًا من الثانية فقط قبل أن تتدخل العضلات المتَحكِّمة في الطرفين الخارجيين للحاجبين، وتجذبهما إلى الأسفل راسمة تعبير الحاجب الحزين مع هيئة الوجه المائلة. (ص٩٠)
لقد شعر روجرز بالإثارة والسعادة بما أنجزه للحظة، غير أن التركيبة الوجدانية لشخصيته لن تسمح له بالاسترسال في تلك اللحظة؛ فالتعبير عن الرضا عن الذات أكثر من اللازم أمرٌ مشين، والأكيد أنه لا يجوز للمرء أبدًا أن يشعر بالفخر؛ لذلك سرعان ما طغى الخزي على مظهره وتابع وجهه تعبيره الحزين المعتاد.
إن ملامح وجوهنا ليست إلا تعبيرات صارت ثابتة بحكم العادة من كثرة ما تكررت. وقد ثبَّتتنا الطبيعة في صورة تلك الحركة الاعتيادية، مثلما فعلت في كارثة بومبي، وفي انسلاخ الحوريات. (البحث عن الزمن المفقود، الجزء الثاني)
ولكن ماذا عن العداوات بين روجرز وغيره من الأطباء النفسيين وغيرهم من زملاء مهنته؟ هنا تقترح ماجاي وهافيلاند-جونز أن تعامُله كان مستندًا إلى اعتقاد مستقًى من تنشئته الدينية بخصوصيته بفضل صلاحه الذاتي، وهو ما دَفَعه للتعامل مع الغرباء بتحفظ، وأحيانًا بازدراء.
وهكذا ترسم ماجاي وهافيلاند-جونز نطاقًا جديدًا لفهم الشخصية — كأفضل دراسات القصص الخيالية للشخصية، بدءًا من دانتي ومرورًا بويليام شكسبير، ثم وصولًا إلى جين أوستن، وجورج إليوت، وفيرجينيا وولف — باعتبار أنها تنشأ في التفاعل مع الآخرين، ثم تُشكِّل التفاعلات اللاحقة. وكما قال جون كيتس، ينبغي ألا نظن نحن البشر أننا نحيا داخل وادٍ من الحزن، ولكن في وادٍ لصنع الروح. ويتساءل كيتس: أين يمكن للروح أن تُصنَع إلا «في عالم كهذا»؟
(٦) العلاقات مع الكتب
يستلزم بدء علاقة جديدة مع شخص جديد قدرًا معينًا من الكرم. وبالمثل، يتطلب بدء علاقة جديدة مع قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو فيلم قدرًا معينًا من الكرم؛ إذ يحتاج المرء للثقة بالمؤلف. حينئذٍ، يبدو أن المرء يصبح قادرًا على استقبال إبداعات المؤلف؛ يفتح ذهنه، ويسمح لها بالمرور. أظهر طلاب آي إيه ريتشاردز الذين تمنَّعوا عن المشاركة في مناقشة قصيدة جون دون التي تبدأ بهذا السطر «عند الأركان الوهمية الدائرية للأرض، انفخوا.» (انظر الفصل الثالث) مدى حذر الناس في التعامل مع قراءاتهم. وقد أشارت ريبيكا ويلز-جوبلينج عام ٢٠٠٩ إلى أننا قد نكون بحاجة إلى توخِّي الحذر؛ لأننا لا نريد أن نستقبل توجهاتٍ وأفكارًا قد تتسبب في تحطيم عوالمنا الداخلية. أتذكر منذ سنوات عديدة، حين كنت أسكن شقة في بناية عالية، أنني كنت أقرأ قصة قصيرة لروالد دال (الذي يعجبني بعض مؤلفاته) وقد أزعجتني تلك القصة للغاية، لدرجة أنني أمسكت بالكتاب وألقيته في أنبوب قمامة البناية؛ لأتخلص منه إلى الأبد. لا أتذكر العنوان، ولعلَّها كانت قصة جيدة جدًّا.
علاوة على ذلك، نحن لا نرتبط بالكاتب فقط. أظن أننا نكوِّن علاقتنا الأقوى في القصص الخيالية مع إحدى الشخصيات، ولعله الراوي، ثم ربما مع المؤلف. ولعلَّ التشبيه الأفضل — كما أوضحت في الفصل الثاني — لعلاقتنا بأي قصة خيالية هو علاقة الصداقة. فالأصدقاء يؤثرون فينا، والأصدقاء يغيروننا. وكما نكون حذرين في اختيار أصدقائنا، اعتمادًا على قدراتنا في الحكم على الشخصيات، كما نبهتنا فيرجينيا وولف (في حديثها الذي ألقته عام ١٩٢٤ في جامعة كامبريدج)، نكون حذرين بالقدر نفسه في اختيار ما نقرأ، واختيار الشخصيات الأدبية أو الرواة الذين ننهمك معهم عقليًّا.
(٦-١) الشخصيات بوصفهم أصدقاء
يشتبك القراء في القصص الخيالية مع الشخصيات، ويتساءلون عمَّا تنويه. بل ربما كان الأمر أننا عندما نقرأ قصصًا خيالية، تكون نظرية العقل مسألة تدبُّر متواصل في عقولنا لنطاق احتمالات الأفعال القادمة للشخصيات، ومنها الأفعال العقلية المرتبطة بالأفكار والمشاعر. وهكذا يمكن إدراك أفعال الشخصيات، وإن كانت تفاجئنا أحيانًا على نحو يحظى برضانا.
بل إن مؤلفي القصص الخيالية أنفسهم يتفاجئون أحيانًا بشخصياتهم تفعل أشياء تبدو خارج نطاق سيطرتهم هم أنفسهم (المؤلفين). نشرت مارجوري تايلور وسارة هودجز وأديل كوهاني دراسة مستندةً إلى مقابلات شخصية مع ٥٠ كاتبًا من كتَّاب القصص الخيالي لاستكشاف هذه الظاهرة. وتراوح نطاق المؤلفين المشاركين بين محترفين نُشرت مؤلَّفاتهم، وأشخاص لم تُنشَر لهم أي أعمال بعدُ. وعبَّروا جميعًا، فيما عدا أربعة منهم، عن مرورهم بخبرات شعروا فيها بالشخصيات تتصرف بشيء من الفاعلية المستقلة. وتبيَّن أن المؤلفين الذين نُشرت أعمالهم تعرضوا لهذه الظاهرة أكثر من غيرهم، وكان وصفهم لها أكثر استفاضة، وهو ما يوحي بأنها ظاهرة مرتبطة بالخبرة. كما وجدت تايلور وزميلتاها أنه — مقارنة مع الناس العاديين — تحدَّث المؤلفون بقدر أكثر عن أن لديهم رفقاء خياليين مثل الأطفال. وسجَّل الكُتَّاب أيضًا درجات أعلى من درجات الأشخاص العاديين في اختبارات التعاطف.
تحضر الشخصيات عند استدعائها، ولكنها تكون مليئة بروح التمرد. ولأن حياتها مَلْأى بالكثير من التماثلات مع الناس مثلنا، فهي تحاول عيش حياتها، وغالبًا ما تكون من ثم متورطة في خيانة للمخطط الأساسي للكتاب. إنها «تهرب» و«تخرج عن نطاق السيطرة»؛ فهي إبداعات تحيا بداخل إبداع، وغالبًا ما تكون غير متناغمة معه؛ وإذا ما حظيت بالحرية الكاملة فسوف تقطع الكتاب إربًا إربًا، وإذا ما أبقيت تحت وطأة الكبت الشديد فسوف تنتقم لنفسها بالموت، وتدمره بتعفن أمعائه. (ص٦٤)
(٧) شخصية السيد دارسي
تدور رواية «كبرياء وتحامل» حول العلاقة بين الحب والكبرياء التي يلحظها المرء في شخصيته التي صارت مقيدة منذ بدايات مرحلة الرشد.
من الفرضيات المهمة في أي قصة حب أن تبدأ بشخص لا يعرف الكثير عن الآخر. إليزابيث بينيت ابنة لأم حنون ولكن ساذجة، وأبٍ ماهر ولكن ذي طبيعة ساخرة. وهي تحمل لحبها المحتمل معتقدات وآمال وتوقعات نابعة من نفسها. في «روميو وجولييت» يقع روميو في غرام جولييت لمجرد مظهرها الخارجي، بمجرد الظهور. أما في «كبرياء وتحامل»، فإن إليزابيث تبدأ من موقف تضميد جرح كبريائها؛ لأن أوَّل ما فعله دارسي هو التفوُّه بكلمات قاسية. وينمو حبها مع تعرُّفها — وتعرُّف القراء كذلك — عليه تدريجيًّا. أما دارسي فهو شخصية تشهد طبيعتها تغيرًا مع سير أحداث الرواية. ولكن لننظر أولًا في الوصف المبدئي للشخصيات كما صورتها جين أوستن.
تسوق أوستن الكثير من التعليقات على لسان شخصياتها في الفصول الأولى من «كبرياء وتحامل»؛ لتوضحَ لنا اهتمامها بموضوع الشخصية؛ فيقول السيد بينيت في الفصل الثاني: «لا يستطيع المرء معرفة شخصية امرئ آخر حق المعرفة بعد أسبوعين فقط.» ثم تصف جين بينيت السيد بينجلي (مستأجر نيذرفيلد بارك الجديد) في الفصل الرابع قائلةً إنه: «حصيفٌ، وحسنُ المزاج، ومرح، … علاوة على رقي تربيته.» وهو ما تُجيب عنه أختها الصغرى إليزابيث قائلة: «هذا إلى جانب الوسامة … التي يجدر بأيِّ شابٍ أن يتميَّز بها إن استطاع. شخصيته إذًا كاملة.»
يتعلق الموضوع الأساسي في الفصول الافتتاحية لرواية «كبرياء وتحامل» بشخصية دارسي صديق بينجلي. يقول الراوي في الفصل الرابع إن الرجلين كانا صديقين «على الرغم من تناقض شخصيتيهما.»
أما شخصية دارسي فتتكشَّف للقُرَّاء من خلال ثلاث طرائق أساسية كما هو معهود في روايات القرن التاسع عشر. الطريقة الأولى هي وصف الراوي له. يشهد الفصل الثالث من الرواية إقامة الحفل الراقص، ويقول الراوي: «سرعان ما جذب السيد دارسي انتباه كلٍّ من كان في القاعة، بفضل رقي مظهره، وطول قامته، ووسامة ملامحه، ونبل طلَّته، فضلًا عن المعلومة التي انتشرت في غضون خمس دقائق فقط من دخوله عن دَخْله الذي يصل إلى عشرة آلاف في العام.»
وفي الطريقة الثانية يأتي الفعل. يرفض دارسي مراقصة أي فتاة ما عدا أختَيْ صديقه بينجلي بدافع من التأدب. ويقول الراوي إنه بذلك قد «تقرَّرت شخصيته. كان أكثر رجال العالم كِبرًا وأبغضهم على الإطلاق.» ويأتي هذا الفعل بعد ذلك الموقف الذي يبدو أنه حدَّد شخصية دارسي، المتمثل في ملاحظته المهينة بخصوص إليزابيث، كما لو كان لتأكيد هذا الحكم. يستمد الفعل أهميته من كونه أساس الحبكة. وكما قال أرسطو، فالحبكة هي الوسيلة التي نفهم بها الأفعال وآثارها. وقد جمعت الأفعال منذ زمن شكسبير على الأقل بين كونها السبيل لتقديم الحبكة، وتحديد الأحداث، وهذه الأحداث بدورها تعمل على إيضاح الشخصيات. ومثال ذلك ما فعله دارسي في حديثه المهين عن إليزابيث.
أما الطريقة الثالثة من طرائق تصوير الشخصية، فتتمثل في تعليقات الآخرين. وهكذا، في الفصل الخامس، تتحدث تشارلوت لوكاس صديقة إليزابيث عن دارسي قائلة إنه ما دام يمتلك الحَسَب والثروة «له «الحق» في أن يكون مغرورًا.»
أما أسلوب الكشف عن الحديث الداخلي للشخصيات، فقد كان في بداياته في وقت صدور رواية «كبرياء وتحامل» التي كُتِبَت في بداية القرن التاسع عشر، وصار بعد ذلك أسلوبًا أساسيًّا في أعمال فيرجينيا وولف في بدايات القرن العشرين. لا يُستَخدَم أسلوب الحديث الداخلي في هذه الرواية مع شخصية دارسي إلَّا فيما ندر، بينما يُسهِم بقوة في رسم شخصية إليزابيث؛ إذ ندرك نحن القراء لمحة من أفكارها الداخلية وهي تفكر كيف أن أختَيْ بينجلي «لا ينقصهما خِفَّة الظِّل حين تكونا مسرورتين.» إلَّا أن ثراءهما واعتيادهما الاختلاط بأشخاص رفيعي المستوى جعلاهما «مغرورتين … وخليقتين بالإعجاب بنفسيهما، واحتقار الآخرين.» وهكذا، بينما تنبهر تشارلوت بما تمنحه الثروة للمرء من أحَقيَّة الإحساس بالأفضلية، تتعامل إليزابيث مع الأمر بعين ناقدة.
وبذلك نجد أنفسنا في مقابلة بين الظل والجوهر كما هي الحال مع شكسبير. يتعامل دارسي وأختا بينجلي بغرور. فهل لهم حق في ذلك؟ هل أفعال دارسي الظاهرة تنبع من كبرياء داخلي له ما يبرِّره، أم من جوهر «شنيع» كما تؤكد السيدة بينيت؟
(٧-١) رواية التفسير الاجتماعي
وقد أبدعت جين أوستن في روايتها «كبرياء وتحامل» — قبل إدجار ألان بو بكثير — نمطًا قصصيًّا من هذا النوع في المجال الاجتماعي لا الجنائي. أما الحدث الغامض فيتعلق بشاب يبدو حسن النشأة، يقول شيئًا فظًّا عن امرأة شابة بصوت عالٍ بما يكفي لتسمعه. ترسم أوستن بعد ذلك سلسلة من النقاشات حول المسألة — وتمثل هذه النقاشات المرحلة الأولى في تصوير شخصية دارسي وفهمها — وحول التفسير الممكن لمثل هذه الفظاظة.
فقط من خلال النقاش بين شخصيات الرواية، إلى جانب تتابع مزيد من الأحداث، يمكن فهم سر سلوك دارسي الفظ، والأكيد أن هذا التفسير الذي ينكشف بالتدريج يشكل أساس التفاهم المتنامي بين إليزابيث ودارسي. وهكذا، بينما يشعر المرء في أي قصة بوليسية جنائية بفضول يجري إشباعه تدريجيًّا، ويشعر أحيانًا بالدهشة من ذكاء المحقق وفطنته، فإن القارئ في رواية التحري الاجتماعي لأوستن، مع استيعابه التدريجي لشخصية دارسي، يشعر بقدر معين من الاحترام والحب تجاهه، وينمو شعوره هذا بالطريقة نفسها التي ينمو بها حب إليزابيث لدارسي تقريبًا.
والنقطة الأعمق هي أن شخصيات الآخرين، بل حتى شخصياتنا نحن أيضًا، تكون دومًا غير معروفة تمام المعرفة. ووجود بعض أنواع الأعمال الأدبية التي تشتمل على شخصية أو شخصيتين مجهولتين لا تنكشف هوياتهم إلَّا عن طريق شخصية المحقق يُعَد مجازًا للوضع الذي نحياه طوال حياتنا. وهنا تتفوق أوستن على كُتَّاب القصص البوليسية بوضعها هذه المسألة في مكانها الصحيح، في سياق العالَم الذي نتعرف فيه على الآخرين وعلى أنفسنا.
لا تطلب منا أوستن أن نشعر بما تشعر به إليزابيث تجاه دارسي؛ إذ تقترحه أوستن دون أن تقوله، بأسلوب «الدفاني» (الذي بيَّنته في الفصل الثالث). إنها تقدم لنا عالمًا — عالمًا من الأحلام صار عمره الآن ٢٠٠ عام — وتدعونا لتخيل أنفسنا داخل الحوارات الدائرة حول دارسي، والحوارات المتبادلة بين إليزابيث ودارسي لاحقًا في الكتاب. وكما قالت فيرجينيا وولف: «هكذا تكون جين أوستن ربة لمشاعر من نوع أعمق بكثير مما يظهر على السطح. فهي تحفزنا لملء الفراغات … التي تتسع في عقل القارئ» (ص١٤٨).