القديس توما الأكويني
كان «الأكويني» — على خلاف أسلافه — ذا علمٍ حقيقي كامل بأرسطو؛ فقد أمدَّه صديقه «وليم الموربيكي» بترجمات من اليونانية، وكتب هو نفسه تعليقات على ما قرأ؛ فإلى عهده لبثت آراء الناس في أرسطو مُهوَّشة بسبب الإضافات «الأفلاطونية الجديدة» التي زيدت عليها، لكنَّه اتَّبع أرسطو الحقيقي، وكره الأفلاطونية، حتى في صورتها التي تبدَّت بها عند «أوغسطين»، ونجح في إقناع «الكنيسة» بأن فلسفة أرسطو أفضل من فلسفة أفلاطون في أن تكون أساسًا لفلسفة مسيحية، وأن المسلمين، مع أنصار ابن رشد من المسيحيين، قد أخطئوا شرح أرسطو. ورأيي الشخصي هو أن كتاب «النفس» (لأرسطو) يؤدي أداء طبيعيًّا إلى وجهة النظر التي أخذ بها ابن رشد أكثر جدًّا مما يؤدي إلى وجهة النظر التي أخذ بها «الأكويني»، لكن «الكنيسة» قد رأت رأيًا غير هذا منذ «القديس توما»، وأودُّ أن أضيف إلى ذلك أن آراء أرسطو في مسائل المنطق والفلسفة لم تكن هي القول الفصل، وقد قام البرهان على أنَّها باطلة إلى حد كبير، وهذا الرأي أيضًا لا يُسمَح بالأخذ به لأي فيلسوف أو معلِّم للفلسفة من الكاثوليك.
والخطوة الأولى هي أن يبرهن على وجود الله؛ فبعض الناس من رأيه أن لا ضرورة لذلك ما دام وجود الله (في رأيهم) واضحًا بذاته، ولو كنا نعلم جوهر الله لكان زعمهم هذا صحيحًا؛ لأنه (كما سيدل البرهان فيما بعد) لا فرق — في الله — بين الجوهر والوجود الفعلي، لكننا لا نعرف جوهر الله إلا معرفةً جدَّ ناقصة؛ فأصحاب الحكمة من الناس يعرفونه أكثر مما يعرفه الجاهلون، والملائكة تعرف عن جوهر الله أكثر من هؤلاء وأولئك، لكن كائنًا واحدًا لا يعلم من جوهر الله العلمَ الذي يكفيه لاستنتاج وجود الله من جوهره، وعلى هذا الأساس فالبرهان الوجودي مرفوض.
ومن المهمِّ أن نذكر هنا أن الحقائق الدينية التي لا يمكن البرهنة عليها؛ يمكن العلم بها كذلك عن طريق الإيمان، ولئن كانت البراهين عسيرة، لا يفهمها إلا العلماء وحدهم، فالإيمان ضروري كذلك للجاهلين وللصغار، ولأولئك الذين تصرفهم شواغل الحياة عن دراسة الفلسفة، ففي الوحي الكفاية لهؤلاء جميعًا.
وبعض الناس من رأيه أن الله يستحيل معرفته إلا بالإيمان وحده؛ وحجتهم في ذلك هي أنه إذا كانت مبادئ البرهان تأتينا عن طريق الخبرة المستمدة من الحواس — كما وردَ في كتاب «التحليلات الثانية» (لأرسطو) — فإن كل ما يسمو على مجال الحواس تستحيل البرهنة عليه، وهذا قول باطل، وحتى لو كان صوابًا لكانت معرفة الله ممكنة من آثاره التي تدركها الحواس.
ونعود إلى كتاب «الحجة على الكافرين»، فأما وقد أقمنا البرهان على وجود الله، ففي مستطاعنا الآن أن نقول عنه أشياء كثيرة، لكنها جميعًا بالسلب، منظورًا إليها من وجهة نظر معينة؛ وذلك لأن طبيعة الله لا يمكن معرفتها لنا إلا عن طريق الصفات التي ليست تصف طبيعته؛ فالله أزلي ما دام غير متحرك، وهو غير متبدِّل، ما دام لا يحتوي على عنصر قابل (ضد فاعل) موجود بالقوة (لا بالفعل). ولقد «هرف» داود الدنانتي (وهو مادي موحِّد للوجود في أوائل القرن الثالث عشر) إذ قال إنَّ الله والمادة الأولى سواء، وهذا هراء؛ لأن المادة الأولى قابلية خالصة، مع أن الله فاعلية خالصة، وليس في الله تركيب من عناصر؛ ولذا فليس هو بالجسم؛ لأن للأجسام أجزاء.
والله هو جوهر نفسه؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لما كان كائنًا بسيطًا، بل كائنًا مركَّبًا من جوهر ووجود (وهذه النقطة هامة)؛ ففي الله لا فرق بين جوهر ووجود، وليس في الله حوادث عارضة، ويستحيل أن تتجزأ أجزاؤه بفروق جوهرية. وهو لا يقع تحت جنس من الأجناس، ولذا استحال تعريفه، لكنَّه لا ينقصه كمال أي جنس من الأجناس؛ فالأشياء تشبه الله من بعض نواحيها، ولا تشبهه من بعض نواحيها، ولَأن يقال إن الأشياء تشبه الله؛ أنسب من أن يقال إن الله يشبه الأشياء.
والله خيِّر، وهو عبارة عن خير نفسه، فهو الخير في كل ما يوصف بالخير. وهو عاقل، وأفعاله العقلية هي نفسها جوهره؛ فهو يعقل بجوهره، وهو يعلم نفسه علمًا كاملًا (لنذكرْ أن يوحنَّا الاسكتلندي رأى رأيًا غير هذا).
إنَّ الله يعقل الأشياء كلها في لحظة بعينها، وليست معرفته تقوم على ترابط المعاني، كلا ولا هي تتنقل من فكرة إلى فكرة، أو تُلحِق الحجةَ بالحجة، فالله هو الحقيقة نفسها (ولا بد من فهم هذه العبارة بمعناها الحرفي).
وننتقل الآن إلى مشكلة أتعبت أفلاطون وأرسطو معًا، وهي: هل يمكن لله أن يعرف الأشياء الجزئية، أم هل يقتصر علمه على الكليات والحقائق العامة؟
لأن المسيحي يؤمن بإشراف الله على خلقه، ومع ذلك فهنالك حجج لها وزنها ضد هذا الرأي، يسوق منها «القديس توما» سبعًا، ثم يأخذ في تفنيدها، والحجج السبعة هي ما يلي:
-
(١)
لما كانت الجزئية معناها تفرُّد في المادة للجزئيات؛ استحال على أي شيء لا مادي أن يعرفها.
-
(٢)
الجزئيات لا تتصف دائمًا بالوجود الفعلي، وهي لا يمكن معرفتها حين لا تكون موجودة وجودًا فعليًّا؛ وعلى ذلك فيستحيل معرفتها لكائن غير متغير.
-
(٣)
الجزئيات عرَضية لا ضرورية؛ وعلى ذلك فيستحيل أن يكون ثمَّة عنها معرفة يقينية إلا وهي موجودة.
-
(٤)
بعض الجزئيات ترجع إلى الإرادة، والإرادة لا يعرفها إلا الشخص المريد.
-
(٥)
الجزئيات لا نهائية في عددها، واللانهائي — باعتباره لا نهائيًّا — غير معلوم.
-
(٦)
الجزئيات أحقر من أن تستوقف انتباه الله.
-
(٧)
في بعض الجزئيات شر، ويستحيل على الله أن يعرف الشر.
ويرد «الأكويني» بقوله إن الله يعرف الجزئيات باعتباره سببًا لها. وهو يعرف الأشياء التي ليست موجودة وجودًا فعليًّا؛ كما يعرف الصانع الشيء المصنوع قبل أن يتم صناعته. وهو يعرف الأشياء العرَضية التي ستقع في المستقبل؛ لأنه يرى كل شيء في الزمان كأنه واقع في الوقت الحاضر؛ وذلك لأنه هو نفسه خارج عن حدود الزمان. وهو يعرف ما يدور في عقولنا، وما تعتزمه إرادتنا. ويعرف الأشياء التي لا نهاية لعددها، على الرغم من أن ذلك فوق مقدورنا نحن البشر. وهو يعرف الأشياء التوافِهَ؛ لأنه ليس ثمة شيء تافه من كل نواحيه؛ إذ إن لكل شيء جانبًا شريفًا، وإلا فلو كان الأمر غير ذلك لما عرف اللهُ غير نفسه، وفضلًا عن ذلك فإن نظام الكون في السمو، ويستحيل معرفة هذا النظام بغير معرفة كل شيء حتى التوافِه. وأخيرًا فإن الله يعلم الأشياء الشريرة؛ لأن معرفة أي شيء مما يتصف بالخير، يتضمن معرفة ضده، وهو الشر.
إنَّ الله «إرادة»، و«إرادته» هي جوهره، والموضوع الذي تنصبُّ عليه تلك الإرادة هو الجوهر الإلهي، وحين تتصل إرادة الله بذاته فكأنما هو قد أراد سائر الأشياء كذلك؛ لأن الله هو غاية كل شيء، وهو يريد حتى الأشياء التي لم توجد بعد، هو يريد وجود ذاته وخيرية ذاته، أما سائر الأشياء — فعلى الرغم من أنه يريدها — إلا أنه لا يريدها بالضرورة. ولله إرادة حرة، ويمكن أن نجد المبرر العقلي لكل إرادة يريدها، دون أن يكون هنالك سبب يستلزم حدوث تلك الإرادة، وهو لا يريد أشياء مستحيلة في ذاتها، مثال ذلك أنه يستحيل أن يجعل التناقض صادقًا. ولم يكن «القديس توما» موفَّقًا كل التوفيق في المثَل الذي يسوقه لشيء يجاوز حدود القوة الإلهية نفسها، لأنه يقول إنَّ الله لم يكن ليستطيع أن يجعل من الإنسان حمارًا.
وفي الله نشوة وغبطة وحب، لكن الله لا يكره شيئًا، وهو يتصف بالفضائل التأملية والفضائل العملية معًا، وهو سعيد، وهو هو سعادة ذاته نفسها.
وننتقل الآن (في الجزء الثاني) إلى النظر في الكائنات المخلوقة، وهو مفيد في نبْذ الأخطاء التي تشوب التفكير في الله؛ فالله قد خلق العالم من العدم، وذلك على خلاف ما ذهب إليه الأقدمون. والمؤلف هنا يستأنف موضوع الأشياء التي يستحيل على الله فعلها؛ فيستحيل عليه أن يكون جسمًا، أو أن يغيِّر نفسه، ويستحيل عليه أن يُخفِق، وأن يَلحقه التعب، وأن ينسى، وأن يندم، وأن يغضب، وأن يحزن، ويستحيل عليه أن يجعل إنسانًا بغير روح، أو أن يجعل زوايا المثلث لا تساوي قائمتين، إنه يستحيل أن ينسخ الماضي، وأن يرتكب الآثام، وأن يخلق إلهًا آخر، أو أن يجعل من نفسه كائنًا غير موجود. والجزء الثاني يدور أساسًا حول البحث في روح الإنسان؛ فكل العناصر العقلية لا مادية، ولا يطرأ عليها الفساد. وليس للملائكة أجساد، أمَّا في البشر فالروح متحدة مع الجسد، والروح هي صورة الجسد كما يقول أرسطو. وليس في الإنسان ثلاثة أرواح بل روح واحدة، والروح كلها موجودة وجودًا كاملًا في أي جزء من أجزاء البدن. وأراوح الحيوان — على خلاف روح الإنسان — ليست خالدة. والعقل جزء من روح فرد من الناس، وليس العقل — كما ذهب ابن رشد — عقلًا واحدًا على اختلاف الأفراد الذين يحل فيهم. والروح لا تنتقل مع الجراثيم المنوية، بل تُخلَق روح جديدة لكل إنسان جديد. نعم إنَّ ذلك ينطوي على إشكال، وهو: حين يولد إنسان من لقاءِ رجل وامرأة لقاءً بغير زواج، فإن الله قد يبدو كأنما كان شريكًا في عملية السفاح. لكن هذا الاعتراض اعتراض ظاهري فقط. (هنالك اعتراض خطير أقلقَ القديس أوغسطين، وأعني به الاعتراض الخاص بانتقال الخطيئة الأولى؛ ذلك أن الروح هي التي تقترف الخطيئة، وإذا كانت الروح لا تنتقل في التناسل، بل تُخلَق روح جديدة لكل إنسان جديد، فكيف يمكن لروح خُلقت خلقًا جديدًا أن ترث خطيئة آدم؟ والأكويني لا يناقش هذه المشكلة.)
وهو يناقش مشكلة الكليات حين يتعرض للبحث في العقل، ويتخذ «القديس توما» في مشكلة الكليات نفس الموقف الذي وقفه أرسطو، وهو أن الكليات لا وجود لها خارج الروح، لكن العقل حين يعقل الكليات، فهو يعقل أشياء موجودة خارج الروح.
ويُعنَى الجزء الثالث قبل كل شيء بالمسائل الأخلاقية؛ فالشر غير مقصود، وليس هو بالجوهر، وله علَّة عرَضية هي الخير. والأشياء كلها تميل إلى التشبُّه بالله الذي هو غاية كل شيء. وليست السعادة البشرية متوقفة على لذائذ الجسد والجاه والمجد والثروة والسلطان الدنيوي، أو على خيرات البدن، كلا ولا تكون الحواس مقرًّا لها، إنَّ السعادة الأخيرة للإنسان لا تتألف من أفعال تتمثل فيها الفضيلة الأخلاقية؛ لأن هذه الأفعال وسائل، وإنَّما تتألف تلك السعادة من التأمل في الله. على أن العلم بالله كما هو حاصل للكثرة الغالبة من الناس؛ لا يكفي، ولا يكفي كذلك أن تعلم به علمًا قائمًا على البرهان العقلي، بل لا يكفي أن تعلم به علمًا صادرًا عن الإيمان؛ فنحن في هذه الحياة لا نستطيع أن نرى الله في جوهره، ولا أن نظفر بالسعادة الأخيرة، أمَّا في الآخرة فسنراه وجهًا لوجه (وهو يحذِّرنا من فهم هذه العبارة بمعناها الحرفي؛ لأن الله ليس له وجه)، ولن يحدث ذلك بفضل قوانا الطبيعية، بل بفضل ضوء إلهي، وحتى عندئذٍ لن يُتاح لنا أن نراه كاملًا، وبرؤية الله نصبح مشاركين في الحياة الأبدية، أعني في الحياة التي لا تقع في حدود الزمان.
وليست «الحكمة الإلهية بالمتناقضة» مع وجود الشر، أو الوجود العرَضي للأشياء، أو الإرادة الحرة، أو المصادفة أو الحظ؛ فالشر يأتي نتيجة لعلل ثانية، كما يحدث في حالة الفنان الماهر ومعه أدوات رديئة.
وليست الملائكة كلها سواء، فبينها درجات، وكل ملَك هو فريد نوعه؛ لأنه ما دامت الملائكة بغير أجساد، فيستحيل أن يتميز بعضها عن بعض إلا بالفروق النوعية، لا بمجرد اختلاف الوضع في المكان.
ولا بدَّ من نبْذ التنجيم للأسباب المألوفة، وإذا سُئلنا السؤال الآتي: «هل هناك فعل للقدَر؟» أجاب «الأكويني» بأنه يجوز لنا أن نسمي بكلمة «القدر» ذلك النظام الذي فرضتْه الحكمة الإلهية، على أنه يَحسُن بنا ألا نفعل ذلك؛ لأن «القدَر» كلمة وثنية، وهذا يؤدي بنا إلى المناقشة التي يقول فيها إن الدعاء نافع، على الرغم من أن «الله الحكيم» لا يجوز عليه التغيُّر (وقد أخفقتُ في تتبع هذه المناقشة). والله يفعل المعجزات أحيانًا، لكن ذلك ليس في مستطاع أحد سواه، ومع ذلك فالسحر مستطاع بمعونة الشياطين، وليست أفعال السحر بالمعجزات بالمعنى الصحيح، ولا هي تتم بمعونة النجوم.
ويطالبنا «القانون الإلهي» بحب الله، وأن نحب كذلك جارنا، بدرجة أقل، وهو ينهى عن الزنا؛ لأن الوالد لا بدَّ أن يقيم مع الوالدة أثناء تربية الأبناء. ويحرم تحديد النسل؛ لأنه مُنافٍ للطبيعة، على أنه لا يحرم على هذا الأساس نفسه أن يقضي الإنسان حياته بغير اتصال جنسي. وينبغي للزواج ألا يكون قابلًا للانفصال؛ لأن الوالد مطلوب لتربية الصغار؛ إذ هو أعقل من الأم، وهو أيضًا أقوى منها جسدًا إذا ما اقتضت الحال عقوبة الأطفال. وليس كل اتصال جسدي مشوبًا بالخطيئة؛ لأنه طبيعي، لكنك إذا ما ظننت أن حالة الزواج لها نفس الخيرية التي لحالة العفة عن الاتصال الجنسي؛ وقعتَ في زندقة «جوفنيان». ولا بدَّ أن يكون الزواج بزوجة واحدة فقط، بغير استثناء للقاعدة؛ لأن تعدد الزوجات مُجحِف بالنساء، وتعدد الأزواج للزوجة الواحدة يجعل الأبوة مشكوكًا فيها. ويحرم الزواج بين الأقرباء؛ لأنه يسبِّب تعقيدًا في الحياة العائلية. وهو يسوق حجة غريبة ضد زواج الأخ بأخته، وهي أنه لو أضيف حب الزوج لزوجته إلى حب الأخ لأخته؛ اشتدت الجاذبية بين الرجل والمرأة إلى درجة تُكثِر من الاتصال الجنسي بينهما بغير موجب.
ومما تَجدُر ملاحظته أنَّ هذه الحجج كلها التي يسوقها عن الأخلاق الجنسية؛ إنما ينظر فيها إلى اعتبارات عقلية خالصة، لا إلى أوامر ونواهٍ سماويَّة، فها هنا ترى «الأكويني» — كما تراه خلال الأجزاء الثلاثة الأولى كلها — مغتبطًا في ختام نقاش يسوق فيه الأدلة العقلية، إذ هو يقتبس نصوصًا تبيِّن أن العقل قد انتهى به إلى نتيجة تلائم ما جاء به الكتاب المقدس، لكنَّه لا يستند إلى الكتاب المقدس إلا بعد بلوغه النتيجة التي أراد بلوغها بالتدليل العقلي.
وهناك مناقشة غاية في الحيوية وجديرة بكل اهتمام عن الفقر الإرادي، وهي مناقشة تنتهي في ختامها — كما يتوقَّع لها القارئ — إلى نتيجة تتفق مع مبادئ الطوائف المستجدية، وهو في هذه المناقشة يذكر الاعتراضات بقوة وواقعيَّة، بحيث يُظهرها كما قد سمعها هو فعلًا على ألسنة رجال الإكليروس العلمانيين.
والكتاب الرابع يبحث في «الثالوث» و«التجسيد»، وسيادة البابا، والطقوس المقدسة، وبعث الجسد. وهو يوجِّهه أولًا إلى رجال اللاهوت قبل أن يوجهه إلى الفلاسفة، ولذا سأتناوله في إيجاز.
هنالك ثلاث طرق لمعرفة الله؛ بالعقل، وبالوحي، وبالإدراك المباشر للأشياء التي سبقت معرفتها بالوحي وحده، على أنه لا يكاد يقول شيئًا إطلاقًا عن الطريقة الثالثة، ولو كان الكاتب ممن يميلون إلى التصوف، لقال في هذه الطريقة الثالثة أكثر من أيٍّ من الطريقتين الأُخريَين، لكن مزاج «الأكويني» قياسي أكثر منه تصوفيًّا.
وهو يتوجه باللائمة إلى «الكنيسة اليونانية» لإنكارها الموكب المزدوج الخاص ﺑ «الروح القدس» وبسيادة البابا، وهو يلفت أنظارنا إلى أنه على الرغم من أن المسيح ابن الروح القدس، إلا أنَّنا يجوز أن نفترض بأنه ابن الروح القدس بُنوةً جسدية.
والطقوس المقدسة تكون مقبولة حتى لو قام بها قساوسة أشرار، وقد كانت لهذه النقطة أهمية في تعاليم «الكنيسة»؛ ذلك لأن عددًا كبيرًا جدًّا من القساوسة كانوا يَحيَون في خطيئة خُلقية، وخشي الأتقياء من الناس ألا يكون في مستطاع أمثال أولئك القساوسة أن يقوموا بالطقوس المقدسة، ولو كان ذلك كذلك لأصبح الأمر عجبًا؛ إذ إنَّه في هذه الحالة ما كان أحد ليعلم إن كان زواجه صحيحًا، أو إن كان غفران ذنبه مقبولًا. وقد أدَّى هذا الخوف إلى زندقة وانقسام؛ لأن أصحاب العقول المتزمِّتة في أمور الدين راحوا يلتمسون إقامة كهنوت مستقل يتصف بالفضيلة التي لا تشوبها شائبة، وعندئذٍ اضطُرت «الكنيسة» إزاء ذلك إلى التأكيد بشدة قوية بأن الخطيئة التي يقترفها القسيس لا تَحُول بينه وبين أداء مهامِّه الدينية.
ومن الموضوعات التي ناقشها أخيرًا موضوعُ بعث الجسد؛ فترى «الأكويني» — كما هي الحال في مواضع أخرى — يعرض في أمانة تامة كل الحجج التي قيلت اعتراضًا على ما تأخذ به الأرثوذكسيَّة، ومن هذه الحجج حجة تثير مشكلات عظيمة للوهلة الأولى، فيسأل «القديس» قائلًا: ماذا يحدث لرجل لم يأكل طول حياته إلا لحمًا بشريًّا، ولا أكَل أبواه إلا لحمًا بشريًّا كذلك؟ فمن الظلم الظاهر لضحايا مثل هذا الرجل أن يُحرَموا أجسادَهم يوم الحساب، نتيجة لشراهته، ومع ذلك، فلو بعثنا أجسادهم فماذا يبقى منه ليكون جسده هو؟ وإنه ليسعدني أن أقول إن هذه المشكلة التي قد تظهر للوهلة الأولى مستحيلة الحل؛ قد حُلَّت حلًّا موفَّقًا؛ إذ يبيِّن «القديس توما» أن ذاتية الجسد ليست متوقفة على بقاء الذرات المادية نفسها التي تكونه، فإنه يحدث خلال الحياة أن يتعرض الجسد للتغير الدائم في مادته التي تكوِّنه، بسبب عمليات الأكل والهضم، فآكِل اللحم البشري إذن قد يتلقَّى جسده نفسه يوم البعث، حتى ولو لم يكن ذلك الجسد مؤلَّفًا من نفس المادة التي كانت تكوِّن جسده حين جاءه الموت، ويَحسُن بنا أن نختم الخلاصة التي أوردناها لكتاب «الحجة على الكافرين» بهذه الفكرة التي تبعث الطمأنينة في النفوس.
تتفق فلسفة «الأكويني» في خطوطها العامة مع فلسفة أرسطو، وسيقبلها قارئها أو يرفضها، بنفس الدرجة التي يقبل بها أو يرفض فلسفة «الاستاجيري» (أرسطو). وإنما تبدو أصالة «الأكويني» في اصطناعه أرسطو سندًا للمذاهب المسيحية، دون أن يغيِّر منها إلا الحد الأدنى. وقد اعتبره الناس في عصره مجددًا جريئًا، حتى لقد استنكرت جامعتا باريس وأكسفورد كثيرًا من آرائه بعد موته. ولئن كان يستوقف النظر بأصالته، فهو أكثر استلفاتًا للنظر بقدرته على التنسيق بين الآراء؛ فحتى لو كانت آراؤه خاطئة، فلن يزال كتاب «الحجة على الكافرين» بناءً عقليًّا رائعًا. وهو حين يهمُّ بتفنيد مذهب، يسوقه أولًا، وكثيرًا ما يعرضه بقوة عظيمة، محاولًا في كل الحالات تقريبًا أن يكون عادلًا. وإنه لمما يدعو إلى الإعجابِ تلك الدقةُ وذلك الوضوح اللذان استطاع بهما أن يفرق بين الحجج المستمدة من العقل، والحجج المستمدة من الوحي. وهو يعرف أرسطو حق المعرفة، ويفهمه فهمًا تامًّا، وذلك قول لا تستطيع أن تقوله عن أي فيلسوف قبله من الفلاسفة الكاثوليك.
ومع ذلك فلا تكاد هذه الحسنات تكفي مبررًا لذيوع شهرته كل هذا الذيوع العظيم، فاستناده إلى العقل لا يتصف بالإخلاص — من بعض الوجوه — ما دامت النتيجة التي ينوي انتزاعها محدَّدة قبل البدء في البحث، خذ مثلًا لذلك استحالة الانفصال بين الزوجين، فهو يؤيد هذا الرأي بقوله إن الوالد مفيد في تربية الأبناء؛ (أ) لأنَّه أعقل من الأم. (ب) ولأنه أقوى منها جسدًا؛ ولذا فهو أقدر منها على توقيع العقاب البدني، وفي وُسع المُربِّي الحديث أن يردَّ عليه قائلًا: (أ) إنه ليس ثمة مبرر واحد لافتراض أن الرجال بصفة عامة أعقل من النساء. (ب) وإن نوع العقاب الذي يتطلب قوة بدنية كبيرة ليس مستحبًّا في التربية، وربما يمضي المُربي الحديث فيقول إن الآباء في العالم الحديث لا يكادون يأخذون بأي قسط في تربية الأبناء، لكنك لن تجد أحدًا من أشياع «القديس توما» يقلع عن إيمانه بوحدانية الزوجة طول الحياة، حتى إذا تبيَّن له ما أوردناه من حجة؛ ذلك لأن الأسس الحقيقية التي يقيم عليها إيمانه ليست هي الأسس العقلية المزعومة.
أو خذ الحجج التي يدَّعي أنه يبرهن بها على وجود الله؛ فكلها — ما عدا الحجة التي يقيمها على غائيَّة الكائنات غير الحية — معتمدة على زعم استحالة ألا يكون للتسلسل بداية أولى، وكل رياضي يعلم أن مثل هذه الاستحالة وهمٌ من الأوهام؛ فسلسلة الأعداد السلبية التي تنتهي بناقص واحد، مَثَل نسوقه دليلًا على عكس ذلك الظن، لكنك لن تجد هنا أيضًا رجلًا واحدًا ممن يَدينون بالكاثوليكيَّة، على استعداد لاطِّراح عقيدته بالله، حتى إذا اقتنع بأن الحجج التي يسوقها «القديس توما» على وجوده باطلة، وستراه يبتكر حججًا أخرى، أو يلوذ بالوحي مَهربًا.
والمحاولات التي أراد بها أن يبيِّن بأن جوهر الله ووجوده شيء واحد بذاته، وأن الله هو خيريَّته، وهو قوته وهكذا (أعني أنه هو صفاته)؛ قد تدل على خلط في التفكير، وهو خلط نراه عند أفلاطون، ثم يزعم بعضهم أن أرسطو قد تخلص منه، وأعني به الخلط بين كون الشيء من الجزئيات، وبين كونه من الكليات، فلا بدَّ لنا من التسليم بأن جوهر الله من قبيل الكليات، بينما وجوده ليس كذلك. ومن العسير أن نعرض هذه المشكلة عرضًا مُرضيًا؛ لأنها تَرِد في سياق منطق لم يعد في وُسعنا اليوم قبوله، لكنها تكشف في وضوح عن لون من ألوان الاضطراب في التركيب اللغوي، ولو تخلصنا من هذا الاضطراب في استخدام ألفاظ اللغة، لزال عن الحجج التي تؤيد وجود الله كثيرٌ من بريقها الذي يأخذ بالألباب.
إنَّك لا تصادف عند «الأكويني» من الروح الفلسفيَّة الصحيحة إلا قليلًا؛ فهو لا يبدأ الحِجاج — مثل سقراط الأفلاطوني — معتزمًا أن يتابعه أنَّى سار به، وهو لا يشغل نفسه ببحثٍ يستحيل معرفة نتيجته مقدمًا، بل تراه قبل أن يبدأ التفلسف ملمًّا بالحقيقة المنشودة؛ لأنها حقيقة تفصح عنها العقيدة الكاثوليكيَّة، فإن وجد حججًا يبدو عليها طابع الدليل العقلي، ليؤيد بها بعض أجزاء العقيدة؛ كان خيرًا، وإن لم يجد فلا حاجة به إلى أكثر من الرجوع إلى الوحي. وليس من الفلسفة أن تبحث عن حجج تؤيد بها نتيجة معروفة من قبل، وإنَّما يكون ذلك من قبيل الدفاع عما تريد الدفاع عنه؛ وعلى ذلك فلستُ بمستطيع أن أرى فيه من الجدارة ما يستحق به أن يوضع على قدم المساواة مع خِيرة الفلاسفة، سواء في ذلك اليونان والمُحدَثون.