أفضل أمل للبشرية؟ تاريخ موجز للأمم المتحدة
نعتقد عادة أن المنظمات الدولية ظاهرة من ظواهر القرن العشرين بدأت بتأسيس عصبة الأمم في عام ١٩١٩، وهذا الاعتقاد صحيح إلى حد بعيد، ومع ذلك ففي أواخر القرن التاسع عشر بدأت الأمم بالفعل في تأسيس منظمات دولية للتعامل مع قضايا محددة: أولى هذه المنظمات قاطبة كانت الاتحاد الدولي للاتصالات، الذي تأسس عام ١٨٦٥ (وكان يسمى في البداية بالاتحاد الدولي للبرق)، واتحاد البريد العالمي، الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام ١٨٧٤، واليوم تعد كلتا هاتين المنظمتين جزءًا من نظام الأمم المتحدة. وأسس مؤتمر السلام الدولي الذي عقد في لاهاي عام ١٨٩٩ المحكمة الدائمة للتحكيم، التي بدأت عملها في عام ١٩٠٢. كانت هذه المحكمة أول وسيط لتسوية المنازعات بين الدول، وهي سلف محكمة العدل الدولية التي أسستها الأمم المتحدة. بيد أن اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس ١٩١٤ وما تبعه من مجازر أوضَحَ مواطنَ قصور هذه الآلية. وأذن بنهاية النظام الدولي — المسمى بالوفاق الأوروبي — الذي جنَّب القارة العجوز ويلات خوض حرب كبرى منذ مغامرات نابليون قبلها بقرن.
بين عامي ١٩١٤ و١٩١٨ شهدت أوروبا أشنع مذابح عبر تاريخها المخضب بالدماء بالفعل؛ إذ هلك قرابة العشرين مليون شخص، وانهارت إمبراطوريات (كالإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية مؤقتًا)، وولدت أمم جديدة (مثل تشيكوسلوفاكيا وأستونيا وفنلندا)، وانتصرت ثورات إصلاحية (في روسيا) وخسرت أخرى (في ألمانيا). باختصار، بزغ نظام عالمي جديد.
(١) عصبة الأمم: «ضمان مؤكد للسلام»
مع هذا، باشرت العصبة أعمالها من جنيف بسويسرا في عام ١٩٢٠، بعد أن استضافتها لندن فترة مؤقتة، وسريعًا ما أحرزت العصبة نجاحات محدودة؛ ففي أوائل عشرينيات القرن العشرين، سوَّت العصبة منازعات إقليمية بين فنلندا والسويد حول جزر أولند، وبين ألمانيا وبولندا حول سيسيليا العليا، وبين العراق وتركيا حول مدينة الموصل. كافحت المنظمة تجارة الأفيون الدولية وخففت من حدة أزمة اللاجئين في روسيا بقدر من النجاح. وقد وفرت العصبة — بعملها كمنظمة أم لوكالات مثل منظمة العمل الدولية والمحكمة الدائمة للعدل الدولي (سلف محكمة العدل الدولية الحالية) — نموذجًا لمنظمة الأمم المتحدة المستقبلية.
خضعت العصبة — بوصفها منظمة للدول المنتصرة — لهيمنة فرنسا وبريطانيا العظمى، إلى جانب اليابان وإيطاليا كعضوين دائمين في مجلس المنظمة (الذي يعادل تقريبًا مجلس الأمن في الأمم المتحدة اليوم وأعلى سلطة في شئون الأمن الدولي). كانت الدول المؤسِّسة الثماني والعشرين، والممثلة بالجمعية العامة، في أغلبها دولًا أوروبية ومن أمريكا اللاتينية.
في الواقع، كانت عصبة الأمم بهذا المعنى تعبيرًا عن الهيمنة الأوروبية على العالم في ذلك الوقت؛ إذ كانت أغلب دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط واقعة تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية. وبطبيعة الحال أرست العصبة ما سمي بنظام الانتداب كي تُعد «أهالي» الأقاليم المختلفة للحكم الذاتي والاستقلال. ومُنحت الدول التي لها حق الانتداب — كبريطانيا في فلسطين، وفرنسا في لبنان وسوريا — سلطات واسعة فيما يخص تلك الإعدادات. وقد أخذوا وقتهم وزيادة، واضطرت الدول الواقعة تحت الانتداب إلى الانتظار حتى عام ١٩٤٥ كي تحقق الاستقلال، الذي أتى مصحوبًا بالكثير من العنف وعدم الاستقرار، ثم — على المدى البعيد — عدم الأمان المزمن.
ومع ما اتسم به نظام الانتداب من قصر نظر، فإنه كان بمنزلة قنبلة موقوتة لم تنفجر إلا بعد أن زالت العصبة نفسها من الوجود، وكان فشل العصبة في منع نشوب الحرب العالمية الثانية هو السبب في زوالها.
(٢) العالم في حرب
مع أن غياب الولايات المتحدة كان عاملًا مهمًّا تسبَّب في إصابة عصبة الأمم بالعجز؛ فإن أهمية هذه المنظمة تضاءلت أكثر بسبب عدم احترام القوى العظمى لها. انضمت ألمانيا والاتحاد السوفييتي للعصبة، لكن لفترة وجيزة: إذ انضمت ألمانيا عام ١٩٢٦، ثم خرجت بعد اعتلاء النازي سدة الحكم عام ١٩٣٣، وفي عام ١٩٣٣ انضم الاتحاد السوفييتي للعصبة، لكن بعدها بست سنوات، بعد هجومه على فنلندا في أواخر ١٩٣٩، صار الاتحاد السوفييتي العضو الوحيد الذي طُرد من العصبة.
حينها، كانت العصبة قد شهدت انسلاخ اثنين من الأعضاء المؤسسين عنها؛ إذ غادرتها اليابان في عام ١٩٣٣ بسبب عدم رضاها عن النقد الذي تعرضت له بسبب احتلالها لمنشوريا، وطرحت إيطاليا الالتزامات التي تفرضها العضوية جانبًا حين غزت إثيوبيا، إحدى الدول الأفريقية الثلاث الأعضاء بالعصبة (إلى جانب ليبيريا وجنوب أفريقيا) ونجحت في احتلالها.
لماذا فشلت العصبة في مجابهة هذه السلسلة من الأفعال العدوانية التي اقترفها عدد من القوى العظمى العازمة على استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها التوسعية؟ من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات كبحت حماس الدول الأخرى — فرنسا وبريطانيا تحديدًا — للمخاطرة بالأرواح والموارد بالقتال في حروب بعيدة لم يكن لها أثر مباشر على أمنها القومي. ومن ثم، تحولت إلى سياسة المهادنة، التي ثبت فشلها في نهاية المطاف؛ فخلال مؤتمر ميونخ الذي عقد عام ١٩٣٨، وافقت بريطانيا وفرنسا على تفكيك تشيكوسلوفاكيا بالموافقة على ضم منطقة السوديت إلى ألمانيا بزعامة هتلر. لو كان مبرر هذا الفعل هو وجود عدد كبير من السكان المتحدثين بالألمانية في المناطق التي تخلت عنها تشيكوسلوفاكيا، فقد لا يكون هناك مبرر للاحتلال الألماني اللاحق لما بقي من تشيكوسلوفاكيا. وحين هاجمت ألمانيا بولندا في سبتمبر عام ١٩٣٩، بعد عقد حلف مشئوم مع الاتحاد السوفييتي قبلها بشهر واحد، تبددت تمامًا الآمال العريضة التي عُلقت على العصبة منذ عقدين فحسب.
تسبب عجز عصبة الأمم عن ممارسة ضغط كافٍ في حالات العدوان الصريح في تحجيمها أكثر وأكثر؛ فوفق الاتفاقية الخاصة بها، يحق للعصبة توجيه الإنذارات اللفظية أو فرض عقوبات اقتصادية على الدولة المعتدية، وإذا فشلت هذه الطرق يحق لها التدخل عسكريًّا. من الناحية النظرية، كانت هذه الخطوات منطقية ومعقولة، وفي حين عجزت الإنذارات اللفظية عن إثناء الدولة المعتدية القوية والمصممة على المضي في عدوانها، احتاجت العقوبات الاقتصادية تعاونًا دوليًّا. ولما كانت العصبة لا تملك أي سلطة فيما وراء عدد أعضائها المحدودين، ظلت الدول الواقعة تحت ضغوط العقوبات الاقتصادية قادرة على المتاجرة مع الدول غير الأعضاء بالعصبة، وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات تحديدًا، لم يكن من العسير العثور على الأطراف الراغبة في المتاجرة، ولأن العصبة لم تملك جيشًا خاصًّا بها، استلزم التدخل العسكري أن توفر الدول الأعضاء القوات المطلوبة. على أرض الواقع كان هذا يعني القوات الفرنسية والبريطانية، لكن لم تكن أي من الدولتين مهتمة بالتورط في صراعات قد تكلفها الكثير في أفريقيا أو آسيا.
وبحلول الوقت الذي طردت فيه العصبة الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٣٩، لم يعد هناك مفر من الاعتراف بأن العصبة فشلت في هدفها الشامل؛ فلم تصبح العصبة — كما أمل ويلسون — «ضمانًا مؤكدًا للسلام». ومع هذا، صار جليًّا مع بداية الحرب العالمية الثانية أن هناك حاجة لنوع من المنظمات الدولية لحمايتنا من التردي نحو حروب مهلكة في المستقبل. وكان هناك هدف أساسي: عدم السماح بتكرار تجربة عصبة الأمم.
(٣) الإنشاء
يعود أول «إعلان للأمم المتحدة» إلى الأول من يناير عام ١٩٤٢، حين تعهد مندوبو ست وعشرين دولة بمواصلة حكوماتهم للقتال معًا حتى هزيمة قوات المحور وإرساء السلام «العادل». وبهذا، وعلى عكس عصبة الأمم، بدأت الأمم المتحدة تحالفًا ظهر إلى الوجود مع دخول الأمريكيين الحرب في أعقاب الهجوم الياباني على بيرل هاربر وإعلان ألمانيا الحرب على الولايات المتحدة في ديسمبر عام ١٩٤١. صارت الحرب العالمية الثانية صراعًا عالميًّا بحق؛ تتقاتل فيها قوات الحلفاء (بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي) ضد قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان).
كانت الحرب العالمية الثانية حربًا مهلكة. ويقدر عدد القتلى من العسكريين والمدنيين بنحو ٧٢ مليون شخص. وقد خلفت الحرب تأثيرًا عميقًا على الاقتصاديات القومية والعالمية، إلى جانب البنى السياسية في العالم. انهارت الإمبراطوريات الأوروبية إما أثناء الحرب أو نتيجة لها، وظهرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كأقوى دولتين على الأرض، واحتُلت ألمانيا واليابان وجردتا من قوتيهما العسكرية. وإجمالًا، تغير وجه العالم تمامًا.
لم تتغير القضية الأساسية التي تعامل معها واضعو مسودة ميثاق الأمم المتحدة في جوهرها عن تلك التي واجهها ويلسون ونظراؤه الأوروبيون في عامي ١٩١٨ و١٩١٩. لقد أرادوا إنشاء منظمة تُعدُّ، بحق، ضمانًا مؤكدًا للسلام. كان هناك الكثير من التشاؤم، وهو أمر مفهوم في ظل المصير الذي آلت إليه أهداف العصبة النبيلة. وكما كان الحال من قبل، ظلت المعضلات والإشكاليات كما هي دون تغيير: كيف نوازن بين السيادة القومية والمثالية الدولية؟ كيف نسوي عدم التوازن بين الدول من حيث السلطة والتأثير، والموارد والالتزامات؟ بعبارة أخرى، كيف نعد ميثاقًا يقر بالحقيقة الراسخة القائلة إن بعض الدول متساوية أكثر من غيرها، ويتعامل معها بفعالية؟ كيف نضمن أن بعض الدول لن تنسحب من الأمم المتحدة — كما فعلت اليابان مع عصبة الأمم في الثلاثينيات — حين لا تعجبها قراراتها؟
واجه القائمون على إعداد ميثاق الأمم المتحدة هذه القضية بآلية بسيطة؛ حق النقض (الفيتو). بمعنى آخر، منح الميثاق سلطات أعلى لخمس من الدول المؤسِّسة — الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي — مكنتها من منع اتخاذ أي قرارات ترى أنها ستضر بمصالحها. صارت هذه الدول الخمس أعضاءً دائمين بمجلس الأمن، وستحتفظ كل دولة منها بمقعدها في أهم هيئات المنظمة الجديدة ما دام لها وجود. من شأن هذه الاستراتيجية، كما اعتُقد، أن تزود الدول العظمى بالدافع لكي تظل جزءًا من الأمم المتحدة، بيد أنها أمدتها أيضًا بوسيلة لتحييد هذه المنظمة العالمية.
ميثاق الأمم المتحدة باختصار
يتألف ميثاق الأمم المتحدة من سلسلة من المواد موزعة على فصول؛ يستعرض الفصل الأول الأهداف العامة للأمم المتحدة، وأهمها حفظ السلم والأمن الدوليين، يحدد الفصل الثاني المعايير العامة لعضوية الأمم المتحدة، وأنها متاحة ﻟ «جميع الدول المحبة للسلام»، لكن على الدول الراغبة في الالتحاق بالمنظمة الحصول على «توصية» مجلس الأمن، وهو ما يعطي مجلس الأمن حق الاعتراض على عضوية أي دولة.
الجزء الأساسي للوثيقة موزع على الفصول من ٣ إلى ١٥، ويصف أجهزة ومؤسسات الأمم المتحدة وسلطات كل منها. ولعل أهم الفصول هي تلك التي تتناول سلطات تطبيق القوانين لهيئات الأمم المتحدة الرئيسية؛ على سبيل المثال: يناقش الفصلان السادس والسابع سلطة مجلس الأمن للتحقيق في المنازعات والتوسط فيها، إضافة إلى سلطته في فرض العقوبات أو استخدام القوة العسكرية، وتتناول الفصول التالية سلطات الأمم المتحدة في التعاون الاقتصادي والاجتماعي؛ كمجلس الوصاية، الذي أشرف على إنهاء الاستعمار، وسلطات محكمة العدل الدولية، ووظائف الأمانة العامة للأمم المتحدة، الذراع الإداري (أو الديوان الدائم) للأمم المتحدة.
اختلف الميثاق عن اتفاقية العصبة تحديدًا في تأكيده على دفع التقدم الاجتماعي والاقتصادي كهدف أساسي. كان دفع التقدم الاقتصادي جزءًا من اتفاقية عصبة الأمم أيضًا، لكنه ظهر، على استحياء، في المادة ٢٣. وعلى النقيض من ذلك، فقد ورد في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة ذاتها «أن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها.»
كان سبب التركيز على أهمية التنمية الاقتصادية والاجتماعية متأصلًا في سنوات ما بين الحربين؛ فقد رأى الكثيرون في الكساد الاقتصادي العالمي في أواخر العشرينيات والثلاثينيات السبب الرئيسي للاضطرابات السياسية التي أدت إلى ظهور النزعة القومية المفرطة وأفعال العدوان التي تمخضت عن الحرب العالمية الثانية؛ ولهذا نُظر إلى تعزيز المساواة الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها وسيلة لحماية الأمن الدولي.
أراد مؤسسو الأمم المتحدة إنشاء منظمة قادرة على منع «ويلات الحرب» من أن تحل بالبشرية مرة أخرى، ولتحقيق هذا الهدف عرَّف المؤسسون قضية الأمن الدولي بكلمات أشمل مما فعل مؤسسو عصبة الأمم، وهدفوا إلى إقامة هيكل يمكن الأمم المتحدة من المشاركة النشطة في شئون العالم الرئيسية: الأمن العسكري، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودعم حقوق الإنسان والعدالة الدولية.
بطريقة ما، كان الجميع سيستفيد، لكن من ناحية أخرى، مهَّد هذا لإشكاليات مستقبلية.
(٤) باكورة الحرب الباردة والأمم المتحدة
لم يدر بخلد الموقعين الأوائل على ميثاق الأمم المتحدة أن يضمن فعل الإنشاء البسيط هذا وجود نظام عالمي سلمي؛ ففي الواقع تشاركت الأمم المتحدة في سمة مهمة مع المنظمة السابقة عليها. شأن عصبة الأمم، فإن الأمم المتحدة — منذ تأسيسها — كانت «منظمة للمنتصرين»؛ فلم يُمنح خصوم الحرب الكبار وحلفاؤهم ومناصروهم العضوية إلا في وقت لاحق؛ على سبيل المثال: اشتمل أول مجلس للأمن على دول كالبرازيل ومصر والمكسيك ونيوزيلندا والنرويج، فيما أُغفلت دول كبولندا وإيطاليا واليابان وألمانيا، ومع هذا ارتكز الأمل في أن تكون الأمم المتحدة قوة أكثر فعالية في حماية الأمن الدولي على حقيقة أن كلًّا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانتا من الدول المؤسسة.
حين وصلت وفود الواحد والخمسين دولة لحضور أول سلسلة من الاجتماعات في لندن في يناير عام ١٩٤٦، كان المناخ العام للعلاقات الدولية في تدهور بالفعل، وفي فبراير ألقى الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين خطبة نالت الكثير من النقد، وصف فيها العالم بأنه منقسم على نحو تام بين نظامين سياسيين واقتصاديين، وفي الخامس من مارس استجاب رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل بالإعلان بأن الستار الحديدي أُسدل عبر أوروبا. بعدها بعام، كشف الرئيس الأمريكي هاري ترومان عن «مبدأ ترومان»، الذي يعد أول تعبير عام عن استراتيجية أمريكا طويلة الأمد لاحتواء المد السوفييتي والتأثير الشيوعي.
كان التردي اللاحق إلى الحرب الباردة سريعًا؛ ففي فبراير عام ١٩٤٨ اكتمل إسدال الستار الحديدي في أوروبا الشرقية-الوسطى حين انضمت تشيكوسلوفاكيا إلى صفوف الجبهة السوفييتية للديكتاتوريات الشيوعية. وفي أوروبا الغربية، حظيت الولايات المتحدة بمركز تفوق كثقل موازن للتأثير السوفييتي، وذلك من خلال مساعدة الفصيل المناهض للشيوعية في الحرب الأهلية اليونانية، وتقديم المساعدة لتركيا بسبب تعرضها للضغوط من جانب الاتحاد السوفييتي، إلى جانب إطلاق مشروع إعادة إعمار أوروبا — المعروف بمشروع مارشال — الذي عزز التعافي الاقتصادي بين عامي ١٩٤٨ و١٩٥٢ لدول أوروبا الغربية. رسخ إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أبريل عام ١٩٤٩ انقسام أوروبا إلى معسكرين معاديين. وفي السنوات (والعقود) التالية صارت الحرب الباردة أكثر عالمية واتسامًا بالطابع العسكري. وسريعًا ما تبع قيام جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام ١٩٤٩ تحالفها مع الاتحاد السوفييتي، ثم في يونيو من عام ١٩٥٠ اندلعت الحرب الكورية، التي مثلت أول تحدٍّ خطير يواجه الأمم المتحدة.
لم يتسبب ابتداء الحرب الباردة واندلاع أول حرب كبرى ساخنة في حقبة ما بعد عام ١٩٤٥ في تدمير الأمم المتحدة، بيد أنه شكل على نحو جوهري دور المنظمة في العلاقات الدولية، وحدَّ من قدرتها على العمل كقوة إيجابية للأمن الدولي. يظل الصراع الكوري هو التدخل العسكري الوحيد واسع النطاق للأمم المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة، وهو لم يتحقق إلا بفضل غياب الاتحاد السوفييتي عن جلسات مجلس الأمن في يونيو من عام ١٩٥٠؛ حين كان الاتحاد السوفييتي يقاطع الأمم المتحدة لرفضها قبول جمهورية الصين الشعبية القائمة حديثًا عضوًا بالمنظمة. ومن ثم لم يكن مندوب الاتحاد السوفييتي موجودًا لنقض القرار الذي رعته الولايات المتحدة، وهو الحق الذي استخدمه الاتحاد السوفييتي لما لا يقل عن ثمانين مرة بين عامي ١٩٤٦ و١٩٥٥.
كان استخدام الاتحاد السوفييتي لحقِّ النقض مرتبطًا — في واقع الأمر — بعقبة أخرى تسببت فيها الحرب الباردة؛ مأزق إضافة أعضاء جدد للأمم المتحدة. فمن الجلي أن كون الدولة «محبة للسلام» لم يكن بالمؤهل الكافي. فخلال العقد الأول بعد توقيع الميثاق في سان فرانسيسكو، أضيفت تسع دول وحسب إلى المنظمة: أفغانستان وأيسلندا والسويد وتايلاند عام ١٩٤٦، وباكستان واليمن عام ١٩٤٧، وبورما (ميانمار الآن) عام ١٩٤٨، وإسرائيل عام ١٩٤٩، وإندونيسيا عام ١٩٥٠. ومن الواضح أن كون هذه الدول أكثر «محبة للسلام» من دول أخرى دأبت على التقدم لعضوية المنظمة مثل فنلندا أو أستراليا أمر محل شك.
في الواقع، لم يكن هناك نقص في عدد الدول المتقدمة للعضوية. لكن الحرب الكورية (١٩٥٠–١٩٥٣) جعلت أي تعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مستحيلًا. علاوة على ذلك، كان هناك خلاف سوفييتي-أمريكي بشأن طريقة الاختيار: فبينما كان الاتحاد السوفييتي يرغب في عقد صفقة شاملة تضمن إضافة عدد متساوٍ تقريبًا من الدول المؤيدة للاتحاد السوفييتي والدول المؤيدة لأمريكا والدول المحايدة للأمم المتحدة، أصرَّت الولايات المتحدة على أن يُحسم أمر كل دولة متقدمة للعضوية وفق مدى جدارة هذه الدولة بعينها، وكانت النتيجة الوصول إلى طريق مسدود؛ إذ لم يُضف أي أعضاء للمنظمة لمدة خمس سنوات بعد عام ١٩٥٠.
ومع هذا فإن أكثر ما أضر بمصداقية الأمم المتحدة في الخمسينيات والستينيات كان الجدل الذي نشب حول طلب جمهورية الصين الشعبية الانضمام للأمم المتحدة ومجلس الأمن. فبعد انتصار جمهورية الصين الشعبية — أو «الصين الشيوعية» كما سماها أغلب السياسيين الأمريكيين — بالحرب الأهلية في عام ١٩٤٩، زعمت أنها الممثل الشرعي ﻟ «كل» الصينيين. قوبلت هذه الفكرة برفض محموم من جانب جمهورية الصين (أو تايوان)، التي كانت حليفًا للولايات المتحدة وتلقت منها الدعم المستمر. ولأكثر من عقدين ظلت تايوان — الجزيرة الصغيرة المقابلة لساحل الصين التي فر إليها القوميون الصينيون بعد انتصار الشيوعيين — تمثل الصين في الأمم المتحدة. والأهم من ذلك أن تايوان تمتعت بحق النقض في مجلس الأمن وكأنها واحدة من القوى العظمى الخمس في العالم. وفقط في عام ١٩٧١، حين رغبت إدارة نيكسون في إنشاء علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، غيَّرت واشنطن سياستها الخاصة بعدم الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. لكن بكين ظلت مصرة على تمثيل الصين كلها. ومن ثم حلت جمهورية الصين الشعبية محل تايوان في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وخرجت الجزيرة الصغيرة وسكانها الذين يقدر عددهم بحوالي ٢٢ مليونًا من عباءة الأمم المتحدة.
مع أن ظهور الحرب الباردة أثر على نحو جوهري على فعالية الأمم المتحدة في أول عقد لها، فقد ظهر عدد من التطورات الإيجابية أيضًا. أهم هذه التطورات قاطبة هو تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام ١٩٤٨، وهو وثيقة جرى التفاوض حولها تحت قيادة إلينور روزفلت، أرملة الرئيس الراحل روزفلت. أيضًا، في عام ١٩٤٨، أرسلت الأمم المتحدة أول مراقبي السلام إلى جنوب آسيا والشرق الأوسط. وفي الشرق الأوسط تحديدًا، توسط ناشط الحقوق المدنية رالف بانش بنجاح في اتفاقيات الهدنة بين دولة إسرائيل الوليدة وجيرانها العرب في عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩. وفي الفترة نفسها، نشطت الأمم المتحدة في التعامل مع احتياجات لاجئي الحرب العالمية الثانية الأوروبيين، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إنشاء مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين في عام ١٩٥٠.
إلا أن هذه العلامات البارزة لم تستطع إخفاء حقيقة أنه خلال العقد الأول من عمرها، كانت الأمم المتحدة رهينة للمناخ الدولي المشحون بشدة. وتحديدًا، كان التحول في طبيعة الحرب الباردة هو ما حل مشكلة العضوية التي وصلت لطريق مسدود، تلك المشكلة التي بدأت في منتصف الخمسينيات تقوض مصداقية الأمم المتحدة كمنظمة دولية منفتحة بحق.
(٥) إنهاء الاستعمار والتنمية
انضمت ست عشرة دولة إلى الأمم المتحدة في عام ١٩٥٥، وهو ما وصل بعدد الدول الأعضاء إلى ست وسبعين دولة. جاء هذا التوسع نتيجة لصفقة شاملة انضمت بموجبها دول من أوروبا الشرقية — مثل ألبانيا وبلغاريا والمجر — في مقابل انضمام دول من أوروبا الغربية، مثل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا. إضافة إلى ذلك، ضمت الصفقة الشاملة عددًا من الدول الأوروبية المحايدة (النمسا وفنلندا وأيرلندا) وقلة من الدول المستقلة حديثًا (كمبوديا ولاوس وليبيا).
عكست الصفقة الشاملة التي عقدت في عام ١٩٥٥ هدوءًا مؤقتًا في التوتر بين الشرق والغرب في أعقاب وفاة ستالين ونهاية الحرب الكورية. لكن بعدها بعام واحد تصاعد التوتر الدولي مجددًا مع انفجار أزمتين في الوقت ذاته تقريبًا؛ ففي أكتوبر عام ١٩٥٦ تدخلت القوات السوفييتية لسحق الحركة الديمقراطية في المجر. لم يثر ذلك القمع الوحشي أي رد فعل من جانب الولايات المتحدة، وهو ما يرجع في جزء منه إلى تزامنه مع الهجوم الفاشل لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر بعد إعلان الزعيم المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. ومن قبيل المفارقة أن صارت أزمة قناة السويس أول قضية مهمة يقف فيها الأمريكيون والسوفييت الموقف نفسه داخل الأمم المتحدة؛ إذ صوتت الدولتان لمصلحة قرار يدعو للانسحاب الفوري للقوات الأجنبية من مصر.
توصف أحيانًا أزمة السويس عام ١٩٥٦ باللحظة التي بلورت نهاية الطموحات الاستعمارية الأوروبية، وفي السنوات التي تلتها حصلت أغلب المستعمرات البلجيكية والبريطانية والفرنسية على استقلالها، وأثناء الحصول على استقلالها سعت الدول الجديدة بكل جد لنيل الاعتراف الدولي، وكان أحد أهم رموز سيادتها القومية هو نيل عضوية الأمم المتحدة.
اشتركت الدول الجديدة في سمة أخرى، وهي أن أغلبها رفض الانحياز لأحد جانبي الصراع بين الشرق والغرب، واختار بدلًا من ذلك الانضمام لما سمي بحركة عدم الانحياز. بدأت الحركة باجتماع خمس وعشرين دولة في بلجراد، يوغوسلافيا في عام ١٩٦١. وعبر العقود التالية نمت حركة عدم الانحياز لتضم أكثر من مائة دولة سمت عن الانخراط في الحرب الباردة. وفي عام ٢٠٠٦ مثلًا، عقدت الحركة قمة أخرى في هافانا بكوبا. وقد أصبحت حركة عدم الانحياز، منذ السبعينيات، أكبر تجمع للدول الممثلة بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
كان الأثر الأساسي لحركة عدم الانحياز هو تركيز أنشطة الأمم المتحدة واهتماماتها على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وتحديدًا على قضية التوزيع غير العادل للثروة بين دول الشمال والجنوب. أبرَزَ أولُ مؤتمر للأمم المتحدة للتجارة والتنمية — الذي عقد في عام ١٩٦٤ — هذا الهدف من خلال تكوين مجموعة السبعة والسبعين، وهي منظمة حرة لتنمية بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وتحاول إبقاء المساعدات الإنمائية على رأس خطة عمل الأمم المتحدة.
وقد نجحت في هذا المسعى؛ فمن الجلي أن منظمة الأمم المتحدة الموسعة ركزت على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في الستينيات والسبعينيات، وقد عُقدت مؤتمرات دولية كبرى برعاية الأمم المتحدة عن البيئة (١٩٧٢) وعن وضع المرأة (١٩٧٥)، وتبنت الأمم المتحدة اتفاقيات ضد التفرقة العنصرية (١٩٦٩)، ولمكافحة التعصب والتفرقة على أساس النوع (١٩٧٩). ونجح برنامج الأمم المتحدة للبيئة في الضغط من أجل توقيع اتفاقية حماية طبقة الأوزون (بروتوكول مونتريال) في عام ١٩٨٧. وفي عام ١٩٨٠ أعلنت منظمة الصحة العالمية القضاء على مرض الجدري (إذ ظهرت آخر حالة إصابة بالمرض عام ١٩٧٧). ومع أن قدرة المنظمة على التعامل مع قضايا الأمن الدولي (وخاصة تلك المتعلقة بالحروب بين الدول وداخل الدولة نفسها) كانت محل شك خلال الحرب الباردة، واجهت الأمم المتحدة بنشاط وفعالية العديد من التحديات العالمية الأخرى، وتحديدًا تلك التي تواجه الأعضاء الجدد.
(٦) الأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة
كان عنان، ذلك الغاني ذو الشخصية الآسرة، الذي قاد الأمم المتحدة لعقد من الزمان (١٩٩٧–٢٠٠٧)، محقًّا بلا ريب. لكنه كان مدركًا بالتأكيد أن تلك المُثل السامية كانت أبعد ما تكون عن التحقق في بداية الألفية الجديدة. وقد شهد العقد ونصف العقد التاليان على نهاية الحرب الباردة الكثير من التغيرات، سواءٌ في سياسات الأمم المتحدة أو داخل المنظمة نفسها، لكن ندر أن يكون من بينها التدخل على نحو أكبر في شئون العالم.
تحقق النمو بطرق متعددة؛ فقد زاد عدد أعضاء الأمم المتحدة من ١٥٩ دولة في عام ١٩٨٩ إلى ١٩٢ دولة عام ٢٠٠٧، وفي الفترة نفسها قفزت ميزانية الأمم المتحدة من ٢٫٦ مليار دولار إلى حوالي ٢٠ مليار دولار. نتج هذا في جزء منه عن الزيادة في عدد عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. فخلال العقود الأربعة الأولى لوجود الأمم المتحدة، أجريت ثلاث عشرة عملية لحفظ السلام، وأجيزت ست وثلاثون عملية منذ عام ١٩٨٨. وفي عام ٢٠٠٧ بلغت قوات حفظ السلام في العالم قرابة الثمانين ألف فرد، مقارنة بثلاثة عشر ألفًا قبل هذا التاريخ بعقدين. زادت تكلفة هذه العمليات عشرة أضعاف: من حوالي ٥٠٠ مليون دولار في أواخر الثمانينيات إلى ٥ مليارات دولار في عام ٢٠٠٦. وفي الوقت ذاته، أفرطت الأمم المتحدة في تقديم الكثير من الخطط والتعهدات الطموحة، المدعومة بعدد لا يحصى من الدراسات والمؤتمرات. تبلور أغلب هذا النشاط في عام ٢٠٠٠، حين كشفت الأمم المتحدة النقاب عن «الأهداف الإنمائية للألفية»، وهي قائمة بثمانية أهداف عالمية تراوحت بين تقليص الفقر إلى النصف حتى وقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية/متلازمة نقص المناعة المكتسب (الإيدز) وتوفير التعليم الأساسي على مستوى العالم. ومن المفترض أن يتحقق هذا كله بحلول عام ٢٠١٥.
لكن لم يستطع كل هذا النمو والنشاط أن يخفي الحقائق القاسية التي واجهتها الأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. فبالرغم من الزيادة الحادة في عدد عمليات حفظ السلام التي اضطلعت بها، فإن الإخفاقات تتفوق على النجاحات؛ فعلى سبيل المثال: مع أن الأمم المتحدة نجحت في تحويل ناميبيا إلى حكم الأغلبية، فإنها فشلت في منع المجازر التي وقعت في كل من يوغوسلافيا السابقة ورواندا. ومع أن نسبة البشر الذين يعيشون في فقر مدقع في آسيا قد تكون انخفضت في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فإن أعدادًا مشابهة ارتفعت في أفريقيا.
وهكذا كانت أول ستة عقود من عمر الأمم المتحدة مفعمة بالتغيير. وقد دللت زيادة عدد الأعضاء وحدها على أن المنظمة كانت، بحلول أوائل القرن الحادي والعشرين، المنظمة العالمية الوحيدة بحق. لكن هذا التطور كان محفوفًا بالتحديات والإحباطات، في حين تعاملت منظمة الأمم المتحدة سريعة التغير مع قضايا الأمن البشري والدولي، وإدارة ما بعد الصراع، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. ومن خلال العمل على مستوى عالمي، وبهيئة عاملين دولية وداخل نظام دولي تسيطر عليه الصراعات، لم تحقق الأمم المتحدة عادة سوى نجاح محدود متفاوت وحسب في أي من هذه المناحي.
أحد السبل لفهم السبب وراء ذلك الحال يكمن في الهيكل المختلط نفسه للمنظمة الدولية.