القرن الثاني عشر
يهمنا بصفة خاصة أربعة وجوه من القرن الثاني عشر، هي:
-
(١)
الصراع المستمر بين الإمبراطورية والبابوية.
-
(٢)
نشأة المدن اللمباردية.
-
(٣)
الحروب الصليبية.
-
(٤)
نمو الفلسفة الاسكولائية.
وهذه الوجوه الأربعة كلها لم تزل قائمةً في القرن التالي؛ أمَّا الحروب الصليبية فقد بلغت ختامها المشين بخطوات تدريجية، وأمَّا الحركات الثلاث الأخرى، فتراها قد بلغت في القرن الثالث عشر ذروة طريق لم يكن في القرن الثاني عشر قد تجاوز مرحلته الانتقالية؛ إذ حدث في القرن الثالث عشر أن ظفر البابا بنصر محقَّق على الإمبراطور، وحصلت المدن اللمباردية على استقلال آمن، ووصلت الفلسفة الاسكولائية أعلى ذُراها، على أن هذه كلها كانت نتائج لِما كان القرن الثاني عشر قد مهَّد له وسائل الإعداد.
وليست الحركة الأولى من هذه الحركات الأربع وحدها، بل كانت الحركات الثلاث الأخرى كذلك، كلها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بازدياد القوة البابوية والكنسيَّة؛ فقد كان البابا في تحالف مع المدن اللمباردية على الإمبراطور، وافتتح البابا «إربان الثاني» أولى حملات الحروب الصليبية، كما كان البابوات الذين جاءوا بعده أقوى مُعين للحملات الأخيرة من الحروب الصليبية، كذلك كان الفلاسفة الاسكولائيون جميعًا من رجال الدين، وحرصت مجالس الكنائس على أن تمسك بهؤلاء الفلاسفة حتى لا يجاوزوا حدود الدين الأصيل، فإذا ما ضلوا سبيلهم أرجعوهم إلى حظيرة الطاعة. ولا شكَّ أن إحساسهم بالنصر السياسي الذي ظفرت به الكنيسة، والذي شعروا بأنفسهم شركاء فيه؛ قد حفَّز فيهم أصالة التفكير العقلي.
إنَّ من بين الغرائب التي تقال عن العصور الوسطى؛ أنَّها كانت مبتكِرة مبدِعة دون أن تعلم أنها كذلك؛ فكل الطوائف عندئذٍ كانت تبرر سياساتها بحُجج قديمة عتيقة؛ فالإمبراطور قد استند — في ألمانيا — إلى المبادئ الإقطاعية التي سادت عهد شارلمان، واستند — في إيطاليا — إلى القانون الروماني وسلطة الأباطرة الأقدمين، وعادت المدن اللمباردية إلى ما هو أبعد من ذلك في القِدَم؛ إذ عادت إلى أنظمة روما الجمهورية، واستند حزب البابويَّة في مطالبه إلى «هبة قنسطنطين» المزوَّرة من جهة، وإلى العلاقات بين شاءول وصموئيل كما وردت في «العهد القديم» من جهة أخرى، واعتمد الاسكولائيون إمَّا على الكتاب المقدَّس، وإمَّا على الفلسفة كما تتمثَّل في أفلاطون أولًا، ثم في أرسطو ثانيًا. وحيثما كانوا مبتكرين حاولوا إخفاء ابتكارهم، وكانت الحروب الصليبية محاولة يُراد بها إرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل ظهور الإسلام.
لكننا لا ينبغي أن ننخدع بهذه الرجعيَّة الظاهرة؛ فهي لم تكن رجعيَّة تطابق الوقائع إلا في حالة الإمبراطور؛ فالنظام الإقطاعي كان في مرحلة التدهور وبخاصة في إيطاليا، ولم تكن الإمبراطورية الرومانية إلا ذكرى؛ ولذلك هُزم الإمبراطور. وأمَّا مدن شمالي إيطاليا، فبينما كانت تبدي شبهًا قويًّا في مراحل تطورها الأخيرة بمدن اليونان القديمة، إلَّا أنَّها كانت تكرر الصورة نفسها لا عن تقليد، بل نتيجة لتشابه الظروف، وأعني بذلك وجود مجتمعات صغيرة غنية جمهورية تجارية عالية المدنية، تحيط بها مَلكيات ذات مستوًى أحطَّ من الثقافة، وكذلك ترى الاسكولائيين رغم تبجيلهم لأرسطو قد أبدَوا من ضروب الابتكار ما لم يُبدِه أي فيلسوف من العرب، بل قُل أكثر من أي فيلسوف منذ أفلوطين، أو منذ أوغسطين على أقل تقدير. وإنَّك لتصادف في عالَم السياسة أيضًا ما صادفته في عالَم الفكر من أصالة ممتازة.
صراع الإمبراطورية والبابوية
يتركَّز التاريخ الأوروبي منذ عهد «جريجوري السابع» حتى منتصف القرن الثالث عشر؛ حول الصراع في سبيل السلطان، بين «الكنيسة» من جهة، والملوك العلمانيين من جهة أخرى، وأقصد بهؤلاء أولًا الإمبراطور، وكذلك ملوك فرنسا وإنجلترا في مناسبات مختلفة. وكانت بابوية «جريجوري» قد انتهت بكارثة في ظاهر الأمر، غير أن سياسته قد استؤنفت بشيء من التعديل، على يدَي «إربان الثاني» (١٠٨٨–١٠٩٩م)، الذي أعاد إصدار الأوامر التي تَحرِم غير رجال الدين من تنصيب الأساقفة، وأراد للانتخابات الأسقفية أن تتم حرة من رجال الدين والشعب (وبالطبع كان المفروض في القسط الذي يناله الشعب في الانتخابات أن يكون صوريًّا خالصًا)، ومع ذلك، فمن الناحية العملية لم يناهض تعيينات السلطات العلمانية إذ رآها قائمةً على أساس سليم.
ولم يكن «إربان» بادئ ذي بدء آمنًا إلا في الأراضي النورماندية، لكن حدث في سنة ١٠٩٣م أن شقَّ «كنراد» بن هنري الرابع عصا الطاعة على أبيه، وتحالف مع البابا في غزو شمالي إيطاليا، حيث وقفت «عصبة لمبارد» — وهي تحالف من المدن، وعلى رأسها مدينة ميلان — إلى جانب البابا. وفي سنة ١٠٩٤م سار «إربان» في موكب الظفَر خلال شمالي إيطاليا وفرنسا؛ إذ انتصر على «فليب» ملك فرنسا، الذي رغب في طلاق زوجته، فأخرجه البابا من الكنيسة، لكنَّه عاد فخضع. وفي «مجمع كليرمونت» سنة ١٠٩٥م، أعلن «إربان» الحرب الصليبية الأولى، التي أحدثت موجة من الحماسة الدينية، فأدَّت إلى ازدياد سلطة البابا، كما أدَّت كذلك إلى مذابح فظيعة أطاحت بجماعات اليهود. وقضى «إربان» آخر سنة من حياته آمنًا في روما، وهي البلد الذي قلَّما يكون فيه البابوات آمنين.
وجاء البابا التالي «باسكال الثاني» من «كلوني» مثل «إربان»، ومضى في بذل الجهود في مسألة تنصيب الأساقفة، وأصاب النجاح في فرنسا وإنجلترا، غير أنه بعد موت «هنري الرابع» سنة ١١٠٦م، تغلَّب الإمبراطور الذي تلاه، وهو «هنري الخامس»، على البابا، الذي لم يكن رجلًا من رجال الدنيا، فسمح لجانب القداسة فيه أن يرجح على جانب الحس السياسي. واقترح البابا أن يكون للإمبراطور حق تنصيب الأساقفة، على أن يتنازل الأساقفة ورؤساء الأديرة مقابل ذلك عن أملاكهم الدنيوية، وتظاهر الإمبراطور بالقبول، لكن هذا التوفيق المقترَح لم يكد يُعلَن حتى ثارت ثائرة رجال الكنيسة على البابا، فانتهز الإمبراطور هذه الفرصة، وكان عندئذٍ في روما، وقبض على البابا، الذي استسلم للوعيد، وسلَّم في مشكلة تنصيب الأساقفة، وتوَّج هنري الخامس، لكنَّه حدث بعد أحد عشر عامًا أن تمت «اتفاقية ورمز» سنة ١١٢٢م، وبمُقتضاها أَرغَم البابا «كالكستس الثاني» «هنري الخامس» على التنازل عن حق التنصيب، وحق الرقابة على الانتخابات الأسقفية في برجندي وفي إيطاليا.
وإلى هنا كانت النتيجة الختامية للمعركة هي أن البابا — الذي كان فيما مضى خاضعًا ﻟ «هنري الثالث» — قد أصبح مع الإمبراطور على قدم المساواة، وفي الوقت نفسه زاد استقلال سلطانه في «الكنيسة» التي حكمها بمعونة مندوبين عنه؛ فعملت هذه الزيادة في القوة البابوية على تقليل الأهمية النسبيَّة للأساقفة، وأصبحت الانتخابات البابويَّة الآن حرة من رقابة غير رجال الدين، وبات رجال الكنيسة على وجه الإجمال أكثر فضيلة مما كانوا عليه قبل حركة الإصلاح.
نشأة المدن اللمباردية
وكانت المرحلة الثانية مرتبطةً بالإمبراطور «فردريك بارباروسا» (١١٥٢–١١٩٠م)، وهو رجل قادر نشيط، يحقق النجاح في أي مشروع يكون النجاح فيه في حدود المستطاع. وكان رجلًا مثقفًا يقرأ اللاتينية متمتعًا بما يقرأ، ولو أنه يتكلمها في مشقة، وكان عريض الثقافة الكلاسيكية، ومعجبًا بالقانون الروماني، ورأى نفسه وارثًا للأباطرة الرومانيين، وتعلقت آماله بالحصول على سلطانهم، غير أنه باعتباره ألمانيًّا لم يكن محببًا إلى نفوس الإيطاليين؛ فبينما كانت المدن اللمباردية راغبة في الاعتراف بسيادته الصورية، نهضت تعارضه حين أراد التدخل في شئونها، اللهم إلا المدن التي أَوجسَتْ خِيفةً من ميلان، فطلبت حماية «فردريك» من عدوانها. واستمرت في ميلان حركة «باتارين»، وامتزجت بميل إلى الديمقراطية يقلُّ حينًا ويزيد حينًا، وقامت معظم المدن في شمالي إيطاليا — وليس كلها — تناصر ميلان وتحالفها، في موقف واحدٍ ضد الإمبراطور.
أما وقد تخلَّصوا من الرجل النزيه، فلم يعد ثمَّة ما يعوق الساسة العمليين من استئناف تنازعهم.
وكانت خاتمة «بارباروسا» ظاهرية، إذ إنَّه سنة ١١٨٩م ذهب في الحرب الصليبية الثالثة، ومات في السنة التالية.
كانت نشأة المدن الحرة هي التي تبيَّن أن لها أعظم الأهمية في النهاية، بالنسبة إلى هذا الجهاد الطويل؛ فقد كانت سلطة الإمبراطور مرتبطة بالنظام الإقطاعي المتداعي، وسلطة البابا على الرغم من أنها كانت لم تزل في ازدياد، إلا أنها كانت معتمدة إلى حد كبير على حاجة العالم إليه ليقف مناهضًا للإمبراطور؛ ولذلك فقد أخذ ينهار حين لم تَعُد الإمبراطورية خطرًا يُخاف بأسه. أما سلطة المدن فقد كانت مستحدثة جاءت نتيجة لتطور اقتصادي، ومصدرًا لهيئات سياسية جديدة. ولم يمضِ طويل وقت على المدن الإيطالية حتى طوَّرت لونًا من الثقافة غير الدينية، ولو أنَّ ذلك التطور لم تظهر آثاره في القرن الثاني عشر، وبلغ هذا اللون الجديد من الثقافة أسمى ذُراه في الأدب والفن والعلم، وإنَّما تمكنتْ من أداء هذا كله بمقاومتها الموفَّقة ﻟ «بارباروسا».
كانت المدن الكبرى كلها في شمالي إيطاليا تعتمد في حياتها على التجارة، وقد عملت الظروف الأكثر استقرارًا في القرن الثاني عشر على أن يزداد التجار ثراء عن ذي قبل، ولم تُضطر المدن البحرية؛ البندقية وجنوا وبيزا إلى المقاتلة في سبيل حريتها؛ ولذلك كانت أقل عداوة للإمبراطورية من المدن القائمة على سفح الألب، وهي المدن التي كانت تهمُّه؛ لأنها الطرق المؤدية إلى إيطاليا؛ ومن أجل هذا كانت ميلان أهم المدن الإيطالية في ذلك العصر، وأجدرها بالنظر.
كان أهل ميلان حتى عهد هنري الثالث يُرضيهم عادة أن يتبعوا رئيس أساقفتهم، لكن حركة «باتارين» التي ذكرناها في فصل سابق قد غيرت هذا؛ فرئيس الأساقفة كان يناصر طبقة الأشراف، بينما قامت حركة شعبية قوية تناهضه وتناهض الأشراف معًا؛ ونتج عن ذلك بدايات للديمقراطية. ونشأ دستور، كان حكام المدينة بمقتضاه ينتخبهم أهل المدينة. وظهرت في كثير من المدن الشمالية — وبخاصة في بولونيا — طبقة متبحِّرة في العلم من رجال القانون العلمانيين، كانت عليمة بالقانون الروماني، أضف إلى ذلك أن الطبقة الغنية من غير رجال الدين؛ كانت أكثر جدًّا في درجة ثقافتها من طبقة الأشراف الإقطاعيين فيما يقع شمالي جبال الألب. وعلى الرغم أن المدن التجارية الغنية قد ناصرت البابا على الإمبراطور، فإنها لم تكن تنظر إلى الأمور نظرة دينية، نعم إنَّ كثيرًا منها اصطنع ألوانًا من الزندقة كزندقة «التزمُّت الديني»، كما فعل التجار في إنجلترا وهولندا بعد حركة الإصلاح الديني، وقد كان ذلك إبان القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلا أنَّها مالت فيما بعد نحو أن تكون حرة التفكير، تتعصب للكنيسة بمجرد الكلام، وتخلو من كل ورعٍ بمعناه الحقيقي. وكان «دانتي» آخر رجل من النمط القديم، و«بوكاتشيو» أول رجل من النمط الجديد.
الحروب الصليبية
ليست تعنينا الحروب الصليبية هنا باعتبارها حروبًا، لكن لها أهمية خاصة فيما يتصل بالثقافة؛ فقد كان طبيعيًّا من البابوية أن تتزعم حركة الحروب الصليبية من حيث تحريكها في النفوس؛ لأن هدفها ديني (في الظاهر على الأقل)، وهكذا ازدادت قوة البابوية بالدعاوة للحرب، وبما استثير في أنفس الناس من حماسة دينية. ونتيجة هامة أخرى لتلك الحروب، هي ذبْح عدد كبير من اليهود، ومن لم يُذبح منهم كان في الغالب يُجرَّد من أملاكه، ويُرغَم على التنصُّر إرغامًا؛ ففي زمن الحرب الصليبية الأولى، كان هنالك اغتيالات لليهود في ألمانيا على نطاق واسع، وحدث ذلك نفسه في إنجلترا في زمن الحرب الصليبية الثالثة، عند اعتلاء «ريتشارد قلب الأسد» العرش. وكانت يورك — حيث بدأ أول إمبراطور مسيحي عهده في الحكم — مشهدًا للفظائع التي تقع على نطاق واسع ضد اليهود، فترتاع لها النفوس على نحو منقطع النظير. وقد كان لليهود قبل الحروب الصليبية ما يكاد يكون احتكارًا للتجارة في البضائع الشرقية خلال أوروبا كلها. أمَّا بعد الحروب الصليبية، فقد تحولت هذه التجارة تحولًا كبيرًا إلى أيدي المسيحيين؛ نتيجة لاضطهاد اليهود.
وكذلك كان للحروب الصليبية نتيجة أخرى من نوع مختلف عن النتيجتين السابقتين كل الاختلاف، وهي تشجيعها الاتصال الأدبي مع القسطنطينية؛ فنتج عن هذا الاتصال إبان القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، ترجماتٌ كثيرة من اليونانية إلى اللاتينية، فلئن كان هناك من قبل تجارة كثيرة لم تنقطع أسبابها من القسطنطينية، وبخاصة مع أهل البندقية، إلا أن التجار الإيطاليين لم يُعنوا قط بدراسة الآداب اليونانية القديمة، فشأنهم في ذلك شأن التجار الإنجليز أو الأمريكان في شنغهاي، لم يُعنوا أبدًا بالآداب الصينية (يُلاحَظ أن ما تعلمه أوروبا عن الأدب الصيني مستمدٌّ أساسًا من المبشِّرين).
نمو الفلسفة الاسكولائية
تبدأ الاسكولائية، بمعنى الكلمة الضيق، في أوائل القرن الثاني عشر، وهي تتميز — باعتبارها مدرسة فلسفيَّة — بمميزات معينة محددة؛ فأولًا: حصرت نفسها في حدود ما يظنُّه المؤلف متمشيًا مع أصول الدين الصحيح، فإذا ما هاجم مجلس ديني آراءه رأيته في الأغلب ميالًا إلى التراجع فيها، ولا ينبغي أن نعزو هذا إلى الجُبن وحده؛ إذ هو شبيه بخضوع القاضي لقرار محكمة الاستئناف. وثانيًا: كان أرسطو — في حدود الدين الصحيح — يزداد رجحانًا على أنه حجة عُليا؛ وذلك لأنهم أخذوا يزدادون به علمًا إبان القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ولم يعد أفلاطون يحتل عندهم المكانة الأولى. والثالث: هو العقيدة القوية في «الديالكتيك» وفي التدليل القياسي؛ فالمزاج العام للاسكولائيين مزاج يهتم بالدقة في التفصيلات والمنازعة فيها، أكثر من اهتمامه بالغموض التصوفي. ورابعًا: ازدادت مشكلة الكليات أهميةً، حين وجدوا أن أرسطو وأفلاطون لا يتفقان على الرأي فيها، على أنه من الخطأ أن نظن بأن مشكلة الكليات كانت هي المهمة الرئيسية التي عُني بها الفلاسفة في تلك الفترة من الزمن.
كان القرن الثاني عشر — في هذا الأمر وفي أمور أخرى — يمهِّد السبيل للقرن الثالث عشر الذي تنتمي له أعظم الأسماء، ومع ذلك فالرجال الأولون لهم أهمية الرائدين الذين شقوا الطريق؛ فكنت ترى عندئذٍ ثقة عقلية جديدة، كما ترى — على الرغم من احترامهم لأرسطو — تدريبًا حرًّا قويًّا للعقل، حينما وجدوا أن القواعد الجامدة لا تجعل التأمل الفكري مصدرًا للخطر. وعيوب الطريقة الاسكولائيَّة هي العيوب التي لا مندوحة عن حدوثها نتيجة للاهتمام الزائد ﺑ «الديالكتيك»، وهذه العيوب هي: عدم الاهتمام بالحوادث الواقعة وبالعلم. والإيمان بالتدليل العقلي في الأمور التي لا يفصل فيها غير المشاهدة. والوقوف أطول مما ينبغي عند الفوارق والدقائق اللفظيَّة. وقد انتهزنا فرصة سابقة فذكرنا هذه العيوب بالنسبة لأفلاطون، غير أنها عند الاسكولائيين أكثر تطرفًا منها عند أفلاطون.
وأول فيلسوف يمكن اعتباره اسكولائيًّا بالمعنى الدقيق، هو «روسلان»، ولسنا نعلم عنه شيئًا كثيرًا؛ فقد وُلد في «كومبين» حوالي ١٠٥٠م، وتعلَّم في «لوش» ببريطانيا، حيث تتلمذ عليه «أبلار»، واتُّهم بالزندقة أمام مجمع انعقد في «ريمز» سنة ١٠٩٢م، وتراجع عن أقواله خوفًا من رجمه بالحجارة بأيدي رجال الكنيسة، الذين كانوا يتعطشون لمثل هذا الاعتداء، وفرَّ إلى إنجلترا، لكنه هناك بلغ من التهور حدًّا أباح له أن يهاجم «القديس أنسلم»، وفرَّ هذه المرة إلى روما، حيث تودد إلى «الكنيسة». وقد اختفى من وجه التاريخ حوالي ١١٢٠م، وتاريخ وفاته ضَرْب من التخمين الخالص.
ولم يزل معلمًا ناجحًا نجاحًا عظيمًا حتى وهو في عزلته، فقد أحبَّ الشبابُ براعته ومهارته الجدلية، وعدم تبجيله لمعلميهم الأقدمين. وأمَّا الرجال المتقدمون في السنِّ فقد أحسوا نحوه بكراهية تقابِل حبَّ الشُّبان له. وفي سنة ١١٢١م وُجِّهت إليه في «سواسون» تهمة كتاب عن الثالوث خارج على أصول الدين، ولما استسلم استسلامًا أرضى ذوي الأمر؛ جعلوه رئيسًا لدير «القديس جلداس» في بريطانيا، حيث وجد الرهبانَ أجلافًا متوحشين. وبعد أن قضى أربع سنوات تعِسة في هذا المنفى، عاد إلى مكان فيه مدنيَّة بالنسبة إلى ما كان فيه من قبل. وتاريخه بعد ذلك يكتنفه الغموض، فلا نعلم إلا أنه مضى في حرفة التعليم موفَّقًا فيها أعظم التوفيق، وذلك بناءً على ما يقوله «يوحنَّا السالسبري». وفي سنة ١١٤١م وُجِّهت إليه تهمة أخرى في حادثة «القديس برنار»، وكان اتهامه هذه المرة في «سانس»، فاعتزل في «كاوني»، ومات في السنة التالية.
وسواء كان هذا كله صوابًا أو خطأ، فهو بغير شك دليل على قدرة عظيمة، وأحدث المناقشات في موضوع الكليات لم تزد على ذلك كثيرًا.
كان معظم علماء ذلك العصر أقل تحمسًا للديالكتيك من «أبلار»؛ فقد كان ثمة حركة إنسانية — وبخاصة في «مدرسة شارتر» — تُعجَب بالعصر القديم، وتتبع أفلاطون و«بيثيوس»، وتجدد عند الناس اهتمامهم بالرياضة؛ فذهب «أدلارد» من أهل «باث» إلى إسبانيا في أوائل القرن الثاني عشر، ونتج عن رحلته تلك أن ترجم «إقليدس».
ولئن لم يكن «يوحنَّا السالسبري» مفكرًا هامًّا، إلا أن له قيمة في علمنا بعصره؛ لأنه كتب تاريخًا لذلك العصر هو أقرب إلى أحاديث الشائعات، فقد كان أمينًا للسر عند ثلاثة رؤساء لأساقفة كانتربري، كان «بِكِتْ» أحدهم، وكذلك كان صديقًا ﻟ «هارديان الرابع». وعُيِّن في أواخر حياته أسقفًا ﻟ «شارتر» حيث مات سنة ١١٨٠م. وهو رجل له مزاج المتشككين، إذا استبعدت أمور العقيدة الدينيَّة، وهو يطلق على نفسه صفة «الأكاديمي» (بالمعنى الذي يستخدم به القديس أوغسطين هذه الكلمة). ولم يكن احترامه للملوك مفرطًا؛ «فالملك الجاهل حمار متوَّج». وهو شديد الاحترام ﻟ «القديس برنار»، لكنه كان على بينة تامة بأن محاولته التوفيق بين أفلاطون وأرسطو لا بدَّ منتهية إلى فشل. وأعجب ﺑ «أبلار»، لكنه سخر من رأيه في الكليات كما سخر كذلك من رأي «روسلان» فيها. وعنده أن المنطق مقدمة مفيدة للعلوم، لكنَّه في حد ذاته خالٍ من دم الحياة وعقيم. وهو يقول إنَّه من الممكن التقدم على ما أنتجه أرسطو، حتى في المنطق؛ فاحترامنا للمؤلفين الأقدمين لا يجوز أن يقف حجر عثرة في سبيل تدريب عقولنا على النقد. وكان أفلاطون في رأيه لا يزال هو «أمير الفلاسفة». وقد كان على صلة شخصية بمعظم علماء عصره، وشارك مشاركة ودية في المجالات الاسكولائيَّة؛ وحدث أن عاد إلى مدرسة فلسفيَّة يزورها بعد انقطاع دام ثلاثين عامًا، فابتسم إذ رأى أصحابها ما يزالون يناقشون المسائل عينها. وإن المحيط الاجتماعي الذي كان يتحرك فيه لشديد الشبه بحجرات جلوس الطلبة في جامعة أكسفورد منذ ثلاثين عامًا. وعندما دنت حياته من ختامها كانت المدارس الكاتدرائيَّة قد أفسحت مكانها للجامعات، ولبث حبل الجامعات — على الأقل في إنجلترا — موصولًا منذ ذلك اليوم حتى الآن، على نحو يستوقف النظر.
أخذ المترجمون إبان القرن الثاني عشر يزيدون شيئًا بعد شيء من عدد الكتب اليونانية، التي يستطيع الباحثون الغربيون أن يتناولوها. وكان ثمَّة ثلاثة مصادر رئيسية لمثل هذه الترجمات؛ القسطنطينية، وبالرمو، وطليطلة. وكانت طليطلة أهمها جميعًا، غير أن الترجمات الواردة منها كانت في أغلب الأحيان ترجمة عن العربية، لا عن اليونانية مباشرة؛ ففي الربع الثاني من القرن الثاني عشر أنشأ «رئيس الأساقفة ريموند» في طليطلة كلية المترجمين، وكان عمل هؤلاء غزير الثمر؛ ففي ١١٢٨م ترجم «جيمز البندقي» لأرسطو كتاب «الأناليطيقا» وكتاب «الطوبيقا» و«السفسطة». ووجد الفلاسفة الغربيون كتاب «التحليلات الثانية» عسيرًا. وترجم «هنري أرستبوس» من أهل كاتانيا (مات سنة ١١٦٢م) «فيدون» و«مينون»، لكن ترجماته لم يكن لها أثر مباشر؛ فعلى الرغم من أن معرفة العلماء بالفلسفة اليونانية في القرن الثاني عشر كانت ناقصة، إلا أنهم أدركوا في وضوح أنه لا يزال كثير من تلك الفلسفة ينتظر الغرب ليستكشفه. ونشأ لدى الناس شغف بتحصيل معرفة أوفى عن القدماء، ولم يكن نِير الأرثوذكسية حينئذٍ من القسوة بحيث يُظن أحيانًا؛ فقد كان في وُسْع أي إنسان أن يكتب كتابه، ثم يسحب منه أجزاءه الخارجة على الدين إذا ألزمته الضرورة بذلك، بعد مناقشة علنية وافية. وكان معظم فلاسفة ذلك العصر من الفرنسيين، وكانت فرنسا ذات أهمية عند الكنيسة؛ لأنها ثِقْل تقاوم به الإمبراطورية. وأمَّا من الوجهة السياسية، فقد كانت كثرة رجال الكنيسة العلماء يميلون إلى الجمود، مهما يكن ما ظهر فيهم من زندقات في عالَم اللاهوت، وذلك هو ما زاد من فظاعة «آرنولد البريشي» الذي كان شذوذًا لتلك القاعدة. وتستطيع أن تنظر إلى الاسكولائيَّة الأولى كلها من الوجهة السياسيَّة نظرتَك إلى نتيجة تفرعت عن جهاد «الكنيسة» في سبيل السلطان.