الثقافة والفلسفة عند المسلمين
اختلفت الهجمات التي هوجمت بها الإمبراطورية الشرقية وأفريقيا وإسبانيا؛ عن تلك الهجمات التي هاجم بها البرابرة الشماليون بلاد الغرب، وذلك في وجهين؛ الأول: هو أن الإمبراطورية الشرقية لبثت قائمةً حتى سنة ١٤٥٣م، أي لبثت قائمة بعد الهجوم عليها أكثر مما لبثته الإمبراطورية الغربية بألف سنة تقريبًا. والثاني: هو أن الهجمات الرئيسية على الإمبراطورية الشرقية قام بها مسلمون، لم ينقلبوا مسيحيين بعد الغزو، بل طوَّروا مدنيَّة هامة خاصة بهم.
وعملت ظروف مختلفة على تيسير هذا التوسع؛ ففارس والإمبراطورية الشرقية كانتا منهوكتين بحروبهما الطويلة. وكان السوريون نسطوريين في كثرتهم الغالبة، فعانوا من اضطهاد الكاثوليك، وأمَّا المسلمون فقد أفسحوا صدورهم تسامحًا لكل المذاهب المسيحية، مقابل جزية تُفرض على معتنقيها. وكذلك رحَّب «موحدو طبيعة المسيح» في مصر بالغزاة، وكان هؤلاء «الموحدون لطبيعة المسيح» يؤلفون الجزء الأكبر من أهل البلاد. وفي أفريقيا تحالَف العرب مع البربر الذين لم يكن الرومان قد أفلحوا قط في إخضاعهم إخضاعًا كاملًا، وتعاوَن العرب والبربر معًا على غزو إسبانيا، وساعدهم على ذلك اليهود الذين كانوا قد ذاقوا المر من اضطهاد الفيسيقوطيين.
كانت ديانة «النبي» توحيدًا، بسيطًا، ليس فيه التعقيد الذي تراه في عقيدتَي «الثالوث» و«التجسيد»، ولم يزعم «النبي» لنفسه أنه إلهي، ولا زعم أتباعه له هذه الطبيعة الإلهية نيابة عنه. وقد أعاد تحريم ما كان اليهود قد حرَّموه من قبل، وأعني به نحت التماثيل، كما حرَّم كذلك شرب الخمر. وجعل واجبًا على المؤمنين أن يفتحوا من العالم ما وَسِعهم فتْحه في سبيل الإسلام، على ألا يُسمح خلال ذلك باضطهاد المسيحيين أو اليهود أو الزرادشتيين — وهم «أهل الكتاب» كما يسميهم القرآن — أي أولئك الذين اتبعوا تعاليم كتاب من الكتب المنزَّلة.
كانت شبه الجزيرة العربية أرضًا صحراوية في معظم أجزائها، وأخذت تزداد شيئًا بعد شيء في عجزها عن تهيئة سبيل العيش لسكانها؛ فكانت أولى فتوحات العرب مجرد إغارات للنهب، ولم تنقلب الفتوحات احتلالًا دائمًا إلا بعد أن تبيَّنوا بالخبرة ضعف أعدائهم. وما هو إلا أن وجد هؤلاء الناس، خلال ما يقرب من عشرين عامًا، وقد اعتادوا كل صنوف الصعاب التي يلاقيها الإنسان في العيش الشَّظِف على حدود الصحراء؛ ما هو إلا أن وجدوا أنفسهم فجأة سادة على بعض المناطق، التي هي أغنى مناطق العالم، وفي أيديهم وسائل التمتع بكل ضروب الترف وكل ألوان التهذيب، التي كانت قِوام حضارة من الحضارات القديمة؛ فكانوا أقوى من معظم برابرة الشمال في مقاومة الإغراء الناجم عن هذا التحول. ولما كانوا قد ظفروا بإمبراطوريتهم بغير كثير من شديد القتال؛ فلم يقع من التدمير إلا قليل، وظلت الحكومة المدنية قائمة كما كانت، لا يكاد يصيبها شيء من التغيير؛ إذ كانت الحكومة المدنية في فارس وفي الإمبراطورية البيزنطية، على درجة عالية من التنظيم، ولم يفهم رجال القبائل من العرب — أولَ الأمر — شيئًا على الإطلاق من دقائق تلك الحكومة، فاضطُروا بطبيعة الحال أن يقبلوا معونة الرجال المدرَّبين الذين وجدوا مقاليد الأمور في أيديهم، ولم يُبدِ معظم هؤلاء الرجال شيئًا من النفور من القيام بمناصبهم تحت سادتهم الجدد، بل إن التغير في السادة قد يسَّر عليهم مهامَّهم؛ لأن الضريبة قد خفَّت بدرجة كبيرة جدًّا، أضف إلى ذلك أن الشطر الأعظم من أهالي البلاد قد تركوا المسيحية واعتنقوا الإسلام، تخلصًا من دفع الجزية.
كانت الإمبراطورية العربية مَلكية مطلقة تحت إمرة الخليفة، الذي كان خلَفًا ﻟ «النبي»، وورث عنه كثيرًا من قداسته. وكانت الخلافة انتخابية اسمًا، لكنها سرعان ما أصبحت وراثية؛ فأسَّس الأسرةَ المالكة الأولى — أسرة الأمويين الذين دام حكمهم حتى سنة ٧٥٠م — رجالٌ آمنوا بمحمد لغايات سياسية خالصة، ولبثت تلك الأسرة دائمًا معارِضة للفريق الأكثر تزمتًا في الدين من بين فريق المؤمنين؛ فلم يكن العرب سلالة تتصف بالإمعان في التدين، على الرغم من أنهم فتحوا جزءًا كبيرًا من العالم باسم دين جديد؛ فالدافع لهم على فتوحاتهم هو النهب والثراء أكثر منه العقيدة الدينية، وما يسَّر لنفرٍ قليل من المقاتلين حكمَ مجموعات كبيرة من السكان في بلاد أرقى مدنيةً، وتَدين بغير دينهم، حُكمًا لم يلاقوا فيه صعوبة كبيرة إلا نقصُ التعصب الديني فيهم.
وعلى نقيض ذلك كان الفُرس منذ أقدم العصور عميقي الشعورِ الديني، ضاربين في التأمل الفكري بسهم موفور؛ فبعد أن اعتنقوا الإسلام جعلوا منه شيئًا أحقَّ بالاهتمام، وأعمق في الصبغة الدينية، وأبعد أغوارًا في الفلسفة، مما كان قد ارتسم في خيال «النبي» وعشيرته. وقد انقسم المسلمون منذ وفاة عليٍّ — زوج ابنة محمد — سنة ٦٦١م، وما زالوا حتى اليوم منقسمين فريقَين من حيث المذهب الديني؛ هما أهل السنة والشيعة، والفريق الأول أكبر عددًا، والفريق الثاني يتبع عليًّا، ويعتبر الأسرة الأموية مغتصبة للحكم. وكان الفرس دائمًا من أنصار المذهب الشيعي، ويرجع سقوط الأمويين آخر الأمر إلى تأثير الفرس إلى حد كبير، فجاء العباسيون بعدهم يمثِّلون مصالح الفرس، واقترن هذا التغير بنقل العاصمة من دمشق إلى بغداد.
وكان العباسيون — من الوجهة السياسية — أقرب إلى تأييد المتعصبين الدينيين مما كان الأمويون، ومع ذلك فلم يظفر العباسيون بكل أجزاء الإمبراطورية؛ إذ فرَّ عضو من الأسرة الأموية، فلم تُصِبه المذبحة التي شملت أفراد الأسرة جميعًا، وهرب إلى إسبانيا، فاعتُرف به هناك حاكمًا شرعيًّا، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إسبانيا بلدًا مستقلًّا عن بقية العالم الإسلامي.
وبلغت الخلافة أعظم مجدها في ظل العباسيين الأولين، وأشهرهم اسمًا هو هارون الرشيد (مات سنة ٨٠٩م)، الذي كان معاصرًا ﻟ «شارلمان» وللإمبراطورة «أيرين». وهو معروف للناس جميعًا على صورة أسطورية جاءتهم عن طريق «ألف ليلة وليلة». وكان بلاطه مركزًا لامعًا لحياة الترف والشِّعر والعلوم. وكان دَخْله عريضًا؛ إذ امتدت إمبراطوريته من بوغاز جبل طارق إلى نهر السند. وكانت إرادته مطلقة؛ فيصحبه عادةً جلَّاده، الذي كان يؤدي مهمته بإيماءة من الخليفة. غير أن هذا المجد لم يدم طويلًا، وجاء خَلَفه فأخطأ حين كوَّن الجانب الأعظم من جيشه من الأتراك، الذين لم يكونوا ينطوون تحت لواء الطاعة، فسرعان ما جعلوا من الخليفة صفرًا، يُفقِدونه البصر أو يذبحونه كلما نفَر منه رجال الجيش، ومع ذلك كله، فقد ظلت الخلافة قائمة تجرُّ قدميها، حتى جاء المغول، فقتلوا آخر خلفاء العباسيين، سنة ١٢٥٦م، وقتلوا معه ثمانين ألفًا من أهل بغداد.
ومن أفضل جوانب الاقتصاد العربي جانبُ الزراعة، وبخاصة استخدام الري استخدامًا ماهرًا، تعلموه من العيش في بلاد يَندُر فيها الماء، وإن إسبانيا حتى يومنا هذا لَتستفيد في زراعتها من مُنشآت العرب للرَّي.
وأما الثقافة المميزة للعالم الإسلامي، فعلى الرغم من أنها بدأت في سوريا، إلا أنها سرعان ما ازدهرت أعظم ازدهار لها في طرفَي هذا العالم؛ الشرقي والغربي، أعني في فارس وإسبانيا. وكان السوريون أيام الغزو معجبين بأرسطو، الذي آثره النسطوريون على أفلاطون، الفيلسوف الذي فضَّله الكاثوليك. وكان أول معرفة العرب بالفلسفة اليونانية مستمَدًّا من السوريين؛ ولذا فقد حسبوا منذ البداية أن أرسطو أهم من أفلاطون، على أن أرسطو لديهم قد لبس حُلة «أفلاطونية جديدة»؛ فقد ترجم الكندي (مات حوالي ٨٧٣م) — وهو أول من كتب الفلسفة بالعربية، والفيلسوف الهامُّ الوحيد الذي كان هو نفسه عربيًّا — ترجم أجزاء من «تاسوعات» أفلوطين، ونشر ترجمته بعنوان «الربوبية عند أرسطو»، فأحدث هذا خلطًا عظيمًا في أفكار العرب عن أرسطو، لم يُزيلوه عن أنفسهم إلا بعد قرون طويلة.
ظلت الحضارة الفارسية موضع إعجاب من الوجهتين العقلية والفنية، حتى جاءت غزوة المغول في القرن الثالث عشر، فقضت عليها قضاء لم تقم لها بعده قائمة. والرجل الوحيد الذي أعرفه هو عمر الخيام، كان شاعرًا ورياضيًّا معًا، وقد أصلح التقويم سنة ١٠٧٩م، والعجيب أن أقرب أصدقائه إلى نفسه هو الرجل الذي أنشأ مذهب «الحشاشين»، الذي اشتهر على ألسنة الرواة باسم «شيخ الجبل». وكان الفرس شعراء نوابغ؛ فيقول من قرءوا «الفردوسي» (حوالي ٩٤١م) مؤلف «الشاهنامة» إنه قرين لهومر. وكذلك كانوا معروفين بنزعتهم التصوفية، التي لم تظهر في غيرهم من المسلمين، وقد استباح رجال المذهب «الصوفي» — الذي لا يزال قائمًا — أن يذهبوا إلى مدًى بعيد في التأويلات التصوفية والرمزية لقواعد الدين الأصلية، وكانت هذه التأويلات أقرب شيء إلى الروح «الأفلاطونية الجديدة».
لم يكن النسطوريون — الذين تسربت عن طريقهم المؤثرات اليونانية إلى العالم الإسلامي بادئ ذي بدء — باليونان الخُلَّص في وجهة نظرهم بأية حال من الأحوال، وكان الإمبراطور زينون قد أغلق مدرستهم في «الرها» سنة ٤٨١م؛ فهاجر علماؤها على إثر ذلك إلى فارس، وهناك واصلوا عملهم، لكنهم لم يَخلُصوا من المؤثرات الفارسية. وكانت قيمة أرسطو عند النسطوريين محصورة في منطقه، وكان منطق أرسطو هذا هو الذي ظنَّه الفلاسفة العرب أول الأمر ذا أهمية، لكنهم فيما بعد درسوا كذلك لأرسطو «الميتافيزيقا» و«النفس». والفلاسفة العرب بصفة عامة تغلب عليهم الروح الموسوعية؛ فهم يهتمون بالكيمياء والتنجيم والفلك والحيوان اهتمامهم بما نسميه نحن بالفلسفة سواء بسواء. وقد كانت عامة الناس المتعصبة المتزمتة في الدين تنظر إليهم نظرة ارتياب، وإنما يرجع الفضل في نجاتهم من الخطر (حين نجوا منه) إلى حماية أمراء أحرار الفكر نسبيًّا.
وبين الفلاسفة المسلمين فيلسوفان جديران بالاهتمام الخاص، أحدهما فارسي، والآخر إسباني، وهما ابن سينا وابن رشد، وأولهما أشهر من زميله بين المسلمين، على أن ثانيهما أشهر من الأول بين المسيحيين.
قضى ابن سينا حياته (٩٨٠–١٠٣٧م) في أمكنة كان يُخيَّل للإنسان أنها لا توجد إلا في عالم الشِّعر؛ فقد وُلد في إقليم بخارى، وفي سن الرابعة والعشرين ذهب إلى «خيوه» — «خيوه المنعزلة في الفقر» — ثم قصد إلى خراسان — «شاطئ خراسان المنعزل» — وقضى فترة في أصفهان يعلِّم الطب والفلسفة، ثم ألقى عصاه في طهران. وكان في الطب أشهر منه في الفلسفة، مع أنه لم يضف إلى طب جالينوس إلا قليلًا، وظل في أوروبا مرشدًا في الطب من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر. ولم تكن له شخصية القديس، بل على نقيض ذلك كان به ميل شديد إلى الخمر والنساء، وكان موضعَ ارتياب المتمسكين بأصول الدين، لكنه كان محببًا إلى الأمراء لمهارته في الطب. وكان أحيانًا يتعرض للخطر بسبب عداوة الجنود المرتزقة من الأتراك؛ فقضى حينًا من دهره متخفِّيًا، وحينًا آخر في السجن. وله موسوعة ألَّفها، يكاد الشرق لا يعرف عنها شيئًا؛ لعداوة رجال الدين له، لكنها ذات أثر قوي في الغرب، عن طريق ترجماتها إلى اللاتينية، وهو في بحوثه النفسية يميل إلى الاتجاه التجريبي.
وفلسفته أقرب إلى أرسطو، وأقل اصطباغًا بالأفلاطونية الجديدة من فلسفة أسلافه المسلمين. وقد شغلته مشكلة المعاني الكلية، التي شغلت الاسكولائيين المسيحيين فيما بعد؛ فقد ذهب أفلاطون في تلك المعاني الشكلية إلى أنها سابقة لوجود الأشياء. وأما أرسطو فله فيها رأيان؛ رأي يقوله وهو يفكر، وآخر يقوله وهو يناهض أفلاطون، وذلك يجعل منه مادة مُثلَى للشارح.
ولم يمضِ على ذلك إلا وقتٌ قصير حتى أخذت أرض المسلمين في إسبانيا تتقلص بنسبة كبيرة أمام غزوات المسيحيين؛ فانتهت الفلسفة الإسلامية في إسبانيا بابن رشد، وطغت على بقية العالم الإسلامي موجة من التعصب الجامد لأصول الدين، فانتهى بذلك التأمل الفكري.
فعلى الرغم من أن ابن رشد كان مؤمنًا، إلا أنه لم يكن متمسكًا بالقواعد الدينية تمسكًا جامدًا، وهو في ذلك شبيه بمعظم الفلاسفة المسلمين الذين جاءوا بعدئذٍ؛ فقد كان هنالك مذهب يأخذ به رجال الدين الذين لم يتهاونوا قط في الاستمساك بأهداب الدين في أصوله، وهو معارضة الفلسفة كلها، باعتبارها وخيمةَ العواقبِ على العقيدة الدينية، وكان من هذا الفريق رجل يُدعى الغزالي، كتب كتابًا عنوانه «تهافت الفلاسفة»، يقول فيه إنه ما دام القرآن قد ذكر كل الحقيقة الضرورية، فلا حاجة بنا للتأمُّل الذي لا ينبني على الوحي، فردَّ عليه ابن رشد بكتاب أسماه «تهافت التهافت». وكان من أهم المبادئ الدينية التي نادى بها الغزالي في وجه الفلاسفة؛ مبدأ خلق العالم في الزمان من لا شيء، ومبدأ وجود صفات الله وجودًا حقيقيًّا، ومبدأ نشور الجسد. وأما ابن رشد فيعتبر الدين مشتملًا على حقيقة فلسفية صُبَّت في قالب رمزي، وهذا يَصدُق بصفة خاصة على الخلق، الذي يفسره بطريقة أرسطية مستخدمًا في ذلك قدرته الفلسفية.
ليست الفلسفة العربية بذات خطر من حيث أصالة الفكر؛ فرجال كابن سينا وابن رشد لا يزيدون في جوهرهم على شُراح. وإذا أطلقنا القول على وجه التعميم قلنا إن آراء الفلاسفة المصطبغين بقدر أوفر من الروح العلمية؛ مستمدة من أرسطو ومن أتباع الأفلاطونية الجديدة، في المنطق والميتافيزيقا، وهي مستمدة من جالينوس في الطب، ومن مصادر يونانية وهندية في الرياضة والفلك، وكذلك ترى الفلسفة الدينية عند المتصوفة مزيجًا من العقائد الفارسية القديمة. وقد أبدى المؤلفون باللغة العربية بعض الأصالة في الرياضة والكيمياء، وأصالتهم في الكيمياء إنَّما جاءت نتيجة عرَضية لأبحاثهم في استخراج الذَّهب من المعادن الخسيسة؛ فقد كانت المدنية الإسلامية أيام مجدها تدعو إلى الإعجاب في الفنون وفي كثير من الأساليب الفنية، لكنها لم تبيِّن شيئًا من القدرة على التفكير التأملي المستقل في الأمور النظرية؛ فأهميتها التي لا ينبغي أن يُقلَّل من شأنها هي أهمية الناقل، ذلك أن العصور المظلمة توسَّطت الطريق بين المدنية الأوروبية القديمة والحديثة، فجاء المسلمون والبيزنطيون، وعملوا — رغم عجزهم في النشاط العقلي الضروري للابتكار — على صيانة جهاز المدنية، وهو التعليم والكتب والفراغ الذي يُقضَى في تحصيل العلوم، وحفَّز المسلمون والبيزنطيون كلاهما بلاد الغرب على النهوض بعد أن زالت عنها غمرة البرابرة، وكان حفز المسلمين إياها متركزًا أغلبه في القرن الثالث عشر، وحفز البيزنطيين لها متركزًا معظمه في القرن الخامس عشر، على أن الحافز في كلتا الحالين أنتج فكرًا جديدًا أفضل من أي فكر أنتجه النَّقَلة أنفسهم؛ فأنتج حافز المسلمين الفلسفةَ الاسكولائية، وأنتج حافز البيزنطيين النهضةَ (التي كان لها أيضًا أسباب أخرى غير ذلك).
وكان اليهود حلقة اتصال مفيدة بين مسلمي إسبانيا والمسيحيين؛ فقد كان في إسبانيا عدد كبير من اليهود، ظلوا بها حين عاد المسيحيون إلى فتحها من جديد، ولما كانوا يعرفون العربية، ثم اقتضتهم الضرورة كذلك أن يعرفوا لغة المسيحيين؛ كان في مستطاعهم القيام بترجمة المؤلفات العربية. وكذلك نشأ عامل آخر عَمِل على دمج اليهود بالمسلمين، وذلك حين اضطهد المسلمون أشياعَ أرسطو في القرن الثالث عشر، مما أدى بالفلاسفة المسلمين في إسبانيا أن يلوذوا باليهود فرارًا، خصوصًا في إقليم بروفانس.
وظهر بين اليهود الإسبانيين فيلسوف واحد ذو أهمية، وهو ابن ميمون، الذي وُلد في قرطبة سنة ١١٣٥م، لكنه قصد إلى القاهرة في سن الثلاثين، حيث أقام بقية حياته. وكتب ما كتبه بالعربية، لكنه نُقل فورًا إلى العبرية، ثم لم تمضِ بعد موته بضع عشرات من السنين حتى تُرجم إلى اللاتينية، وربما تم ذلك استجابة لطلب الإمبراطور فردريك الثاني. ومن كتبه كتاب عنوانه «دليل الحائرين»، وجَّهه إلى الفلاسفة الذين أضاعوا إيمانهم، والغاية المقصودة منه هي التوفيق بين أرسطو وبين اللاهوت اليهودي؛ فإذا كان أرسطو هو الحجة في العالم الذي يقع أسفل القمر، فإن الوحي هو المرجع في العالم السماوي، على أن الفلسفة والوحي يلتقيان معًا في معرفة الله، والبحث عن الحقيقة واجب ديني. وهو يرفض التنجيم. ويرى ألا تؤخذ الأسفار الخمسة الأولى من التوراة بمعناها الحرفي، فإذا ما تضارب المعنى الحرفي مع العقل، وجب أن نلتمس تأويلًا رمزيًّا. وهو يعارض رأي أرسطو في الخلق؛ فيذهب إلى أن الله لم يخلق الصورة وحدها، بل خلق كذلك المادة من لا شيء. وهو يلخِّص محاورة «طماوس» (التي قرأها في الترجمة العربية) مفضِّلًا إياها في بعض النقط على أرسطو. وعنده أن جوهر الله لا تلمُّ به المعرفة؛ لأنه فوق كل أنواع الكمال التي يوصف بها موصوف. ولقد عدَّه اليهود زنديقًا، وأسرفوا في ذلك إلى الحد الذي جعلهم يَستعْدون عليه سلطاتِ الكنيسة المسيحية. ويظن البعض أن سبينوزا قد تأثَّر به، غير أن ذلك موضع لشكٍّ كبير.