المشاعر
(١) داخل العقل
إذا شاهدت فيلم «البارجة بوتيمكين» لمخرجه سيرجي أيزنشتاين حول تمرد بحارة البارجة بوتيمكين عام ١٩٠٥ أو تأملت بعضًا من تسلسل لقطاته (والتي سأصف إحداها بعد قليل) فسوف تتكون لديك لمحة شائقة عن الطريقة التي تنبني بها المشاعر التي يثيرها القَصص الخيالي داخل العقل. قدم أيزنشتاين فيلمه عام ١٩٢٥ ليكون فيلمًا وطنيًّا سياسيًّا يخاطب به جمهورًا سوفييتيًّا، ولكنه صنعه كذلك ليستكشف الأثر الذي تحدثه تجاورات لقطات الأفلام بعضها مع البعض.
يبدأ الفيلم ببحارة البارجة ينهضون من شبكات نومهم. وبعد ذلك ترى جانبًا من ذبيحة معلَّقًا، من الواضح أنه من أجل إطعام البحارة، ويظهر جليًّا للجميع أن اللحم متعفن، ويبدأ البحارة في التذمر، فيُستدعى طبيب السفينة.
- (١)
لقطة جماعية: جانب من اللحم على يسار الشاشة بينما يحتل منتصف الشاشة ويمينها صف من أوجه البحارة المتجهمة نوعًا ما، وهي تشيح بأنظارها عن اللحم (ثانية واحدة).
- (٢)
لقطة جماعية: يظهر الطبيب على يسار الشاشة وهو يفحص اللحم ويخلع نظارته الطبية بينما يتابع بحار في الجانب الأيمن ما يفعل (أربع ثوانٍ).
- (٣)
لقطة مقرَّبَة: تطوي يدا الطبيب نظَّارته الطبية؛ ليصنع من عدستيها عدسة مكبرة واحدة (ثانيتان).
- (٤)
لقطة مقرَّبَة جدًّا: تظهر عين الطبيب من خلال العدستين اللتين طواهما لصنع عدسة واحدة مكبرة (ثانيتان).
- (٥)
لقطة مقرَّبَة: يد الطبيب تمسك بنظارته المطوية (العدسة المكبرة) فوق اللحم الذي تظهر عليه دون مساعدة العدسة المكبرة عشرات اليرقات الكبيرة وهي تزحف (ثانيتان؛ الصورة الثابتة الواردة في بداية هذا الفصل مأخوذة من هذه اللقطة).
على الرغم من أن هذه هي الأفلام، فالحركات الرئيسية لا تحدث على الشاشة وإنما في المساحات بين اللقطات؛ داخل عقل الجمهور.
إن موضع النقاش الأساسي هنا لا يتعلق بتسلسل الأحداث، وإنما بتدفق مشاعر المشاهدين. وبأخذ هذا في الاعتبار، لننظر بإيجاز في ثلاث لحظات من تطور لغة الفيلم.
استُخدمت في أوائل الأفلام كاميرا ثابتة سجَّلت تحركات الممثلين، وكأن الكاميرا مثبَّتة أمام مسرحية تُعرَض على خشبة مسرح. وجاء أول تطور ممَيَّز في صناعة الأفلام عندما بدأ تركيب المشهد من مجموعة مختلفة من اللقطات، وهو الأسلوب الذي استُخدِم في فيلم «سرقة القطار الكبرى» عام ١٩٠٣، ويعتبر علامة فارقة. يستغرق الفيلم ١٢ دقيقة، ويتكون من لقطات مسجَّلَة في أوقات مختلفة ومُركَّبَة معًا. وقد صنعه إدوين بورتر الذي يُنسَب إليه في العموم الفضل في اختراع تحرير الأفلام. يشتمل هذا التحرير (المونتاج) اليوم على انتقاء أيٍّ من اللقطات سيضمها الفيلم من بين مجموعة من اللقطات؛ يزيد عددها أضعافًا على عدد اللقطات التي تظهر في الفيلم النهائي. ويشمل التحرير كذلك تنظيم هذه اللقطات بالترتيب. وهكذا يصبح الفيلم بالوظيفتين اللتين حددهما رومان جيكوبس وهما الاختيار والتركيب. اللقطة الثانية من فيلم «سرقة القطار الكُبرى» (والتي جاوزت مدتها الدقيقة بقليل) هي لقطة خارجية لقطار أثناء توقفه عند برج مياه، والتزود ببعض الماء منه، ثم أثناء تحرك القطار مرة أخرى، تصعد عصابة من اللصوص على متنه. اللقطة التالية لعربة الأمتعة بالقطار من الداخل، وفيها يطلق اللصوص النار على الحارس ويقتلونه. يتلقى المشاهدون هاتين اللقطتين في تسلسل حكائي، ولا يخطر ببالهم أنهما مأخوذتان في أوقات مختلفة، كما لا يخطر ببالهم أن المنظر الداخلي لعربة الأمتعة ليس جزءًا من قطار، ولكن موقع تصوير أفلام. ما حدث من الناحية العاطفية هو تصوير حادث صادم، وإطلاق النار، وتعاطف الجمهور العميق تجاوبًا معه.
غير أن لغة الأفلام عندما يتعلمها صُنَّاع الأفلام ومشاهدوها تتيح صنع تسلسلات من اللقطات، تكون العلاقات بين الصور فيها هي تحديدًا ما تتطلبه عملية سَبك سوزيت الفيلم (أو بنية خطابه)؛ فتوضَع الكاميرا في المكان المناسب بالضبط وتكون في اللحظة المناسبة بالضبط لتسجيل كل حدث مهم في الحبكة، ولتوحي بتدفق معين من المشاعر. وهكذا، ومع بدء فيلم «البارجة بوتيمكين» نرى لمحة من حياة البحارة على السفينة، ونبدأ في الشعور بشيء من التعاطف معهم. وبعد ذلك، وفي التسلسل التالي من اللقطات الذي يتواصل لمدة إحدى عشرة ثانية وينتهي بلقطة اليرقات على اللحم، تتصاعد الشفقة بداخلنا، ونشعر نحن المشاهدين بالاشمئزاز من أجل أنفسنا ومن أجل محنة البحارة.
(٢) نظرة اشمئزاز
من المقبول بوجه عام أن أحلام القصص الخيالية تتعلق بالمشاعر. بل قد يمكن القول إن أغلبها يتعلق بالمشاعر؛ فلماذا تحتل المشاعر هذه الأهمية المحورية؟
حينما نشاهد فيلمًا، أو نتفاعل حقًّا مع أي قصة خيالية، نعيش تدفُّقًا من الشعور المتعلِّق بالأحداث؛ فنحن مَن نجمع تلك الأحداث معًا ونبني منها شيئًا له معنًى لدينا، ثم نحس بالمشاعر الناتجة عن ذلك.
(٣) المشاركة الوجدانية والتماهي
المشاركة الوجدانية — مشاركة شخص آخر في المشاعر — عامل حيوي في التفاعل الاجتماعي. وعلى الرغم من أن عُمْر المصطلح مائة عام فقط، فإن آدم سميث ضمَّن سماته (منذ ٢٥٠ عامًا) في كلمة أخرى أكثر رحابةً في مدلولاتها هي «التعاطف» الذي رأى أنه العنصر اللاحم الذي يضمن تماسك المجتمع.
وقد وصف ألفين جولدمان سبيلين لحدوث المشاركة الوجدانية. أولاهما ببساطة هي التعرف على تعبير شعوري، وهي السبيل التي يصفها بأنها تتضمن مستوى منخفضًا من قراءة العقل؛ أي أن ينسب المرء شعورًا معينًا للشخص الذي أظهر تعبيرًا. ويعتمد التعرف كما يقول على القدرة على الإحساس بالشعور المقابل (محاكاته) داخل المرء نفسه (كما يحدث في الانعكاس).
وبأسلوب آخر فإن قراءة العقل تعرض علينا مباشرةً خبرات من نوع يرتبط بتفاعلاتنا مع الآخرين، وليس بمكونات حركات عضلات الوجه.
ويقول جولدمان إنه حينما لا يرى المرء أو يسمع تعبير شخص عن مشاعره مباشرةً، فإنه يلجأ إلى سبيل آخر للمشاركة الوجدانية، يُطلق عليه جولدمان قراءة العقل الراقية: المشاركة الوجدانية التخيلية. وهي عملية تتكون من جزأين. في الجزء الأول منهما نستدل من خلال المحاكاة داخل أنفسنا على الشعور الذي يحس به الشخص الآخر ونعزو له هذا الشعور. أما الجزء الثاني الذي يحدث في الوقت نفسه فيتلخصُّ في أننا بسبب المحاكاة؛ نحس بشعور مشابه في أنفسنا، بطريقة تتيح التوافق الاجتماعي. ويمكن أن تتأسس قراءة العقل التخيلية هذه على مجموعة متنوعة من المعلومات حول الآخر. ويمكن أن تحدث في لحظة التفاعل نفسها، أو على المدى الأطول مع تكوين النماذج العقلية عن الأشخاص الذين نعرفهم.
(٤) خبرة الشعور في القصص الخيالية
(٤-١) مشاعر التماهي
ها هو التعديل: في عملية قراءة العقل التشاركية الوجدانية اليومية، نرى ما يشعر به الآخر أو نتخيله، وفي الوقت نفسه يمكن أن نشعر نحن أنفسنا بشعور مشابه، وفي القصص الخيالي، تكون الخطوة الأولى هي أن نُنَحي أهدافنا وخططنا الخاصة جانبًا، وأن نستبدل بها أهداف الشخصية وخططها وأفعالها (كما يُبيِّنها المؤلف) داخل معالِج التخطيط لدينا. أما في الخطوة الثانية فنبدأ في الإحساس بمشاعر جديدة في ظل الأهداف والخطط التي تبنيناها، وفي إطار الظروف التي تفرضها أفعال الشخصية وآثار تلك الأفعال.
وقد أجرى توم تراباسو وجينيفر تشونج تجربة تُبيِّن كيفية حدوث هذا النوع من التماهي؛ إذ طلبا من ٢٠ شخصًا مشاهدة فيلمين هما «فيرتيجو» لألفريد هيتشكوك و«بليد رانر» لريدلي سكوت، وقَسَّماهم عشوائيًّا إلى مجموعتين. خلال التجربة أوقِف كل فيلم ١٢ مرة أثناء عرضه، وفي كل مرة يُوقَف فيها الفيلم يُسأل المشاهدون في المجموعة التي تشاهده إلى أي مدًى تسير الأحداث لمصلحة بطل الفيلم أو خصمه. وكان الهدف من ذلك تحديد مدى إدراك المشاهدين لنجاح خطط البطل وخطط خصمه وفشلها. (وقد اتَّفَقَت تقويمات المشاهدين مع تحليلات القائمين على التجربة لأفعال الشخصيات وآثارها أثناء مشاهدة الفيلمين.) أما في المجموعة الثانية فقد طُلِب من المشاهدين في كل مرة أوقِف فيها الفيلم الذي يشاهدونه تحديد المشاعر التي شعروا بها ودرجة حدَّتِها. ووُجد أنه عند سير الأحداث في صالح البطل أو ضد خصمه (حسب تقويم المشاهدين في المجموعة الأولى) كان المشاهدون في المجموعة الثانية يشعرون بمشاعر إيجابية كالبهجة أو الارتياح، في حين أنه عند سير الأحداث عكس مصلحة البطل أو في صالح خصمه (حسب تقويم المشاهدين في المجموعة الأولى) كان المشاهدون في المجموعة الثانية يشعرون بمشاعرٍ سلبية كالحزن أو الغضب أو القلق.
غير أن ما توصل إليه تراباسو وتشونج هو مجرَّد أساسيات. فنتائج تجربتهما دليل على الصلة الوثيقة بين القصص الخيالية والألعاب؛ لأنها تنطبق على مشاهدة الألعاب الرياضية كذلك، فعندما نتعامل مع قصة خيالية أو مباراة رياضية بهذه الطريقة، فإننا نشعر ببعض التشويق والمتعة، وبعض السعادة عند نجاح بطل القصة أو فوز فريقنا، وببعض الحزن والقلق عند نجاح الخصم أو الفريق المنافس. أما الفن الأدبي فلا يسبق هذا الأثر في المعتاد. على العكس من ذلك، فإن الأدب يُفصِّله. في فيلم «فيرتيجو» على سبيل المثال — وهو أحد فيلمَي تجربة تراباسو وتشونج — يلعب دورَ البطل — سكوتي — الممثل جيمس ستيوارت أحد صنائع منظومة صناعة النجوم في هوليوود. والسبب في اختياره لتأدية هذا الدور هو شعبيته، ولأنه يواجه بعض المصاعب في بداية الفيلم، ويسهل التماهي معه. كان سكوتي محقِّقًا، وأحيل إلى التقاعد المبكر؛ لأنه كان مشارِكًا في حادثٍ أليم، سقط جراءه أحد زملائه من مكان مرتفع لاقيًا حتفه، ويعاني سكوتي الآن من خوفٍ مرَضي من المرتفعات. بعد ذلك يطلب منه أحد زملاء دراسته الجامعية أن يُراقب زوجته مادلين التي صارت تتصرف بأسلوب غريب، وهو يعتقد أن روح إحدى قريباتها المتوفيات قد مسَّتها. وهكذا قد يبدو أن الفيلم هدفه مجرد التسلية داخل قالب من الغموض.
لكن «فيرتيجو» ليس مجرد فيلم للتسلية، ولكنه عمل فنيٌّ في رأيي. مع تصاعد الأحداث نكتشف بعض السمات المريبة في شخصية سكوتي على غير المعتاد في أبطال أفلام التسلية. يصير مهووسًا بمادلين، ثم يبدأ في التصرف بأسلوب قسري، بل ويصبح منفِّرًا. وهكذا، كلما تماهينا مع سكوتي وتبنَّينا أهدافه وخططه وأفعاله نجد أنفسنا نتصرف في خيالنا بأساليب تتنافى مع ما اعتدنا عليه. فهل يمكن أن نصبح نحن أنفسنا مهووسين بشركاء حياة أصدقائنا، وأن نتصرف بقسوة؟ بما أننا ما زلنا نتماهى مع شخصية سكوتي فالإجابة هي نعم، في خيالنا.
من الوارد أن نجد أنفسنا في كل فيلم من أفلام الحركة تقريبًا، وفي العديد من القصص الخيالية نمر بمشاعر تماهٍ نصبح معها انتقاميين على سبيل المثال نيابةً عن البطل الذي أوذِيَ في الفيلم، ولهذا، نعم، نحن قادرون على مثل هذه المشاعر المدمرة. أحد الفروقات بين فيلم التسلية والعمل الفني — من وجهة نظري — هو أننا نشعر مع أي فيلم حركة بسيط بالغضب، وتنتهي القصة بإشباع رغبتنا في الانتقام، ونحن هنا نكون قد طبَّقنا مخططًا ذهنيًّا لعادةٍ لا تختلف كثيرًا عن عادة ارتداء ملابسنا كل صباح. أما في الفن، فعلى العكس من ذلك، يتغير فهمنا لذاتنا، مثل أن نكتشف في أنفسنا احتمالات كامنة معينة قد لا نعترف بها لأنفسنا في المعتاد، وقد نظن أنها موجودة فقط لدى الآخرين، فنكتشف أننا نحن أيضًا باعتبارنا أفرادًا من العائلة البشرية قادرون، ولو على مستوى عقولنا فقط، على مشاعر غير محمودة للغاية.
وإليكم موجزًا لكيفية حدوث ذلك، كما أراه. يُستغرَق القارئ من خلال عملية شعورية أوليَّة للغاية في خطط البطل ودروبه. وهذا تحديدًا هو ما يُحرك الحبكة في الغالب، ولعلَّه ما يدفعنا لتقليب الصفحات، أو يبقينا في مقاعدنا في دور السينما أو المسارح، وقد يكون هذا ممتعًا. أما في الفن فنحس بالشعور، ويتسرب إلينا معه إمكانية شيء آخر أيضًا. يمكن أن يتغيَّر أسلوب رؤيتنا للعالم، بل يمكن أن نتغير نحن أنفسنا. فالفن ليس مجرد جولة على مشاغل وانحيازات قائمة بالفعل من خلال مخطط ذهني يُطبَّق كالمعتاد، بل إنه يتيح لنا تجربة مجموعة من المشاعر في إطار سياقاتٍ لا نصادفها عادةً، والتفكير في أنفسنا بطرق غريبة علينا.
(٤-٢) مشاعر التعاطف
وهكذا، بالإضافة إلى التماهي، يستطيع المرء أن يحس بشعورٍ يرتبط بنمط تقويمي معين عن طريق التعاطف. ويُفهم التعاطف في الاستخدام الحديث بمعزل عن المشاركة الوجدانية (تشاطر الشعور مع شخص آخر)، ويُقصد به عادةً أن يشعر المرء بشخصٍ آخر في ورطته. والفكرة هنا تتَلخَّص في أننا نفهم الأحداث (الورطات) التي تسببت في المشاعر من أسلوب تصوير الكاتب لطريقة حدوثها للشخصية، فنتعرف على نوع الورطة ونحس بمشاعر تعاطفية مع الشخصية.
وكما بيَّنْت في الفصل الرابع، من السهل التعاطف مع الأشخاص الذين لا نعرفهم عندما يواجهون مآزق. في قصة كيت شوبان «حلم ساعة»، لا نعرف السيدة مالارد بادئ ذي بدء، ولكننا نعلم من العبارات الأولى في القصة أنها تعاني من مشكلة صحية في القلب، وأنها تُبلَّغ بأخبار وفاة زوجها، ولهذا يكون من السهل التعاطف معها.
أفضل وصف أعرفه للمشاعر التعاطفية التي يوَلِّدها القصص الخيالي، هو قول إد تان عن الأفلام أنها تبدو كآلات صُنعت خصيصى لتحفزنا على الإحساس بالمشاعر: مشاعر رقيقة في قصص الحب، ومشاعر خوف في أفلام الإثارة، وغضب في أفلام الحركة، وهكذا. ويرى تان أن هذه المشاعر مشاعر مشاهدة، والسبب في شعورنا بها أن صُنَّاع الأفلام يكسوننا أولًا بعباءة الإخفاء، ثم يأخذوننا على نحو يشبه السحر لمشاهدة مشهد ذي مضامين شعورية، وبعده مشهد آخر، وبعده آخر، فنصير كالمسافرين عبر الزمن أثناء سفرهم لزمان آخر، فنستطيع مشاهدة ما يجري، ولكن لا يكون بمقدورنا التأثير فيه بأي طريقة كانت، ونُقَيِّم مجموعة الأحداث التي تؤدي مثلًا للوقوع في الحب أو النزاع أو إلى أذى يتطلب الانتقام، ونستمتع بمتابعة ما سوف يحدث.
تتكون هذه العملية وفقًا لهذا المفهوم من جزأين: أحدهما هو إقامة المؤلفين أو صُنَّاع الأفلام أحداثًا (ورطات) من شأنها إثارة مشاعر الشخصيات، والثاني عندما نُقوِّم نحن القُرَّاء وأفراد الجمهور هذه الأحداث، ونتعرف على المشاعر التي من شأنها إثارتها. ولأننا نشهد كل ذلك، تكون مشاعرنا مشاعر مشاهدة. وقد شرح لي نيكو فريدا (وهو صاحب نظرية المشاعر التي يبني عليها تان عمله) الفكرة كما يلي. أتذكر ونحن جالسون في مطعم في بيتسبيرج على ارتفاع شاهق، نتطلَّع إلى حركة المرور بالأسفل، حين قال لي: «تخيَّل وجود حادث سيارة.» «أنت مأخوذ بالحادث، وقلق في الوقت نفسه على ركاب السيارة. لكنك لا تشعر وكأنك في السيارة، ولا تشعر بما كان يمكن أن تشعر به لو كان أطفالك هم الموجودون داخلها.»
في نظرية المشاعر التعاطفية، ينبع استمتاعنا بقصة خيالية من دخولنا عالمًا سرديًّا نشعر فيه بأناس يعانون من أحداث معينة، ولكننا في نفس الوقت نكون محصنين من الآثار السيئة لتلك الأحداث على أنفسنا أو على من نحب. ومع متابعتنا لسير القصة، نُشبِع رغبتنا في معرفة الخاتمة السردية. وهكذا عند قراءة قصة «حلم ساعة» يجذب انتباهنا أولًا وفاة زوج السيدة مالارد؛ إذ ندرك أن خبر الوفاة سوف يُحزِن السيدة مالارد، وهو ما يحدث بالفعل. ثم نتابع القراءة لأننا بسبب طبيعتنا الاجتماعية نهتم بما يحدث للناس عامةً، ومع ما يُحدثه الموت خاصةً من خرق لنسيج الحياة اليومية، نشعر بالرغبة في معرفة كيف يؤثر هذا الحدث المثير للمشاعر على الأشخاص المعنيين به. وهكذا يتولد لدينا بفضل المشاعر التعاطفية اهتمام بالشخصية ومصيرها.
إن أعظم نفعٍ ندين به للفنان، سواء أكان رسامًا أم شاعرًا أم روائيًّا، هو بَسْط مشاعر التعاطف لدينا. تستلزم الالتماسات القائمة على التعميمات والإحصاءات تعاطفًا جاهزا سلفًا، وحسًّا أخلاقيًّا نشطًا بالفعل؛ لكن صورة للحياة الإنسانية كالتي يمكن أن يقدمها فنان عظيم تُفاجِئ حتى التافهين والأنانيين، وتجذب انتباههم بعيدًا عن ذواتهم، وهذا ما يجوز أن نسميه المادة الخام للحس الأخلاقي … الفن هو أقرب شيء للحياة؛ فهو أسلوب لتعظيم الخبرة ومدِّ صِلَتنا بإخوتنا من البشر خارج نطاق مصائرنا الشخصية. (ص١٩٢-١٩٣)
(٤-٣) المشاعر الأدبية
تُعَد مشاعر التماهي والتعاطف مشاعر جديدة، وتحدث نتيجة أحداث القصة. ولكن غالبًا أيضًا ما يثير القَصص الخيالي داخلنا مشاعر مبعثها ذكريات حيواتنا.
يقول المنظِّرون الهنود إن الممثل في أي مسرحية يؤدي مشاعر معينة باللفتات أو نبرة الصوت، وما إلى ذلك، وعندئذٍ يُستَحَث «الراسا» في نفوس الجمهور. والفكرة هنا هي نفسها التي ناقشناها فيما يتعلق بالتعاطف؛ إذ تُقَدِّم القصة أو المسرحية أنماطًا تقويميَّة تحدد أنواعًا معينة من المشاعر. وقد افترض المنظِّرون الهنود وجود تسعة مشاعر يومية وأدبية — «بافا» و«راسا» — أساسية هي كالآتي:
بافا | راسا |
---|---|
المتعة الجنسية | الغرامي أو المثير جنسيًّا |
الضحك | الكوميدي |
الحزن | المثير للشَّفقة أو التراجيدي |
الغضب | الثائر |
الإصرار | البطولي |
الخوف | المريع |
الاشمئزاز أو خيبة الأمل | البغيض أو البشع |
الدهشة | المبْهر |
السكينة | المسالِم |
اعتبر هؤلاء المنظِّرون أن كل عمل من أعمال الفن الأدبي ينبغي أن يركز على «راسا» واحد، وأن تُبنى حبكته على سلسلة من أنماط التقويم المتمحورة حول هذا الشعور. أما في الغرب فإن الفكرة المماثلة لذلك هي الأنواع الأدبية: قصص الحب، والكوميديا، والتراجيديا، وهكذا. وحتى حينما تُبنى الحبكات على أساس «راسا» واحد، فإنها تمر عادةً بتسلسلات من الحالات الشعورية الأخرى، إلى جانب المراحل الانتقالية مثل التوجس والحيرة.
تكمن أهمية الأنواع الأدبية القائمة على المشاعر في نظرية «الراسا» في أن كل شعور أدبي ينشأ عنه مجموعة معينة من المضامين، والتلميحات المحتمَلة؛ أي «الدفاني». وهكذا، على سبيل المثال، في قصة حب (مبنية على الراسا الغرامي)، يمكن أن يسأل الواحد في مشهد يجمع بين شخصين كلٌّ منهما منجذبٌ إلى الآخر: «هل لديك كل ما تحتاجه؟» ويمكن أن يحتمل هذا السؤال دلالات قد يحتملها في قصة قائمة على الراسا البطولي.
يختلف «الراسا» عن الشعور اليومي في أن إدراكنا له قد يكون أعمق، أو كما عبَّر المنظِّرون الهنود، فإن فهمنا لمشاعرنا اليومية غالبًا ما يُحجَب عنا؛ لأن أعيننا مغطاة بطبقةٍ سميكة من الأنانية وحب الذات. ومن الأسباب الأخرى التي يسوقها المنظِّرون الهنود في أولوية «الراسا» على المشاعر اليومية أنه قادر على استحضار ذكريات من نطاق عريض من الحيوات السابقة إلى وعينا. وقد يفهم الغربيون العصريون هذا بمعنى أننا نحس في القصص الخيالية بمشاعر نتذكرها من خبراتنا الشخصية السابقة، ونتشاركها مع بقية البشر، انطلاقًا من وعينا بقرابتنا الارتقائية النشوئية وكذلك الثقافية. يمكن أيضًا استحضار مجموعة كبيرة من الذكريات إلى قصة خيالية بمشاهدة العديد من المسرحيات وقراءة العديد من الروايات.
الشعور المتذَكَّر … لا يبقى استنساخيًّا محضًا؛ فما يبدأ شعورًا متذَكَّرًا قد يتحول إلى شعورٍ جديد؛ فإما أن يتغير الشعور الأصلي، أو أن تتضح القيود التي كانت محيطة به بطريقة معينة تجعل شعورًا جديدًا يُولَد مكانها. وقد أثبتنا في العديد من الدراسات السابقة قوة المشاعر التغييرية، وتحديدًا بإظهار كيف تُحفِّز المشاعر الجمالية — مثل لحظات التغريب مقابل الإبراز — عملية بحث تحركه المشاعر عن تأويلات بديلة تُشكِّل — بدورها — الفهم اللاحق للشعور. (ص٢٢٩)
كتب مِيول عام ٢٠٠٨ فصلًا أشار فيه إلى أن «الراسا» له طابع أبدي؛ كما لو كان دومًا شعورًا إنسانيًّا. وإذا أمكن لي أن أعدل نظرية «الراسا» في ضوء اقتراحه، أقول إن الكُتاب والفنانين يقدمون لنا أنماط تقويم لمشاعر معينة، ونستحضر نحن — مدفوعين بالتغريب — أنفسنا وخبراتنا السابقة إلى هذه الأنماط، ونشجع أنفسنا فعليًّا على استشعار المشاعر الأدبية في خيالنا. وهكذا نعيش الشعور المستحضَر ضمن سياق جديد، فيزداد شعورنا به، ومن ثَمَّ يمكن أن نركز على النص أو الذكرى أو الطابع الأبدي للشعور بطريقة من شأنها أخذنا خارج أنفسنا. ولعلَّ التحرك بين مثل تلك الحالات هو ما يُمكِّننا من تغيير فهمنا للشعور في النص الذي نقرؤه وفي أنفسنا.
أكَّد منظِّرو «الراسا» أهمية إدخال الحس التربوي على الفن الأدبي، كما أكَّدوا خصائصه التربوية ذات الطابع الأخلاقي. إذ رأوا أن الفن ليس محاكاة للحياة بل أن الحياة المنظمة أخلاقيًّا هي ما يجب أن تحاكي الفن جيد البنية. وبوسعنا أن نضيف إلى فكرة «الراسا» ما اقترحه مِيول وكويكن من أننا نستخدم المشاعر الأدبية التي يثيرها النص داخلنا، في إطار مشاعر تغيير الذات، لاستكشاف احتمالات تعزيز الأساليب الجديدة لفهم تلك المشاعر داخلنا وتغييرها. بل ويمكن أن يحدث الاستمتاع حتى في أنواع أدبية كالتراجيديا من الفهم والبناء للإحساس بالآخرين والاستجابة لهم.
ويحمل كتاب كونستانتين ستانيسلافسكي المعَنْوَن «استعداد ممثل» أفكارًا مشابهة لذلك، يرويها ستانيسلافسكي إذ تخيل نفسه عندما كان في بداية تدريبه في مهنة التمثيل، يحْضُر دروسًا مع مخرج معروف هو — في الكتاب — ستانيسلافسكي نفسه بعد ٤٠ عامًا في دوره مديرًا لفرقة مسرح موسكو للفنون. يلحظ المدير أن أداء الممثلين في بداية التحضيرات لمسرحية جديدة يتميز بالحماس مع اكتشاف الممثلين، وهم مصدومون، الأوضاع التي توجد فيها شخصياتهم في المسرحية. ولكن مع تواصل التدريبات يصبح الأداء واهنًا، ويعكس بالكاد سلوك الشخصيات. وهنا يصوغ ستانيسلافسكي توصيته الشهيرة بأن يستحضر الممثلون من حيواتهم ذكريات لمشاعر شبيهة بمشاعر شخصيات المسرحية، وأن يستعينوا بتلك المشاعر بوصفها مادة خامًا لأدائهم.
من الأفكار الأخرى المتوافقة مع فكرة «الراسا» فكرة طرحها مارسِل بروست، يقول فيها إننا نادرًا ما نندمج في خبراتنا اندماجًا كاملًا؛ إذ قد تمر هذه الخبرات سراعًا، أو قد لا نتدبرها ببساطة. ورأى بروست أنه من النادر الربط بين الخبرة ومعناها. ولكن عند حدوث ذلك — عن طريق ربط نمط الذِّكرى بمعناها مثلًا — فمن الوارد أن يخلق هذا الربط فهمًا بالغ الأثر. ويسوق بروست مثاله الشهير لهذا المعنى في فقرة في الجزء الأول من روايته «البحث عن الزمن المفقود» الذي يحمل عنوان «من جهة سوان»، وفيها يعود مارسِل — الراوي — الشاب إلى بيته ذات يوم وتقنعه والدته أن يجلس معها ويحتسي شاي الأعشاب مع كعك المادلين:
جَلَسْتُ يطبق على أنفاسي يومي المحبط، واحتمال أن يكون اليوم التالي بائسًا كسابقه، وتحرَّكَت يدي حركة آلية رافعة إلى شفتَيَّ ملعقة من الشاي كنت قد بللت فيها قطعة من كعك المادلين. وفي اللحظة التي لمس فيها الشراب ممزوجًا بالكعك باطن فمي ارتعدتُ متنبِّهًا لتغير غير عادي يطرأ عليَّ. داخلتني فجأة بهجة شهية لا علاقة لها بأيٍّ مما حولي، دون أن أملك أدنى فكرة عن سببها. جَعَلَت من فورها تقلُّبات الحياة بلا أهمية، ومصائبها آمنة، واقتضابها وهميًّا، بنفس الأسلوب الذي يغمرني فيه الحب بروحٍ غالية، بل لم تكن هذه الروح بداخلي، لقد تلبَّسَتني فصارت هي أنا. لم أعد أشعر بتواضع شأني أو أن مصيري إلى الفناء أو أن حياتي تسير تحت رحمة الظروف. فمن أين هبطت عليَّ هذه السعادة الغامرة؟ (ص٤٤)
… فور أن تنغمر في الماء تتخذ أشكالًا ملونة يختلف بعضها عن بعض، فمنها ما يصير أزهارًا أو منازل أو أشخاصًا وتكون جميعًا واضحة ومميزة. ومثلها، بدأت الآن جميع الأزهار التي كانت في حديقتنا وأزهار متنزه سوان وأهل القرية الطيبون وبيوتهم الصغيرة والكنيسة وكومبراي كلها بأحيائها؛ تنبثق جميعًا بأشكالها وصلابتها من فنجان الشاي بيدي. (ص٤٧)
استدعى مذاق الشاي في فم مارسِل الشاب أثناء جلوسه مع والدته بعد يوم مملٍّ لحظةً من الماضي، ومعها بذرة معنًى صار الآن بمقدوره ربطه بطفولته، وأصبح كذلك أساس روايته. كان ذلك هو سر سعادته.
ترتبط هذه الفكرة كذلك بمناقشتي في الفصل الثالث لفكرة كيتس عن الشعر باعتباره «أشبه بذكرى» تتحدَّث عن إمكانية استشعار معنًى عميق عندما يقدم الكاتب كلماتٍ (لطبقة اللغة في العقل) يتخذها القارئ وكأنها كلماته الخاصة؛ لأنها تتَّفقُ تمامًا مع انطباع حسي لديه أو فهم معين (في طبقة البداهة والحدس في العقل).
إن الخطوة الأولى في استمتاعنا بالقصص الخيالية حسب نظرية «الراسا» للمشاعر الأدبية، تنبع أولًا من إدراكنا لأنماط من المشاعر التي سبق أن عشناها بأنفسنا (سواء في الواقع أو الأدب) في سياق جديد. بعد ذلك نُسقِط أنفسنا على ذلك السياق في خيالنا، ونعيش تلك المشاعر من جديد بأسلوب يتيح لنا فهمها فهمًا أعمق، بل وربما نغير شيئًا في أنفسنا أثناء ذلك.
(٤-٤) المشاعر المعاشة مجددًا
إذا كنت قرأت «حلم ساعة» لكيت شوبان، وكتبت على الهوامش الحروف «ذ» و«ش» و«ف» (كما اقترحت في الفصل الثالث) فمن الوارد أن تكون قد استرجعت ذكرى (ذ) عندما قرأت عن تطلُّع السيدة مالارد من نافذتها وهي تقول «حرة.» ولعلَّك استرجعت حينها ذكرى أسررت فيها لنفسك بكلماتٍ معينة، مصحوبة بشعور بالارتياح متعلِّق بموقف ما. ولعلك عندما قرأت القصة وجدت نفسك تعيش من جديد لمحة من شعور تلك الذكرى.
وقد بنى توماس شيف على هذه الفكرة، وافترض أننا في الحياة العادية لا نعيش مشاعرنا دائمًا؛ لأنها تحدث أحيانًا على مسافة جمالية غير مناسبة، فتكون أحيانًا بالِغة القرب مثل مشاعر الحزن لوفاةِ عزيزٍ أو غيرها من أنواع الفقدان أو مشاعر الخزي التي نعجز عن الاعتراف بها لأنفسنا أو لغيرنا، أو ربما مشاعر الإحباط أو الكره المتعلِّقة بأشياء ليس بيدنا حيلة في أمرها. وتوصف هذه المشاعر بأنها «دون المسافة الملائمة». ولذا، نتذكر بعض ملامح الأحداث التي أدَّت إليها، ولكن بطريقة لا تسمح باستيعاب المشاعر المرتبطة بها استيعابًا كاملًا في سيرة حياتنا أو في فهمنا لأنفسنا. وتعَد المشاعر الهائلة المصنَّفة «دون المسافة الملائمة» على طرف مقياس المشاعر المعاشة مجددًا من بين أعراض اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة، حين تنقلب الحيوات كاملة رأسًا على عقب بسبب المشاركة في الحرب على سبيل المثال، أو شهود كارثة مدنية، أو التعرض لاعتداء إجرامي أو للاغتصاب. إذ يعاني المصابون بهذا الاضطراب من استرجاع لقطات من الماضي وكوابيس، ولكنهم يعجزون عن سرد الأحداث سردًا مترابطًا.
ومن الطرق الأخرى التي تحول دون استيعاب الخبرات الشعورية تمام الاستيعاب كبْتُها بالكامل. توصف حينها المشاعر بأنها «فوق المسافة الملائمة». وتظهر آثار هذا النوع من المشاعر على سبيل المثال عندما يتعرض الشخص لجرح موجع في علاقة سابقة، فيتعهد بألَّا يتعرض لمثل هذا الجرح مرة ثانية أبدًا. وعادةً ما يتمكن الشخص من تحقيق هدفه هذا بالانعزال التام عن كل أنواع العلاقات، ومن ثم عن أغلب المشاعر. والوارد أنك تعرف مثل هذه الشخصية في حياتك، وغالبًا ما تبدو منعزلة وغير متجاوبة وباردة.
طبقًا لنظرية المشاعر المعاشة مجددًا، فإن سر الاستمتاع بأي قصة خيالية هو ميزتها الاستشفائية، ويعتمد الاستشفاء على التقدم في إحساسنا بأنفسنا، وبقدرتنا على أن نعيش مشاعر كانت إشكالية من وجهة نظرنا. يقول شيف إن خبرتنا بالمشاعر أثناء قراءة قصة خيالية أو مشاهدتها، هي بمنزلة عيش تلك المشاعر من ماضينا مرة أخرى من مسافة جمالية أفضل. كما يقول شيف إننا حين نبكي مصير روميو وجولييت إنما نعيش مجددًا، في الواقع، حالةَ فقدٍ شخصيةً لم نتمكن من تقَبُّلِها حتى تلك اللحظة. ولعلَّ استشعارنا الحزن في المسرحية يسمح لنا بأخذ خطوة واحدة صغيرة في طريق استيعاب خسارتنا.
(٤-٥) خاتمة حول استثارة المشاعر
(٥) في رِحاب المجاز
أما على مستوى الفقرات ولقطات الأفلام، فإذا تأملنا مرَّة أخرى «السونيت ٢٧» لشكسبير (التي ناقشناها في الفصل الأول) واعتبرنا أن الأبيات الثمانية الأولى (الأوكتاف أو الثُّمانيَّة التي ينطلق فيها الشاعر في رحلة عقلية إلى محبوبته) والأبيات الستة الأخيرة (السِّستِت أو السُّداسيَّة التي يتخيَّل فيها الشاعر حال محبوبته في تلك اللحظة)؛ فقرتين منفصلتَين، فإن تجاورهما ينتج عنه ظاهرة مؤثرة في السونيت، يتداخل فيها الشك والغيرة مع الاشتياق، وهو تجاور يتسبب في قلق الشاعر وسُهادِهِ. أما في تسلسل اللقطات في فيلم «البارجة بوتيمكين» فتتجاور لقطة الطبيب؛ وهو يطوي نظارته ليصنع منها عدسة مكبرة مع منظر عينه من خلال العدستين المطويتين، مع لقطة اليرقات. العدسة المكبرة لا لزوم لها. هي محاولة للتعتيم والسؤال المحير شعوريًّا هنا هو: ماذا أيضًا مما هو بادٍ للعيان في المجتمع الروسي عام ١٩٠٥ يجري تعتيمه؟
يستصعب الأمريكيون البيض، مثل البيض في كل مكان، التخلي عن فكرة أنهم يمتلكون قيمة متأصِّلة يحتاج إليها السود أو يريدونها. وينكشف هذا الافتراض … بمختلف الطرق الصادمة، بدءًا من تأكيد بوبي كينيدي أن شخصًا أسود يمكن أن يصبح رئيسًا خلال أربعين سنةً، وصولًا إلى النبرة المؤسفة لتلك التهنئة الدافئة التي يخاطب بها الكثير من الليبراليين نظراءهم السود. الأسود بالطبع هو الذي صار مساويًا. (ص١٠٢)
والتجاور هنا بين مخطط الأغلبية البيضاء ومخطط الأقلية السوداء.
وفي فيلم «البارجة بوتيمكين» يتجاور مشهد اليرقات مع المشهد التالي الذي تعود فيه البارجة إلى الميناء حيث يبدأ التمرد. وهذا يوضح أن المجاورة ليست فقط بين التفاصيل، بل إنها يمكن أن تُوظَّف في طرح أسئلة شعورية لها دلالتها.
يستعين الكاتب أو صانع الأفلام أثناء عملية الإبداع، بقدر من التعمد، على مجموعة الأصداء والارتباطات الداخلية الخاصة به، ويستكشف طرقًا للتعبير عن تلك الأصداء والارتباطات في صورٍ ومشاهدَ حقيقية يمكن أن تتجاور بحيث تُحدِث صدًى لدى القراء أو الجماهير.
(٦) الاستكشاف والإسقاط
من أقوى الأفكار السديدة التي أنتجتها النظرية الرومانسية في الفن، التي بدأت مع كُتَّاب مثل كولريدج، فكرة طرحها لأول مرَّة روبين كولينجوود في كتابه «مبادئ الفن» حين قال إن الفن «هو» استكشاف المشاعر.
يعي في البداية أنه يشعر بشيءٍ ما، ولكنه لا يعي تحديدًا ماهية هذا الشعور. كل ما يعيه هو ارتباك أو إثارة تعتمل بداخله، لكنه يجهل طبيعتها. وبينما هو على هذه الحال فكل ما يستطيع قوله عن شعوره هو «أشعر … لا أعرف بمَ أشعر.» ينتشل نفسه من هذه الحالة العاجزة المثقَّلة بعمل ما نُسمِّيه التعبير عن نفسه. وهذا نشاط له صلة بما نُطلِق عليه اللغة؛ إذ يُعبِّر عن نفسه بالحديث، وله صِلَة بالوعي أيضًا؛ إذ إن الشعور الذي يُعبَّر عنه هو شعور لم يعد صاحبه جاهلًا بطبيعته. (ص١٠٩-١١٠)
هذا هو الفنان، الذي يستكشف عن طريق التعبير عن شعوره بلغة ما — قد يكون قوامها الكلمات أو الرسم أو الموسيقى — المعنى المحتمَل لهذا الشعور الذي يعتمل بنفسه أو يحركها، ولكنه غير مفهوم بعدُ.
إذا كانت اللغة التي يُعبر بها الفنان عن نفسه هي لغة الكلمات، فإن ما يفعله القارئ يتمثل في استقبال هذه الكلمات من خلال معالج اللغة داخل عقله، ويصنع ممرات تصل هذه الكلمات بطبقة الترابط والحدس في عقله؛ ومن ثَمَّ يشارك في بعض هذه المشاعر، وفي استكشاف معانيها المعبَّر عنها بلغة ما.
تتعلق فكرة كولينجوود بالفنان. وهو يعير القارئ أو المشاهد اهتمامًا أقل، ولكن بوسعنا إتمام هذه الجزئية إذا أخذنا في الاعتبار الأفكار المتعلِّقة بالخيال واستثارة المشاعر التي ناقشتها منذ قليل. إذ يتلخص ما يفعله القارئ أو المشاهد في إسقاط المعاني على العمل الفني، ولكن ليس أية معاني، بل إنه يتخيَّر من مجموعة المعاني التي يوحي بها العمل.
وفيما يلي توضيح لكيفية حدوث هذه العملية، من خلال فيلم رسوم متحركة أعدَّه فريتس هايدر وماري-آن سيمل، وناقشا آثاره على المشاهدين في ورقة بحثية نُشرت عام ١٩٤٤. لم يضم الفيلم سوى مثلث، ومثلث آخر أصغر بعض الشيء، ودائرة صغيرة، وخمسة خطوط مستقيمة تُكوِّن معًا شكل صندوق له باب متأرجح؛ يتحرك المثلثان والدائرة في أرجاء الشاشة، مع دخول الصندوق والخروج منه. وعند سؤال المشاهد عمَّا يراه، بدأ في التحدث عن تحركات المثلثين والدائرة، ولكن لم يسعْه بعد ذلك إلَّا أن يرى هذه الإشارات الظاهرة على الشاشة، وكأنها أفعال تقوم بها شخصيات لها نيات معينة، كتحركاتٍ معبِّرَة عن مطاردة، وشخصيات تدخل المنزل أو الغرفة وتخرج منها.
وقد أكدنا في تجربة أولى ما توصَّل إليه هايدر وسيمل؛ إذ استخدم المشاركون في البداية أفعالًا غير شخصية مثل «يتحرك» لوصف ما كان يحدث، وما يتوقعون حدوثه فيما بعدُ. بعد مرور ٥٠ ثانية من أحداث الفيلم أصبحت ثلاثة أرباع الأفعال التي استخدمها المشاركون أفعالًا تعبِّر عن مقاصد شخصية (مثل «يهرب»)، أو مقاصد تفاعلية بين الأشخاص (مثل «يطارد»)، أو حالات عقلية (مثل «يحب»). وكان أحد أهدافنا من الفيلم هو إضفاء الغموض عليه بثلاث طُرقٍ مختلفة، وفي تجربة ثانية أعطينا ثلاث مجموعات مختلفة من المشاهدين ثلاثة عناوين مختلفة للفيلم نفسه. ووصف المشاهدون الذين قيل لهم إن عنوان الفيلم هو «صاحب المنزل» قصة عملية سطو؛ إذ يقوم المثلث الصغير بإلهاء المثلث الكبير الذي خرج من منزله بينما دخلت الدائرة إلى المنزل لسرقة شيء ثمين. أما المشاهدون الذين قيل لهم إن عنوان الفيلم هو «الأم القلقة» فاعتبروا أن المثلث الكبير يُمَثِّل أُمًّا تحاول منع طفلها (الدائرة) من الخروج للعب مع المثلث الصغير. بينما رأى المشاهدون الذين قيل لهم إن عنوان الفيلم هو «العاشق الغيور» أن المثلث الكبير يمثل شخصًا يرى محبوبته (الدائرة) مارَّة مع حبيب جديد (المثلث الصغير) ويحاول إبقاء حبيبته في المنزل، ولكنها تهرب مع الحبيب الجديد.
وقد ضمَّ فيلم الرسوم المتحركة عمليتَي الانتقاء (من المثلثين والدائرة والخطوط المستقيمة)، والتوليف (الحركات الارتباطية للمثلثين الكبير والصغير والدائرة، وترتيب الخطوط المستقيمة لتبدو كما لو كانت سياجًا). أما الأفعال — من سرقة أو هروب أو فرار مع الحبيب — فكانت موحًى بها، ولكنها جُسِّدت بالفعل داخل عقول المشاهدين. وقد استخدم المشاهدون لحكي قصة ما رأوه في الفيلم كلمات تُعبر عن المشاعر؛ الغضب عند سرقة شيء ما، أو القلق على طفل، أو غيرة العاشق. ومع اللقطات الختامية للفيلم عند هروب المثلث الصغير والدائرة، ظهر المثلث الكبير وهو يضرب جدران المنزل ويحطمها في يأس.
[كان] ظهور … «الإحساس» بمعناه الأشمل، أو الوعي … أزمةً في التاريخ الطبيعي، تساوي في ضخامتها ظهور الحياة نفسها جراء عمليات فيزيائية كيميائية. وربما لم تكن الأزمة «أزمة» بالمعنى المعتاد المتعلق بوقوع حدثٍ واحد مدمِّر بقدر أو آخر، ولكنها كانت عملية ممتدة شاسعة الأثر تستغرق دهورًا لتتطوَّر. غير أنها أثناء تطورها هذا نشأت معها «الحياة» بمعناها غير المادي؛ «الحياة» باعتبارها عالمًا للقيمة. فالقيمة لا تكون إلا حيث يكون الوعي، وحيثما ينعَدِمُ الإحساس، فلا يوجد ما يهم. (ص١٦٥)