الحديث عن القصص الخيالية
(١) مدارات النقاش
إن الحديث عن القصص الخيالية يكاد يكون — في المقام الأول — بنفس أهمية التعامل معها. إن الأعمال الفنية تحيطها مدارات من النقاشات، وعادةً ما تدور هذه النقاشات بين الخبراء، كما في المقالات النقدية في الصحف أو المجلات. وفي السياقات التعليمية، يدير النقاش حول العمل الأدبي معلمون تعلَّموا على يد خبراء لهم آراء مختلفة، حول الطريقة التي يجب أن نفكر بها فيما نقرأ. ولكن الوعي يزيد يومًا بعد يوم بأن النقاشات المهمة حول الأدب الإبداعي هي تلك النقاشات التي تدور بين الأصدقاء والزملاء والأقارب.
ومن أفضل الكتب التي تتناول موضوع القصص الخيالية كتاب «كيف تتحدَّث عن الكتب التي لم تقرأها»، وصاحب هذا الكتاب ذي العنوان المستفز هو بيير بايار. أما السبب الذي دفعه لاختيار هذا العنوان الفظ نوعًا ما، فهو أنه حتى الكتب التي نقرؤها والأفلام التي نشاهدها لا يبقى منها داخلنا سوى جُذاذات؛ ولهذا ننزع دومًا لمناقشة أجزاء صغيرة منها — بل لا يسعنا سوى ذلك — فهي كأحلام الصحو، لا يبقى منها سوى إحساس وبقايا متفرقة. وبذا تصير الكتب التي طالعناها والأفلام التي شاهدناها شبيهة بالكتب التي قرأنا مقالات نقدية عنها، أو الأفلام التي سمعنا عنها من أصدقائنا. وإليكم جانبًا مشرقًا من الموضوع؛ فحين نناقش تلك الأجزاء التي لاحظناها ونتذكرها من الكتب والأفلام، فإنها يمكن أن تُضَخَّم من خلال الأجزاء المختلفة التي يلحظها الأشخاص الذين يدور معهم النقاش ويتذكرونها؛ ومن ثمَّ نستطيع جمع الجُذاذات معًا وجعل الكتب والأفلام أكثر اكتمالًا.
ومن الكتب التي قرأها بايار كتاب فريدريك بارتلِت «التذكُّر» الذي ناقشته في الفصل الثالث، وكان أساس علم النفس المعرفي الجديد. وقد بيَّن أننا نستوعب ما نقرأ في إطار مخطَّط لما نعرفه، ولا نستبقي منه إلا تفاصيل بارزة نحفظها داخل مكتبتنا الداخلية، وهي تسمية وُفِّق بايار في اختيارها. وتمتاز هذه المكتبة الداخلية بتَفَرُّدها وتميُّزها عند كل شخص؛ إذ نادرًا ما تتطابق محتوياتها مع محتويات مكتبات الآخرين الداخلية. ولا يقتصر الأمر عند مناقشتنا للكتب الإبداعية على تبادل انطباعاتنا حول الجُذاذات التي قرأناها مع الانطباعات حول الجُذاذات الموجودة داخل مكتبات الآخرين الداخلية، ولكننا نعيد تقديم هذه المادة — القصص الخيالية — التي تتناول ما يمكن للناس فعله في العالم الاجتماعي مرة أخرى إلى عالم المحادثة والعلاقات الاجتماعية.
يعرض بايار نظرية جيدة تمامًا للقراءة والخيال. والسؤال الذي يسأله هو: كيف نستطيع أن نعرف محتويات الكتب ونستوعبها بحيث تصبح جزءًا منَّا وسط هذا الإنتاج الغزير غير المحدود من المواد المنشورة؟ ويطرح رموزًا موَفَّقَة للإشارة إلى الكتب التي يناقشها: «ك ص» يعني «كتاب تصفحته»، و«ك س» يعني «كتاب سمعت عنه»، و«ك ن» يعني «كتاب نسيته». ويقدم لنا شخصية أمين المكتبة في رواية روبرت موزيل «رجل بلا صفات» (ك ص) — الذي لا يرغب في قراءة أيٍّ من الكتب التي تحتويها مكتبته، ويرغب فقط في معرفة العلاقات فيما بينها — باعتبارها شخصية مثيرة للإعجاب. ويقترح أيضًا أن نحمل على محمل الجد بول فاليري (ك ص، ك س) في مناداته بتجنُّب قراءة الكتب؛ لأننا يمكن أن نضيع في تفاصيلها بسهولة شديدة أو نغرق داخلها. ثم يشير بايار بعد ذلك إلى أن حالة تشرذم ذاكرتنا تنطبق كذلك على الكتب التي ألَّفناها بأنفسنا (ك ن).
حينما قرأتُ كتاب بايار (الذكي والشيق لدرجة أنِّي قرأته كله) سرني أنه استخدم بعض الأمثلة التي كانت موجودة في مكتبتي الداخلية. أحد هذه الأمثلة هو المشهد الرائع من رواية جراهام جرين القصيرة «الرجل الثالث»، حين يُضطَر هولي مارتينز — المؤلف في إحدى المجلات الرخيصة الذي يخطئ الناس ويظنون أنه كاتب آخر مرموق اسمه مارتينز أيضًا — لإلقاء خطاب في تجمع أدبي في فيينا ما بعد الحرب. كان الموضوع الذي طُلب منه الحديث عنه هو مستقبل الرواية، وهو موضوع لم يخطر بباله قط. ومن الأمثلة الأخرى، الورقة البحثية الرائعة لعالمة الأنثروبولوجيا لورا بوهانان — التي لم أكن أعرف أنها توجد في المكتبة الداخلية لأي شخص آخر غيري — وفيها تسرد محاولتها شرح قصة «هاملت» لجماعة التيف (جماعة لغوية عرقية في غرب أفريقيا). التيف محِبُّون للقصص، ويُسَرُّون حين تعرض بوهانان سرد قصة من ثقافتها. لكن على الرغم من تقديرهم لمجهودها، كانوا يخبرونها عند كل وقفة بوجود أخطاء في القصة؛ فيخبرونها مثلًا أن الأموات لا يعودون، وأن هاملت الابن ينبغي عليه ترك أمور الحكم للكبار، وأنه ليس من الخطأ أن تتزوج المرأة التي مات عنها زوجها حديثًا بأقصى سرعة، بل إن ذلك واجب عليها، وغير ذلك. ويُلحِق بايار هذه الأمثلة بمشاهد من رواية «تبديل أماكن» لديفيد لودج التي قدَّم فيها لعبة «الإذلال» كما لعبتها جماعة من أهل الأدب. وللمشاركة في اللعبة عليك الاعتراف بأنك لم تقرأ كتابًا شهيرًا. والفائز هو الشخص صاحب الاعتراف الأشنع. «ذئب البوادي»، هل يرغب أحدكم في الاعتراف؟ «أوليفر تويست»؟ «هاملت»؟
من بوسعه إنكار … أن التحدث عن الكتب التي لم تقرأها يشكل نشاطًا إبداعيًّا أصيلًا يقتضي متطلبات الأشكال الفنية الأخرى نفسها. فكر فقط في كل المهارات التي يستدعيها؛ الاستماع إلى ما يحتويه العمل من احتمالات، وتحليل سياقه المتغير، والانتباه للآخرين وردود أفعالهم. (ص١٨٢-١٨٣)
(٢) المحادثة والقراءة
يتعامل الشعور والقَصص الخيالي كلاهما مع الأشخاص وأفعالهم. ويضمَّان كلاهما مقارنات بين ما نشعر به ونفكر به، وبين آراء الآخرين في جماعتنا الاجتماعية وأحكامهم. وهذا لا يعني أننا فاقدون للثقة. السبب أعمق من ذلك. فنحن اجتماعيون حتى النخاع، ويُهِمنا دومًا أن نعرف ما يفكر به الآخرون وما يشعرون به — ومن ذلك رأيهم وشعورهم بخصوص أفكارنا ومشاعرنا — ولهذا فإن المحادثة محورية لكياننا نفسه. وكما لحظ تشارلز كولي، تعاش حياتنا داخل عقول الآخرين. وعلى الرغم من أننا غالبًا ما نرى أننا مستقلون، بل منفصلون عن غيرنا، فإننا لا نكون بشرًا إلا إذا تواجدنا في عقول الآخرين وتواجد الآخرون داخل عقولنا.
والأكيد أن نشاط القراءة موجود إلى جانب الحديث عن الكتب التي لم نقرأها. طلبت أنا وإيلين دنكان من مجموعة من الأشخاص كتابة يوميات على هيئة استبيانات عن المشاعر التي يشعرون بها في حياتهم اليومية، ووجدنا أن حوالي ٢٠٪ من هذه المشاعر لم تنشأ عن أحداث حياتية مباشرة، بل جاءت نتيجة أحداث أبعد، من بينها الذكريات، والأفكار الموجودة في التخيل، والقراءة والذهاب إلى دور عرض الأفلام وما إلى ذلك.
وفي بحث لاحق، استعنت بفكرة اليوميات، ولكن مع التركيز على القراءة، واستخدمت الطريقة التي بَيَّنْتها في الفصل الثالث؛ حيث يُطلَب من القُرَّاء كتابة حروف «ذ» و«ش» و«ف» على هوامش إحدى القصص للإشارة (بأسلوب أشبه باليوميات) إلى نقاط ورود الذكريات والمشاعر والأفكار أثناء القراءة. في إحدى الدراسات، على سبيل المثال، طلبت أنا وميترا جولامين من أعضاء في جماعات قراءة مطالعة قصة قصيرة تدور حول خسارة علاقة رومانسية («حافلة باردون» بقلم أليس مونرو). وبعد قراءة القصة، وصف المشاركون أهم الذكريات التي أشاروا إليها بحرف «ذ»، وكتبوا كذلك رد فعل عام على القصة.
أذكر أنني تلقيت ذات يوم خطابًا من شابٍّ عرفته لفترة وجيزة (وكنت معجبة به إعجابًا جمًّا)، وانقطعت عني أخباره بعد تخرجنا في المدرسة الثانوية. وصلني خطابه خلال فترة من حياتي كنت أشعر فيها بوحدة وتعاسة شديدتين، ولم أكن أدري ما أريد فعله في حياتي. كان لدي حينها طفل في الشهر الرابع من عمره، وأعيش في منزل أهلي بعد أن غبت عنه لمدة عام. وفي الخطاب، عبَّر ذاك الشاب عن اهتمامه بأحوالي وما أفعل في حياتي، وصرَّح بما كان يُكِنه لي من «إعجاب» أيام الدراسة. وبدا واضحًا من أسلوب الخطاب أنه أراد أن يصبح جزءًا من حياتي، وأنه أمِل في ذلك. غمرتني السعادة، وتجدَّد أملي، وأذكر إلى يومنا هذا إحساسي وقلبي تجتاحه الفرحة وشعوري بأن كل الأحوال ستنصلح في النهاية. ورغم ذلك، كُبِحَت تلك المشاعر بواقع التغيُّرات التي كانت طرأت على حياتي؛ ألا وهي إضافة طفل إليها.
يبدو أن السيدة التي كتبت هذه الذكرى كتبتها لنفسها، ولنا أيضًا، وهي قطعة جميلة وتأملية.
كشفت ردود أفعال المشاركين على القصة بوجه عام عن أن الأشخاص الذين غلبت عليهم الذكريات ذات المسافة الجمالية الزائدة مالوا إلى الإفراط في التحليل العقلي، ومن ذلك الاقتصار على إصدار أحكام على أسلوب كتابة القصة. أما هؤلاء الذين كانت ذكرياتهم دون المسافة الملائمة فقد نزعوا إلى الإفراط في المشاعر؛ كأن يكتفوا فقط بكتابة ما إذا كانت القصة قد أعجبتهم أم لم تعجبهم، أو شعورهم بما شعرت به إحدى الشخصيات. أما المشاركون أصحاب الذكريات ذات المسافة الجمالية الملائمة، كالذكرى المنقولة بالأعلى، فقد مالوا لكتابة ردود أفعال شاملة، أشارت إلى المشاعر، واحتوت في الوقت نفسه على أفكار تفصيلية حول معنى القصة. وجدنا كذلك أن القُرَّاء، حين يندمجون في قصة أدبية مثل «حافلة باردون»، يميلون إلى التماهي مع أحد أبطال القصة. ولهذا فإن مهمة الكاتب هي تقديم قصة للقُرَّاء بأسلوب يتيح لهم خوض الأجزاء المهمة منها من مسافة جمالية تسمح لهم بالإحساس بمشاعرهم.
(٣) الحديث عن الكتب
الأطفال الذين كانوا «نجومًا» منذ عمر مبكر في قراءة الأفكار واستيعاب المشاعر، كان من المرجح على وجه الخصوص أن يطوِّروا صداقات يتشاركون فيها لعبًا تمثيليًّا مسهبًا ومثيرًا، ومحادثات طويلة ومترابطة … وفور بدء تكوُّن الصداقة، تزداد فرص الأطفال في معرفة ما يشعر به الشخص الآخر وما يفكر فيه زيادة ملحوظة. وتنشأ هذه الفرص من إقامة هؤلاء الأطفال عوالم تخيلية مشتركة، ومن محادثاتهم الممتدة، ومن تعاملهم مع المشكلات والخلافات. (ص٦٥)
الأكيد أن الولدين اللذين كانا يمثلان أدوار القراصنة لم يسمعا عن القراصنة إلَّا من خلال الكتب أو الأفلام. ولذا يمكن أن تصير القصص الخيالية أساسًا للعوالم المشتركة؛ وهو ما يحدث في الواقع.
اتبع تعليم الأدب الإنجليزي عملية استقراء يخضع لها الطلاب في أي مادة. ولكن بينما يحتاج الطالب في مادة كالرياضيات أو الأحياء إلى التقدم من خلال مجموعة متدرِّجة من المفاهيم الأكثر تعقيدًا — وأن يقف على حد قول روبرت بيرتون على أكتاف العظماء — فإن الموضوع ليس بهذه البساطة فيما يتعلق بتأويل النصوص، والسبب (كما اقترحت) لا يقتصر على أن القصص الخيالية لها تأويلات متعددة بحكم الضرورة تقريبًا، ولكن أيضًا لأن الاستمتاع بالقصص الخيالية يتضمن جعل ما نقرؤه خاصًّا بنا.
لذلك، أصبحت مسألة من الذي يحدد قائمة الأعمال النموذجية مسألة ملِحَّة مؤخرًا تحت تأثير النُّقَّاد المنتمين للحركة النسوية وعصر ما بعد الاستعمار، الذين ألمحوا إلى موضوع «الرجال البيض الأموات». ولا شك أن وجود خبراء في الأدب لغربلة الأعمال الأدبية الإبداعية والتعليق عليها واستعراضها في دوريات مثل تايمز ليتراري سابلمنت، ونيويورك ريفيو أوف بوكس، هو أمر محل تقدير؛ إذ تنشر كتب جديدة كثيرة كل عام، ولن يستطيع أي شخص عادي معاينتها من دون بعض الإرشاد والاقتراحات. وأنا شخصيًّا مدين لهذه الدوريات، وللجان تحكيم جائزة مان-بوكر الأدبية وجائزة البوليتزر وغيرهما أيضًا.
أعترف كذلك أنني أعتقد من خلال دراستي وقراءاتي أن بعض الكتب تستحق القراءة أكثر من غيرها، وأن بعض المسرحيات جيدة وغيرها ليست كذلك، وأن بعض الأفلام مملَّة بينما البعض الآخر مؤثر ومحفز على التفكير. وأقِر أيضًا بتأثري بإف آر ليفيز الذي قال إن بعض الأعمال القصصية مهم، بينما لا يستحق البعض الآخر الوقت الذي يُقضَى في قراءته.
كان أحد أصدقائي المقرَّبين طالبًا جامعيًّا في مجموعة ليفيز بكلية داونينج في كامبريدج. وكنت أحضر محاضرات ليفيز أحيانًا، وأشارك من حين لآخر في أمسيات المجموعة، وأستمع لنقاشاتهم. وكان ليفيز يشجع على خلق جو من الحماسة والاندماج والجدية الأخلاقية بين طلابه. كنت حينها طالبًا في كلية الطب، وكنت أدرس مواد ترتكز على الحفظ والتذكر أكثر من الفهم. وكان الجو الذي خلقه ليفيز أقرب لما كان في مخيِّلتي حين التحقت بالجامعة. كان الإحساس الذي تكوَّن لدي — والذي انغرست بذوره داخلي بالفعل في أيام دراستي قبل الجامعة، ثم شجعه قربي من مجموعة كلية داونينج — هو أنه لا يوجد ما يضاهي الأدب في أهميته. كان الأمر أشبه بالإصابة بمرض مزمن يظهر ويختفي، ولكن رغم ذلك لم أتمكن من زحزحته. أما الفكرة الأخرى التي سيطرت عليَّ سرًّا — وتعدُّ دليلًا دامغًا على أن هذا المرض أيًّا ما كانت طبيعته قد ترك أثرًا خطيرًا على نفسي — فهي أن الشيء الوحيد الذي يستحق تحقيقه في حياتي المهنية هو أن أؤلف رواية، ولهذا أشعر أني محظوظ لأني تمكَّنت من تحقيق ذلك.
أعظم روائيي الإنجليزية هم جين أوستن، وجورج إليوت، وهنري جيمس، وجوزيف كونراد — والتوقف لحظة عند هذه النقطة الآمنة نسبيًّا في التاريخ … يعني البدء في تمييز القِلَّة العظيمة حقًّا — الروائيون الكبار الذين يصلون لقامات الشعراء الكبار في الأهمية، بمعنى أنهم لا يغيرون فقط إمكانيات الفن بالنسبة للممارسين والقُرَّاء، بل تنبع أهميتهم كذلك من الوعي الإنساني الذي يُنَمُّونَه؛ ذاك الوعي بالإمكانيات التي تحملها الحياة. (ص٩-١٠)
في الواقع حين ندرس الإتقان الشكلاني لرواية [جين أوستن] «إيما» نجد أنه لا سبيل لتذوقها إلَّا من خلال الانشغالات الأخلاقية التي تُميِّز اهتمام الروائية المميَّز بالحياة … والشيء نفسه ينطبق على بقية روائيِّي الإنجليزية العظماء … فجميعهم يتميزون بقدرتهم الحيوية على تأمل التجارب الإنسانية، وبنوع من الانفتاح التبجيلي على الحياة، وبتركيز أخلاقي مميز. (ص١٧)
يمكن أن يكون ليفيز مناضلًا ومعتزًا بصلاحه الذاتي، ولكني حينما التقطتُ عدوى مجموعته، انتقل إليَّ معها اقتناع راسخ بأن جين أوستن وجورج إليوت وهنري جيمس وجوزيف كونراد كانوا — وبلا نزاع — أعظم روائيي الإنجليزية حتى بدايات القرن العشرين. ما حدث بعد ذلك ولله الحمد أن نطاق الروائيين الذين تستحق أعمالهم القراءة اتسع بقدر هائل، فلم يعد الأمر يقتصر على الروائيين الإنجليز أو الأوروبيين أو الروسيين أو الأمريكيين، ولكنه شمل كذلك روائيين من جميع أنحاء العالم.
مشكلتي مع [هذا النوع من] التأويلات هي أنها في الدراسة الأدبية تبعدنا عن النص نفسه، باتجاه استغلال النص بصفته عينةً لقضية تاريخية أو ثقافية ما. وقد وصف بيتر رابينويتز هذا الأسلوب وصفًا دقيقًا بأنه «قاعدة الإزاحة التجريدية». وتنقسم هذه القاعدة إلى خطوتين؛ «تشمل الخطوة الأولى عملية تبديل، ووفقًا لهذه القاعدة يُعامَل الأدب الجيد دومًا وكأنه يدور حول شيء آخر»؛ أي إن معناه «الحقيقي» يكمن في شيءٍ آخر بخلاف معناه الظاهري السطحي. أما الخطوة الثانية فهي «عملية تعميم» باتجاه فرضية يفترض أن لها قيمة عالمية … ولا أظن أن أغلب القُرَّاء العاديين (خارج قاعات الدرس) ينخرطون في تأويل النصوص بهذا الأسلوب. لا شك في وجود معانٍ أخرى للتأويل، وليس غرضي اقتراح أنها بلا أهمية. ولكن تجاوز النص نفسه هو ما أود أن أشير إليه.
والصعوبة هنا تكمن — كما يشير مِيول — في أنه مهما كان ناقد الإزاحة مثيرًا للاهتمام، يكون غرضه صرف الانتباه عن النص إلى موقف معين (أيديولوجي غالبًا) يدافع عنه الناقد. والنتيجة أنه عند قراءة عمل هذا الناقد لا يُمَكَّن المرء كثيرًا من التفكير في النص أو الشعور به بطريقة جديدة، بل إنه يُحمَل على التصويت لموقف معين.
(٤) جماعات القراءة
سمعتُ في أحد المؤتمرات مؤخرًا شخصًا (أتمنى لو تذكرت من هو) يقول: «انتقلت عملية التأويل برمتها من أقسام الدراسات الأدبية إلى جماعات القراءة.»
وأفضل كتاب أعرفه عن جماعات القراءة من تأليف جيني هارتلي وسارة تيرفي اللتين أجرتا استقصاءً جرى أغلبه في المملكة المتحدة، ولكنه غطى كذلك أجزاءً أخرى حول العالم. وفي عام ٢٠٠٠، توصَّلَتا إلى تقديرٍ بوجود ما يصل إلى ٥٠ ألف جماعة قراءة في بريطانيا و٥٠٠ ألف في الولايات المتحدة. وفي استقصائهما الأساسي ﻟ ٣٥٠ جماعة قراءة في المملكة المتحدة، تمكَّنَتا من التوصُّل إلى نطاقٍ من أنواع الجماعات، وتحديد الشكل النموذجي للجماعة. يتكون ثُلُثا الجماعات من النساء فقط، بينما كانت أغلبية الجماعات المتبقية مختلطة، مع أقلية من الجماعات المكوَّنة من الرجال فقط. وتميل جماعة القراءة النمطية للاجتماع مرة واحدة شهريًّا، ولقراءة الأعمال القصصية الخيالية أكثر من غيرها. وتوصلت الباحثتان بين النتائج الأخرى للاستقصاء إلى الكتب الثلاثة المفضلة لدى جماعات القراءة من بين الجماعات الثلاثمائة والخمسين التي خضعت للاستقصاء، وهي كالآتي (يشير الرقم بين القوسين إلى عدد الجماعات التي قرأت كلًّا من الكتب): «مندولين الكابتن كوريلي» بقلم لوي دي بيرنيير (٨١)، و«رماد أنجيلا» بقلم فرانك ماكورت (٧١)، و«إله الأشياء الصغيرة» بقلم أرونداتي روي (٥٨).
بحث عن معنى داخل الكتاب، وفي بعض الأحيان كان المشاركون يجدون معانيَ مختلفة تمامًا؛ إذ يربط كلٌّ منهم بين النص وردود أفعاله الانفعالية والحياتية الخاصة. (ص٢٥٦)
وفي عام ١٩٩٦ أنشأت كارين تومسون برنامج «الأدب من أجلنا جميعًا» في شيكاجو، وارتكز على حلقات القراءة للأمهات المراهقات العَزْباوات. وتقام من خلال هذا البرنامج — الذي بلغ عدد عضواته ٤٥٠٠ عضوة بحلول عام ٢٠٠٩ — نقاشات أسبوعية حول الكتب مدتها ٩٠ دقيقة تحت إشراف مرشدين متمرسين. وتتبع النقاشات حول الكتب التي تقرؤها الجماعات تدريبات على كتابة الشعر، تتمم العضوات خلالها مجموعة من العبارات المستهَلَّة ببوادئ نصية من قبيل «أنا …» أو «أعتقد أن …» وما شابه. وفي تورونتو، أسَّست جو ألتيليا برنامجًا قائمًا على المبادئ نفسها تحت اسم «الأدب من أجل الحياة» عام ٢٠٠٠، ولا تزال تديره. وقد بلغ عدد عضوات البرنامج الشابَّات ١٤٠٠ عضوة بحلول عام ٢٠٠٩.
التقويمات انتهت إلى وجود تطورات ملموسة في استخدام التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات.
وفي دراسة أجرتها إليزابيث لونج على جماعات القراءة التي نشأت مع ظهور الحركة النسوية في الولايات المتحدة، وجدت أن نساء الطبقات الوسطى قد أعلَيْن من قيمتهن المنبعثة من كونهن نساء في هذه الجماعات بطرقٍ لم تكن تحظى بتقدير المجتمع في المعتاد. ولا يوجد سبب يدعو لأن يظل هذا التأثير محصورًا داخل الطبقات الوسطى.
على الرغم من أن أغلب هذه الرسائل مصنفة «خارج الموضوع» وتستغرق في النِّكات والملاحظات الشخصية التي تُنَكِّه الوجبة اليومية من المحادثات الحيوية، يظل التركيز منصَبًّا على الكتب من خلال ثلاث مناقشات شهرية منتظمة حول الكتب، إلى جانب مناسبات دورية مدرجة لمشاركة خبرات القراءة.
في بداية عام ٢٠١٠، بحثت باستخدام جوجل عن جماعة «فور ميستري أديكتس»، ووجدت أنها لا تزال نشطة. وفي الوقت نفسه، كانت توجد جماعة إلكترونية أخرى نشطة أتت فيستر على ذكرها تُسمَّى «دوروثي إل» (تيمُّنًا بدوروثي إل سيرز) لقُرَّاء قصص الألغاز أيضًا، ويتراوح عدد المنشورات على صفحتها بين ١٠٠٠–١٨٠٠ منشور في الشهر. توجد علاوة على ذلك جماعات نقاش إلكترونية أخرى للكتب التي لا تنتمي للألغاز. ومثال ذلك جماعة «ذا فالف» الإلكترونية النشطة للقراءة والمناقشة، والتي تتكون نواتها من الأشخاص الذين مارسوا مهنة تدريس الأدب أو لا يزالون يدرسونه. كذلك تُدير مجلة ذي نيويوركر، منذ ١٧ فبراير ٢٠٠٩، منتدى قراءة عبر الإنترنت للأدب بوجه عام. ومن ألوان المناقشات الأخرى التي تُجرى عبر الإنترنت، ويستطيع المرء متابعتها على الإنترنت «مشروع «المفكرة الذهبية»»، وهو عبارة عن ملاحظات على الهوامش ومحادثات تكتبها وتجريها سبع نساء حول رواية دوريس ليسينج «المفكرة الذهبية».
(٤-١) تغيُّرات التأويل
- إضفاء الطابع الديمقراطي: ربما كان التأويل في فترة من الفترات حكرًا على
مدرسي الأدب الذين كانوا بدورهم يوجِّهون غيرهم، مزَوَّدين بما تعلَّموه من
تأويلات قائمة الأعمال النموذجية. غير أن التأويل صار مع حركة جماعات القراءة
أمرًا مشاعًا.
وقد فحص مارك فيربورد وكيس فان ريس من خلال عملهما التجريبي هذا النوع من إضفاء الطابع الديمقراطي، من خلال التساؤل عن التأثيرات التي انعكست على ما يُدَرَّس في حصص الأدب في المدارس الثانوية في هولندا. وحلَّلا محتوى كتب الأدب الدراسية، واختيارات المدرسين من هذه الكتب الدراسية، ووجدا أن طريقة عرض مؤلفي الأعمال الأدبية وأعمالهم في الكتب الدراسية على مدار العقود الأخيرة من القرن العشرين صارت أكثر اعتمادًا على تفضيلات الطلاب في القراءة، وليس على قائمة أعمال نموذجية يحددها خبراء الأدب. ويبدو أن المدرسين، خلال تلك الفترة أيضًا، اختاروا الكتب المدرسية التي كانت أكثر تفاعلًا مع تفضيلات الطلاب.
- تنوع أساليب التعامل: من النتائج الضمنية لنظرية استجابة القارئ أن تنوع ردود الأفعال على الأعمال الأدبية لم يعُد مشكلة بل أصبح ميزة. ولكن هذا لا يعني أن تأويلات الخبراء — النقاد والمعلِّقين الأدبيين — ليست ذات قيمة، بل إن أحد مصادر قيمتها ينبع من أن ما يكتبه هؤلاء الخبراء — مثله مثل الأعمال التي يكتبون عنها — هو نتاج التفكير العميق في أمر ما. إن أحد المبادئ التي تأسَّست عليها مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس هو محاولة العثور على معلِّقين يعرفون عن موضوعات الكتب التي تُستعرَض أكثر مما يعرف مؤلفو تلك الكتب. لا يوجد بيننا من يستطيع أن يكون خبيرًا في جميع موضوعات الكتب التي تثير اهتمامه بهذه الطريقة، إلا أن هذا الموقف يعني أننا لسنا مضطرين للتقيد بالفكرة — المستقاة من مفهوم النظام التعليمي الذي يهدف لتقويم الطلاب — التي تقول إن هناك أنواعًا صحيحة من التأويل هي وحدها التي يمكن حملها محمل الجدِّ.
- التأويل في محادثات: لم تعُد التأويلات تصريحات تصدر عن أصحابها، ولكن إسهامات يُعبَّر عنها في إطار محادثات يمكن أن تصير، في سياقات كجماعات القراءة، أجزاءً من علاقات.٨
وقد أسهَمْتُ شخصيًّا في تأسيس جماعتين للقراءة، واحدة منهما في إدنبرة واستمرت لمدة ثلاث سنوات، والأخرى في تورونتو ولا تزال قائمة منذ ٢٠ عامًا. وقد اقتصرت قراءاتنا في كلتا المجموعتين على الروايات؛ على الرغم من بعض الاستثناءات مع القصة القصيرة والمذكرات وسِيَر الحياة. وكان قِوام كلتا الجماعتين من الأصدقاء. كنا نلتقي، ولا نزال نلتقي، بصفتنا جماعة، مرة واحدة شهريًّا تقريبًا. وتتكون جماعتنا الحالية من تسعة أعضاء (خمس سيدات وأربعة رجال)، وهو عدد مناسب جدًّا بالنسبة لنا جميعًا. وتتسم الجماعة بتنوع رائع في خبرات تناول الأعمال القصصية، بحيث إن الأشياء التي فاتتني بالكُلِّيَّة فيما قرأنا، أو لم أدركها، أو لم أفهمها يراها أشخاص آخرون في الجماعة، ويدركونها، ويفهمونها، ويفكرون فيها. وغالبًا ما نناقش الشخصيات في اجتماعاتنا. وتتيح لي النقاشات التي نقيمها في الجماعة التبحر فيما قرأت، ومن الشائع أن يقول أحدنا: «لم يعجبني الكتاب جدًّا، ولكن النقاش كان رائعًا.» في الوقت نفسه، من خلال ربطنا بين ما نقرأ وبين خبراتنا الشخصية تتعمق وتتسع العلاقات بين أعضاء الفريق وفهمنا بعضنا بعضًا.
(٤-٢) حين تكون جماعات القراءة فعَّالة حقًّا
يتحدث الناس في جماعات القراءة الفعالة عن السبب في أن كتابًا معينًا أثر فيهم (أو لم يؤثر)، أو كيف ساعدهم ذلك الكتاب على تغيير مشاعرهم، أو ما رأوه فيه، أو الجانب الذي ساعدهم على استجلائه من خبرتهم. وبعد ذلك — بدلًا من القراءات الجزئية التي يمزح بشأنها بول بايار في كتابه «كيف تتحدث عن الكتب التي لم تقرأها» — يرى كل شخص شيئًا لم يره الآخرون في الكتاب ويُعبِّر عنه فيحدث توَسُّع، وتبدأ الجماعة وأعضاؤها في استتمام خبرة قراءتهم للكتاب بطريقة يصعب على المرء تحقيقها بمفرده.
عرضتُ في الفصل الثالث فكرة رولان بارت بأن المرء، عندما يقرأ عملًا أدبيًّا، قد يركز أولًا على عنصر معين ثم ينتقل إلى عنصر آخر، وهي فكرة نافعة في رأيي لفهم ما يجري داخل جماعات القراءة؛ لأن أعضاء الفريق يمكن أن يتحدثوا — من خلال ما يقولونه في أي لحظة — عن أيٍّ من تلك العناصر، بينما يمكن أن يتحدث أعضاء آخرون عن عناصر أخرى. وهكذا (وبالترتيب نفسه الوارد في الفصل الثالث) قد (١) يتحدث المرء عمَّا يبدو من غموض أحد عناصر النص وكيف يمكن حل غموضه، أو (٢) وجود شيء مادي في النص يشير إلى معنى تجريدي مهم، أو (٣) التأثير المفاجئ أو التداعيات غير المتوقعة لفعل شخصية ما، أو (٤) الغموض الإيجابي المحيط بأحد عناصر النص، أو (٥) طريقة عرض قِيَم ثقافية معينة، مألوفة أو غير مألوفة. كل هذه عناصر يمكن أن تكون مهمة وذات معنى، وأن يمر بها البعض في بعض قراءاتهم، أو يمر بها آخرون بدرجة أقل. ولكن من السهل — داخل إطار الصداقة التي تجمع الجماعة — أن يُقِر المرء أن بعض الأشياء التي لم يجدها مهمة في قراءته للعمل يمكن أن تكتسب أهمية من منظور آخر.
وعلاوة على النماذج التي وضَّحَها بارت (أعلاه)، أعتقد أنه يوجد أمران آخران يكتسبان أهمية في جماعات القراءة، وقد أعطيتهما الأولوية في هذا الكتاب، ألَا وهما: الشخصية والمشاعر.
أما عن الشخصية، ففي جماعة القراءة التي أنتمي إليها، وكما وجدت تود من خلال دراستها أيضًا، حينما يعجز الأعضاء عن التماهي مع الشخصيات أو التعاطف معها، فإنهم يميلون للتذمر من الكتاب. إذ يُمكِن الترحيب بأي شخصية أو راوٍ أو مؤلِّف داخل العقل من خلال التماهي والتعاطف، فيتأتَّى بعد ذلك التحدث عنها أو عنه للآخرين في الجماعة. وهذا يحدث حين توجد سمة مميَّزة للشخصية أو موقفها أو مسارها يجعل القصة تُعبِّر عن أمر ذي أهمية شخصية. ويبدو الأمر مع الشخصيات التي يحدث التماهي معها كما لو أن منظومة الصداقة التي تربط الأعضاء يمكن أن تتسع وتدعو تلك الشخصية للانضمام للجماعة. ولكن، كما وجد آي إيه ريتشاردز أن بعض الطلاب لم يرغبوا في السماح لقصائد معينة بالولوج داخل عقولهم، أحيانًا ما يرفض بعض الأعضاء في الجماعة السماح لشخصيات معينة أو مؤلفين معينين بالولوج داخل عقولهم.
(٥) الحديث عن تشيخوف
تُعَد قصة أنطون تشيخوف «السيدة صاحبة الكلب الصغير» واحدة من أعظم القصص القصيرة في العالم. وهي أحد الأعمال الأدبية التي درسها أعضاء الفريق البحثي الذي أعمل به، وكنت ناقشت في الفصل السابع قدرتها على تمكين الناس من عمل تغييرات بسيطة في الشخصية. وفي هذا القسم أطرح تأويلًا للقصة، ولكن ليس باعتباره تصريحًا، وإنما مساهمةً منِّي في الحوار الذي آمل أنه كان يدور معكم، قُرَّاء هذا الكتاب. وقد تتفاعلون من خلال التفكير في شيءٍ مختلف تمام الاختلاف ترونه في قصة تشيخوف أو تشعرون به تجاهها.
تتكون القصة من أربعة أجزاء. يبدأ الجزء الأول برجل يُدعى جوموف في منتجع يالطا الساحلي المُطِل على البحر الأسود، حيث يقابل امرأة تُدعى آنا سيرجيفنا؛ السيدة صاحبة الكلب الصغير. كلٌّ من جوموف وآنا متزوج بشخص آخر تركه في الوطن. ويبدأ الاثنان في تبادل الحديث والتنزه معًا. في الجزء الثاني يتجه جوموف وآنا إلى غرفتها في الفندق حيث يمارسان الغرام. بعدها ينتاب آنا شعور مريع، وترى نفسها كائنًا وضيعًا لارتكابها مثل هذا الفعل. ولكنهما يعاودان قربهما فيما بعدُ ويتجهان إلى أورياندا، حيث يجلسان على إحدى الدِّكَك ويتطلعان إلى البحر. ثم تنتهي الإجازة، ويعود كلٌّ منهما إلى بيته وزوجه. في الجزء الثالث، على الرغم من العلاقات الغرامية التي أقامها جوموف من قبلُ، وتوقُّعه أن ينسى آنا تدريجيًّا وببساطة، فإنه لا يستطيع التوقف عن التفكير فيها؛ فيختلق عذرًا لزوجه ويسافر إلى البلدة التي تعيش فيها آنا. وهناك، في ليلة افتتاحٍ في مسرح البلدة، يرى جوموف آنا، ويتبادلان حديثًا مقتضبًا في فترة الاستراحة، وتعده هي أن تأتي إلى موسكو لزيارته. وفي الجزء الرابع في موسكو نجد جوموف مستغرقًا في علاقته الغرامية ويشعر بالتناقض مع نفسه، وكأن كل ما يراه الناس منه محض كذبة، بينما كل ما هو حقيقي فيه يجب أن يبقى سرًّا. وتتكرَّر زيارات آنا لجوموف في موسكو من وقت لآخر، ويشعر كلاهما أن هذه الزيارات مرهقة ومقلقة، ويأملان لو يتمكنان من إيجاد حل للموقف، ولكنهما يدركان أن ذلك قد لا يكون ممكنًا.
والآن، أنتقل إلى شيء من تجربتي مع القصة، وأسألكم عن رأيكم وشعوركم حيالها.
بادئ ذي بدء أنا متماهٍ مع جوموف. أتقمص مؤقتًا شخصيته واهتمامه بعلم فقه اللغة التاريخي والمقارن (كما يسع المرء أن يقول اليوم الأدب وعلم نفس الأدب)، وكذلك طموحه أن يكون مغني أوبرا. العمل المصرفي يبدو مضجرًا، وما يزيد الطين بلة أنه متزوج من امرأة لا يشعر بالقرب منها، بل يخشاها أيضًا. وهكذا تبدأ القصة مع جوموف الذي قد لا يكون يواجه مصاعب جسامًا، إلا أن يواجه مصاعب رغم ذلك. إلى جانب ذلك، يتَّسم جوموف بصفات لا أرتاح إليها، كأسلوب حديثه المستخِفِّ بالمرأة، ولكني أستطيع في نفسي المتماهية معه اكتساب هذه الصفات، بل وتبنِّي أغراضه أيضًا في إطار هذه القصة.
مع الجزء الثاني أبدأ في فهم المزيد من آنا. تزوجَت صغيرةً لأنها أرادت أن تهرب من سجن أسرتها، وظنَّت أنه لا بد «من وجود شكل آخر للحياة»، ولكنها تكتشف بعد زواجها أنه على الرغم من أن زوجها قد يكون رجلًا صالحًا، فهي لا تحترمه. ودون أن تدري إذا كان السبب شعورها المبهم بالمرض أم رغبتها في الابتعاد عن زوجها لبعض الوقت والانفراد بنفسها، وصلت إلى يالطا وصارت تهيم في شوارعها «برأس مائد كالمجنونة.» والآن وقد ارتكبت هذا الفعل — مضاجعة رجل لا تعرف عنه شيئًا تقريبًا — حوَّلَت نفسها إلى «امرأة خبيثة وضيعة.»
من السهل عليَّ التماهي مع آنا؛ فهي تنجذب لرجل يبدو متعاطفًا معها، وترغب — لأي سبب كان — في الشعور بالقرب منه. ولكنها وفي أول تعبير عن مشاعر قوية في القصة — بعد علاقتها الأولى مع جوموف — تنتابها مشاعر مريعة؛ تشعر بالذنب والعار؛ ليس لأنها خانت زوجها، ولكن لأنها خانت نفسها. لديَّ ما يكفي من خبرات الحياة التي شعرت فيها بالذنب والعار لأتعاطف معها. هل كان يجب أن تحافظ على المسافة بينها وبينه؟ هل يستغلها هو مستهزئًا بها بإغوائها ليحصل على ما يريده الرجال: الجنس؟
الآن يخضع تماهيَّ مع جوموف لقَيدٍ. المعتاد في الروايات الرومانسية ألا يعيب بطل القصة الذكَر شيء. عادةً ما يكون في سن مناسبة، ويكون أرمل. لكن جوموف يفتقر لهذين الأمرين، بل وأسوأ من ذلك؛ عندما تنفجر آنا في نوبة الاشمئزاز من نفسها — وعلى الرغم من أن جوموف كان أقرب ما يكون لها مؤخرًا — يشعر بالملل والضيق، ويفكر في أنها تقيم علاقة غرامية، فماذا تتوقع؟ هو يرغب في قضاء وقت طيب معها دون أن تفتعل الأزمات. يقطع لنفسه شريحة من الشمام، وينتظرها حتى تهدأ. وهنا أظن أن أمرًا مهمًّا قد حدث في القصة؛ لقد تماهيتُ مع جوموف، وما زلت متماهيًا معه، ولكن مع استمرار هذا التماهي، ولأنه يبدأ في التصرف بأسلوب سيِّئ، أجد نفسي مضطرًّا لتأمل ذاتي؛ لأني سايرت جوموف طويلًا. هل أشعر أنا أيضًا بالملل والضيق من يأس آنا؟ وهل أود في قراءة المزيد عن علاقتهما؟ يتغير تصوري لذاتي بسبب مسايرتي جوموف. أنا أيضًا قادر على فعل ما يفعل؛ الأنانية والافتقار إلى التعاطف، وهذا يختلف عن الطريقة التي أحب أن أرى نفسي بها.
بعد ذلك تشعر آنا وجوموف بالتقارب مرة أخرى، ويستمر الشعور بالتقارب.
إذا تماهينا مع البطلين، وتبنَّينا أهدافهما، مَن إذن يكون الخصم؟ في هذه القصة، أعتقد أن الخصم هو شيء أشبه بالمجتمع، الذي يبدو أن ترتيباته تراوغنا، دون أن نستطيع التفكير فيها كما يجب، فنصبح أسرى مواقف ما كنا لنختارها لو أننا استطعنا فهم هذه الترتيبات فهمًا جيدًا.
أو لعلَّ هذه ليست الطريقة المناسبة للتعبير عن الأمر. وربما يكون من الأفضل التفكير في أننا يمكن أن ننجذب — وخاصَّةً في شبابنا — لشخص ما في إطار علاقة جسدية تبدو مناسبة في وقتها، ثم يحدث دون أن نعرف كيف أن تتحول هذه العلاقة التي يدخلها المرء طوعًا إلى التزام، ويصبح الالتزام قيدًا، ويضحي القيد سجنًا. وربما يكون هذا التسلسل الخفي — من الانجذاب الجسدي وصولًا إلى حالة السجن — هو الخصم.
زوج جوموف وزوج آنا هما أيضًا خصمان من نوع ما، ولكن بطريقة غير مباشرة؛ فَهُما لا يفعلان الكثير لإحباط البَطَلين، اللذين تزوجا شخصين اكتشفا أنه من الصعب عليهما أن يحافظا على مشاعرهما تجاههما. والآن تمنعهما زيجاتهما بحواجز لائقة ومحترمة ومقبولة تمامًا من تحقيق الحميمية التي يشعران بالانجذاب إليها.
ماذا عن رأيك في المشهد الذي تلا ممارسة آنا وجوموف الغرام؟ إذا كان تماهيك الأولي مع آنا، فما رأيك في انغماس جوموف في ذاته، وعجزه عن إدراك الخطوة التي أخذتها آنا؟
في الصباح الباكر بعد علاقتهما الغرامية الأولى، يسير جوموف وآنا إلى مرسى البلدة، ويستقلان عربة أجرة إلى أورياندا.
في أورياندا جلسا على دكَّة ليست بعيدة عن الكنيسة، وتطلَّعا إلى البحر في صمت. كانت يالطا لا تُرى تقريبًا من سديم الصباح، وكانت غيوم بيضاء ساكنة تحجب قمم التلال، بينما سيطر السكون على أوراق الأشجار، وأزَّت زيزان الحصاد، وصعد صوت البحر رتيبًا ثقيلًا من الأسفل ليكشف عمَّا هو آتٍ، عن الموت الأبدي الذي ينتظرنا. هكذا زأر البحر حينما كانت يالطا وأورياندا عدمًا، وهو الآن يزأر، وسيظل يزأر، بتثاقل، ودونما أدنى اكتراث بعد أن نتلاشى وكأننا لم نكن.
تلك في رأيي واحدة من أبلغ الفقرات تأثيرًا في تاريخ الأدب النثري، ويوافقني الرأي آخرون. وهي المشهد الذي تستهل به جانيت مالكوم كتابها، عن حجِّها إلى روسيا لزيارة الأماكن التي عاش فيها تشيخوف وألَّف أعماله.
أستطيع تخيُّل الجلوس على هذه الدكَّة، وتخيُّل الجلوس بجوار شخص تتنامى داخلي مشاعر الحب تجاهه، وتخيُّل الاضطراب الذي يعتمل في قلب آنا، وتخيُّل محاولة جوموف المثيرة للشفقة لإيقاف إحساس العبث في قلبه، والعثور على شيء من الحميمية والقرب والهدف الذي يفتقده في حياته. ولكن مهما بلغت أهمية هذه الأمور الإنسانية وغيرها وخطورتها، ستظل أمواج البحر تتكسر على الشاطئ. وأعتقد أن تأثير الفقرة بالغ إلى هذه الدرجة لأنه المجاز الأمثل. الآن يتسع صوت البحر الرتيب المتثاقل الذي سمعته عشرات المرات — تعبير الجزء عن الكل — ليعكس عدم اكتراث الطبيعة بأسرها بهمومنا البشرية، وعدم اكتراثها حتى بموتنا وتحوُّل وجودنا كله إلى محض أمواج وجزيئات. ما يُكسِب هذا المشهد تأثيره الخاص بالنسبة إليَّ هو أن تشيخوف تمكَّن فيه من التوصل إلى الكلمات المناسبة التي أستطيع استقبالها برحابة صدر وإدخالها إلى عقلي، ولا أقصد مجرَّد الموقف والشخصيتين والدكَّة والبحر بالأسفل، بل الكلمات نفسها. فالتأثير أشبه ما يكون بقصيدة يتمكن فيها الشاعر من العثور على الكلمات المناسبة لفكرة بعينها أو شعور بعينه، وهذا ما قصده جون كيتس في حديثه عما ينبغي أن يكونه الشعر، حين يلتقي ما بداخل الإنسان مع التعبير، فينتج شيء «أشبه بذكرى».
في الجزء الثالث تنتقل القصة إلى موسكو، وأتعمق بقدر أكبر في شخصية جوموف: شخصية على طراز شخصيات روايات القرن التاسع عشر؛ فهو يحب موسكو، ويحب بدايات تساقط الجليد، ويقرأ ثلاث صحف في اليوم، بينما يقول إنه لا يقرأ الصحف باعتبارها مسألة مبدأ. وهو يحب أن يزوره المشاهير في بيته، ويستمتع بحفلات العشاء، ويلعب الورق مع أستاذ جامعي في نادي الجامعة. ويصلني إحساس أن علاقته الغرامية قد أنعشته، وأنه يعيش حياة هانئة خارجيًّا وداخليًّا. ويتوقع جوموف أن تنحسر ذكرياته مع آنا بهدوء كما انحسرت مثيلاتها من قبلُ.
الآن تتلاشى فجأة شخصية القرن التاسع عشر الخيالية، وأدخل فجأة حياة جوموف الداخلية، وكأن فيرجينيا وولف هي من تصفها؛ فأقرأ كيف يغلق جوموف عينيه ليرى آنا تنظر إليه من ركن الغرفة، وأقرأ أنها «بدت أجمل وأرق وأصغر من الواقع، وأنه بدا لنفسه أفضل مما كان في يالطا.» وأقرأ أنه ينظر إلى النساء في الشارع ليرى إن كُنَّ هي. وأقرأ أن الشوق قد غلبه، ويود لو أسرَّ بأمره لشخص ما، ولكن لا يوجد أحد؛ فتبدو حفلات العشاء والاجتماعيات التي ينخرط فيها همجية، ويجد نفسه فجأة يخطط لرحلة إلى إس — المدينة التي تعيش فيها آنا — ويذهب بالفعل، وينجح في لقائها.
أستطيع تذكر مواقف كنت فيها مغلوبًا بهذا النوع من الشوق لشخص ما. في إحدى المرات في نهايات سنوات مراهقتي، كنت أقضي عطلة مع والدَيَّ في مكان أحبه، ولكني وجدته بغيضًا حينها؛ فكل ما كنت أريده هو أن أكون مع هذا الشخص تحديدًا. وفي مناسبة أخرى، حين كنت أكبر سنًّا، في العقد الرابع من عمري، كنت في كندا وتوفي والد زوجتي، وعادت هي إلى إنجلترا لحضور الجنازة، ولكي تكون بجوار والدتها، ولكن منعني عملي من مصاحبتها. لم أكن أفكر في ذلك الوقت إلَّا في رغبتي أن أكون معها، وكنت أفكر أفكارًا لا إرادية. وهكذا ساعدني تشيخوف في استجلاء هذه الخبرات الحياتية.
فما رأيك أنت في شوق جوموف؟
وهكذا وبتآمر غريب بين الظروف أصبح كل ما هو مهم ومشوق وحيوي له، وكل ما مَكَّنَه من أن يكون مخلصًا وصادقًا مع نفسه، وكل ما كان محور كينونته — كل هذا كان لزامًا أن يظل مخفيًّا بعيدًا عن أعين الناس؛ بينما كان كل ما جعل وجوده زائفًا، مجرد شبح اختبأ داخله ليخفي الحقيقة، كعمله في البنك ونقاشاته في النادي وتهكمه المفضل من النساء، وتردده على الحفلات مع زوجه — كل هذا كان ظاهرًا للجميع.
ما أسوأه من انقسام للذات، وما أصعبه من اشتياق! ويا لسخرية القدر أن يصبح الرجل الذي لطالما أقام العلاقات الغرامية وكان يستخف بها — والذي ربما هجر فيها نساءً منكسرات القلب — هو نفسه الآن، مغلوبًا بمشاعره، فما رأيك؟
والآن يحدث ما يزيد الطين بلة: مرور الزمن. الخصوم — الالتزامات الحالية والأعراف والمجتمع — لا تخبو. حينما ينجرف المرء في شغف من هذا النوع، فهو لا يرى نفسه كما يجب. لكن تشيخوف يجعلنا نعرف.
كان الشيب يزحف على رأسه، واستغرب هو كيف يمكن أن يصبح خلال السنوات القليلة الأخيرة أكبر سنًّا وأقبح شكلًا هكذا. كان كتفاها دافئين ويرتعشان للمسته، وباغته فجأة شعور بالشفقة على حياتها التي لم تزل غاية في الدفء والجمال، ورغم ذلك قد تكون في بداية طريقها للتلاشي والذبول، كحياته. لماذا تحبه إلى هذه الدرجة؟
كان الوقت يمر كصوت البحر الرتيب في أورياندا بانعدام المبالاة ذاته تمامًا. ونحن هنا لا نبعد كثيرًا عن العبارة الختامية المؤثرة للقصة:
وبدا لهما أنهما سيجدان الحل بعد قليل، وستبدأ حياة جديدة رائعة، وكان جليًّا لكليهما أن النهاية بعيدة قَصِيَّة، وأن أصعب فترة وأشَقَّها في علاقتهما كانت تبدأ لتوِّها.
ما رأيك؟
يبدأ المرء في المحادثات أو جماعات القراءة في ملاحظة تنوع التأويلات. لكن المحادثة حميمية. فخلال تماهي المرء مع الشخصيات تنكشف أمامه جوانب من ذاته يُسِرُّها داخل نفسه. ومن الممكن أن تصبح أي رواية أو قصة قصيرة خطوة نحو التقارب في المحادثات التي يخوضها المرء كما يُسِرُّ شخصان بأشياء لبعضهما البعض، أو حين يقص مريض حلمًا في إطار العلاج النفسي.
(٦) من المحادثة إلى المحادثة
يبدو من المعقول أن يكون القَصص الخيالي قد نما من رحم المحادثة — ذاك المربِّي الإنساني تمامًا لعلاقاتنا وللنماذج التي نقيمها للآخرين — من خلال القصص عما فعله المتحدث، وعن مناقب الأشخاص الذين يعرفهم المستمع. وبمرور الزمن، تحوَّلَت هذه القصص إلى أعمال سردية محبوكة بعناية عن الاحتمالات والتقلبات والمشاعر الإنسانية. وبمرور الزمن، أصبحت المحادثة حوارًا، وهو أحد أهم المكونات المميِّزَة للقصص الخيالية. وقد عُدْنا في هذا الفصل الأخير إلى المحادثة عن أعمال القَصص الخيالي — أحلام الصحو التي ينسجها التخيُّل — التي يمكن أن تصير محل الاهتمام المشترك والمشاركة التضامنية في علاقاتنا.