المطاردة الكبرى!
شعر «عثمان» أنَّ الرجل بدأ يشك فيه بعد رفضه شرب العصير … فهل كان عليه أن يشربه؟ نعم كان عليه أن يشربه؛ فلا يمكن للرجل أن يضره والشركة تعرف أين هو لأنه خرج بأمر شغل، والسيارة تقف بالباب … إذن فإن عليه أن يشرب العصير … هذا هو القرار الذي وصل إليه «عثمان» بعد مشاورات كثيرة مع نفسه؛ لذا فقد مدَّ يده ليمسك بالكوب … غير أنَّه لاحظ قبلها أن سيارته لا تقف أمام الباب، فتراجع وقال للأستاذ «حمدي»: أين السلم؟
الأستاذ «حمدي»: ألم أقل لك إنه في البلكونة!
عثمان: وأين البلكونة؟
أشار «حمدي» إلى باب في آخر المطبخ وقال له: هذا بابها …
فتح «عثمان» الباب … وما كاد يخطو خطوةً واحدة في البلكونة … حتى سقط ما يشبه الهِراوة على رأسه … فسقط مغشيًّا عليه … وبعد وقتٍ لا يعرفه هو … شعر بصداع شديد ودوار، وتذكَّر أنه كان مغشيًّا عليه، وأنه أفاق في هذه اللحظة فقط، وحاول أن يمسك رأسه فوجد يده مقيدة، وكذلك رجلَيه، وتذكَّر عامل الفندق القتيل وعرف مصيره … ولكن يمكنه أن يفعلها ويقنع زملائي أنه لم يراني … وهذا ما حدث … فقد سمعه «عثمان» … يتحدَّث مع أحدٍ وكان يقول: لقد كنت في عملي … أنا لم أغادر مكتبي … لقد طلبتني الخادمة لكني لم أتمكَّن من الانصراف مبكِّرًا … يمكنكم التفتيش إن أردتم، على أن يتم ذلك بمعرفة البوليس وبإذنٍ من النيابة.
عرف «عثمان» أنَّ من يسألون عنه هم الشياطين … وأنهم لن يتركونه مختطفًا ليتخلَّص منه هذا الرجل ومن معه … ولكن مَن مع هذا الرجل؟
هل حقًّا قبض ثمن ابنه واستأجر أعوانًا … وهو يعد العدة للهروب خارج «مصر»؟
على كورنيش النيل وفي أحد الفنادق الشهيرة القريبة من منطقة «العجوزة» «فندق شهرزاد» … جلس «أحمد» و«إلهام» و«بو عمير» و«رشيد» يعدون خطة اقتحام الفيلا … وتركوا عندها «مصباح» و«فهد» يراقبون عن بعدٍ أي تحرُّكات مريبة تحدث قبل البدء في الاقتحام …
في هذه الأثناء كان «عثمان» قد أفاق وفك قيده … وتجوَّل بحرية داخل الفيلا … فالفيلا كانت خالية. نعم لم يكن بها أحد … والأستاذ «حمدي» غادرها إلى غير رجعة … فأدراج مكتبه مفتوحة عن آخرها وخالية من الأوراق، كذلك دولاب ملابسه … ليس به إلا بعض الملابس المستعملة، ولكن لا أثر لأوراق أو أغراض شخصية أو أدوية … حتى ابنه أو شبيه ابنه الذي قالوا عنه إنه يحتفظ به إلى أن يحصل على ابنه … غير موجود.
وفي اتصالٍ سريع تعجَّب «أحمد» لِمَا يجري قائلًا: أين أنت يا «عثمان»؟
عثمان: أنا في الفيلا.
أحمد: هل أنت مقيَّد؟
عثمان: أنا حرٌّ والفيلا خالية، والرجل تمكَّن من الفرار.
أحمد: أليس عندك ما يدل على مكانه؟
عثمان: لديَّ آخر رقم اتصل به تليفونيًّا، وهو مسجَّل على ذاكرة التليفون …
أحمد: هل يمكنك التحري عنه؟
عثمان: لقد قطع سلكَ التليفون من مكان غير معروف. سأُبلغك بالرقم وقم أنت باللازم …
خطأ فادح وقع فيه «حمدي» … تخيَّل أنه يجمع أوراقه كلها وقطع الحرارة عن التليفون … لن يستطيع أحد العثور عليه … ولم يلحظ أن للتليفون ذاكرة … ومرةً ثانية قام «أحمد» بالاتصال ﺑ «عثمان» وقال له: التليفون في منطقة «المعادي» في شارع الأشجار رقم سبعة، وكان يخص دكتور قلب يدعى «محمد مختار»، وهو غير موجود ﺑ «مصر» … والفيلا مؤجرة لشركة تقوم بتأجيرها مفروشة.
عثمان: إذن سأذهب إلى هناك.
أحمد: هل حالتك تسمح؟
عثمان: أنا في أحسن حالاتي … هل آتي إليكم أم تأتون إلي؟
أحمد: سنأتي إليك …
عندما غادر الشياطين منطقة «العجوزة» … كانت هناك عيون كثيرة تراقبهم، وقد شعروا بذلك … فآثروا ألَّا يذهبوا مباشرةً إلى منطقة «المعادي» حتى لا يثيروا شك هؤلاء المراقبين … بل سلكوا طريق الكورنيش في اتجاه «الجيزة»، ثم استكملوا الطريق إلى «المنيب»، ومن هناك صعدوا إلى الطريق الدائري إلى اتجاه «المعادي».
ولأن «إلهام» كانت تضحك لِمَا فعله «عثمان» من احتفاظه بعدة التليفون الخاصة ﺑ «حمدي»، فقد قال لها: إنه أحدث تليفون محمول …
ضحكت «إلهام» وقالت له: هل تنتظر استقبال مكالمات الرجل على تليفونه؟
عثمان: لا … بل احتفظت بذاكرة تليفونه … فعليها أرقام من اتصل بهم منذ أيام عدة … وأرقام من اتصلوا به أيضًا …
إلهام: إنها فكرة عبقرية …
عثمان: أنا أرى أن نستعلم عن بقية الأرقام الموجودة على الذاكرة.
إلهام: لنرَ ماذا سنجد في فيلا «المعادي» أولًا؟
وصلت السيارة إلى شارع «الأشجار» الذي كان مزدحمًا بالأشجار على جانبَيه، وعند فيلا «محمد مختار» توقَّفت … وعلى حذرٍ نزل «عثمان» ومن خلفه «رشيد» فوجد الباب الخارجي مغلقًا … وعبرا سورها ولم يكن مرتفعًا … وتقافزا على السلالم في خفة … ثم عالجا أقفال الباب … ولمَّا انفتح دلفا سويًّا في جرأة وإقدام ورشاقة وخفة الفهود … فلاحظا أنَّ الفيلا خالية … غير أن هناك ما يدل على أنها كانت مشغولةً حتى وقت قريب … والدليل على ذلك ذاكرة التليفون التي تدل على أنه استقبل مكالمات حتى الثانية والربع ظهرًا … فحمله «عثمان» وخرج به قفزًا على أطراف أصابعه، ومن خلفه «رشيد».
ومرةً ثانية ضحكت «إلهام» وقالت ﻟ «عثمان»: لا شك أنك لصُّ تليفونات.
عثمان: لقد وجدنا الفيلا خالية … ولكن كانوا بها. غادروها منذ ساعات قليلة، والدليل على ذلك ذاكرة التليفون.
ابتسم «أحمد» وهو يقول ﻟ «عثمان»: يا لك من فتًى عبقري!
وهنا صاح «عثمان» قائلًا: قل هذا ﻟ «إلهام»؛ فهي لا تعترف بأني عبقري.
وهنا انتبهت «إلهام» لهما، فقالت تسألهما: لماذا نطارد الآن الأستاذ «حمدي»؟
أحمد: أولًا لتعاونه مع جماعة قامت بتفخيخ سيارتك، وكادت تقتلكم وتدمِّر معكم فندقًا كبيرًا لتقتل بذلك مئات السياح الأبرياء.
إلهام: هذا أولًا …
أحمد: ألَا يكفي أولًا؟!
إلهام: يكفي جدًّا؛ ولكني أريد أن أسمع ثانيًا وثالثًا.
عثمان: ثانيًا … إنه حاول قتلي.
أحمد: إنه خدع الأجهزة الأمنية … واستولى على أموال الدولة، وغيره وغيره الكثير …
إلهام: لقد ورَّطه طمعه في جرائم عدة.
أحمد: ومطلوب القبض عليه وعلى من معه، وعلى قتله عامل الفندق العميل.
إلهام: إذن فليقرأ «عثمان» آخر رقم تليفون تمَّ طلبه من آخر تليفون حصل عليه.
قامت «إلهام» بإبلاغ إدارة المقر بما أملاه عليها «عثمان»، ولم تمضِ ثوان إلا وعرفت أن هذا التليفون يخص شركةً للاستيراد والتصدير … وأنها أُغلقت من فترة، وتؤجِّر الفيلا المقر مفروش …
أحمد: وأين موقعها؟
إلهام: مدينة الشروق …
أدار «أحمد» محرك السيارة ووضع قدمَيه على بدالَي السرعة والفرامل، وضغط وانطلق … وصرختِ الفرامل، وقفزت السيارة كالفهد عندما ينقَض على فريسته … وانطلقت تقطع الطريق إلى طريق «صلاح سالم»، لتنطلق منه إلى مدينة «الشروق» … وأثناء الطريق قام «أحمد» بالاتصال بنفس الرقم، وكان على الخط معه سيدة صغيرة فقال لها: مساء الخير … هل هذه شركة عبر البحار؟
فأجابت السيدة في ذوقٍ جم: كانت هنا شركة بهذا الاسم ولكنها لم تعد موجودةً الآن.
أحمد: هل يمكنني إرسال أوراق تخصهم إليكم كي تسلِّموها لهم؟
السيدة: لا مانع، ولكن لا تنتظر مني المزيد.
أحمد: ليس هناك المزيد.
أنهى اتصاله ثم قال لهم: لماذا نحن ذاهبون إلى هناك؟
عثمان: لأن هذا هو آخر مكان اتصل به «حمدي».
أحمد: وهل رأيت «حمدي»؟
عثمان: المفروض أنه كان في فيلا «المعادي» …
فجأةً مرقت سيارة مسرعة بجوار «أحمد»، لمح بها رجلًا وامرأة وطفلًا، والطفل يشبه «عبد الوهاب» … فأطلق لعداد السرعة العِنان ليلحق بهذه السيارة … ولاحظ أن هناك سيارةً تحاول اللحاق بهم من الخلف … فلم يعبأ بها، وانطلق على أثرٍ ظنه أنه «عبد الوهاب» … وكاد أن يحلق بهم … لولا أن السيارة انحرفت انحرافًا خطيرًا على يمين الطريق، وانطلقت تدخل مدينة «الشروق»، فلم يتركها وانطلق خلفها … ومن خلفه أيضًا كانت السيارة «اللاندكروزر» … تحاول اللحاق به، وانطلقت منها رصاصة اصطدمت بأكس العجلات الخلفية … وعَلا رنينها، وقال أحمد: لقد أثرناهم …
وأخرج «عثمان» مسدسه … وسحب زر الأمان به واستعد للاشتباك معهم … ومرةً أخرى انحرفت السيارة الأمامية انحرافًا حادًّا … ولكن جهة اليسار … وكادت تنقلب لشدة سرعتها … ولم يتركها «أحمد» … بل ظلَّ خلفها يلتهم الطريق التهامًا … و«اللاندكروزر» تحاول تعطيله عن ذلك … وهنا قال «رشيد»: أشعر أنهم كانوا متجهين للمطار وغيَّروا وِجهتهم عندما اكتشفناهم … ومرةً أخرى انطلقت من «اللاندكروزر» طلقة كادت تصيب العجلة الخلفية، فأخرج «عثمان» يده الممسكة بالمسدس من نافذة السيارة … غير أن «أحمد» قال له: ليس الآن يا «عثمان».
ومرةً ثالثة انطلقت رصاصة من «اللاندكروزر» فأخطأت عجلات «اللاندكروزر» ولكنها أصابت عجلات «الفورد» التي يطاردونها … فدوَّى في الأفق صوت انفجارها … وطارت السيارة في الهواء وسقطت على سقفها.
زمجرت فرامل سيارة «أحمد» في الوقت الذي توقفت فيه «اللاندكروزر» عن بعدٍ تراقب ما يجري … واجتمع الشياطين حول السيارة يحاولون عدلها لتقف على عجلاتها … فلم يتمكَّنوا … وسمعوا سارينة سيارة إسعاف لا يعرفون من الذي طلبها … وتوقَّفت السيارة بجوار «اللاندكروزر» لثوانٍ … ثم استكملت طريقها إليهم …
ونزل منها حتى السائق يحاولون عدل السيارة … وما إن أفلحوا في ذلك حتى تعاونوا في فتح الأبواب وحمل السائق الذي كانت حالته سيئة، ثم الأستاذ «حمدي» … وكان في حالة طبيعية، وكذلك زوجته وابنه «عبد الوهاب» … غير أنهم اصطنعوا الإصابة … فانطلقت بهم سيارة الإسعاف إلى المستشفى العالمي للقوات المسلحة، وهو أقرب مستشفى لهم …
ولاحظ «رشيد» أن «اللاندكروزر» انصرفت … وكأن من بها اكتفَوا بذلك وعادوا من حيث أتَوا … وانطلق «أحمد» من طريقٍ صحراوي غير ممهَّد، ولكنه مختصر للوصول إلى المستشفى … وخلال ربع ساعة كان يقف ببابها ويخرج لرجال الأمن بطاقته الأمنية، فسمحوا للسيارة بالمرور من البوابة، وعند الاستعلامات سأل عن سيارة الإسعاف، فلم يجد لديهم علمًا بها … جُن جنون «أحمد» ومن معه … فهل كان الحديث بين من بسيارة «اللاندكروزر» ومن بسيارة الإسعاف حديث اتفاق؟
وبظهر السيارة خرج «أحمد» من باب المستشفى بسرعة جنونية … وبنفس السرعة انطلق يجوب شوارع مدينة «الشروق» بحثًا عن سيارة الإسعاف، فلم يجدها، وقالت له «إلهام»: لماذا لا نتصل بالمستشفيات القريبة من هنا ونسأل عنهم؟
تنفَّس «أحمد» بعمقٍ وأخرج زفرة ضيق وقال لها: لن أجدهم …
إلهام: لماذا؟
أحمد: إن حالتهم لم تكن تستدعي الذهاب إلى المستشفى.