كتابة القصص الخيالية
(١) الكتابة في العصور الأولى
عاش أول كُتَّاب القصص الخيالية في التاريخ على الأرجح في سومر في بلاد الرافدين منذ ما يقرب من ٥٠٠٠ عام. كانوا كتبة، وكانت مهامهم المعتادة هي تسجيل مذكرات التجارة كتابةً، إلى جانب نشر القوانين التي يسنها الحُكَّام. وكانوا يستخدمون الخط المسماري في الكتابة، وهو عبارة عن علامات مثلثة تُكْتَب باستخدام عصًا مدبَّبة على ألواح مغطاة بالشمع لم يبقَ منها شيء، وكذلك على ألواح طينية كانت تُجفَّف بعد ذلك في الأفران، وقد تبَقَّى بعض تلك الألواح. ولا بد أن أحد هؤلاء الكتبة أو بعضهم بدءوا في مرحلة ما في تدوين بعض القصص التي كان الناس يتناقلونها شفهيًّا.
نرى هنا كيف يعترف الكاتب بأسلوب ساحر بوجود قُرَّائه ومُستمعيه. وينقل لنا أندرو جورج صاحب الترجمة الإنجليزية البديعة النص بهذه الطريقة: يقول الكاتب: «تأمَّلوا أسوار المدينة، واصعدوا هذا الدرج، واقتربوا من المعبد.» ومن المحتمل أن مدينة أوروك كانت قائمة في زمان المستمعين الأوائل للملحمة، ولكن حتى هؤلاء، ومع تكشُّف المزيد من القصة بعد كلمات قليلة، لا سبيل لديهم لتنفيذ ما يقوله الرَّاوي فعليًّا خلال الفترة الزمنية المستغرَقة في قراءة الدعوة أو الاستماع إليها: «اصعدوا الدرج، واقتربوا من المعبد، وتسلقوا الأسوار، وافحصوا قواعدها، وعاينوا قرميدها.» ولكن تظل هذه الأداة الأدبية فعَّالة حتى مع القراء والمستمعين في العصور اللاحقة؛ حيث نبدأ من خلالها في إقامة لمحات للمدينة. إن هذا الأسلوب الذي يصعد بعقولنا الدرج والأسوار أسلوب جميل، ويقيم علاقة بين الشخص الذي يروي القصة والشخص الذي سيقيمها في خياله.
(٢) أربع أدوات للقَصص الخيالي
كيف يكتب المرء قصة خيالية؟ أول شيء، كما قالت أورسولا لوجين في مقابلة لها في تورونتو، هو أنك يجب أن تكون قرأت كتابًا واحدًا على الأقل، وهذا يعني أنك لا بد أن تمتلك ما يشبه النموذج العقليَّ لنوع العمل الذي ترغب في كتابته. ويستغرق أغلب الكُتَّاب فترةً من التفكير فيما قد يكتبونه. يحتضن بعضهم الفكرة ويُنمِّيها لسنوات. ويفكِّر بعضهم فيها في محطة الحافلات. ويدوِّن بعضهم ملاحظات. وقد وضَّح جورج سيمنو في مقابلة لمجلة باريس ريفيو كيف أنه قَبْل الشروع في كتابة أي رواية من سلسلة روايات المفتش ميجْرِيه، كان يكتب ملاحظات على ظَهْر أحد الأظرُف حول شخصيات القصة وعلاقاتهم الأسَرية.
لا يقتصر الأمر عند كتابة القصص الخيالية على أن يحلم المرء بفكرة الكتاب أو القصة؛ فهذا يعرِّض الفكرة لأن تظل غامضة. فينبغي على المرء الاستفاضة في سرد تفاصيلها وشخصياتها، وعليه التفكير في كيفية تقديم هذه التفاصيل والشخصيات لغيره بما يمكنهم من بناء نُسْختهم من الحلم.
أحد الأساليب أن نبدأ بمقال توم وولف «الصحافة الجديدة» الذي افترض فيه أن الجوانب المشوِّقة في الصحافة الحديثة مأخوذة من القصص الخيالية. يقول: «بدأ الصحفيون في اكتشاف الأدوات التي أكسبت الرواية الواقعية تأثيرها الفريد الذي تختلف تسميته ما بين «الحضور»، أو «الواقعية الملموسة»، أو «الاستغراق الشعوري»، أو «الطبيعة الأخَّاذة» أو «الطبيعة الاستيعابية».» ولكن ما هي هذه الأدوات، وكيف استخدمها وولف في مقالته الواقعية «أناقة راديكالية» التي كتبها بمناسبة الدعوة التي وجهها المؤلف الموسيقي الشهير لينارد بيرنستاين — أحد المدافعين عن الحقوق المدنية — لأعضاء حزب الفهود السُّود (وهم جماعة تنتمي لحركة القوة السوداء التي نشطت في ستينيات القرن العشرين) في شقته الفاخرة في مانهاتن. إحدى هذه الأدوات كانت أن طلب وولف من القراء تخيُّل أنفسهم داخل عقل بيرنستاين؛ إذ يفكر «ماذا سيأكل الفهود السُّود يا تُرى في وجبة المقبِّلات؟» «هل يحب الفهود السود لُقَيمات الجبن الروكفور المغطاة بالمكسرات المجروشة بهذه الطريقة، ومعها أطراف الهِليون مع القليل من المايونيز؟» (ص٤١٣-٤١٤). وسيكون من ضيق الأفق أن يتبرم شخص ما بأنه لم يكن من المحتمل أن يعرف وولف ما كان يدور برأس بيرنستاين. كان وولف يكتب صحافة واضحة، وكانت الأداة مأخوذة مباشرة من القصص الخيالية.
كانت دومًا أقل ما يحظى بالفهم. وهي تعني تسجيل الإيماءات والعادات والسلوكيات والأعراف اليومية، وطراز الأثاث، والثياب، والديكورات، وأساليب التَّنَقُّل وتناول الطعام وإدارة المنزل، وأساليب التعامل مع الأطفال والخدم والأشخاص الأعلى والأدنى في المنزلة والأقران، علاوة على مختلَف النظرات واللمحات والوضعيات وأساليب المشي، وغيرها من التفاصيل الرمزية التي قد يضمها أي مشهد. رمزية لأي شيء؟ رمزية في العموم لممارسة الناس لمكانتهم بالمعنى الأعَمِّ لهذا التعبير، شاملًا مجمل نمط السلوك والممتلكات الذي يعبر من خلاله الناس عن وضعهم في العالم أو رؤيتهم لهذا الوضع أو ما يأملون أن يكون عليه. (ص٤٧)
ما يتحدَّث وولف عنه هنا — في ظني — هو مجموعة المؤشرات السلوكية للشخصية أو ظِلِّها إن أردنا استخدام التعبير الشكسبيري.
(٢-١) الأداة الأولى: البناء مشهدًا مشهدًا
بالمخالفة لبعض الروايات الإنجليزية في القرن الثامن عشر التي أخذت شكل المذكرات أو التواريخ، واحتوت على فقرات وصلٍ طويلة، استخدمت جين أوستن أسلوب تسلسل المشاهد في روايتها «كبرياء وتحامل» كثيرًا بقدر ما كان يمكن أن يوصي به وولف. وإليكم توضيحًا لكيفية تطبيق هذه الأداة على الفصول الخمسة الأولى من الرواية. يضم الفصل الأول، بين فقرتيه الافتتاحية والختامية الموجزتين على لسان الراوي، مشهدَ محاورة السيد بينيت وزوجه في منزلهما. وفي الفصل الثاني، يدور المشهد في منزل آل بينيت أيضًا بعد بضعة أيام، ويشارك فيه السيد بينيت وزوجه وبناته. وفي بداية الفصل الثالث، تقفز أوستن إلى الماضي المحكي من اعتذار بينجلي عن تلبية دعوة آل بينيت إيَّاه إلى العشاء، ولكنها تصِف مشهدًا مميزًا آخر بعد صفحة واحدة: قاعة الاحتفالات في ميريتون حيث يُقام الحفل الراقص الذي طال انتظاره. أما الصفحة الأخيرة من الفصل الثالث فتُقدِّم مشهدًا جديدًا: سيدات آل بينيت في البيت بعد الرقص، وهُنَّ يقْصُصن على السيد بينيت أحداث الأمسية، ثم يتغير المشهد في الفصل الرابع إلى حديث حميمي بين جين بينيت وإليزابيث بينيت، يليه ثلاث فقرات من ملحوظات الراوي لردود الأفعال إزاء رقص بينجلي، وأختيه، وصديقه دارسي. أما المشهد في الفصل الخامس فيُصوِّر سيدات آل بينيت في زيارة لمنزل أصدقائهم آل لوكاس في الجوار.
يتيح البناء مشهدًا مشهدًا، في الروايات أو المسرحيات أو الأفلام، على نطاقٍ واسعٍ النوع نفسه من التأثيرات التي أحدثها أسلوب تسلسل اللقطات في المثال الذي بدأتُ به الفصل الخامس من فيلم «البارجة بوتيمكين»؛ أي إنه يسمح بحدوث التجاور. يتيح تجاور مشهدي الفصلين الأول والثاني من رواية «كبرياء وتحامل» أن يأتي رفض السيد بينيت زيارة السيد بينجلي الذي وصل مؤخرًا إلى المنطقة متبوعًا بعدها مباشرة بإخبار القارئ أنه يزوره بالفعل. ثم يتيح تجاور الفصلين الثاني والثالث أن يأتي تحمُّس سيدات آل بينيت وتطلعهم للقاء السيد بينجلي وجماعته متبوعًا بمشهد اللقاء، وإرضاء التحمُّس بما أبداه بينجلي من اهتمام بجين، وسحق متعة إليزابيث بسبب رفض دارسي المخزي لها. أما التجاور بين الفصلين الثالث والرابع فهو بين مشهد الرقص نفسه ثم آثاره على جين، بينما يُظهِر التجاور بين الفصلين الرابع والخامس التباين بين الآثار السَّارَّة للحفل على جين وآثاره المهينة على إليزابيث.
(٢-٢) الأداة الثانية: الحوار
كان الحوار سائدًا من قبل أن يبدأ تدوين القصص. وربما يكون الحوار هو أبرز جوانب القصص الخيالية، وحلقة الوصل بين ما فيه من تخيُّلات وبين العوالم اليومية التي نحيا فيها. تضم «ملحمة جلجامش» غير بعيد من بدايتها حوارًا بين شمخات — إحدى خادمات معبد الإلهة عشتار — وإنكيدو الذي تُمكِّنه شمخات من نفسها طوال ستة أيام وسبع ليالٍ، فتحوله هذه الخبرة من رجل متوحش إلى إنسان متحضر، مع الأخذ في الاعتبار أن «متحضر» في هذا المقام تعني أنه يصبح قادرًا على العيش في المدينة. ثم تدعوه شمخات لمصاحبتها إلى أوروك حيث يقابل جلجامش فيما بعدُ.
يقول وولف في مناقشته لأدوات القَصص الخيالي الأربع التي يرى أنها أساسية لإضفاء الحيوية على الكتابة إن ما يُسمِّيه هو «الحوار الطبيعي» له أهمية حاسمة.
وفي «ملحمة جلجامش» تتسم المحادثة التي تدور بين شمخات وإنكيدو بالتعاونية. يتبادلان الأدوار؛ فهي تقدم دعوة، وهو يرد بقبولها.
تتسم المحادثات اليومية في المعتاد بهذه السمة التعاونية؛ فهي تميل لاتباع قواعد تضمن التفاهم المتبادل. وقد صاغ بول جرايس هذه القواعد، وأصبحت تُعرَف باسم مبادئ جرايس: كُنْ صادقًا، قدِّم معلومات كافية، تحدَّث في صُلب الموضوع، كُنْ واضحًا. ولا بد إن أراد المتَحدِّثان أن تؤتي محادثتهما ثمارها أن يتعاونا بهذه الطرق. ينبغي أن يرغب كلٌّ منهما أن يفهمه الطرف الآخر، وأن يفهم هو الطرف الآخر. يؤكِّد وولف أن من واجب الكاتب أن يجعل الحوار واقعيًّا، ويقول إنه من أجل كتابة مقاله «أناقة راديكالية» ذهب إلى حفل بيرنستاين بدفتر ملاحظاته، ودوَّن كل ما استطاع تدوينه، وأن مقاله يتضمن هذه الكتابات.
إن أهم ما أدركْته من قراءتي لستاين هو أن الأفضل في القصص الخيالية ألَّا يكون الحوار واقعيًّا. يوضح ستاين أنك إذا كتبت في رواية أو مسرحيةٍ محادثةً تعاونية على غرار ما يحدث في الحياة الواقعية فلن يقرأها أحد. ويقول إنه يجب ألا يكون تبادل الحوار في المحادثات في القصص الخيالية مباشرًا، بل ينبغي أن تكون ردود فعل كل شخصية على ما تقوله الشخصية الأخرى غير مباشرة، وربما يجب أن تكون مضادة أو حتى متناقضة.
إذًا، نستطيع اعتبار الحوار الأدبي وكأنه سلسلة من نقلات الأحصنة في الشطرنج؛ إذ لا تكون نقلاتها مستقيمة، ولكن وثبات منحرفة الاتجاه.
يتسم الحوار في الحياة العادية بالتعاون، إما من أجل تحقيق الغرض الاجتماعي المتعلِّق بالحفاظ على العلاقات، أو الغرض العملي المتعلِّق بإنجاز مهمة ما تتطلَّب زيادةً في الاتفاق حول المهام المطلوبة، أو كيفية إنجاز تلك المهام. أما الحوار الأدبي، على العكس من ذلك، فله غرضان مختلفان تمام الاختلاف.
الغرض الأول للحوار الأدبي هو تعزيز الحَبكة. في رواية «كبرياء وتحامل» على سبيل المثال ينعكس هذا الغرض في الخط الدرامي المتعلِّق بخُطط السيدة بينيت لتزويج بناتها. تخبر السيدة بينيت زوجها بوصول السيد بينجلي، وتحاول إقناعه بزيارته لبدء علاقة معه. ونستخدم نحن القُرَّاء هذه المعطيات لإقامة محاكاتنا الخاصة لهذه الرواية: السيد بينجلي ثري وملائم؛ أي إنه يمكن أن يكون ملكية مناسبة لإحدى بنات آل بينيت.
أما الغرض الثاني للحوار الأدبي، فيتمثَّل في عرض العبارات الحوارية في تسلسل يفهم القارئ من خلاله شخصيات المتحدثين. ونظرًا لأن التعاون بين المتحدثين من شأنه تشويش تصوير الشخصيات، فإنه يُفَضَّل ألا تتفق الشخصيات الخيالية حينما تتبادل الحديث. إن مفتاح شخصية السيدة بينيت هو انشغالها بتزويج بناتها زيجات مَصْلحة، أما مفتاح شخصية السيد بينيت فهو أنه تزوج زوجه لجمالها، ولكنه الآن منزعج بسبب ما تتسم به من «فهم متدنٍّ، ومعرفة محدودة، وتقلُّب مزاجي». أقصى ما يستطيع فعله وهو في صحبتها أن يغيظها. وتعتمد درجة اختلاف نيات المتحدثين على مهارة ينبغي على الكاتب العمل عليها بحيث يقدم حوارًا يُصَوِّر ما ينويه كل منهما، والحركات الواثبة الشبيهة بوثبات الحصان على لوحة الحوار الاجتماعي هي ما يعزِّز ذلك.
وبينما يحافظ الأشخاص في الحياة العادية على علاقاتهم بعضهم مع بعض، يجب على الكاتب (أو الراوي أو الشخصية) في الأدب الإبداعي الحفاظ على علاقته مع القارئ. في الحياة العادية لا يُظهِر الناس شخصياتهم أثناء المحادثة إلا لِمامًا، والأرجح أن ذلك يكون عن غير قصد. فهم مشغولون بأن يكونوا متعاونين. أما في القصص الخيالي، بدءًا من شكسبير، فقد أصبح الهدف من تصوير الشخصيات وإظهار اختلافاتها مهمًّا للغاية. تتبايَن الشخصيات في القصص الخيالية من حيث أهدافها وخططها وانشغالاتها و… شخصياتها. ومن خلال فكرة الشخصية، يبدو كُتَّاب الأدب قادرين على إقامة علاقات وثيقة مع قُرَّائهم.
(٢-٣) الأداة الثالثة: وجهة النظر
المنظور الأول هو وجهة نظر المتكلِّم؛ حيث يصير الكاتب شخصية وراوِيًا في القصة في الوقت نفسه، ويستخدم الضمير «أنا»، وهنا يفهم القارئ الأحداث من داخل عقل الراوي. ومثال ذلك رواية بروست «البحث عن الزمن المفقود».
أما المنظور الثاني فيُسمَّى وجهة نظر العليم الغائب، وتستخدم أوستن هذا المنظور في روايتها «كبرياء وتحامل». وفيه يُستَخدَم الضميران «هو» و«هي» عند تصوير أقوال الشخصيات وأفعالهم، وأحيانًا أفكارهم، لكن المؤلف-الراوي يعلم أكثر مما تعلم أي شخصية أخرى؛ ولذا، ربما نعرف نحن القراء، بطريقة مباشرةً على ما يبدو، أفكار العديد من الشخصيات؛ ومن ثم يُعَد هذا المنظور منظورًا عُلويًّا بحق.
ويُسمَّى المنظور الثالث والأخير وجهة نظر الغائب الحقيقي، وفيه يستخدِم الكاتب الضميرين «هو» و«هي»، ولكنه لا يُصوِّر إلا ما يُمكِن ملاحظته وإدراكه من منظور شخصيةٍ واحدة. وهو الأسلوب الذي تبنَّاه هنري جيمس. وتميل فكرة وولف في جعل المشاهد حيوية إلى تبَنِّي هذا المنظور.
(٢-٤) الأداة الرابعة: ممارسة المكانة
يقول وولف إن ممارسة المكانة هي الأسلوب الأقل حظًّا من الفهم في القصص الخيالية والصحافة. وهو يعطي قائمة طويلة (واردة فيما سبق) بالوسائل التي يعكس الناس من خلالها ممارستهم لمكانتهم. ولا شك أن المكانة قد قُتِلَت بحثًا في كلٍّ من علم النفس وعلم الاجتماع، إلا أن مفهوم ممارسة المكانة يتجاوز مجرد المكانة. ولعلَّ أفضل ترجمة لفكرة وولف في العلوم الاجتماعية موجودة في كتاب إيرفينج جوفمان «تقديم الذات في الحياة اليومية». كذلك يُعَد مقال جيمس بولدوين «عند الصليب: خطاب من مكان ما في عقلي» (الذي نقلت منه بعض الأسطر في الفصل الخامس) من الأمثلة الرائعة لهذا المفهوم.
نجد في هاتين الفقرتين نموذجًا مثاليًّا للحوار القصصي: قولًا، وعجزًا عن الرد. كما أنهما تمثلان رصدًا مثاليًّا لممارسة المكانة. يستخدم تشيخوف هنا أسلوب المجاز كما استخدمه أيزنشتاين في سلسلة اللقطات من فيلم «البارجة بوتيمكين» التي ناقشتها في بداية الفصل الخامس. والمجاز هنا مزدوج؛ إذ تجاوَرَت تعاسة آنا في أحد المجازَيْن مع تقطيع جوموف شريحة الشمام لنفسه؛ أي إن الشخصية هنا قد حددت الحدث، بتعبير هنري جيمس. أما المجاز الثاني، فيتمثَّل في اللمحة البسيطة التي تُؤكَل فيها شريحة الشمام باعتبارها صورة مجازية يُعبِّر فيها الجزء عن الكل؛ إذ تشير إلى ممارسة جوموف لمكانته وإلى شخصيته. فقد ضاجع لتوِّه امرأةً يميل إليها، وكانا متقاربَيْن، وقضى منها وطره، وربما يكون الآن في حالة من الرضا التالي للجِماع. وهو كذلك ليس متعجلًا، بل كان يشعر أن علاقته الغرامية اللطيفة ستستمر، فيلتفت إلى شيء آخر يحقق له الرضا، ولكن هذا الشيء الذي يلتفت إليه تافه، ويفيد الإشارة إلى ضجره بالحياة.
تدعونا الفجوة بين الفقرتين إلى التفكير: «ما الذي يجري هنا؟» وهو ما لا يرِد شرحه على الورق، ولكننا نحن القراء من نقف موقف المتسائل عمَّا يجري بين هاتين الفقرتين، بين هاتين الشخصيتين، ونفكر فيما قد يحدث بينهما بعد ذلك.
تنصح كتب تعليم الكُتَّاب أن يعطيَ الكاتب شخصياته صفة جسمانية مميزة أو غريبة. يساعد هذا — حسبما توصي به الكتب — على جعل الشخصية مميزة ولا تُنسى؛ وهو ما يؤتي ثماره الطيبة أحيانًا كما في تصوير روبرت لويس ستيفنسون في رواية «جزيرة الكنز» لشخصية لونج جون سيلفر بساقٍ واحدة مع ببغاء يقف على كتفه أغلب الوقت. كذلك كان أسلوب توم وولف أكثر مباشرةً في المقطع القصير الذي اقتبستُه من تشخيصه للمؤلف الموسيقي لينارد بيرنستاين (داخل عقل بيرنستاين) في مقال «أناقة راديكالية»؛ إذ كان تركيزه منصبًّا على التهكُّم، ولكنه يظل مؤثرًا. ولكن يستطيع المرء في بعض القصص الخيالية ملاحظة أن الكُتَّاب قد بذلوا مجهودًا في التفكير، وتوصَّلوا في النهاية إلى صفة مفرِطة بعض الشيء في غرابتها. أعتقد أن النموذج يجب أن يكون شبيهًا بنموذج تشيخوف.
(٣) الخبرة
حلَّت نظرية الخبرة في علم نفس الكتابة الإبداعية محل نظرية الإلهام إلى حدٍّ بعيد. إن امتلاك الخبرة يعني البراعة في شيء ما، وقد وُجِد أن باستطاعتنا جميعًا أن نكون بارعين إذا تخيَّرنا المجال الذي سنركز عليه في ضوء ما نعرفه عن قدراتنا واهتماماتنا. والأكيد أن علينا تكريس الكثير من الوقت عند التركيز على أي شيء — كالطبخ أو تربية الأبناء أو فهم الأفلام أو كتابة الروايات — بهدف إجادته، بل والتميز فيه حتى يتعجب الناس قائلين: «لا أدري كيف يتمكن من فعل ذلك.»
(٣-١) الدراسات المعملية للكتابة
لنَقُل إنها تسمح لي (١٠) — باستخدام (١١) — لا — تسمح لي — اشطب هذا. أفضل ما فيها أنها تسمح لي باستخدام (١٢) — عقلي وأفكاري بطريقة مفيدة (١٣). (ص١١٠٩)
في مرحلة التخطيط … يُكوِّن الكاتب أفكارًا وينظمها في إطار خطةٍ للكتابة. وفي مرحلة توليد الجُمَل، يصوغ الكاتب عباراتٍ تقليدية مقصودًا أن تكون جزءًا من مسوَّدة. وفي مرحلة المراجعة يحاول تنقيح المسوَّدة. (ص١١٠٧)
ويتضمن النموذج فكرة أن للكتابة هدفًا هو حلُّ مسألةٍ غير محددة المعالم، كأن نقول: «ما الذي أحاول فعله في هذه القطعة؟» ومع مواصلة الكتابة تتغير الخطة المتعلِّقة بكيفية حل هذه المسألة، وأحيانًا يكون التغيير جذريًّا. ويكتشف الكاتب الأهداف الفرعية والأساليب غير المتوقعة مسبقًا ويتعامل معها. إنها عملية تُجرَّب لمعالجة العديد من القيود، تشتمل على تطويع المعرفة القائمة عن الموضوع، وتضمين الأبحاث، وتوفيق الكتابة والمفردات، واستيعاب مجريات العالم، والذكريات (ذكريات الأحداث والمبادئ والأشخاص)، وحل المشكلات البلاغية المتعلقة بجذب القارئ.
(٣-٢) الخبرة والذاكرة
من الدراسات المبكرة لموضوع الخبرة، التي تساعدنا في فهم أهميتها دراسة أدريان دو جروت التي قارن فيها بين مجموعة من أساتذة لعبة الشطرنج (مثله هو شخصيًّا) ومجموعة من المبتدئين نسبيًّا. وضع دو جروت في إحدى دراساته ٢٠ قطعة شطرنج على الرقعة من مباراة سابقة، وجعل اللاعبين ينظرون إلى وضع القطع على الرُّقعة لمدة خمس ثوانٍ، وكان يزيل القطع بسرعة بعض انتهاء المدة ويطلب من اللاعبين إعادة وضعها في أماكنها، وهو ما تمكَّن الأساتذة من فعله مع خطأ واحد فقط على الأرجح. أما المبتدئون فلم يتمكنوا سوى من إعادة حوالي سبع قطع فقط إلى أماكنها. وتنعكس هذه النتيجة على المفهوم النفسي للذاكرة العاملة قصيرة المدى.
ولكن هل تعني تجربة دي جروت أن الذاكرة العاملة لأساتذة الشطرنج أوسع استيعابًا مقارنةً باللاعبين المبتدئين؟ لا، على الإطلاق. إن الذاكرة العاملة القصيرة المدى لأي شخص لا تسع إلا ما يقارب سبع وحدات، ولكن الفارق في التجربة كان أن الأساتذة قد تعلموا الكثير عن لعبة الشطرنج بحيث إنهم حين رأوا وضعية محددة للقطع من لعبةٍ ما تعرَّفوا على تشكيلٍ بعينه للقطع مثل تشكيل «الفيانشيتو في جهة الملك»، وهو جزء من افتتاحية تقليدية في لعبة الشطرنج تتمركز فيه ست من القطع في موقع محدد في الرقعة. ويُطلِق علماء النفس على هذا التجميع للوحدات اسم الحزمة. ويتعامل المبتدئون مع حِزَمٍ مكونة من قطع منفردة في مواقع منفردة، أما الأساتذة فحين ينظرون إلى وضع ٢٠ قطعة على لوحة الشطرنج يكون لديهم بالفعل مخطط للعبة في رءوسهم؛ ومن ثَمَّ يتذكَّرون أربعة تشكيلات أو خمسة — على هيئة حِزَمٍ — يكون لكلٍّ منها ترتيب وشكل معين؛ ولهذا السبب نفسه نجد أن أساتذة الشطرنج حين يُمنَحون خمس ثوانٍ لتأمل ٢٠ قطعة شطرنج في أوضاع عشوائية على رقعة الشطرنج لا يتميَّز أداؤهم عند إعادتها إلى الرقعة عن أداء اللاعبين المبتدئين.
الذاكرة الطويلة المدى مهمة كذلك للكُتَّاب؛ إذ يُمكِن اعتبار الكتب التي يكتبها كُتَّاب بارعون مثل إي إم فورستر في كتابه «أركان الرواية» وفرانك أوكونور في كتابه «الصوت المنفرد» بمثابة استخراج لبعض من ذاكرتهما طويلة المدى حول الكتابة. وقد أوضحت ليندا فلاور وزملاؤها كيف أن الكُتَّاب يستدعون ثلاثة أنواع من المعارف من ذاكرتهم طويلة المدى في كتاباتهم هي: معرفة الموضوع، ومعرفة المخطط، والمعرفة البنائية.
(الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٧٥٦)
•••
إذا ما عُدْنا إلى فكرة العقل الهجين لآندي كلارك، فسنرى — بادئ ذي بدء — أن الطبقة اللفظية في العقل تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الذاكرة العاملة قصيرة المدى أثناء عمليات القراءة والتفكير والكتابة التي تحدث لحظيًّا. وربما تضم الذاكرة العاملة طويلة المدى عملية تُنتَج فيها روابط ذات مدًى أطول بين الطبقتين اللفظية والحدسية. وقد تكون هذه هي العملية التي تُستَمَد منها المعرفة بالأسلوب، والمجازات، وتوليد العبارات الأدبية في الكتابة من أجل تفصيل حلم القصة. وتصاحب هذه العملية توليد الجمل باعتبارها تعليمات لفظية تتعلق بكيفية بدء الحلم والحفاظ عليه باستخدام بنية الأحداث، وبنية الخطاب، وبنية الإيحاء.
وهكذا فإن الكتابة السليمة ليست — كما يظن المبتدئون — عملية تفريغ للعقل؛ بمعنى تفريغ محتويات العقل على الورق، ولكنها تستلزم إمداد القراء بمجموعة من الإشارات ليتمكنوا من تأسيس حلم-محاكاة عالم القصة بشخصياتها وحوادثها، وإدارته. تستلزم هذه المحاكاة أيضًا استغراق القارئ وجدانيًّا. ولذلك فإن مهمة كاتب القصص الخيالية، كما وضَّحنا أنا وديفيد أولسون، هي تقديم هذه الإشارات حول محتوى المحادثات، وحول الأفكار التي تدور في عقول الشخصيات، وحول الملحوظات والأوصاف التي يقدِّمها الرَّاوي. وإذ تُستخدَم هذه الإشارات معًا، فإنها تُمكِّن القارئ من خلق الصور التخيلية المميَّزة للذوات ومشاريعها وتفاعلاتها. انظر مثلًا كيف تتعامل جين أوستن في نهاية الفقرة الأولى من الفصل الثالث من روايتها «كبرياء وتحامل» مع أفكار شخصياتها بعد الإعلان عن احتمال اصطحاب بينجلي رِفقَةً كبيرةً إلى الحفل الراقص القادم؛ إذ تقول «لا شيء يمكن أن يكون أكثر بهجةً من هذا! الولع بالرقص خطوة أكيدة على طريق الوقوع في الحب.» الجملتان تستخدمان الأسلوب الحر غير المباشر الذي كان حديث الظهور في زمن جين أوستن. ويمنح هذا الأسلوب إشارةً للقارئ ليتخيل نفسه داخل عقل فتيات آل بينيت في ترقُّبهم للحفل. ولأن هذه الأفكار لا تنسب لأي شخصية بعينها، فإنها تطفو حرَّة بطريقة حالمة. لذا يمكن اعتبارها مجرد أفكارٍ في عقل القارئ الذي يصبح بهذه الطريقة جزءًا أصيلًا من المشهد.
من فوائد إخراج القصة على الورق أن يتمكن الكاتب من قراءة ما كتبه، وأن الكتابة تقيم له الحلم وتستبقيه بأوجهه الشعورية. والأكيد أن الكاتب في هذه العملية يقوم بما يسميه بارت القراءة من وجهة نظر الكاتب.
(٤) ممارسة فلوبير للكتابة
يعود تاريخ القصص المكتوبة إلى أزمنة سحيقة، كما احتلت القصة أهمية محورية في الأديان الكبرى حول العالم، ولكن المذهل رغم ذلك أن أول نظرية تتناول صراحةً كيفية كتابة قصة خيالية نثرية لم تظهر إلَّا منذُ حوالي قرن ونصف القرن فقط. ويقول بيير-مارك دو بياسي إن هذه النظرية صاغها جوستاف فلوبير.
يرى الكثيرون أن رواية «مدام بوفاري» لفلوبير من أعظم الروايات في العالم، وأن قصته «قلب بسيط» من أعظم القصص القصيرة. وعلى الرغم من أن إنتاج فلوبير الأدبي لم يكن غزيرًا، فإنه حفظ متعمِّدًا ما يقرب من ثلاثين ألف صفحة من الملحوظات والمسوَّدات التي رأى أنها ستكشف للعالم عملية إبداعه المتقنة.
ويشرح دو بياسي أن هذه العملية تكوَّنَت من خمس مراحل.
المرحلة الأولى أتت فيها الخطة — أو فكرة في الواقع — التي كان من شأنها أن تتغير مع سير العملية. وكان فلوبير فَوْر أن تتوفَّر لديه الخطة يستغرق في أحلام اليقظة حولها. فكان يتخيَّل شخصياته وسماتهم النفسية. وكان يتخيَّل المشاهد الأساسية، ويختار المواقع، وربما أجرى بعض الأبحاث، كالقراءة وزيارة الأماكن وعقد اللقاءات. وبالرغم من أنه قد يكتب في هذه المرحلة بعض إشارات حول الفكرة، فإن كتابته لم تكن كثيرة. وكان يواصل بدلًا من ذلك عمله العقلي إلى أن يرى القصة بعين خياله.
وفي المرحلة الثانية، كان فلوبير يكتب ما أُطلق عليه السيناريوهات. وكان ابتكاره المتعلق بكيفية عمل ذلك أحد إبداعاته. لم تكن السيناريوهات مسوَّدات، ولم يكد يصل أي شيء منها للنسخة النهائية. بل كانت السيناريوهات حلقة وسطى بين الخطة والمرحلة التالية التي ستصبح مسوَّدة. ولم تكن معدَّة من أجل القارئ، بل كانت عبارة عن رموز وعلامات مخصَّصة له هو، للكاتب، لتحفيز المزيد من أفكاره ولتذكيره بما دار في ذهنه، أو بالأفكار التي خطرت له. وكان السيناريو يتضمن تطوير العديد من دلالات القصة، واستكشاف اتجاهاتها. وقد يضم بعض السطور الأساسية للسرد، ولكن بطريقة تخطيطية بحتة، مع عبارات غير مكتملة، وأسماء وأماكن مشار إليها بأحرف مثل إكس واي زد.
أما المرحلة الثالثة عند فلوبير فكانت كتابة ما يمكن اعتباره مسوَّدات أوَّلِيَّة، وكان يوجد العديد من هذه المسوَّدات، فمنها الأولى والثانية والثالثة وأكثر، ويمكن اعتبارها مسوَّدات موَسَّعَة لأن محتواها كان أكبر بكثير من المحتوى النهائي للعمل. غير أن الجمل والفقرات، ولأول مرة في العملية، تبدأ في التَّشكُّل في هذه المرحلة بأشكال قد تصل إلى القارئ. وهكذا كان يتواصل استكشاف الكثير من الإمكانيات، مع كثير من التصويبات والإضافات بين السطور وفي الهوامش. وكان من الممكن أن يؤدي فلوبير المزيد من العمل الميداني في هذه المرحلة، لأغراض لا تتعلق بتحري الدقة بقدر ما تتعلق برؤية المشاهد بعينَيْ كلٍّ من شخصياته.
أما الأسلوب فلم يكن محل تفكير فلوبير إلا في المرحلة الرابعة؛ إذ كان يبدأ في هذه المرحلة في كتابة مسوَّدات تقترب من الشكل النهائي الذي سيراه القارئ، ويمكننا اعتبارها مسوَّدات تنقيحِيَّة؛ لأنه قد تتحول فيها صفحة كاملة من المسوَّدات الموسَّعة إلى عبارة واحدة، كما كانت تُحذَف فيها بكل بساطة أجزاءً كبيرة من المسوَّدات الموَسَّعَة. فضلًا عن ذلك، كان النص في هذه المرحلة يخضع لاختبار القراءة جهرًا. وتتواصل كتابة المسوَّدات حتى يتناغم كل شيء فيها مثل نوتة موسيقية، ليسمعها قارئ متخيَّل.
أما المرحلة الخامسة فكانت تشهَد كتابة مسوَّدة نهائية يمكن إرسالها إلى الناشر.
يكون إيقاعيًّا كالشِّعر، ودقيقًا كلغة العلم، تجد فيه تموجات التشيلو وهمهماته وألسنة اللهب، أسلوب يدخل عقلك كالسيف في الغمد، وتنزلق عليه أفكارك أخيرًا وكأنه سطح أملس. (ص١٦٧)
في البداية، يوجد ارتباك ورؤية عامة وتطلعات ودهشة، وكل شيء يكون مشوشًا (العهد البربري)؛ يلي ذلك التحليل، والشك، والمنهج، وترتيب الأجزاء (العصر العلمي) — وأخيرًا يعود إلى التوليف الأوَّلي منفَّذًا على نحو أوسع. (ص١٦٧)
وللاطلاع على بعض مناهج فلوبير خلال عمله، لننظر في جزء صغير من كيفية كتابة قصته القصيرة «قلبٌ بسيط» التي استغرقته كتابتها ستة أشهر — بدءًا من منتصف فبراير وحتى منتصف أغسطس ١٨٧٦ — وهي فترة قضى جزءًا منها على الأقل، كما عرفنا من مراسلاته، وهو يكتب في جُنْحِ الليل مرتديًا قميصه. ما الذي كان يفعله طوال تلك المدة؟ كان يجتاز كل تلك المراحل التي وصفناها بالأعلى. وبإمكاننا الاطلاع على لمحة من منهجه عمليًّا من حديث ريموند دوبريه جونيت عن وجود «ثلاث خطط أو ملخصات … وثلاثة سيناريوهات، وسيناريو ثانوي، ومُسوَّدتان [موسَّعَتان]، ومسوَّدتان [تنقيحيتان]، ومخطوطة الناسخ» لم تزل محفوظة بحالتها من عمل فلوبير على القصة. وهي تناقش الأجزاء الخاصة بالفقرة الأخيرة من القصة.
فتحت فيليسيتيه أنفها مع تصاعد رائحة البخور الأزرق إلى غرفتها، وتنَشَّقَتها بمتعة روحانية، ثم أطبقت جفنيها، وارتسمت ابتسامة على شفتيها. خفَّت حركات قلبها الواحدة تلو الأخرى، وكانت مع كل دقة تزداد إبهامًا وضعفًا مثل ينبوع يجف ماؤه أو صدًى يتلاشى رجعه. ومع نفَسها الأخير خُيِّل إليها مع انفتاح أبواب السماء لاستقبالها أنها ترى ببغاء ضخمًا يُحلِّق بالأعلى.
ويوضِّح دوبريه جونيت كيف تعَيَّن على فلوبير معالجة ثلاث مشكلات أساسية من أجل كتابة هذه الفقرة. أولًا، كان لزامًا أن تنأى عن الابتذال، وأن تتخطى مشاهد الموت الأخرى التي رسمها فلوبير نفسه من قبلُ، مثل مشهد وفاة إيما بوفاري. ثانيًا، استلزمت وصف عملية الموت جسمانيًّا. وثالثًا، استلزمت كذلك الإيحاء بقُدْسية وفاة شخصية روحانية. ينبثق ما يلي من رواية دوبريه جونيت.
ويستطيع فلوبير الآن منح قصته عنوانًا: «قلب بسيط».
لقد دفعت فلوبير طوال الأشهر الستة التي استغرقته لكتابة «قلب بسيط» اهتماماتٌ شخصية للغاية: طفولته، وطبيعة حب الأم، وكيف أن الأشخاص العاديين يكونون في الغالب أفضل من أفراد الطبقة البرجوازية (مثله هو شخصيًّا)، والعلاقة بين المدَنَّس والمقدَّس. ولكنه رغم ذلك طبَّق نصيحته — بأن يظل حياديًّا ويتجنب تصوير نفسه في العمل — فخرجت الفقرة الأخيرة متوازنة توازنًا بديعًا؛ فهي تظل تحمل لمحة من السخرية بأسلوب فلوبير المميَّز، ومع ذلك فهي مؤثرة للغاية، وبها غموض محبب يظل غير مؤوَّل، ومن دون وعظٍ، ولكن مع طرح تساؤل على القارئ حول رأيه في فيليسيتيه، وفي معنى وجود أمثالها بالنسبة للعالم.
(٥) نظريات الكُتَّاب
غالبًا ما يكون لدى الناس عندما يفكرون في الكتابة للمرة الأولى نظرية أن لديهم في عقولهم شيئًا يمكن إخراجه على الورق، ونظرية أن الآخرين سيهتمون به. وعادةً ما يؤدي تعلُّم الكتابة للتخلي عن هاتين النظريتين كلتيهما. ولعل أهم حكمة يمكن تعلُّمها من أسلوب فلوبير في الكتابة هي أن القصة لا تكون دومًا حاضرة في ذهن المرء قبل أن يشرع المرء في الكتابة؛ فلا يُولَد أي عمل من أعمال القصص الخيالي الجدير بالإعجاب إلا من رحم التفكير، ثم المزيد من التفكير. وكتابة القصص الخيالية هي تلك العملية التي يتضاعف فيها التفكير التخيلي عن طريق استخراج الأفكار على الورق أو على شاشة كمبيوتر بحيث يُحفِّز ما يُكتب على المزيد من التفكير. وقد كانت الوظيفة الوحيدة المرجوة من «سيناريوهات» فلوبير — تلك الكتابات التي تلَت الفكرة الأولية مباشرةً ولكنها لم تكن مسَوَّدات — هي التحفيز على المزيد من التفكير. وهي فكرة عبقرية.
وإذا كتب المرء قصة خيالية، فهل سيهتم أحد؟ يمكننا التفكير في هذا الأمر باعتباره متعلقًا بالمجال البلاغي: كيف يخاطب الكاتب القارئ. يتعلم الكاتب بالممارسة تحويل الأولوية من أفكار الكاتب إلى السؤال عن كيفية دعوة القارئ إلى أفكاره ومشاعره ومفاهيمه.
ولا يمكن لأي عمل أدبي أو فيلم أو عمل مسرحي أن يتجاوز الفناء إلا إذا كان نتاج عمليات من التفكير المتكرِّر والإيحاء البلاغي. حينئذٍ فقط، يتأتَّى للكاتب أن ينظر بما يكفي من العمق في عالم الأحلام المتخيَّل ليصف أدق تفاصيله لشخص آخر. وفقط حينئذٍ يمكن أن تكون للكتابة تأثيرات من وجهة نظر القراء، ربما تصبح تأثيرات القراء أنفسهم. وهذه الآثار هي موضوع الفصل التالي.