أُفول البابوية
واندمجت في الفلسفة «الأفلاطونيَّة الجديدة» هذه التياراتُ الهمجيَّة من أفكار وأفعال، مع عناصر معينة من الحياة الهلينية؛ فقد كان اليونان قد طوَّروا في المذهب الأورفي والفلسفة الفيثاغورية، وفي بعض أجزاء من فلسفة أفلاطون؛ وجهاتٍ للنظر كان من اليسير أن تتحد مع تلك التي جاءت من الشرق؛ وربما كانت علة ذلك أن تلك الوجهات من النظر قد استُعيرت من الشرق في تاريخ أسبق من ذلك بزمن طويل، ثم بلغ تطور الفلسفة الوثنيَّة ختامه على أيدي «أفلوطين» و«فورفوريوس».
غير أنَّه على الرغم من اصطباغ تفكير هؤلاء الرجال بصبغة دينية عميقة، فقد كان فكرهم لا يستطيع — بغير تحوير كبير — أن يوحي بديانة شعبيَّة تكتسب قلوب الناس إليها؛ ففلسفتهم كانت عسيرة يشقُّ فهمها على سواد الناس، كما كانت طريقتهم في تخليص أنفسهم أَمعَن في الروح العقلية من أن تستجيب لها العامة. وأدَّى بهم تحفظهم إلى الاستمساك بالديانة التقليدية في اليونان، إلا أنه لم يكن لهم بدٌّ من تأويل تلك الديانة التقليدية تأويلًا يستند إلى الرمز، لكي يُخفِّفوا من حِدة عناصرها اللاأخلاقية، ويوفقوا بينها وبين وحدانيتهم الفلسفية؛ فتدهورت الديانة اليونانية لعجزها عن منافسة الديانات والطقوس الواردة من الشرق، وعندئذٍ صمَتَ رعاة معابدهم، ولم يستطع رجال الكهنوت أبدًا أن يكوِّنوا من أنفسهم طبقة اجتماعية متميزة قوية، ولذلك كانت المحاولة التي أُريدَ بها إحياء اليونانية مصطبغة بالروح العتيقة، مما كان سببًا في إضعافها، وفي تلوينها بلون التعمق العلمي الجاف، كما يتضح بصفة خاصة في «الإمبراطور جوليان»، حتى تبيَّن في جلاء منذ القرن الثالث أن ديانة آسيوية لا بدَّ آتية لتغزو العالم الروماني، ولو أن الديانات المتنافسة إذ ذاك كانت كثيرة العدد، وكان يُحتمل لكل منها على السواء أن تفوز بالنصر.
وجاءت المسيحية تؤلف بين عناصر من القوة استمدتها من مصادر مختلفة؛ فمن اليهود أخذت «كتابًا مقدسًا»، ومذهبًا يقول بأن الديانات كلها ما عدا واحدة باطلة وشر، لكنها اجتنبت ما أخذ به اليهود من حصر العقيدة في جنس بشري بعينه لا تتعداه، كما اجتنبت كذلك مساوئ التشريع الموسوي، وكانت اليهودية في عصورها الأخيرة قد عرفت بالفعل كيف تؤمن بحياة آخرة، غير أن المسيحيين هم الذين أَضفَوا على الجنَّة والنَّار صورة محدَّدة المعالم، وبيَّنوا بيانًا واضحًا وسائل بلوغ الجنة والخلاص من النار، وفي «عيد الفصح» المسيحي توحَّد «عيد الفصح اليهودي» مع الاحتفالات الوثنية الخاصة ببعث الإله، وتشربت المسيحيةُ ثنائية الفرس، لكنها زادت على الفرس تأكيدًا بأن مبدأ الخير في النهاية ستكون له القوة التي لا تُغلَب، وكذلك أضافت إلى أقوال الفرس في ذلك أن الآلهة الوثنية أتباع للشيطان. وكان المسيحيون بادئ ذي بدء لا يُجارون معارضيهم في الفلسفة أو في الطقوس، لكنها أخذت تكمل نقصها في ذلك شيئًا فشيئًا؛ فكانت الفلسفة أول الأمر أكثر تقدمًا بين أشباه المسيحيين من الغنوسطيين، منها بين المسيحيين المتمسكين بحذافير دينهم، لكنَّ المسيحيين، منذ «أوريجن» فصاعدًا، طَفِقوا يطوِّرون لأنفسهم فلسفة بتحويرهم للأفلاطونية الجديدة. وكذلك كانت الطقوس عند المسيحيين الأولين يكتنفها بعض الغموض، لكنه ما جاء عصر «القديس أمبروز» — على أكثر تقدير — حتى أصبحت طقوس المسيحية تَرُوع النفوسَ أبلغ روعة. وأخذت المسيحية عن الشرق قوة الكهنة واستقلالهم طبقةً متميزة عن الشعب، لكن هذين الجانبين أخذا يزدادان قوةً بفضل ما اصطنعوه من أساليب الإدارة في «الكنيسة»، وهي أساليب مَدينة بالشيء الكثير إلى دُربة الإمبراطورية الرومانية وخبرتها؛ فاندمج في «الكنيسة الكاثوليكية» العهدُ القديم، ودياناتُ الأسرار، والفلسفةُ اليونانية، والأساليبُ الرومانية في الإدارة؛ اندمجت فيها كل هذه العناصر فأكسبَتْها قوةً لم يَعدِلها فيها أيُّ نظام اجتماعي فيما مضى.
وكانت الأحداث الخارجية أعمق أثرًا من الفلسفة في تحلُّل البناء الكاثوليكي، الذي بدأ يدبُّ منذ القرن الثالث عشر؛ غزا اللاتينيون الإمبراطورية البيزنطية سنة ١٢٠٤م، ولبثت في أيديهم حتى سنة ١٢٦١م، وكانت ديانة حكومتها خلال تلك الفترة كاثوليكيَّة لا يونانيَّة. وأمَّا بعد سنة ١٢٦١م فقد ضاعت القسطنطينية من البابا ضياعًا لا رجعة لها بعده، على الرغم من الاتحاد الشكلي الذي حدث في «فرارا» سنة ١٤٣٨م. وتبيَّن أن هزيمة الإمبراطورية الغربية في صراعها مع البابوية؛ لا تفيد «الكنيسة» شيئًا؛ وذلك لقيام الملكيات القومية في فرنسا وإنجلترا؛ إذ لبث البابا خلال الشطر الأكبر من القرن الرابع عشر، أداة في يدَي ملك فرنسا من الوجهة السياسية. وأهم من هذه الأسباب سبب آخر، وهو نشأة طبقة غنية من التجار، وازدياد المعرفة عند أفراد الشعب من غير رجال الدين، وإنما نشأت الطبقة الغنية من التجار أول ما نشأت، وازدادت المعرفة عند أفراد الشعب من غير رجال الدين أول ما ازدادت؛ في إيطاليا، ولبث الأمر في هذين الجانبين أكثر تقدمًا في تلك البلاد منه في سائر أجزاء الغرب، حتى منتصف القرن السادس عشر؛ فكانت مدن إيطاليا الشمالية أغنى بدرجة كبيرة — خلال القرن الرابع عشر — من سائر المدن في الشمال، وكان عدد العلماء من غير رجال الدين — خصوصًا في القانون والطب — يزداد زيادةً مُطَّردة، وكانت تسري في تلك المدن روح الاستقلال التي كان لا بدَّ لها أن تتجه بعداوتها نحو البابا، ما دام الإمبراطور لم يَعدَّ لها خطرًا يتهدَّد كيانها، غير أن هذه الحركات نفسها كانت موجودة في غير المدن الإيطالية، ولو أنَّها وُجدت هنالك بدرجة أضعف مما كانت عليه في المدن الإيطالية؛ فمدن «الفلاندر» قد صادفت ازدهارًا، كالذي صادفته كذلك مدن «هانز»، وكانت تجارة الصوف في إنجلترا مصدرًا للثروة. وكان ذلك العصر عصرًا اشتدت فيه بدرجة كبيرة تلك الاتجاهاتُ التي يمكن أن نسميها بالاتجاهات الديمقراطية، بشيء من التجوُّز في التسمية، وكانت الميول القومية أشد من الاتجاهات الديمقراطية، على ما كانت عليه هذه الاتجاهات من الشدة؛ فقد تبدَّت البابوية في أعين الناس إلى حد كبير مؤسسة جابية للضرائب، وذلك بعد أن اصطبغت بصبغة دنيوية قوية، ورأى معظم الأقطار أن الموارد الضخمة التي كانت تسلبها البابويةُ إياها؛ أَولى بها أن تُحبَس في حدود بلادها، ولم يعد للبابوية، بل لم تعد البابوية تستحق؛ ما كانت تتمتع به من سلطان معنوي أكسَبَها فيما قبل نفوذًا، فإن كان من المستطاع للقديس «فرانس» أن يعمل في وفاق مع إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع، فما جاء القرن الرابع عشر حتى وَجد الرجال الممتازون بإخلاصهم في جِدهم أن لا مَناص من التصادم مع البابوية.
كان «بونفس الثامن» إيطاليًّا، وُلد في «أنانيي»، وحدث له أن حوصر في «برج لندن» أثناء مُقامه في إنجلترا نيابة عن البابا، ليؤيد هنري الثالث ضد البارونات الثائرين، لكن ابن الملك — وهو الذي أصبح فيما بعد إدوَرْد الأول — أنقذه سنة ١٢٦٧م. وكان قد تكوَّن بالفعل في أيامه حزبٌ قوي في الكنيسة من الفرنسيين، فعارض الكرادلة الفرنسيون في انتخابه، ونشب بينه وبين الملك الفرنسي فليب الرابع خلافٌ عنيف حول هذه المشكلة، وهي: هل للملك الحق في فرض الضرائب على رجال الدين الفرنسيين؟ وكان «بونفس» مُوغلًا في التحزب لأنصاره، كما كان مسرفًا في حبه لجمع المال؛ ولذا اشتدت به الرغبة في أن يحتفظ لنفسه بالرقابة على أكبر عدد ممكن من الموارد المالية. واتُّهم بالزندقة، وربما كان اتهامه على أساس صحيح، والظاهر أنه كان من أتباع ابن رشد، فلم يؤمن بخلود الروح. ولقد بلغ عراكه مع ملك فرنسا من الحدَّة ما جعل الملك يبعث له بقوة تُلقي عليه القبض، تمهيدًا لخلعه بقرار من «مجلس عام»، فأمسكوا به في «أنانيي»، لكنه فرَّ إلى روما حيث مات، ولم يجرؤ بابا بعد ذلك على معارضة ملك فرنسا.
ففي حالة «فرسان المعبد» اتفقت المصالح المالية عند البابا وعند الملك على السواء، لكن مصالحها تعارضت في معظم الحالات التي وقعت في أكثر أجزاء البلاد المسيحية. وفي عهد «بونفس الثامن» تمكَّن فليب الرابع من اكتساب تأييد أصحاب الأراضي (بما في ذلك أراضي الكنيسة نفسها)، وذلك في منازعاته مع البابا حول مسألة الضرائب، فلما أصبح البابوات خاضعين من الوجهة السياسية لفرنسا، تحتَّم أن يكون الملوك المعادون لملك فرنسا معادين للبابا؛ وأدَّى ذلك إلى حماية الإمبراطور ﻟ «وليم الأوكامي» و«مرسيليو البادوي»، كما أدَّى بعد ذلك بفترة وجيزة إلى حماية «يوحنَّا الغونطي» ﻟ «ويكليف».
وكان الأساقفة بصفة عامة على أتم خضوع للبابا في ذلك الحين، وأخذت تزداد شيئًا فشيئًا نسبة مَن يُعيِّنهم هو مِن الأساقفة تعيينًا فعليًّا، وكذلك خضعت له طوائف الأديرة وجماعة الدومنيكان، ولم يحتفظ بشيء من روح الاستقلال إلا جماعة الفرانسسكان؛ فأدَّى ذلك إلى نزاع هذه الطائفة مع يوحنَّا الثاني والعشرين على النحو الذي أسلفنا ذكره حين تعرضنا ﻟ «وليم الأوكامي». وحدث إبان النزاع أنْ حَمَل «مرسيليو» الإمبراطورَ على السير إلى روما، حيث توَّجه الشعب هناك بتاج الإمبراطورية، وعندئذٍ انتُخب بابا معارِض من بين جماعة الفرانسسكان، حين أعلن الشعب خلع يوحنَّا الثاني والعشرين، ومع ذلك فما أنتج هذا كله سوى الحط من شأن البابوية بصفة عامة.
اتخذت الثورة على السيادة البابوية صورًا مختلفة في البلاد المختلفة؛ ففي بعض الأحيان ارتبطت تلك الثورة بالروح القومية في تعيين الملك، وفي بعض الأحيان الأخرى ارتبطت بجَزَع المتزمِّتين في الدين لِما رأوه في حاشية البابا من فساد وانغماس في الشئون الدنيوية، «وارتبطت الثورة في روما نفسها بديمقراطية سوقية؛ إذ حاولت روما لفترة من الزمن، في عهد كلمنت السادس» (١٣٤٢–١٣٥٢م) أن تحرر نفسها من البابا الغائب، وكان ذلك بزعامة رجل نابهٍ هو «كولا دي رينتسي»؛ فقد عانت روما لا من حكم البابوات وحدهم، بل عانت كذلك من الطبقة الأرستقراطية المحلية، التي واصلت الفوضى التي كانت قد حطَّت من جلال البابوية في القرن العاشر. والحقُّ أن البابوات ما فروا إلى أفنيون إلا لأسباب؛ من بينها أن يتخلَّصوا من فوضى الأشراف الرومان، وكانت ثورة «رينتس» — وهو ابن صاحب حانٍ — متجهة بادئ ذي بدء نحو الأشراف وحدهم؛ ولذا وجد في ثورته تأييدًا من البابا، وقد استطاع أن يثير حماسة الشعب إلى حد جعل الأشراف يلوذون بالفرار (١٣٤٧م)، وصادف «رينتسي» هذا إعجابًا لدى «بترارك» الذي نظَم نشيدًا في تكريمه، وراح يستحثه على مواصلة عمله العظيم الشريف، وقد اتخذ لنفسه لقبًا فأسمى نفسه المدافع عن حقوق الشعب، وأعلن سيادة الشعب الروماني على الإمبراطورية، والظاهر أنَّه تصور هذه السيادة على نحو ديمقراطي، لأنه دعا ممثلين من المدن الإيطالية ليجتمعوا على شيء يشبه مجالس النواب، غير أنَّ النجاح الذي أصابه أثار في نفسه أوهام العظمة. وكان هنالك في ذلك الحين — كما هي الحال في أحيان أخرى كثيرة — رجلان يتنافسان على حق السيادة في الإمبراطورية، فدعاهما «رينتسي» معًا، ودعا معهما «الناخبين»، ليجتمعوا أمامه اجتماعًا يفصل في الأمر؛ فكان من الطبيعي أن يؤدي هذا إلى تألُّب المطالِبَين بالإمبراطورية معًا عليه، وإلى تألُّب البابا كذلك؛ لأنه رأى أن حق الفصل في هذه الأمور من شأنه وحده. وقبض البابا على «رينتسي» (١٣٥٢م) وزجَّه في السجن عامين، حتى مات «كلمنت السادس»، وعندئذٍ أطلق سراحه وعاد إلى روما، حيث استعاد سلطانه لبضعة أشهر، لكن منزلته عند الشعب هذه المرة لم تكن طويلة الأمد، وانتهى أمره باغتياله على أيدي الغوغاء، وكتب «بايرون» — كما كتب بترارك — قصيدة في الثناء عليه.
وتبيَّن في جلاء أنه لو أرادت البابوية أن تظل على رأس الكنيسة الكاثوليكية كلها، بحيث يكون لها نفوذ فعال، فلا مندوحة لها عن تحرير نفسها من اعتمادها على فرنسا، وذلك بعودتها إلى روما، أضف إلى ذلك أن الحروب الإنجليزية الفرنسية التي عانت فيها فرنسا أقسى الهزائم، قد جعلت فرنسا موطنًا غير آمن؛ ولذلك ذهب «إربان الخامس» إلى روما سنة ١٣٦٧م. غير أن السياسة الإيطالية كانت معقَّدة على نحو لم يستطع معه مسايرتها، فما إن لبث أن عاد إلى أفنيون قُبيل وفاته. وكان البابا الذي تلاه، وهو «جريجوري الحادي عشر»، أمضى منه عزيمةً؛ فكانت العداوة لرجال الدين الفرنسيين قد مالت بمدن إيطالية كثيرة — خصوصًا فلورنسة — إلى مناهضة البابا مناهضةً عنيفة، فلما عاد جريجوري إلى روما، وعارض الكرادلة الفرنسيين بذل بذلك كل ما في مستطاعه إنقاذًا للموقف، ومع ذلك تبيَّن — عند موته — أن الفريقين الفرنسي والروماني في مجمع الكرادلة يستحيل أن يتحدا في وجهة النظر؛ انتُخب بابا إيطالي، هو «بارتلوميو برينانو» بناءً على رغبة الفريق الروماني، واتَّخذ لنفسه اسم «إربان السادس»، غير أن طائفة من الكرادلة أعلنت أن انتخابه باطل، وراحت تنتخب «روبرت الجِنَوي»، الذي كان ينتمي إلى الفريق الفرنسي، فاتخذ لنفسه اسم «كلمنت السابع»، وأقام في أفنيون.
هكذا بدأ «الانقسام الأعظم» الذي ظلَّ قائمًا نحو أربعين عامًا، واعترفت فرنسا طبعًا بالبابا المقيم في أفنيون، واعترف أعداء فرنسا بالبابا الروماني، وكانت اسكتلندا عدوَّة لإنجلترا، وإنجلترا عدوَّة لفرنسا؛ ولذا اعترفت اسكتلندا ببابا أفنيون. وانتخب كلٌّ من البابوين كرادلةً من أنصاره، وكلما مات هذا البابا أو ذاك أسرع كرادلته إلى انتخاب خَلَفه، وهكذا لم يكن ثمة سبيل لالتئام هذا الانقسام إلا بإقامة سلطة أعلى من البابوين معًا، ومن الواضح أنه لا بدَّ لأحد البابوين أن يكون انتخابه مشروعًا، ولذا لزم أن يكون هنالك سلطة أعلى من البابا «الشرعي»، ولم يكن ثمَّة حل للإشكال سوى أن توضع هذه السلطة في يد «مجلس عام». وذهبت جامعة باريس بزعامة «جرسون» إلى نظرية جديدة، مؤدَّاها أن يُعطَى حق المبادرة في التصرف إلى «مجلس»، فأيَّد هذه النظريةَ الملوكُ العلمانيون الذين رأوا مصلحتهم لا تتفق مع وجود هذا الانقسام، وأخيرًا عُقد «مجلس» سنة ١٤٠٩م في مدينة بيزا، غير أنه مُني بالفشل الذريع؛ إذ أعلن خلع البابوَين معًا على أساس الزندقة والانقسام، وانتخب بابا ثالثًا لم يلبث أن مات، وانتخب كرادلته خلَفًا له رجلًا كان فيما مضى قرصانًا، اسمه «بالدساري كوسا»، فاتخذ لنفسه اسم «يوحنَّا الثالث والعشرين»، وعلى هذا النحو كانت النتيجة النهائية هي أن أصبح هنالك بابوات ثلاثة بدل اثنين، والبابا الثالث الذي أريدَ به الوصول إلى حل وسط كان معروفًا بسلوكه الشائن، وبدا الموقف عندئذٍ أبعد عن الأمل في الحل مما كان في أي وقت مضى.
لكن أنصار هذه الحركة التي أرادت التوفيق، لم يستسلموا لليأس؛ فعُقد مجلس آخر في كنستانس سنة ١٤١٤م وأخذ في العمل الجاد؛ فقرر أولًا أن البابوات ليس في وسعهم حل المجالس، ولا بدَّ لهم أن يخضعوا في بعض الأمور، وكذلك قرر أن البابوات في المستقبل محتوم عليهم أن يعقدوا «مجلسًا عامًّا» مرة كل سبع سنوات، وخَلَع «يوحنَّا الثالث والعشرين»، وحَمَل البابا الروماني على الاستقالة، وأمَّا بابا أفنيون فقد رفض الاستقالة، فلما مات عمل ملك أرجون على انتخاب غيره خلَفًا له، غير أن فرنسا — التي كانت عندئذٍ تحت رحمة إنجلترا — رفضت أن تعترف به، وأخذ حزبه يتضاءل شيئًا فشيئًا، حتى انتهى به الأمر إلى الزوال، وأخيرًا لم تكن هنالك معارضة للبابا الذي انتخبه «المجلس»، وهو البابا الذي انتُخب سنة ١٤١٧م، واتَّخذ لنفسه اسم «مارتن الخامس».
ولم يكن ثمَّة ما يؤخذ على هذه الإجراءات، على خلاف المعاملة التي عومل بها «هَسْ» التلميذ البوهيمي ﻟ «وِكْلِف»؛ إذ أحضروه إلى «كونستانس» على عهد منهم بأن يؤمِّنوه الخطر، لكنَّه لم يكد يصل إليها حتى وُجِّهت إليه التهم، وحُكم عليه بالموت حرقًا، وكان «وِكْلِف» قد جاءته منيَّته على صورة طبيعية، غير أن «المجلس» أمر بإخراج عظامه من قبرها لإلقائها في النار. وكان مؤيدو الحركة التي حاولت التوفيق بين الطرفين؛ شديدي الرغبة في تنزيه أنفسهم عن كل ريبة تمسُّ ثبات عقيدتهم.
نجح «مجلس كونستانس» في درء الانقسام، لكنه كان يؤمل في شيء أكثر من هذا بكثير، كما كان أن يرجو يستبدل مَلكية دستورية بالاستبداد البابوي، وكان «مارتن الخامس» قد أكثر من وعوده قبل انتخابه، حتى إذا ما تم انتخابه أنجز بعض وعوده تلك، ونكث بعضها الآخر؛ فكان قد وافق على المرسوم الذي يقضي بعقد المجلس مرة كل سبع سنوات، وما زال إلى النهاية منفذًا لذلك المرسوم، فلما حُل «مجلس كونستانس» سنة ١٤١٧م، دُعي إلى الاجتماع مجلس آخر سنة ١٤٢٤م، ولو أنه لم يتمخض عن شيء ذي خطر، ثم دُعي آخر سنة ١٤٣١م للاجتماع في مدينة «بازل»، وفي هذه اللحظة عينها مات «مارتن الخامس»، وجاء خَلَفه «يوجينيوس الرابع»، فلبث طَوال بابويته في صراع حاد مع رجال الإصلاح الذين أمسكوا بزمام «المجلس»، فحَلَّ «المجلس»، لكن المجلس رفض أن يَعُد نفسه محلولًا. وفي سنة ١٤٣٣م استسلم البابا حينًا، لكنَّه عاد سنة ١٤٣٧م إلى حَلِّه من جديد، ورغم ذلك فقد لبث المجلس معقودًا حتى ١٤٤٨م، وعندئذٍ أصبح الأمر جليًّا لكل إنسان بأن البابا قد ظفر في هذه المعركة بنصر كامل؛ وذلك لأن «المجلس» في سنة ١٤٣٩م كان قد نفَّر النفوس بإعلانه خلع البابا وانتخابه بابا آخر يعارضه (وكان هذا آخر البابوات المعارضين في التاريخ)، ولو أن هذا البابا المعارض قد استقال من منصبه فورَ تنصيبه. وفي السنة نفسها كسب «يوجينيوس الرابع» سمعة أدبية بعقْده «مجلسًا» خاصًّا به في مدينة «فِرَّارا» حيث خضعت الكنيسة اليونانية لروما خضوعًا اسميًّا، مدفوعةً إلى ذلك بخوفها الشديد من الأتراك، وهكذا خرجت البابوية ظافرة من الوجهة السياسية، لكنها خسرت خسارة جِد عظيمةٍ في قدرتها على بثِّ روح الاحترام الأدبي لها في نفوس الناس.
ويمثل «وِكْلِف» (حوالي ١٣٢٠–١٣٨٤م) بحياته وتعاليمه؛ كيف تناقصت سلطة البابوية في القرن الرابع عشر؛ فقد كان يخالف الاسكولائيين السابقين له في أنه كان قسيسًا علمانيًّا، لا راهبًا ولا زاهدًا متجولًا، وكانت له سمعة عظيمة في أكسفورد، حيث نال إجازة الدكتوراه في اللاهوت سنة ١٣٧٢م، ولبث حينًا قصيرًا عميدًا لكلية «باليول»، وكان آخرَ الاسكولائيين النابهين في أكسفورد. وأمَّا باعتباره فيلسوفًا فلم يكن تقدميًّا؛ فهو واقعي أميل إلى الأفلاطونية منه إلى الأرسطية، وذهب إلى أن أوامر الله لا تأتي جزافًا كما ظن فريق من المفكرين، وليس العالم الواقع فعلًا بواحد من عدة عوالم ممكنة، بل هو العالم الوحيد الممكن، ما دام الله لا يسعه إلا أن يختار ما هو أفضل، وليست هذه الآراء كلها هي التي جعلت «وِكْلِف» يستوقف النظر، بل لم تكن هذه الآراء — فيما يظهر — هي التي أثارت أكثر اهتمامه؛ لأنه انسحب من أكسفورد لكي يحيا حياة رجل من رجال الكنيسة في الريف؛ فقضى العشرة الأعوام الأخيرة من حياته راعيًا لكنيسة «لوترورث» بتعيين من الملك، ومع ذلك فقد ظلَّ يحاضر في أكسفورد.
وإنما يستوقف النظر من «وِكْلِف» هذا البطءُ الشديد في تطوره؛ ففي سنة ١٣٧٢م، حين كان عمره خمسين عامًا أو يزيد، لم يزل أرثوذكسيًّا، ويظهر أنه لم ينقلب زنديقًا إلا بعد هذا التاريخ، ويبدو أنه لم يندفع إلى الزندقة إلا بقوة مشاعره الخُلقية، كعطفه على الفقراء، وفزعه من سلوك رجال الكنيسة الأغنياء بانغماسهم في أمور الدنيا، وكانت مهاجمته للبابوية بادئ ذي بدء سياسية وخُلقية، لا مذهبية، ولم يتطور أمره إلى ثورة أوسع نطاقًا إلا بالتدرج البطيء.
وبدأ انسلاخ «وكلف» عن الأرثوذكسيَّة سنة ١٣٧٦م، بسلسلة من المحاضرات ألقاها في أكسفورد «في السيادة المدنيَّة»، وفيها عرَض النظرية القائلة بأن التقوى وحدها هي التي تبيح لصاحبها حق السيادة والمِلكية، وأن رجال الدين غير الأتقياء لا يكون لهم مثل هذا الحق، وأنَّ السلطة المدنيَّة هي التي ينبغي أن يكون لها الكلمة الفاصلة في «هل يحتفظ رجل الكنيسة بأملاكه أو لا يحتفظ بها». ومن تعاليمه أيضًا أنَّ المِلكية قد نتجت عن الخطيئة، ولم يكن للمسيح أو حوارييه مِلك، ولا يجوز لرجال الكنيسة أن يملكوا شيئًا، فجاءت هذه التعاليم مسيئة إلى رجال الدين جميعًا إلا الزاهدين المتجولين، ومع ذلك فقد أيَّدتها الحكومة الإنجليزية لِما كان يستولي عليه البابا من إنجلترا من ضريبة فادحة، فكان الرأي القائل بأنَّ المال لا ينبغي أن يخرج من إنجلترا إلى البابا رأيًا يخدم صالح البلاد، لا سيما حين كان البابا خاضعًا لفرنسا، وكانت إنجلترا مع فرنسا في قتال؛ ولذلك ربط «يوحنَّا الغونطي»، الذي كانت السلطة في يديه لما كان «رتشارد الثاني» لم يزل قاصرًا؛ ربط أواصر الصداقة بينه وبين «وكلف»، وأطال أمدها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وراح «جريجوري الحادي عشر» من الناحية الأخرى يوجِّه الاتهام إلى ثماني عشرة نقطة مما ورد في محاضرات «وكلف»، قائلًا إنه استقاها من «مرسيليو البادوي»، وطُلب من «وكلف» أن يحضر لمحاكمته أمام محكمة من الأساقفة، لكنه لقي الحماية من الملكة ومن عامة الناس، ورفضت جامعة أكسفورد أن تخضع لقرارات البابا في أستاذها (فقد آمنت الجامعات الإنجليزية بحرية البحث العلمي حتى في ذلك العهد البعيد).
وفي الوقت نفسه مضى «وكلف» — إبان الفترة الواقعة بين عامَي ١٣٧٨م و١٣٧٩م — في كتابته للرسائل العلمية التي أخذ فيها بأن الملك هو راعٍ يمثِّل الله، وأنَّ الأساقفة خاضعون له، ولما جاء الانقسام الأعظم تطرَّف في الرأي أكثر من ذي قبل، فاتَّهم البابا بأنه مخالف لتعاليم المسيح، قائلًا بأن قبول «هبة قنسطنطين» قد جعلت كل البابوات بعدئذٍ مارقين على الدين. وترجم النسخة الشعبية من الإنجيل إلى الإنجليزية، وأنشأ جماعة «القساوسة الفقراء»، وكانوا من العلمانيين (وبهذا الفعل أغضب الزاهدين المتجولين بعد أن كانوا يناصرونه)، واستخدم «القساوسة الفقراء»، وُعاظًا جوَّالين، يتجهون برسالتهم إلى الفقراء خاصة. وأخيرًا هاجم السلطة الكهنوتية مهاجمةً أدَّت به إلى إنكار تحوُّل القربان إلى لحم المسيح ودمه، حتى لقد قال عن هذا التحول إنَّه خداع وحماقة كافرة، وها هنا أمره «يوحنَّا الغونطي» بالتزام الصمت.
وإنَّه لما يدهشنا ألا يكون «وكلف» قد تعرض لعذاب أشد مما تعرض له، بسبب آرائه ومَناشطه في سبيل الديمقراطية؛ فقد وقفت جامعة أكسفورد إلى جانبه تؤيده ضد الأساقفة أطول مدة ممكنة، ولما هاجم مجلس اللوردات وُعاظه الجوَّالين أبَى مجلسُ العموم أن يوافقه على مهاجمته. ولا شك أنه لو طالت الحياة ﺑ «وكلف» لتجمَّعت أسباب السخط عليه، لكنه حين مات سنة ١٣٨٤م لم يكن قد اتُّهم رسميًّا، ومات في «لوترورث» حيث فاضت روحه، وظلت عظامه راقدة في سكونها حتى جاء «مجلس كونستانس» فأمر بإخراجها من قبرها لإحراقها.
ولَحِق الاضطهاد الشديد بأتباعه في إنجلترا، وهم اللولارديون، حتى أُزيلوا من الوجود بحيث لم يبقَ منهم بقية تُذكَر، لكنه لما كانت زوجة رتشارد الثاني بوهيمية، فقد عُرفت تعاليمه في بوهيميا، حيث تابَعه فيها تلميذه «هَس»، ولبثت تلك التعاليم قائمة في بوهيميا — رغم الاضطهاد — حتى جاء الإصلاح الديني، وظلَّت الثورة على البابويَّة راسخة في أفئدة الناس في إنجلترا — ولو أنَّها اندسَّت في طوايا الأفئدة فلا تظهر — فكانت هنالك تهيِّئ التربة الصالحة لقيام البروتستنتيَّة.
وظهرت إبان القرن الخامس عشر عواملُ مختلفة، عاونت تدهورَ البابويَّة على إحداث تغيُّر سريع جدًّا في عالمَي السياسة والثقافة؛ فالبارود قد زاد من قوة الحكومات المركزية على حساب الأشراف الإقطاعيين. وحدث في فرنسا وفي إنجلترا أنْ تحالَف لويس الحادي عشر وإدوَرْد الرابع مع الطبقة الوسطى الغنية التي ساعدتهما على إخماد الفوضى الضاربة بين جماعة الأرستقراطيين. وكانت إيطاليا — حتى أواخر القرن — بمَنجاة إلى حد كبير من الجيوش الشمالية، فازدادت بخطًى سريعة في ثروتها وثقافتها معًا، وكانت الثقافة الجديدة في صميمها وثنية تمجِّد اليونان والرومان، وتزدري العصور الوسطى. وقام فن العمارة وأسلوب الكتابة على نسق النماذج القديمة، ولما استولى الأتراك على القسطنطينية — وهي آخر ما بقي من آثار القديم — فرَّ جماعة من اليونان إلى إيطاليا، حيث رحَّب بمَقدَمهم هناك أنصار الثقافة الإنسانية. وظهر «فاسكودا جاما» و«كولمبس» فوسَّعا من نطاق العالم، كما ظهر «كوبرنيق» فوسَّع من آفاق السماء، ونُبذت «هبة قنسطنطين» على أنها أسطورة من خلق الخيال، وقتلها البحث العلمي قتلًا بازدرائه إياها. وعاون البيزنطيون في تعريف الناس بأفلاطون، لا في صورته التي يظهر بها لدى أنصار الأفلاطونية الجديدة ولدى أوغسطين فحسب، بل في صورته المستمدة من كتابته الأصلية. ولم تعد هذه الدنيا التي نعيش فيها تُوصَم بأنها وادٍ زاخر بالدموع، ومكان يجتازه المسافرون في رحلة مؤلمة إلى العالم الآخر، إنَّما بدَتْ هذه الدنيا مكانًا يتيح الفرصة للتمتع باللذائذ الوثنية، كما يهيِّئ مجالًا للشهرة وللجمال وللمغامرة. وهكذا دُفنت قرون طويلة من الزهد، دُفنت في طوايا النسيان بفضل ثورة هاجت فيها عوامل الفن والشِّعر والمتعة، ولو أن العصور الوسطى لم تمتْ بغير كفاح حتى في إيطاليا؛ فقد وُلد «سافونا رولا» و«ليوناردو» في عام واحد، لكن المفازع القديمة لم تعد في معظم الحالات على ما كانت عليه من بث الفزع في النفوس. ووجد الناس نشوة مُسكِرة في الحرية الجديدة، نعم إن نشوة السُّكْر لم تكن لتستطيع الدوام، لكنَّها عملت إذ ذاك على سد الطريق دون المخاوف، وفي هذه اللحظة التي سادها التحرر النشوان؛ وُلد العالَم الجديد.