مقدمة
وتختلف الفترة التي سنجعلها موضوع بحثنا في هذا الكتاب عن العصور التي سبقتها وعن العصور التي لحقتها على السواء؛ تختلف عنها لا في الفلسفة فحسب، بل كذلك في وجوه كثيرة أخرى، أهمها قوة «الكنيسة»؛ ﻓ «الكنيسة» قد قرَّبت العلاقة بين المعتقدات الفلسفية وبين الظروف الاجتماعية والسياسية، على نحوٍ أشدَّ مما كان قبل العهد الوسيط أو بعده. وإنَّما نعني بالعهد الوسيط تلك الفترة التي تمتد من سنة ٤٥٠ ميلادية حتى سنة ١٤٠٠ ميلادية، وما «الكنيسة» إلا نظام اجتماعي قام على أساس عقيدة، بعضها فلسفي، وبعضها خاص بالتاريخ المقدس، ولقد ظفرت «الكنيسة» بالسلطان وبالثراء بفضل ما لها من عقيدة، وأخفق الحكَّام العلمانيون الذين ما انفكوا في صراع معها، وجاء إخفاقهم ذاك نتيجةً لاعتقاد الكثرة الغالبة من الناس — بما في ذلك معظم هؤلاء الحكام العلمانيين أنفسهم — اعتقادًا جازمًا بصدق الديانة الكاثوليكية، وكان لا بد ﻟ «الكنيسة» أن تقاوم طائفة من التقاليد الرومانية والجرمانية، وكانت التقاليد الرومانية على أقواها في إيطاليا، وبخاصة بين طائفة رجال القانون؛ وأمَّا التقاليد الجرمانية فكانت على أشدها في الأرستقراطية الإقطاعية التي نشأت عن غزوات القبائل المتبربرة. على أنَّ هذه التقاليد أو تلك قد لبثت قرونًا طوالًا عاجزة عن مقاومة «الكنيسة» مقاومة مثمرة، وتعليل ذلك هو إلى حدٍّ كبير أنَّ تلك التقاليد لم تتبلور في فلسفة تعبر عن مكنونها كله.
إنَّ تاريخًا للفكر كالذي نحن الآن مشتغلون به لا بدَّ أن يجيء ناقصًا في معالجته للعصور الوسطى؛ إذ لا مناص من أن ينظر إليها من جانبٍ واحد؛ فلو استثنينا أمثلةً قليلة جدًّا، ألفينا كل رجال هذه الحقبة من الزمن، الذين أسهموا بنصيب في حياة عصرهم الفكرية، كانوا من رجال الكنيسة، لكن غير رجال الكنيسة من أهل العصور الوسطى قد أقاموا بناءً سياسيًّا واقتصاديًّا يضطرب بالحياة القوية، أقاموه على مهلٍ، وإن يكونوا قد خبطوا فيه خبط عمياء بمعنًى من معاني الكلمة. كذلك شهد الجزء الأخير من العصور الوسطى أدبًا علمانيًّا هامًّا يختلف جد الاختلاف عن أدب الكنيسة، ولو كان ما نكتبه هنا تاريخًا عامًّا لاقتضى منَّا هذا الأدب عنايةً أكبر مما يقتضيه منَّا في تأريخنا للتفكير الفلسفي، ولست تجد قبل دانتي رجلًا من غير رجال الكنيسة يكتب كتابة العارف تمام المعرفة للفلسفة الكنسية في عصره؛ ذلك أنَّ رجال الكنيسة لبثوا حتى القرن الرابع عشر يحتكرون الفلسفة احتكارًا حقيقيًّا، ولهذا كُتبت الفلسفة، حتى ذلك الحين، من وجهة نظر «الكنيسة»؛ ولذلك استحال علينا أن نوضح الفكر الوسيط توضيحًا يقربه إلى الأفهام، دون أن نبسط في تفصيلٍ معقول؛ كيف تطورت النظم الكنسية، وخصوصًا البابويَّة.
لو قارنَّا العالم الوسيط بالعالم القديم ألفينا الأول متميزًا بألوان مختلفة من الثنائية؛ فهنالك ثنائية رجال الكنيسة إزاء العلمانيين، وثنائية اللاتينيين إزاء التيوتون، وثنائية مملكة الله إزاء ممالك هذه الدنيا، وثنائية الروح إزاء الجسد، وإنَّك لترى الثنائيات كلها ممثَّلة في ثنائية البابا إزاء الإمبراطور، وقد كانت ثنائية اللاتينيين إزاء التيوتون نتيجةً لغزوات القبائل المتبربرة، أمَّا سائر الثنائيات فلها مصادر أقدم من ذلك عهدًا؛ فالروابط التي تربط رجال الكنيسة بالعلمانيين في العصور الوسطى كانت تُصاغ على غرار العلاقات التي كانت بين صموئيل وشاءول، والمطالبة بسيادة رجال الدين قد نشأت عن الفترة التي ساد فيها أباطرة أو ملوك من الآريين أو أشباه الآريين، وإنَّك لترى ثنائية مملكة الله إزاء ممالك هذه الدنيا في «العهد الحديد»، لكنها سُوِّيت نظامًا في كتاب القديس أوغسطين «مدينة الله»، وكذلك ترى ثنائية الروح إزاء الجسد عند أفلاطون، ثم جاء أتباع الأفلاطونية الجديدة فأبرزوها، وهي تكوِّن جزءًا من تعاليم القديس بولس، وتراها سائدة في حركة الزهد التي انتشرت في المسيحية إبان القرنين الرابع والخامس.
كان القديس أوغسطين هو الذي يسود الفترة العظيمة الأولى من تاريخ الفلسفة الكاثوليكية، حيث كانت لأفلاطون السيادة بين الوثنيين، وتبلغ الفترة الثانية ذروتها في القديس توماس الأكويني، الذي اعتبر أرسطو أرجح كفةً من أفلاطون بكثير، وكذلك كان الرأي عند أتباع توماس الأكويني، ومع ذلك فقد لبثت ثنائية «مدينة الله» — بعد القديس أوغسطين — قائمةً بكل قوتها، وكانت «الكنيسة» هي التي تمثل «مدينة الله»، كما كان الفلاسفة يمثلون — من الوجهة السياسية — مصالح «الكنيسة». وشغلت الفلسفة نفسها بالدفاع عن العقيدة الدينية، واستحثَّت العقل أن يؤيدها في محاجاتها مع أولئك الذين رفضوا أن يسلِّموا بصحة الوحي المسيحي، كالمسلمين مثلًا، ولقد كان الفلاسفة باستحثاثهم للعقل كأنَّما يتحدَّون كل نقد، لا باعتبارهم من رجال اللاهوت فحسب، بل باعتبارهم أصحاب بناءات فكرية أريدَ بها أن تخاطب الناس جميعًا، مهما اختلفت عقائدهم. وربما كان الْتِجاؤهم إلى العقل، في النهاية البعيدة، خطأ، لكنه كان في القرن الثالث عشر خطوة غاية في التوفيق كما بدا من ظاهر الأمر.
لكن البناء الذي أُقيم في القرن الثالث عشر، والذي اصطبغ بصبغة تدل على الكمال والتمام؛ قد اندكَّ لأسباب عدة، لعل أهمها نشأة طبقة غنية تجارية، في إيطاليا أولًا، ثم بعد ذلك فيما عداها؛ فقد كان الأرستقراطيون الإقطاعيون في أغلبهم جهلاء أغبياء متبربرين، فوقف سواد الشعب إلى جانب «الكنيسة» يؤيدونها، باعتبارها تسمو على الأشراف ذكاء وخُلقًا وقدرة على مناهضة الفوضى، لكن الطبقة التجارية الجديدة كانت توازي رجال الدين في ذكائها، وتساويهم في العلم بأمور الدنيا، ثم تفوقهم قدرةً على مجابهة الأشراف، فضلًا عن أنَّها أقرب إلى نفوس الطبقات الدنيا من أهل المدن، باعتبارها طبقة تذود عن الحرية المدنية، وهكذا تقدَّمت الاتجاهات الديمقراطيَّة حتى باتت في الطليعة، وبعد أن عاونت البابا على هزيمة الإمبراطور راحت تعمل جاهدةً نحو تحرير الحياة الاقتصاديَّة من رقابة الكنيسة.
وسبب آخر أدى إلى نهاية العصور الوسطى، وهو قيام مَلَكيات قوية قوميَّة في فرنسا وإنجلترا وإسبانيا؛ فقد استطاع الملوك بعد منتصف القرن الخامس عشر أن يبلغوا من القوة ما يمكِّنهم من محاربة البابا فيما يعود بالنفع على قومهم، وإنَّما أُتيح لهم ذلك بعد أن قضوا على الفوضى الداخليَّة، وعقدوا أواصر التحالف بينهم وبين التجار الأغنياء ضد الأرستقراطيَّة.
وفي الوقت نفسه كانت البابوية قد فقدت السمعة الخلقية التي كانت تتمتع بها، والتي كانت بها جديرة على وجه الجملة، إبان القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؛ فقد خضعت البابوية أولًا لفرنسا، في الفترة التي كان البابوات خلالها يقيمون في أفنيون، ثم جاء بعد ذلك «الانشقاق الأعظم»، فأدَّى هذان العاملان بالبابوات إلى إقناع العالم الغربي — بغير قصدٍ منهم — أن السلطة البابويَّة المستبدة غير المقيدة شيء لا هو بالمستطاع من جهة، ولا هو بالمستحب من جهةٍ أخرى. وفي القرن الخامس عشر أصبح مركزهم باعتبارهم حكامًا على البلاد المسيحيَّة؛ في المنزلة الثانية من الوجهة العمليَّة، بالنسبة لمركزهم باعتبارهم أمراء إيطاليين آخذين بنصيب في التنافس القائم عندئذٍ على النفوذ السياسي في إيطاليا، وهو تنافس مشتبك العناصر لا يلطِّفه شيء من زجر الضمير.
وهكذا حطمت «النهضة» و«الإصلاح الديني» ما أقامته العصور الوسطى من بناء، دون أن يكون قد حلَّ محله بناءٌ آخر بمثل أناقته وكماله الظاهر، وموضوع هذا الكتاب الثاني هو نمو هذا البناء، ثمَّ تدهوره.
كانت الحالة النفسية التي سادت رجال الفكر خلال تلك الفترة كلها؛ تنم عن سخطٍ عميق على أمور هذه الحياة الدنيا، سخطًا كان احتماله ضربًا من المحال لولا أمل في حياة آخرة خير من هذه الحياة. وكان السخط انعكاسًا لما كان يجري في أنحاء أوروبا الغربية؛ ذلك أنَّ القرن الثالث جاء عصرًا مليئًا بالكوارث، هبط فيه مستوى رفاهية الناس في عيشهم هبوطًا شديدًا، ثم أخذت العالمَ غفوةٌ من نعاس إبان القرن الرابع، جاء بعدها القرن الخامس يحمل معه زوال الإمبراطورية الغربية، وتوطيد الأمر للأقوام المتبربرة في أرجاء الرقعة التي كانت من قبل تابعة لتلك الإمبراطورية. وأصاب الطائفةَ الغنية المثقفة في المدن، التي كانت ترتكز عليها المدنية الرومانية في عهدها الأخير، أصابها ما أدَّى بمعظمها إلى التدهور، بحيث أصبحت فئة مشرَّدة فقيرة، وأمَّا بقية تلك الطائفة فقد لاذت بضِياعها الريفية تعيش على محصولها، وأخذت الصدمات تتلاحق واحدة في إثر واحدة، حتى سنة ١٠٠٠ ميلادية، دون أن يكون بينها متسع من الوقت يتنفس فيه الناس الصعداء قليلًا لعلهم يستعيدون من قواهم الضائعة شيئًا. ونشبت الحروب بين البيزنطيين واللمبارديين فأتت على معظم ما تبقَّى من آثار الحضارة في إيطاليا. وغزا العرب معظم أراضي الإمبراطورية الشرقية، ووطدوا لأنفسهم المقام في أفريقيا وإسبانيا، وتهددوا فرنسا، بل أُتيح لهم مرةً أن ينهبوا روما. وأثار الدانمركيون والنورمانديون أسبابَ الدمار في فرنسا وإنجلترا وصقلية وجنوبي إيطاليا، فكانت الحياة خلال هذه القرون كلها مهدَّدة بالأخطار مليئة بالصعاب. ولم يقف الأمر عند سوء الحياة في الواقع، فجاءت الخرافات المكتئبة الروح فزادتها سوءًا على سوء؛ إذ ظنَّ الناس أنَّ الكثرة الغالبة حتى من المسيحيين أنفسهم مصيرها إلى جهنم، وأحسَّ الناس في كل لحظةٍ من لحظات حياتهم أنَّهم محوطون بالأرواح الشريرة، معرَّضون لتدابير السحرة والساحرات، ولم تكن الغبطة بالحياة ممكنة، اللهم إلا في لحظات سعيدة تُتاح لأولئك الذين استبقَوا لأنفسهم سذاجة الأطفال، فعمل هذا الشقاء السائد على تقوية الشعور الديني، ونظر الناس إلى حياة الصالحين على هذه الأرض الدنيا نظرتَهم إلى رحلة يحجُّ بها أصحابها إلى حيث الإقامة في السماء، فلم يكن في حدود المستطاع لهذه الدنيا الدنية أن تحتوي على شيء ذي قيمة، إلا الفضيلة الصارمة التي تنتهي بصاحبها في النهاية إلى نعيمٍ مقيم. أمَّا اليونان في عصرهم المجيد، فقد آنسوا في الحياة اليوميَّة الجارية متعة وجمالًا؛ فها هو ذا أمباذقليس يوجِّه الخطاب إلى بني وطنه فيقول: «نُعمَى لكم جميعًا أيها الأصدقاء الذين يستوطنون المدينة العظمى التي تطل من علٍ على صخرة أكراجاس الصفراء، قريبًا من الحصن، وقد امتلأت بأطيب الآثار، وأفسحت صدرها للغريب القادم يجد فيها مكانًا شريفًا؛ فأهلها لم يمهروا في التقتير.» لكن الناس لم يعودوا بعد ذلك — حتى عصر النهضة — يرون مثل هذه السعادة الساذجة في الدنيا المرئية، فأداروا آمالهم إلى عالم الغيب، وحلَّت في سُوَيداء قلوبهم «أورشليم الذهبية» محل أكراجاس، فلمَّا أن جاءت إليهم السعادة الأرضية آخر الأمر مرةً أخرى، أخذت تفتر رغبتهم الملحَّة في العالم الآخر شيئًا فشيئًا، نعم لقد لبث الناس يستخدمون نفس العبارات التي كانوا من قبل يستخدمونها، لكنها لم تعد تعبر عمَّا كانت تعبر عنه قبلُ من إخلاصٍ عميق.
وفي محاولتي أن أجعل الفلسفة الكاثوليكيَّة قريبة إلى الأذهان من حيث تكوينها ودلالتها، وجدتني مضطرًّا إلى ذكر حقائق التاريخ العام في إطنابٍ أكثر مما اقتضاني الأمر ذلك في الفلسفة القديمة أو الفلسفة الحديثة؛ ذلك أنَّ الفلسفة الكاثوليكيَّة هي في جوهرها فلسفة نظام اجتماعي معين، ألا وهو «الكنيسة الكاثوليكيَّة»، وترى الفلسفة الحديثة — حتى وإن بعدت عن أصلها الديني — تهتم إلى حدٍّ كبير بمشكلات، وبخاصة في الأخلاق والنظريات السياسية، استمدتها من وجهات النظر المسيحية في القانون الأخلاقي، ومن التعاليم الكاثوليكيَّة فيما يختص بعلاقة الكنيسة والدولة، ولست تجد في الوثنية «اليونانية-الرومانية» ولاءً ثنائيًّا، كالذي نراه لدي المسيحي — منذ البداية الأولى للعقيدة المسيحية — من حيث ولاؤه لله ولقيصر، أي بعبارة اللغة السياسية: ولاؤه للكنيسة والدولة.
ولهذه الأسباب، سيجد القارئ في الصفحات التالية كثيرًا من التاريخ الكنسي والسياسي، مما قد لا تتضح للوهلة الأولى علاقته بتطور التفكير الفلسفي، وإنَّ ضرورة ذكر هذا التاريخ لتزداد بالنسبة للعصور الوسطى؛ لأنَّها فترة يكتنفها الغموض، وليست هي الفترة المألوفة بالنسبة لكثيرين ممن يَألَفون التاريخ القديم والتاريخ الحديث، ولن تجد بين الفلاسفة المحترفين إلَّا عددًا قليلًا ممن كان لهم من عمق الأثر في التفكير الفلسفي مثل ما كان للقديس أمبروز، وشارلمان، وهلدبراند. وعلى ذلك فلا مندوحة لنا عن ذكر الحقائق الأساسية بالنسبة لهؤلاء الرجال وعصورهم، إذا أردنا أن نبلغ في معالجتنا لموضوعنا الحد الأدنى من الاستيفاء.