تأثيرات القصص الخيالية
(١) الحقيقة والقصص الخيالية
تساءل الناس منذ زمن اليونان القديمة على الأقل عن فائدة القصص الخيالية. رأى أفلاطون أن القصص الخيالية غير مفيدة، فمنع الشعراء من دخول مجتمعه المثالي. وكان يرى أن العالَم الذي نراه ليس إلا محض مظاهر، وشبَّهَنا نحن البشر بسجناء محبوسين في كهف مكبَّلين إلى مقعد محَدِّقين إلى جدار، ومن خلفنا نار مشتعلة، وفي المساحة بين ظهورنا وبينها أناس غادين رائحين، ولكن لا يمكننا رؤية ما يحدث حقًّا، فلا نرى سوى ظلال هؤلاء الأشخاص على الجدار، وهذه الظلال هي المظاهر، ومهمتنا وفقًا لأفلاطون هي تحطيم أغلالنا والخروج من الكهف إلى ضياء النهار.
يقول أفلاطون إن الحقيقة لا وجود لها في هذا العالم، والموجود ظلال فقط. والقصص الخيالي (الذي أسماه هو وأرسطو بالشعر) ما هو إلا نسخة من المظاهر؛ أي إنه ظل الظل؛ ومن ثَمَّ فهو يزيدنا بعدًا عن الحقيقة. وليس هذا فحسب، ولكنه يؤثر كذلك على الناس شعوريًّا، ولهذا فهو مدمِّر لرشادتنا.
أما الأداة الرئيسية التي يستعين بها في مؤلَّفاته الفلسفية فهي الحوار، حيث يتجول بطله سقراط في السوق ويذهب إلى تجمعات الشُّرب (السيمبوزيوم) ليحادث الناس عن ماهية الحقيقة وطريقة الوصول إليها. ويُصوِّر هذا البحث عن الحقيقة بمهارة على هيئة قصة.
أعرض في هذا الفصل بعض أعمال المجموعة البحثية التي أعمل معها (مايا دجيكيك، وريموند مار، وجوردان بيترسون، وأنا)، وأعمال أشخاص آخرين في تجميع الأدلة حول ما إذا كانت القصص الخيالية تؤثر على قرائها ومشاهديها، وكيفية حدوث هذا التأثير، شاملًا ذلك أدلة حول ما إذا كانت القراءة جيدة لك، وكيف يمكن أن تكشف لنا الحقائق في إطار العالم الاجتماعي الإنساني.
(٢) تأثيرات القراءة
كان اختراع نظام الكتابة الإغريقي خطوة مهمة في تاريخ القصص الخيالي. ظلت القراءة والكتابة لما يقرب من ألفي عام بعد اختراعه من المهارات التَّخصصية، وكانت حكرًا على الكَتَبة. شرح باري باول نشأة الكتابة الإغريقية قائلًا إن مخترعها كان على الأرجح كاتبًا يتحدث ويكتب باللغة السامية الغربية، الفينيقية، ويتحدث اللغة الإغريقية كذلك. ويبدو أن ذاك الشخص استعار الحروف الفينيقية وأضاف إليها حروفًا جديدة، وطبَّقها جميعًا على أصوات التخاطب الإغريقية؛ ليُنتِج بذلك أول أبجدية مكوَّنَة من رموز تعبر تعبيرًا مباشرًا عن الأصوات الساكنة والمتحركة. وقد شكلَت اللغة الإغريقية في صورتها المكتوبة قفزة جديدة، فتحت باب تعلُّم القراءة والكتابة لقطاع سكاني أكبر.
وقد تفرَّدَت اليونان بغياب مهنة تخصصية للكتبة فيها. وكانت استثنائية كذلك في أن عملًا أدبيًّا — هو «إلياذة» هوميروس — شكَّل مرجع الثقافة. ويقترح باول أن نظام الكتابة الإغريقي قد اختُرِع بغرض تدوين النسخ الشفهية من «الإلياذة». وهكذا صارت معرفة القراءة والكتابة منذ ذلك العصر أساس التعليم ومحوره؛ فمن دونها تصعب المشاركة في العالم العصري مشاركةً تامة.
بعد ذلك، قاس ستانوفيتش وزملاؤه مهارات أخرى مثل المفردات، والمعلومات العامة، والتفكير اللفظي، وغيرها. وتوقَّعوا أن مستوى أداء الأشخاص لهذه المهارات سيكون أفضل كلَّما ازداد مقدار ما يقرءونه. وضبطوا في البداية (أي حذفوا أثر [انظر الفصل الثاني، التعليق الختامي رقم ٣٥]) العوامل الأخرى مثل نسبة الذكاء (الذكاء العام)، والطبقة الاجتماعية، والمستوى التعليمي، التي تساهم جميعًا في مستوى هذه المهارات. وعلى الرغم من ضبط هذه العوامل، وجدوا أنه كلما ازداد مقدار ما يقرؤه الأشخاص وفق قياس «اختبار التعرف على المؤلفين» ازدادت معارفهم وارتقت جودة هذه المعرفة. ولم تتنبأ نتائج هذا الاختبار بكل شيء، فهي لم تتنبأ على سبيل المثال بقدرات الأشخاص في التفكير اللفظي بأساليب كالقياس العقلي.
(٢-١) فهم الآخرين
وقد وجدنا أنه كلَّما ازدادت قراءات الأشخاص في القصص الخيالية تحسَّن أداؤهم في «اختبار الحالة العقلية من الأعين». كما ظهرت علاقة مشابهة — وإن كانت أقل قوة — بين قراءة القصص الخيالية و«اختبار الإدراك الحسي بين الأشخاص».
كذلك أجرى ريموند مار دراسة أخرى بتصميم تجريبي في إطار أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه. واستخدم مار في دراسته قصة خيالية ومقالًا واقعيًا من مجلة ذي نيويوركر، وكلَّف المشاركين بقراءة أحد العملين أو الآخر عشوائيًّا. وبعد الانتهاء من القراءة، حقَّق الأشخاص الذين قرءوا القصة الخيالية نتائج أفضل مما حقَّقه الذين قرءوا المقال غير الإبداعي في اختبار للتفكير الاجتماعي، في حين حدث العكس في اختبار للتفكير التحليلي.
(٢-٢) تغيير ذواتنا
وتولَّت دجيكيك كتابة النسخة الواقعية من القصة على هيئة تقرير محكمة في قضية طلاق بالشخصيات نفسها، وجميع الأحداث، ومع بعضٍ من الكلمات الواردة في قصة تشيخوف. وأُلِّفت بحيث تكون مساوية لقصة تشيخوف الأصلية من حيث الطول ومستوى صعوبة القراءة تمامًا، والمهم أن قُرَّاء هذه النسخة المكتوبة بأسلوب قضائي واقعي وجدوها شائقة كالقصة الأصلية، وإن لم تكن على مستواها الفني.
(٢-٣) أساس موضوعي للقصص الخيالية
انطلاقًا من الدراسات المتعلِّقة بارتفاع مستويات المشاركة الوجدانية ونظرية العقل لدى قُرَّاء القصص الخيالية، وإمكانية إدخال شيء من التغيير على شخصيات الأشخاص بقراءة القصص الخيالية، اتَّخَذ الفريق البحثي الذي أعمل به خطوتين على ما أعتقد في اتجاه وضع أساس موضوعي للاقتناع بأن القصص الخيالية يمكن أن تكون مفيدة لك؛ ولو احتمالًا.
منطقي أن يتبنَّى المرء — إذا كان أحد أعضاء العالم الأدبي — وجهة النظر التي ترى الفن الأدبي مهمًّا، بصرف النظر عمَّا يقوله علماء النفس. ولكننا نرى أنه في الوقت الذي تُجرى فيه أبحاث حثيثة لتقويم محتوى المناهج التعليمية، ولدراسة النتائج الصحية للعديد من النشاطات كمشاهدة التليفزيون والمشاركة في الماراثونات؛ تُعَد نتائجنا البحثية خطوات في اتجاه مهم.
ويمكن لهذه النتائج أن تبدأ في التصدي للمسلَّمات المغلوطة لدى بعض العلماء وصانعي السياسات بأن القَصص الخيالي ممتع للغاية، ولكنه في الوقت نفسه لا يتعدَّى تمضية الوقت. وإذا استطاع المزيد من الدراسات إثبات أن القَصص الخيالي قادر على تحسين فهمنا للآخرين ولأنفسنا، فإن هذا من شأنه تأكيد قيمته التي تتخطَّى مجرَّد الاستمتاع. وتشير نتائجنا البحثية إلى أن أهم الخصائص المميِّزة للقصص الخيالي هي محتواه التقليدي — الذوات وتقلباتها في العالم الاجتماعي — وهي أمور لا يسهل فهمها على نحو مباشر. ومن جهة أخرى تُناقِض نتائجنا البحثية فكرة يتبناها العديد من علماء النفس تقول بأن القَصص الخيالي لا قيمة له نظرًا لكونه عبارة عن مجموعة من الأوصاف الاعتباطية دون إجراءات لتأكيد مدى صدقيتها أو صحتها.
وتشير نتائجنا إلى أن القَصص الخيالي في العموم ليس محاولة فاشلة للتوصيف السلوكي (مقارنة بالتوصيف المأخوذ عن الدراسات النفسية المضبوطة)، لكنه مجموعة من نماذج المحاكاة العقلية. وبما أن نتائجنا التجريبية تشير إلى أن القصص الخيالي يرتبط بالفعل بمستويات قدرات اجتماعية معينة وباحتمالات تغيُّر الشخصية، فإنها تساعد على إثبات صحة إجراءات المحاكاة الخيالية.
(٣) داخل عقول الآخرين
تثير النتيجة البحثية، التي توصَّل إليها ريموند مار وزملاؤه، حول أن الأشخاص الذين تغلِب القصص الخيالية على قراءاتهم يكونون أفضل في المشاركة الوجدانية ونظرية العقل من غيرهم ممن تغلِب الأعمال الواقعية على قراءاتهم؛ تساؤلًا حول العلاقة بين القراءة ونظرية العقل في الطفولة.
ومرة أخرى، تكرَّرت النتائج التي توصَّل إليها فريقنا البحثي المتعلِّقة بأن قراءة القصص الخيالية لدى البالغين ترتبط بنظرية العقل؛ إذ وجد ريموند مار وجينيفر تاكيت وكريس مور أن تعرُّض الأطفال من سنِّ الرابعة إلى السادسة للقصص التي تُقرَأ عليهم وللأفلام (ولكن ليس التليفزيون) يُنبئ بمستوى نظرية العقل لديهم.
(٤) فكرة تطور الذات
تكشف لنا التراجيديا الإغريقية عن تحطُّم أشخاص طيبين بسبب أشياء جَرَت لهم، أشياء خارج نطاق سيطرتهم … ولكن التراجيديا تكشف عن شيء أكثر تكديرًا؛ إذ تُظهر أشخاصًا طيبين يرتكبون أفعالًا شريرة هي في المعتاد بشعة بالنسبة إلى شخصياتهم والتزاماتهم الأخلاقية، بسبب ظروفٍ لا علاقة لهم بأسباب حدوثها. (ص٢٥)
تبدأ نوسباوم كتابها «العدالة الشِّعرية» بفكرة آدم سميث عن «المشاهد الحصيف» القادر على الولوج عقليًّا إلى محنة شخص آخر. وتقول إن هذا التماهي مع الآخرين من خلال المشاركة الوجدانية أو التعاطف يتشكل بقراءة القصص الخيالية. وتضيف أن هذه القدرة أساسية لأي مفهوم حقيقي للعدالة؛ لأن المرء يجب أن يكون قادرًا على التفكير بأنه يعاني ظروف الناس المضرورين في المجتمع، ويجب أن يكون قادرًا على التفكير في هؤلاء الأشخاص في إطار فرديتهم. فرادة كل شخص من الخيرات التي يمكن أن يقدمها لنا القصص الخيالي. وقد يُفضِّل علماء النفس النظر في هذه المسألة من خلال فكرة تناقض الفاعل-المراقِب التي تشير إلى ميلنا لرؤية الآخرين ورؤية أنفسنا من منظورين مختلفين؛ فمثلًا إذا رأيتُ شخصًا يمشي داخل غرفة، ويكاد يتعثَّر في لعبة طفل مهمَلة على الأرض، أميل إلى التفكير في أن هذا الشخص أخرق. وإذا كنت أنا أمشي داخل الغرفة نفسها وكِدْتُ أتعثَّر بالطريقة ذاتها، فسأميل إلى التفكير بأن هذا بسبب أن اللعبة يجب ألَّا تُترَك في ذلك المكان. وهذه المجموعة من الأفكار تنبثق من فريتز هايدر صاحب نظرية العزو التي تتناول محاولاتنا فهم سلوك الآخرين وسلوكنا من حيث أسبابه. يُمكِّننا القَصص الخيالي من تجاوز تناقض الفاعل-المراقب، ويتيح لنا كبار الأدباء — أمثال ويليام شكسبير، وجين أوستن، وجوستاف فلوبير، وجورج إليوت، وليو تولستوي، وفيرجينيا وولف — فهم الشخصيات الأدبية من حيث الشخصية، ومن خلال الولوج داخل الشخصية، وقد نمارس بعد ذلك هذا النوع نفسه من الفهم في الحياة العادية.
ويقول برايان ستوك في كتابه «الأخلاق من خلال الأدب» إن الغرب طالما نظر إلى القراءة — منذ زمان الأبيقوريين والرواقيين — باعتبارها عاملًا مهمًّا في تطور الذات، وكانت تشمل قراءة الأعمال القصصية، وقد كانت — حتى عام ١٤٥٥ تقريبًا، حين اخترع يوهان جوتنبرج طريقة طباعة الكتب في أوروبا — من الأنشطة التي لا يزاولها إلا قِلَّة قليلة من الأشخاص، منهم الرُّهبان. غير أن ستوك ينبهنا إلى أن القراءة منذ القِدَم، وعلى مدار العصور الوسطى، وعصر النهضة، وحتى وقتنا الحالي كانت دومًا ذات جانبين، أطلق عليهما: الجانب التزهُّدي، والجانب الجمالي. أما الأول فهو لا يشير حسب استخدام ستوك له إلى إنكار الذات، بل يعني الانشغال بالطريقة التي تؤهِّل الشخص ليكون إنسانًا أفضل من الناحية الأخلاقية وفي علاقاته مع الآخرين. وعلى العكس من ذلك يشير الجانب الجمالي إلى القراءة من أجل المتعة، بالرغم من أن هذا النوع من القراءة قد تكون له سمات تزهُّدية.
ويوضِّح ستوك أن القراءة التزهُّدية كانت هي التقليد الذي نشأ مع قُرَّاء وكُتَّاب مثل أوغسطين، وبترارك، ومونتين، وكان القارئ فيها يدخل حالة من الهدوء مع كتابه، ويعزِل العالم الخارجي بعيدًا عنه، ليستقبل الكلمات ويستوعبها، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة أخرى من التفكُّر والتأمُّل لتصبح المعاني جزءًا من ذاته. ويشير ستوك كذلك إلى أن هذا الأسلوب يُعَد موازيًا من نواحٍ عِدَّة لممارسات التأمل في الشرق، التي تهدف هي الأخرى بلا شك إلى الارتقاء بالنفس. وفي رأيي أن النتائج المبَيَّنة في الأقسام السابقة تُعَد جميعها امتدادًا لهذا التقليد.
(٥) هل يمكن أن يكون للقصص الخيالي تأثيرات نافعة؟
(٥-١) فهم الآخرين ودخول عقولهم
ناقشت في الفصل الثاني أن الأطفال يتعاملون مع أنفسهم في أول عامين من حياتهم باعتبارهم فاعلين في العالم، ويرون الآخرين بوصفهم فاعلين هم أيضًا. ومع بلوغ سن الرابعة، ومن خلال نظرية العقل، يمكنهم استنباط ما يفكر ويشعر به الآخرون، ويدركون شيئًا عن عقولهم هم أنفسهم. يشكل الناس نماذج للآخرين (ولأنفسهم). وهم يستخدمون هذه النماذج في تفاعلاتهم مع الآخرين.
هذا النوع من النماذج أشبه بساعة اليد، التي هي بدورها نموذج لدوران الأرض، وحركة الشمس والقمر والنجوم في الكون. والغالب أن رؤية الشمس أو القمر أو النجوم تكون غير ممكنة؛ ومن ثمَّ فإن الساعة تُعَد طريقةً ملائمة لمعرفة الوقت، بل إنها أدَقُّ من أي طريقة لملاحظة تلك الأجرام السماوية ملاحظةً مباشرة. ويستطيع الأشخاص التوافق مع الآخرين عن طريق هذه الساعات التي تُحدِّد الزمن؛ أي إنهم يفعلون ذلك عن طريق نظرية العقل؛ فمن خلال النماذج التي يقيمها الناس بعضهم لبعضٍ يستطيعون إدراك ما يدور بذهن الآخرين من أفكار وما يراودهم من مشاعر.
المسائل المتعلِّقة بفهم ما يفكر به الآخرون وما يشعرون به، سواء في التعاملات المباشرة (نظرية العقل)، أو على مدار العلاقات الأطول (الشخصية)، من بين أهم الأمور في الحياة الإنسانية. وبالرغم من أننا نحن البشر نُجِيد هذين النوعين من الفهم، فهذه الإجادة لا ترقى لمستوى الإتقان. ويمكن اعتبار أن رواية «كبرياء وتحامل» تدور حول مشكلات التعرف على العقول الأخرى، التعرف عليهم من أجل حبهم، والتحبب إليهم لأننا نعرفهم.
وقد عبَّرَت جورج إليوت عن هذه المسألة قائلة: «إننا جميعًا نولَد في حالة من الغباء الأخلاقي.» فهْم أن الآخرين هم أيضًا ذوات، هو شيء علينا استكشافه، كاكتشاف دوروثِيا في رواية «ميدل مارش» أن الرجل الذي تزوجته «كان له مركز ذاتي مكافئ لا بد أن الأضواء والظلال تسقط عليه دومًا باختلاف معين» (ص٢٤٣).
فقط من خلال الفن يمكننا الفرار من أنفسنا، والتعرف على رؤية الآخر حول العالم التي تختلف عن رؤيتنا، وتحتوي على مناظر كانت ستظل في عالم الغيب لولا الفن مثلها مثل أي شيء على القمر. (البحث عن الزمن المفقود، المجلد الثامن، ص٢٥٧-٢٥٨)
ولعل الأهم هو أن فهم الآخرين على أنهم مثلنا، ولهم أنواع المشاعر نفسها، ومن ثم الحقوق نفسها، قدم إسهامًا ضخمًا للمجتمع. بينت لين هانت أن إرساء حقوق الإنسان تأثر بقوة بالفن الأدبي. ونحن اليوم نرى أن حقوق الإنسان عالمية، ولكن هانت توضِّح كيف أن فكرة المساواة بين كل البشر في الحقوق كانت شبه غائبة عن المجتمع الأوروبي منذ ٣٠٠ عام، وكان لِزامًا اختراعها. وبنهاية القرن الثامن عشر اكتمل حدوث تغيير. تقدِّم هانت ثلاثة معالم بارزة. نقرأ في إعلان الاستقلال الأمريكي (عام ١٧٧٦): «كل البشر خُلِقوا سواسية … بحقوق راسخة لا تُسلَب، ومن هذه الحقوق الحق في الحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة.» وفي الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام ١٧٨٩ تقول المادة الأولى: «يولَد البشر كافةً أحرارًا وسواءً في الحقوق ويظلون كذلك.» واليوم لدينا في عصرنا الحالي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٤٨ عقب العهد النازي، وتقول مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق.»
لم يزل الترسيخ التام لهذه المبادئ في المجتمع عبر العالم غير متحقق، ولكن خطوات مهمة اتُّخِذت لتحقيق هذا الهدف؛ فلم يعُد الاسترقاق مقبولًا، ولم يعُد التعذيب مقبولًا ضمن الإجراءات القانونية. كما أصبحت النساء والأقليات العِرقية في العديد من البلدان كجميع الأفراد سواءً أمام القانون.
… قبَّلني مرتين أو ثلاث مرات وكأنه سيلتهمني. وأخيرًا تمكَّنْت من الفكاك منه، وكنت على وشك الخروج من المنزل الصيفي؛ ولكنه منعني، وأغلق الباب.
كنت مستعدَّة للتخلي عن حياتي مقابل أي شيء في تلك اللحظة، وقال لي: لن أوذيكِ يا باميلا؛ لا تخشيني. فقلت له إني لن أبقى! فقال لي لن تذهبي أيتها الوقحة! هل تدركين مع مَن تتحدثين؟ ذهب مني كل خوفي، ومعه كل احترامي، وأجبته: نعم، أدرك يا سيدي، أدرك جيدًا! ولكن أليس لي أن أنسى أني خادمتك إذا نسيتَ أنت ما يليق بسَيِّد.
انتحَبْتُ وبكَيْتُ بحزن؛ فقال لي: يا لكِ من حمقاء وقحة! هل آذيتكِ؟ نعم يا سيدي، أبلغ أذية في العالم: لقد علَّمتني أن أنسى نفسي، وأنسى ما يليق بي. (ريتشاردسون، ص٢٣)
(٥-٢) فهم العلاقات
الموضوع الثاني في التأثيرات النافعة المحتمَلة للأدب الإبداعي هو فهم العلاقات. وليس من قبيل المصادفة أن أغلب القصص الشائعة عبر العالم — كما بيَّن باتريك هوجان — قصص عن مشاعر الارتباط، قصص عن الحب والغضب. وليس المقصود من هذا أننا نقضي أغلب وقتنا في هذا النوع من الأحداث؛ ولكن أن هناك دائمًا حاجة لمزيد من فهم هذه المسائل. فهي حاسمة بالنسبة لأهم الأشياء لدينا، ولكن غالبًا ما تكون معانيها الضمنية أبعد من إدراكنا العقلي، وهنا يأتي دور نماذج المحاكاة (الأحلام) من النوع الذي يمكن أن تتوصل إليه عطايا القصص الخيالية.
إن فهم العلاقات في نماذج المحاكاة الخيالية يشبه النشرة الجوية أكثر مما يشبه ساعة اليد؛ إذ تكون النشرة الجوية حين نقرؤها أو نسمعها أو نشاهدها نتيجة لمحاكاة بالكمبيوتر. ينشأ الطقس عن تفاعل عمليات عدَّة. ونحن نجيد فَهْم كل عملية من هذه العمليات على حدة، فنعي مثلًا أنه عند تقابُل كُتلَة من الهواء البارد كُتلَةً من الهواء الساخن يُحتمل حدوث هطول؛ لأن الهواء البارد يُبرِّد الهواء الساخن إلى الدرجة التي يتكثَّف معها بخار مائه مكوِّنًا مطرًا أو بَرَدًا. ولكن معرفة احتمال سقوط الأمطار في اليوم التالي تتطلب تفاعل هذه العملية مع الضغط الجوي والرطوبة وتأثير الجغرافيا المحيطة وما إلى ذلك.
وفي «ملحمة جلجامش» صار جلجامش طاغية، وإنكيدو متوحش، ولا يستطيع أحدهما الارتقاء عن حالته إلَّا من خلال العلاقات. ويشير المعنى الضمني للسونيت الشكسبيرية رقم ٢٧ إلى أنه إذا كان للمرء محبوب، فينبغي أن يعرف هذا الشخص — لأن هذا جزء مما يعنيه الحب — ولكن ماذا يحدث إذا كان بعض ملامح الشخص الآخر مجهولًا؟ كذلك قد يبدو في قصة «السيدة صاحبة الكلب الصغير» لتشيخوف أن نوع العلاقة التي قد تجمع رجلًا وامرأة يقضي كلٌّ منهما إجازة وحده في مدينة ساحلية تكون متوقَّعَة تمامًا، وقد يبدو أننا نعرف كل العناصر اللازمة لهذه العلاقة، لكن تشيخوف يكشف لنا أننا ربما لا نعرف.
(٥-٣) ديناميات التفاعل في الجماعات
تأتي مسألة تصرف الناس داخل العائلات، أو في المناورات السياسية، أو حين يحصر عدد من الناس أنفسهم في إطار أي نوع آخر من الجماعات ثالثًا بين الموضوعات التي يمكن أن تكون تنويرية. تقدِّم لنا جين أوستن في الفصل الثالث من «كبرياء وتحامل» نموذجًا متمثلًا في الحفل الراقص في قاعة الاحتفالات في ميريتون؛ حيث يستمتع بعض الحاضرين في الحفل بالتفاعلات مع الآخرين مثل جين بينيت، بينما يحتقر البعض الآخر كل ما يحدث مثل دارسي. ما الذي يحدث؟ بوسعنا طرح مثل هذه التساؤلات في الروايات.
إن الأمل في القصص الخيالي، كما يقول أرسطو، لا يكْمُن في اكتشاف تاريخ ما حدث، ولكن في اكتشاف مبادئ ما هو ممكن. فنحن لا نسأل عما إذا كان دارسي قال حقًّا: «لا بأس بها»، ولكن نتساءل عما إذا كان المشهد الذي تحُثنا أوستن على تخيُّله يُبصِّرنا بطريقة تصرف الناس داخل الجماعات.
(٥-٤) مشكلات الذات
موضوع القَصص الخيالي الرابع الذي يحتمل أن يحث على تطوير الذات هو فهم الذات. فكما نستطيع إقامة نماذج للآخرين، نستطيع إقامة نماذج لأنفسنا. ولا شك أن هذا النوع من النماذج بالتحديد هو ما نُطلِق عليه «ذاتنا». وبالرغم من أننا في المجتمع الغربي نفضِّل أن نفكر في ذاتنا باعتبارها مستقلة بنفسها، وأنها هي مصدر أفكارنا ومشاعرنا وقراراتنا، فإن ذاتنا ليس مستقلة في الحقيقة كما يقول تشارلز كولي، بل إنها ذات مرتبطة بالآخرين.
في قصة «حلم ساعة» لكيت شوبان تخوض السيدة مالارد سيلًا من إدراك الذات، أنها تحرَّرت من قيود زواجها. تحرص شوبان على الإشارة إلى أن هذا لا يخص علاقة آل مالارد فقط، ولكنها مشكلة أعمُّ. تفكر السيدة مالارد في «الإرادة القوية التي تقيد إرادتها الشخصية، تلك الإرادة التي هي جزء من ذاك الإصرار الأعمى الذي يظن الرجال والنساء من خلاله بأن لديهم حقًّا في فرض إرادة شخصية على مخلوق مناظر.» ولذلك شعرت السيدة مالارد أن ذاتها شُوِّهت بفعل زواجها.
يأمل المرء في حياته بين الناس أن يروه بطريقة تشبه الطريقة التي يرى بها نفسه. كيف إذًا يستطيع المرء تقديم نفسه في الحياة اليومية؟ وماذا لو رأى الآخرون المرء باحتقار؟ ناقشت هذا الموضوع في الفصل الخامس في إشارة جيمس بولدوين له في مقاله «عند الصليب: خطاب من مكان ما في عقلي».
(٥-٥) اهتمامات القصص الخيالية
لا أظن أن الموضوعات الأربعة المحتَمَل نفعها التي أشرت إليها (بالأعلى) تُعرِّف ماهية القصص الخيالية. ولكني أظن رغم ذلك أن تصورًا من هذا النوع قد يساعدنا على الاقتراب من جوهر علم نفس القصص الخيالية. يُمكننا التفكير في القَصص الخيالي بوصفه مركَّزًا على موضوعات وانشغالات أساسية لحيواتنا باعتبارنا كائنات اجتماعية، مصوَّرة في شكل محاكيات تخيُّليَّة، أو أحلام يقظة.
(٦) الانتقال والإقناع واللامباشَرة
لعلَّ السرد (أسلوب القصص الخيالي) مقارنةً بالشرح (الأسلوب المميِّز للكتابة الواقعية) هو المسئول عن بعض تأثيرات قراءة القَصص الخيالي التي توصَّل إليها الباحثون. طلب ألان إنج من المشاركين في إحدى تجاربه قراءة قطعة نثرية مكوَّنة من صفحتين؛ إما من السرد وإما من الشرح. وكانت القطعتان تضمان المحتوى نفسه وبمستوًى واحد من صعوبة القراءة. وكتب المشاركون حرف «ذ» على الهامش كلَّما خطرت لهم ذكرى، وبعد القراءة كتبوا موجزًا عن كلٍّ من تلك الذكريات. ولوحِظ أن ذكريات الأشخاص الذين قرءوا القطعة السردية كانت أوضح بكثير، مقارنة بقُرَّاء قطعة الشرح. كما كان القارئ فيها يلعب دور الفاعل أو الملاحِظ في إطار مشهد تفصيلي، أكثر مما كانت مجرد تقارير لأحداث أو ذكريات دلالية. السرد، الأسلوب الأصلي للقصص الخيالي النثري، قادر على تنشيط صور واضحة.
واختبر هيكمولدر تأثيرات مسرحيات المنتدى التي قُدِّمَت في إطار حملة «بالاما» التابعة لمشروع إنتر-جروث — أحد مشروعات منظمة العمل الدولية — في سريلانكا. وكان للمشروع هدف صريح: تغيير الأفكار السلبية السائدة عن العمل التجاري في المناطق الريفية في سريلانكا. وقاس هيكمولدر في تقويمه للمشروع ظاهرة الانتقال لدى كلٍّ من الأشخاص الذين شاركوا في المسرحية عند دعوة الجوكر لهم والمشاهدين الذين اكتفوا بالمشاهدة فقط، ووجد أن درجة شعور الأشخاص بالانتقال في الحالتين نبَّأ بمدى تغير معتقداتهم نحو الفوائد المحتملة للمشاركة في أي نوع من النشاط التجاري وكسب العيش منه.
الإقناع جزء أساسي من أي قرار عملي يشمل الآخرين، بدءًا من السياسة القومية وصولًا إلى اتخاذ اختيار شخصي يؤثر على الأسرة. ومن الأشياء المهمة التمييزات بين الإقناع والإكراه، وبين الإقناع الذي يحمل معلومات مفيدة، والإقناع بمعلومات مضلِّلة أو منحازة، وبين الإقناع الصريح والإقناع الخفي. يناقش باتريك هوجان في كتابه «فهم القومية» الإقناع الخفي على سبيل المثال. ويفترض أن بعض موضوعات القصص العالمية (التي سبق عرضها في الفصل الرابع) — كالنوع البطولي الذي يهزم فيه البطل عدوًّا شريرًا، أو قصص التضحية التي يلزم فيها تقديم تضحية ضخمة لإنقاذ المجتمع — يبدو أنها طالما كانت مؤثرة تأثيرًا خاصًّا في تجنيد الأفراد لخدمة نزعات قومية معينة، من دون أن يدرك هؤلاء الأفراد هذه التأثيرات تمام الإدراك.
ولا شك أن علم نفس الدعاية والإعلان ذو صلة وثيقة بعلم نفس الإقناع والتثقيف. وعلى نحو متصل بذلك، يندرج العديد من قصص الحركة والقصص الرومانسية تحت هذا التصنيف. وقد رأى روبين كولينجوود — الذي أشرت إلى كتابه «مبادئ الفن» في الفصل الخامس — الأنواع الأدبية من قبيل قصص الحركة والقصص الرومانسية على أنها ليست فنًّا؛ لأنها لا تضم أي استكشافات. فهي تتبع صيغًا معينة، ويسعى مؤلفوها لإثارة أنواع معينة من المشاعر، ومعيار نجاحها هو الترفيه؛ فهذا هو مقصدها. ولكنها لا تندرج تحت تصنيف الفن، فضلًا عن أنها — من وجهة نظري — ليست من نوعية الأعمال التي يُحتمل أن تزيد من فهمنا أنفسنا أو الآخرين، على الأقل عند التزامها بصيغة النوع الأدبي بشكلها المعهود.
إن التواصل بأسلوب غير مباشر يجعل من التواصل فنًّا، بمعنًى مختلف تمامًا عن معناه حينما يُفهم بالأسلوب المعتاد … إذا استوقفت رجلًا في الشارع ووقفت أمامه ساكنًا وأنت تحدِّثه، فهذا ليس بصعوبةِ أن تقول شيئًا لشخصٍ ما وهو مارٌّ بك دون أن تقف ودون أن تؤخِّر الشخص الآخر، ودون محاولة إقناعه بالسير معك في نفس طريقك، ولكن مع الإيعاز له بدلًا من ذلك بالالتزام بطريقه هو. (ص٢٤٦-٢٤٧)
وقد اكتشفت مايا دجيكيك وزملاؤها أن شخصيات الأشخاص تغيَّرَت نتيجة قراءتهم قصة تشيخوف «السيدة صاحبة الكلب الصغير»، وأن هذه التغيُّرات لم تكن جميعًا في الاتجاه نفسه؛ إذ تغيَّر كل شخص بطريقته.
إن مقصد الخطاب السياسي بوجه عام هو الإقناع بوجهة نظر أو خطة بعينها. والفن الأدبي لا يخلو من الغرض السياسي؛ فأشكاله مهيَّأة لتلائم أهدافنا الأعمق لفهم الآخرين في إطار فرديتهم، ولفهم أنفسنا. إلَّا أن هذه الأشكال — وأنا أحاول عرض الأمر بأفضل صياغة مقنِعة أقدر عليها — تندرج تحت تصنيف مختلف عن الأشكال الأخرى المصمَّمة للإقناع بمعتقدات أو أفعال معينة. ومن أمثلة الممارسات التي وصفها كيركجارد بأنها غير مباشرة نوع معين من العلاج النفسي، وأعتقد أن أحدها هو علاقة الحب. وثمَّة نوع ثالث، وهو موضوع هذا الكتاب: القصص الخيالي؛ فالقصص الخيالي فن.
في القَصص الخيالي الذي هو فن، لا يُبرمَج المرء بفعل الكاتب. بل يشرع المرء في استكشاف أشياء جديدة والشعور بها. وربما يشرع المرء في التفكير بطرق جديدة. وغالبًا ما يرغب الإنسان عندما يشعر ويفكر في أن يتحدَّث عما يشعر به أو يفكر به مع شخص آخر، وهذا هو موضوع الفصل الآتي من هذا الكتاب.