الاسكولائيون الفرانسسكان
كان الفرانسسكان — على وجه العموم — أقل من الدومنيكان في نقاء عقيدتهم الأرثوذكسيَّة، وكانت الطائفتان متنافستين تنافسًا حادًّا؛ فلم يكن الفرانسسكان يميلون إلى قبول «القديس توما» حجةً لهم. وأهم رجال ثلاثة بين الفلاسفة الفرانسسكان هم: «روجر بيكُن»، و«دَنْس سكوتس»، و«وليم الأوكامي»، وكذلك نرى «القديس بونافنتورا»، و«متَّى الأكْواسبرطي» جديرَين بالنظر.
كان موسوعيًّا في علمه، لكنه لم يعرف كيف يُنسِّق ذلك العلم. وهو يختلف عن معظم فلاسفة عصره في رفعه من قيمة التجربة العلمية، وضرب مثلًا نظرية قوس قزح ليوضح به أهمية التجارب العلمية. وقد أجاد كتابة الجغرافيا، وقرأ «كولمبس» الجزء الجغرافي من تآليفه، وتأثر به. وكان رياضيًّا جيدًا؛ فتراه يقتبس الجزأين السادس والتاسع من إقليدس. وبحث في المنظور ناسجًا على منوال المصادر العربية في ذلك. أمَّا المنطق فقد رآه دراسة لا تفيد، على حين رأى في الكيمياء من القيمة ما حَمَله على الكتابة فيها.
ولكي أصور بعض التصوير مدى علمه وطريقته في البحث، سأعمد إلى تلخيص بعض الأجزاء من «السِّفر الأكبر».
يقول إنَّ هنالك أربعة أسباب للجهل؛ الأول: اتباع سلطة ضعيفة غير ملائمة (ولما كان الكتاب قد كُتب من أجل البابا، فقد حرص على أن يقول إن ذلك لا يشمل «الكنيسة»). والثاني: تأثير العادة. والثالث: رأي الجمهور غير المتعلم (والأرجح أن هذا يشمل كل معاصريه ما عداه). والرابع: أن يُخفي المرء جهل نفسه بستار من حكمة ظاهرية. من هذه الأوبئة الأربعة — والرابع أفظعها جميعًا — تنبثق شرور الإنسانية.
إنك إذا أردت أن تؤيد فكرة، فمن الخطأ أن تبني حجتك على حكمة أسلافنا، أو على العادة، أو على الاعتقاد السائد، ومع ذلك فهو حين أراد أن يؤيد وجهة نظره هذه، راح يستند إلى مقتبسات من «سنكا» و«شيشرون»، و«ابن سينا» و«ابن رشد»، و«أدلارد الباثي»، و«القديس جيروم»، و«القديس خريسوستوم»؛ فالظاهر أنه قد رأى في هؤلاء الثقات برهانًا كافيًا على أن الباحث لا ينبغي أن يحترم رأي ذوي الكلمة المسموعة.
ويتبع «بكين» رأي «ابن رشد» في أن العقل الفعال عنصر مستقل عن الروح في الجوهر، ويستند إلى كثيرين من رجال الدين البارزين، منهم «جروسْتست» أسقف «لنكلن»؛ لأنه هو كذلك يؤيد هذا الرأي، الذي لا يتفق مع ما ذهب إليه «القديس توما». ويقول إن الفقرات المأخوذة عن أرسطو، والتي يبدو فيها شيء من التناقض؛ إنَّما يرجع تناقضها الظاهري إلى سوء ترجمتها. وهو حين يقتبس من أفلاطون لا يرجع إليه مباشرةً، بل يرجع إليه خلال «شيشرون»، وربما رجع إليه خلال خطوتين؛ العرب نقلًا عن فورفوريوس، وليس معنى ذلك أنه كثير الاحترام ﻟ «فورفوريوس»، وحسْبنا أنه يصف فورفوريوس في الكليات بأنه «صبياني».
لقد صادف «بيكن» في العصور الحديثة ثناءً؛ لأنه أعلى من شأن التجارب العلمية مصدرًا من مصادر المعرفة، أكثر مما قدَّر الحِجاج الجدلي. وليس من شكٍّ في أن اهتماماته، وطريقة تناوله لموضوعاته؛ تختلف اختلافًا شديدًا عما كان سائدًا بين الاسكولائيين الخُلَّص. وهو في ميوله الموسوعية في تحصيل العلم شبيه بالمؤلفين العرب، الذين أثَّروا فيه بغير شك أثرًا كان أبلغ من تأثيرهم في الكثرة الغالبة من سائر الفلاسفة المسيحيين؛ فهم مثله يهتمون بالعلم، ويؤمنون بالسحر والتنجيم، على حين ظنَّ المسيحيون أن السحر خبيث، والتنجيم وَهْم. وهو يستثير الدهشة لأنه يختلف اختلافًا بعيدًا عن غيره من الفلاسفة المسيحيين في العصر الوسيط، غير أنه كان ذا أثر طفيف في عصره. ولا أحسبه كان ذا نزعة علمية بالدرجة التي يظنها فيه بعض الباحثين. وقد أَلِف المؤلفون الإنجليز أن يقولوا عنه إنه مخترع البارود، لكن ذلك زعم باطل بغير شك.
وأمَّا «القديس بونافنتورا» (١٢٢١–١٢٧٤م) — الذي بوصفه قائدًا لطائفة الفرانسسكان، حرَّم النشر على «بيكن» — فقد كان من طراز مختلف عن طراز «بيكن» كل الاختلاف؛ فهو ينتمي إلى أتباع «القديس أنسلم» في طريقة التفكير. وكان يذهب إلى ما ذهب إليه «القديس أنسلم» من حيث البرهان الوجودي. ورأى في النزعة الأرسطيَّة الحديثة تعارضًا جوهريًّا مع المسيحية. وكان يعتقد في صدق المُثُل الأفلاطونية، التي لا يعرفها معرفة كاملة إلا الله وحده. وهو لا ينفكُّ في كتاباته ذاكرًا لأوغسطين، غير أنه لا يسوق اقتباسًا واحدًا من العرب، ولم يقتبس من الوثنيين الأقدمين إلا قليلًا.
ومن أتباع «بونافنتورا» «متَّى الأكواسبرطي» (حوالي ١٢٣٥–١٣٠٢م)، لكنه كان أقل منه انصرافًا عن الفلسفة الجديدة. كان من الفرانسسكان، وأصبح كاردنالًا. وعارض «القديس توما» من وجهة نظر «أوغسطينية»، لكن أرسطو في رأيه قد بات هو «الفيلسوف»، يقتبس منه اقتباسًا متصلًا، وكذلك يذكر «ابن سينا» في مواضع كثيرة، ويقتبس من «القديس أنسلم» محترمًا إياه، وكذلك قل في موقفه من «محاكي ديونيسيوس»، لكن مرجعه الرئيسي هو «القديس أوغسطين». وهو يقول إنه لا مندوحة لنا عن الْتِماس طريق وسط بين أفلاطون وأرسطو؛ فمُثُل أفلاطون «خاطئة كل الخطأ»، وهي من شأنها أن تمكِّن لبناء الحكمة لا المعرفة، وكذلك أرسطو من ناحية أخرى قد انحرف عن الصواب، وهو يمكِّن لبناء المعرفة لا الحكمة، ثم ينتهي إلى هذه النتيجة، وهي أنَّ ما لدينا من معرفة قد جاءنا من الأشياء الدنيا والأشياء العليا سواء بسواء، أعني أنها قد جاءت من الأشياء الخارجية ومن التدليلات العقلية معًا.
وجاء «دَنْس سكوتس» (حوالي ١٢٧٠–١٣٠٨م) فمضى في طريق غيره من الفرانسسكان في معارضتهم للأكويني. وُلد في اسكتلندا أو في ألِسْتر، والْتَحق بالفرانسسكان وهو في أكسفورد، وأنفق أُخريات أعوامه في باريس. وقد عارض «القديس توما» بأن دافع عن «الحَبَل بلا دَنَس»، وأيدَتْه في ذلك جامعة باريس، ثم أيدَتْه آخرَ الأمر «الكنيسة الكاثوليكية» بأَسرها. وهو «أوغسطيني»، لكنه لم يتطرَّف في ذلك تطرُّفَ «بونافنتورا»، ولا تطرُّف «متَّى الأكواسبرطي». واختلافه عن «القديس توما» — كاختلافهما عنه — قد نشأ من إضافته إلى فلسفته قسطًا أوفر من الأفلاطونيَّة (عن طريق أوغسطين).
وهو يناقش — مثلًا — مسألة «هل يمكن معرفة أية حقيقة مؤكدة خالصة للإنسان العادي، إذا استخدم عقله بطريقة طبيعية، دون الاستعانة بشعاع خاص ينبعث له من الضوء الأزلي؟» ويقول إن ذلك مستحيل، وهو لا يؤيد وجهة نظره هذه في مُستهَلِّ نقاشه؛ إلا بفقرات يقتبسها من «القديس أوغسطين»، والمعضلة الواحدة التي تعترضه في هذا الصدد هي الرومان، الإصحاح الأول، ٢٠: «إن مخلوقات الله الخفيَّة عن الأبصار، التي أدركناها عن طريق ما صنعناه من أشياء؛ قد فُهِمت لنا فهمًا واضحًا من خَلق العالم.»
كان «دَنْس سكوتَسْ» واقعيًّا معتدلًا، آمن بحرِّية الإرادة، وله نزعات تميل به نحو المذهب «البلاجي». وذهب إلى أن الوجود لا يختلف عن الجوهر. وأهم ما كان يثير اهتمامه هو الإدراك المباشر، أعني أنواع الأشياء التي يمكن معرفتها بغير برهان، وهذه الأشياء ثلاثة أنواع: (١) مبادئ تُعرَف بذاتها. (٢) وأشياء تُعرَف بالخبرة. (٣) وأفعالنا. لكنه يستحيل علينا أن نعرف شيئًا قط بغير استضاءة إلهية.
ولقد اتبع معظم الفرانسسكان «دنس سكوتس» أكثر مما اتبعوا «الأكويني».
ذهب «دنس سكوتس» إلى أنه ما دام الوجود والجوهر لا يختلفان أحدهما عن الآخر، فلا بدَّ إذن أن يكون «مبدأ الفردية» — أعني المبدأ الذي بمقتضاه لا يكون شيء ما هو نفسه شيئًا آخر بعينه — أقول إن «مبدأ الفردية» لا بدَّ إذن أن يكون في الصورة لا في المادة. لقد كان «مبدأ الفردية» مشكلة من أهم المشاكل التي تعرضت لها الفلسفة الاسكولائيَّة، وما يزال إلى يومنا هذا مشكلة قائمة، وإن تكن قد اتخذت صورًا مختلفة في العصور المختلفة. وربما جاز لنا أن نقرر المشكلة على الوجه الآتي، دون الإشارة إلى أحد من المؤلفين (الذين تناولوها بالبحث).
من خصائص الأشياء الجزئية ما هو جوهري وما هو عرَضي، والصفات العرَضية للشيء هي تلك التي يمكن للشيء أن يفقدها دون أن يفقد ذاتيته، كلُبسك القبعةَ مثلًا إذا كنت رجلًا، وها هنا تنشأ المشكلة الآتية: إذا كان لدينا جزئيَّان ينتميان إلى نوع بعينه، فهل يختلف هذان الجزئيان دائمًا في الجوهر، أم هل يمكن للجوهر أن يكون متشابهًا تشابهًا تامًّا في ذَينِك الجزئيَّين معًا؟ يأخذ «القديس توما» بالرأي الثاني بالنسبة للعناصر المادية، وبالرأي الأول بالنسبة للعناصر غير المادية. وأمَّا «دنس سكوتس» فيعتقد بأن الشيئين الجزئيين المختلفين؛ لا بد أن يكون بينهما دائمًا اختلافات في الجوهر. ويبني «القديس توما» وجهة نظره على النظرية القائلة بأن المادة الخالصة تتألف من أجزاء لا يختلف بعضها عن بعض، ولا يمكن التمييز بينها إلا باختلافها في الوضع المكاني وحده؛ وعلى هذا فقد لا يختلف الشخص المتألف من عقل وجسم، اختلافًا فيزيقيًّا عن شخص آخر إلا في الوضع المكاني لجسده (يجوز أن يحدث هذا نظريًّا مع التوءمين الناشئين من بُوَيضة واحدة). وأمَّا «دنس سكوتس» فيرى من ناحية أخرى أنه لو كانت الأشياء متميزًا بعضُها عن بعض؛ فلا بدَّ أن يكون هذا التمييز قائمًا على اختلافها في الكيف، وواضح أن هذا الرأي أقرب إلى الأفلاطونية من رأي «القديس توما».
ولا بدَّ لنا من اجتياز مراحل عدة قبل أن نستطيع التعبير عن هذه المشكلة بلغة العصر الحديث، والمرحلة الأولى قد خطاها «ليبنتز» حين تخلَّص من التفرقة بين ما هو جوهري وما هو عرَضي في الصفات، وهي تفرقة — شأنها شأن تفرقات أخرى كثيرة أخذَها الاسكولائيون عن أرسطو — سرعان ما يتبدَّى بُطلانها إذا ما حاولنا أن نضعها في تعبير دقيق، وبزوال هذه التفرقة يصبح لدينا بدل «الجوهر» «كل القضايا التي تَصدُق على الشيء الذي نحن بصدده» (ومع ذلك فلا بدَّ أن نستثني — بصفة عامة — وضع الشيء في المكان والزمان). ويدافع «ليبنتز» عن رأيه باستحالة أن يكون شيئان شبيهين كل الشبه بهذا المعنى، وهذا هو مبدؤه المعروف باسم «ذاتية الفوارق غير المُدرَكة». ولقد توجَّه علماء الطبيعة إلى هذا المبدأ بالنقد، إذ قالوا إن الذرَّتين من ذرات المادة قد لا تختلفان في شيء إطلاقًا سوى اختلافهما في الوضع المكاني والزماني، وهو رأي ازداد صعوبةً بنظرية النسبية التي جعلت من المكان والزمان مجرد علاقات لا أكثر.
ولا مندوحة لنا بعد ذلك عن مرحلة أخرى نخطوها في سبيل تحديث المشكلة (أي: جعْلها ملائمة للتفكير الحديث)، وهي أن نتخلص من فكرة «العنصر»، وإذا ما فعلنا ذلك بات «الشيء» حُزمة من الصفات؛ إذ لا يعود أمامنا نواة تكون هي «الشيئية» الخالصة. وقد يظهر لنا أننا إذا ما نبذنا فكرة «العنصر»، لَزِم عن ذلك ضرورة الأخذ برأي أقرب إلى رأي «سكوتس» منه إلى رأي «الأكويني»، على أن هذا يتضمن صعوبة كبرى من حيث المكان والزمان. وقد تناولت هذه المشكلة من وجهة نظري في كتابي «بحث في المعنى والصدق»، تحت عنوان «أسماء الأعلام».
ويقال إن «أوكام» حين الْتَقى بالبابا قال: «دافع أنت عني بالسيف، وسأدافع عنك بالقلم.» ولقد استقر هو و«مرسيليو البادوي» — على الأقل — في ميونيخ تحت رعاية الإمبراطور، وهنالك أخذا يكتبان رسائل سياسية ذات خطر كبير، ولسنا على علم يقيني بما حدث ﻟ «أوكام» بعد موت الإمبراطور سنة ١٣٣٨م، فيقول بعضهم إنَّه وفَّق ما بينه وبين «الكنيسة»، لكن ذلك يبدو زعمًا باطلًا.
ولم تَعُد الإمبراطورية كما كانت في عهد «هوهنستاوفن»، وكذلك لم يعد للبابوية ما كان لها من مكانة رفيعة في النفوس، ولو أن دعاواها ما فتئت تزداد اتساعًا. وكان «بونِفِس الثامن» قد نقلها إلى أفنيون في بداية القرن الرابع عشر، وأصبح البابا تابعًا سياسيًّا لملك فرنسا. ولم تقف الإمبراطورية عند حد كهذا في تدهورها؛ إذ لم يعد في وسعها أن تطالب بأي ضرب من ضروب السيادة العالمية، حتى ولو كانت سيادة وهميَّة أبعد ما تكون عن السيادة الحقيقية؛ وذلك بسبب قوة فرنسا وإنجلترا، ومن ناحية أخرى كذلك أضعف البابا من حقه في المطالبة بالنفوذ العالمي في الأمور الدنيوية؛ وذلك بسبب خضوعه لملك فرنسا، وهكذا بات الصراع بين البابا والإمبراطور صراعًا بين فرنسا وألمانيا في حقيقته. وكانت إنجلترا في عهد «إدوَرْد الثالث» في حرب مع فرنسا، ولذلك كانت حليفة لألمانيا؛ ونتج عن ذلك أن تكون إنجلترا مناهِضة للبابوية كذلك. وطالب أعداء البابا بعقد «مجلس عام»، وهو السلطة الكنسية الوحيدة التي يمكن اعتبارها أعلى كلمةً من البابا.
وعندئذٍ تغيرت طبيعة المعارضة الموجَّهة إلى البابا؛ فبدَل أن تجعل نفسها مؤيدة للإمبراطور لا أكثر ولا أقل؛ اكتسبت صبغة ديمقراطية، خصوصًا فيما يتعلق بأمور الإدارة في «الكنيسة»، فأمدَّها هذا بقوة جديدة، انتهت بها في ختام الأمر إلى حركة «الإصلاح الديني».
وعلى نقيض ذلك «مرسيليو البادوي» (١٢٧٠–١٣٤٢م)؛ إذ افتتح الصورة الجديدة التي اتخذتها المعارضة للبابا، وهي صورة لم يكن للإمبراطور فيها دور رئيسي سوى جلال الهيبة. وكان «مرسيليو» صديقًا حميمًا ﻟ «وليم الأوكامي» الذي تأثر به في آرائه السياسية، فهو من الوجهة السياسية أهم من «أوكام». وهو يذهب إلى أن أغلبية الشعب هي مصدر التشريع، وأن لهذه الأغلبية حق معاقبة الأمراء، وهو كذلك يطبِّق سيادة الشعب على «الكنيسة»، ويُدخِل في ذلك من ليسوا من رجال الدين؛ فلهؤلاء أن ينتخبوا ممثلين عنهم في «المجالس العامة»، وليس لغير «المجلس العام» وحده حق الفصل عن الكنيسة، وحق التأويل المعتمد لنصوص الكتاب المقدس؛ وبهذا يكون للمؤمنين جميعًا كلمة في تقرير العقائد. وليس للكنيسة حق في السلطة الدنيوية إطلاقًا، ولا يجوز فصل أحد عن الكنيسة إلا بموافقة السلطات المدنية، ولا ينبغي قط أن يكون للبابا سلطة خاصة به.
ولم يذهب «أوكام» إلى كل هذا الحد الذي ذهب إليه «مرسليو»، غير أنه أعدَّ طريقة ديمقراطية خالصة لانتخاب «المجلس العام».
وبلغت حركة المجالس الكنسية مداها في أوائل القرن الخامس عشر، حين مسَّت الحاجةُ إلى معالجة «الانشقاق الأعظم»، لكنها بعد أن أنجزت هذه المهمة فترَتْ حماستها. وقد كانت وجهة نظرها — كما تستطيع أن تلمس ذلك في «مرسليو» — مختلفة عن وجهة النظر التي اصطنعَتْها جماعة البروتستنت فيما بعد، ولو من الوجهة النظرية؛ فقد طالب البروتستنت بحق الحكم الخاص، ولم يكونوا يرغبون في الخضوع ﻟ «المجلس العام»، وكانوا يعتقدون أن الإيمان الديني ليس أمرًا يقرره جهاز حكومي كائنًا ما كان. أمَّا «مرسليو» فهو — على خلاف ذلك — لم يزل يهدف إلى وحدة العقيدة الكاثوليكية، غير أنه يودُّ لهذه الوحدة أن تتم بوسائل ديمقراطية، لا بوساطة السلطة المطلقة توضع في يدَي البابا. وأمَّا الكثرة الغالبة من البروتستنت، فكل ما فعلوه من الوجهة العملية هو أنهم حين آلت إليهم سلطة الحكم، استبدلوا الملك بالبابا لا أكثر ولا أقل، فلا هُم بذلك قد ضمنوا حرية الحكم الخاص، ولا هم ظفروا بطريقة ديمقراطية في تقرير المشكلات المذهبية، لكنهم في معارضتهم للبابا وجدوا ما يؤيدهم في مبادئ حركة المجالس الكنسية، ولم يجد «لوثر» مَن يُفضِّله من الاسكولائيين جميعًا غير «أوكام»، ولا بدَّ لنا ها هنا من القول بأن شطرًا كبيرًا من البروتستنت قد تمسَّك بمبدأ الحكم الخاص، حتى حيث كانت الدولة تَدين بالبروتستنتية، وتلك كانت نقطة الخلاف الرئيسية بين «المستقلين» و«البرزبيتريان» في الحرب الأهلية الإنجليزية.
وسنعرض بعض الأمثلة لنوضح بها منهجه ووجهة نظره.
له رسالة طويلة تُسمى «ثماني مشكلات خاصة بسلطة البابا»؛ المشكلة الأولى هي: هل يمكن لرجل واحد أن يكون صاحب السيادة العليا بحق في «الكنيسة» و«الدولة» معًا؟ والثانية هي: هل السلطة مستمدة مباشرةً من الله أم لا؟ والثالثة هي: هل للبابا الحق في منح السلطة التشريعية الدنيوية للإمبراطور وسائر الأمراء؟ والرابعة هي: هل انتخاب الناخبين يُخوِّل للملك الألماني سلطة مطلقة؟ والخامسة والسادسة هما: ما هي الحقوق التي تكتسبها «الكنيسة» خلال حق فكر الأساقفة في صبِّ الزيت المقدس على الملوك؟ والسابعة هي: هل يصح الاحتفال بالتتويج إذا لم يقم به رئيس الأساقفة المنوط به هذا الاحتفال؟ والثامنة هي: هل يُخوِّل انتخاب الناخبين للملك الألماني حق التلقُّب بالإمبراطور؟ كل هذه كانت في ذلك العصر مشكلات حامية خاصة بالسياسة العملية.
وله رسالة أخرى في: هل يحقُّ للأمير أن يحصل على ممتلكات «الكنيسة» دون أن يستأذن البابا في ذلك؟ والمقصود بهذه الرسالة هو أن تبرِّر ﻟ «إدورد الثالث» فرض الضريبة على رجال الكنيسة، لتمويل حروبه مع فرنسا، ولنلاحظْ هنا أن «إدورد» كان حليفًا للإمبراطور.
ثم تأتي بعد ذلك رسالة عنوانها «مبادلة الرأي في قضية زوجية»، موضوعها: هل يحق للإمبراطور أن يتزوج ابنة عمه؟
وسنرى أن «أوكام» قد بذل كل جهد مستطاع ليكون جديرًا بحماية الإمبراطور له حمايةً يقوم عليها بسيفه.
وأشهر ما يُعرف به «أوكام» مبدأ لا يَرِد في مؤلفاته، لكنه اتخذ اسم «نصل أوكام»، ومؤدَّى هذا المبدأ أن «الكائنات لا ينبغي أن تتكاثر بغير موجب»، فعلى الرغم من أنه لم يقل هذا، فقد قال شيئًا شديد الشبه به من حيث معناه، إذ قال: «إذا أمكنك أن تكتفي بالعدد الأقل، فمن العبث أن تستخدم عددًا أكبر»، ومعنى ذلك أنه إذا أمكن تعليل كل الحقائق في علم من العلوم، دون ضرورة فرْضنا لوجود هذا الكائن أو ذاك، فلا مبرر لعرض وجوده، ولقد وجدتُ هذا المبدأ مفيدًا أكبر الفائدة في التحليل المنطقي الذي قمتُ به.
من رأي «أوكام» أن المنطق أداة تستعين بها فلسفة الطبيعة التي يمكن أن تكون مستقلة عن الميتافيزيقا؛ فالمنطق هو تحليل العلم الذي ينتقل من المقدمات إلى النتائج. وهذا العلم يدور حول أشياء، أمَّا المنطق فليس كذلك. والأشياء جزئية فردية، أمَّا الحدود المنطقية ففيها أسماء كلية، ومن شأن المنطق أن يعالج هذه الكليات، على حين يستخدمها العلم دون أن يحاول بحثها. ومهمة المنطق هي الحدود أو التصورات، لا باعتبارها حالات فيزيقية، بل لأن لها معاني؛ فقولنا «الإنسان نوع» ليس قضية عند المنطق؛ لأنه يتطلب معرفة بالإنسان، والمنطق يَهيم بأشياء خلَقها العقل خلقًا داخل نفسه، ولا يمكن وجودها إلا بوجود العقل. والتصور الكلي رمز طبيعي، عل حين أن اللفظة رمز اتفاقي، ولا بدَّ أن نميز بين اللفظة إذا أردنا بها أن تكون في ذاتها شيئًا، وبينها إذا أردنا بها أن تكون ذات معنًى، وإلا وقعنا في مغالطات، مثل: «الإنسان نوع، وسقراط إنسان، إذن فسقراط نوع».
ويذهب «أوكام» إلى أن القضايا الخاصة بالحوادث المستقبلة لا توصف بعدُ بالصدق أو بالكذب، وهو لا يحاول قط أن يوفِّق بين هذا الرأي وبين إحاطة الله بكل شيء علمًا، فهو هنا — شأنه في سائر المواضع — يحرر المنطق من قيود الميتافيزيقا واللاهوت.
ولعلَّه من المفيد أن نسوق بضعة أمثلة لمناقشات «أوكام»، يسأل: «هل الفرد الجزئي هو ما يعرفه العقل أولَ ما يعرف، من حيث ترتيب الخطوات في توالدها واحدة عن الأخرى؟»
ضد الرأي: الكلي هو موضوع العقل الأول والصحيح.
مع الرأي: موضوع الحس وموضوع العقل شيء واحد بعينه، والفرد الجزئي هو الموضوع الأول بالنسبة للحواس.
وعلى ذلك وجب أن يوضَّح معنى السؤال (ربما وجب ذلك لأن الحجتين المتعارضتين كلاهما قوي).
ويمضي في حديثه: «الشيء خارج النفس الذي لا يكون رمزًا، يدركه العقل أولًا بمثل هذا الإدراك (أي بالإدراك للجزئي الفرد)؛ وعلى ذلك فالجزئي يُعرف أولًا، ما دام كل شيء خارج النفس يكون جزئيًّا.»
ويمضي ليقول إن المعرفة المجردة تفترض دائمًا وجود «حدسيَّة» (أعني قائمة على الإدراك الحسي)، وهذه تنشأ عن الأشياء الجزئية.
وبعدئذٍ يَعدُّ أربعة شكوك يمكن أن تنهض ها هنا، ثم يأخذ في حلِّها.
ويختم بجواب إيجابي لسؤاله الأصلي، لكنه يضيف أن «الكلي هو الموضوع الأول على أساس أسبقية الشمول، لا على أساس أسبقية التوالد».
والمشكلة المتضمَّنة في هذا هي: هل الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة؟ وإلى أي حد يكون؟ ومما يجدر ذكره أن أفلاطون في محاورة «تياتيتوس» قد رفض تعريف المعرفة بالإدراك الحسي، ومن المؤكد أن «أوكام» لم يعرف محاورة «تياتيتوس»، ولو قد عرفها لاختلف معها في الرأي.
لقد كان ما كتبه «أوكام» مشجعًا على البحث العلمي، لإصراره على إمكان دراسة المنطق والمعرفة البشرية بغير رجوع إلى الميتافيزيقيا واللاهوت، وهو في ذلك يقول إنَّ أتباع أوغسطين قد أخطئوا في افتراضهم بأن الأشياء لا يمكن معقوليتها، والناس لا يمكن أن يُعقلوا في أول الأمر، ثم في إضافتهم ضوءًا من «اللانهاية» لتصبح المعرفة ممكنة، وهو في ذلك متفق مع «الأكويني»، وإن يكن قد اختلف عنه في درجة الأهمية التي يُلحِقها بجوانب الموضوع؛ وذلك لأن «الأكويني» كان قبل كل شيء من رجال اللاهوت، وأمَّا «أوكام» فقد كان فيما يتعلق بالمنطق فيلسوفًا علمانيًّا قبل أن يكون شيئًا آخر.
وكان من شأن الموقف الذي اتخذه لنفسه؛ أن ازداد الباحثون في المشكلات الجزئية ثقةً بأنفسهم، مثال ذلك تابِعُه المباشر «نقولا الأورزمي» (مات ١٣٨٢م)، الذي كان يبحث في نظرية الكواكب، ويُعتبر هذا الرجل إلى حد ما ممهدًا الطريق ﻟ «كوبرنيق». وقد بسط النظرية التي تجعل الأرض مركزًا للمجموعة الشمسية، والنظرية الأخرى التي تجعل الشمس مركزًا لتلك المجموعة، قائلًا إن كلًّا من هاتين النظريتين تفسر جميع الحقائق المعروفة في عصره، بحيث لم يكن هنالك وسيلة لتفضيل إحداهما على الأخرى.
لم يظهر بعد «وليم الأوكامي» أحد من الاسكولائيين الأعلام، ولم يَعُد الفلاسفة العظماء إلى الظهور من جديد، إلا في الشطر الثاني من عهد النهضة الأوروبية.