المسيحية في الأربعة القرون الأولى
كان الذين يبشِّرون بالمسيحية أول الأمر هم اليهود أنفسهم؛ يبشرون بها اليهودَ على أنَّها العقيدة اليهودية دخَلها الإصلاح، وقد أراد القديس جيمس — كما أراد القديس بطرس بدرجة أقل — أن يقف أمرُ المسيحية عند هذا الحد، وقد كان من الجائز أن يسود رأيهما، لولا القديس بولس الذي صمَّم على قبول غير اليهود دون مطالبتهم بالختان أو الخضوع للتشريع الموسوي. وقصة النزاع بين الفريقين مثبتة في «أفعال الحواريين»، وهي مروية هناك من وجهة نظر القديس بولس. ولا شكَّ في أن الجماعات المسيحية التي أنشأها القديس بولس في أماكن كثيرة قد كان قِوامها المرتدِّين عن اليهودية من جهة، وغير اليهود الذين كانوا يَنشدون دينًا جديدًا من جهة أخرى. فلئن كانت الحقائق الثابتة في اليهودية قد جذبت إليها الأتباعَ في عصر ساده تدهور العقائد، فقد كان الختان عقبةً تحُول دون دخول الرجال في ذلك الدين، وكذلك كانت الشعائر الطقوسية الخاصة بالطعام مُتعِبة، وقد كانت هاتان العقبتان كافيتين — حتى ولو لم يكن هناك سواهما — لأن يستحيل تقريبًا على الديانة العبرية أن تصبح دينًا عالميًّا. وقد ذهب القديس بولس إلى أن المسيحية قد استبْقت النواحي الجذابة من تعاليم اليهود، دون أن تأخذ بجوانبها التي وجدها غير اليهود عسيرة القبول.
وقد اتخذ المسيحيون إزاء اليهود المعاصرين موقفًا عدائيًّا منذ تاريخ باكر، وكان الرأي الشائع بينهم هو أن الله قد تحدث إلى الرؤساء والأنبياء، الذين كانوا رجالًا مقدسين، وبشَّر بقدوم المسيح، فلما جاء المسيح تنكَّر له اليهود؛ ومن ثَم وجب اعتبارهم أشرارًا. وفضلًا عن ذلك فإن المسيح قد أبطل القانون الموسوي وأحلَّ محله وصيتين، هما أن يحب الإنسان الله والجار، وهذا ما تنكر له اليهود أيضًا في ضلالهم. ولم تكد تصبح الدولة مسيحية حتى بدأت مناهضة السامية في صورتها التي اتخذتها في العصر الوسيط، متسترة وراء قناع من رغبة التعبير عن الغيرة على المسيحية. وقد يستحيل علينا — فيما يظهر — أن نتبين في يقين كم لعبت الدوافع الاقتصادية دورها في الإمبراطورية المسيحية، تلك الدوافع التي زادت من حدَّة الحركة التي قامت تناهض الساميَّة في العصور التالية.
وبمقدار ما اصطبغت المسيحية بالصبغة الهلينية، باتت لاهوتية؛ ذلك أن اللاهوت اليهودي كان دائمًا بسيطًا؛ ﻓ «يهوا» قد تطور من كونه إلهًا لإحدى القبائل، إلى اتخاذه إلهًا قادرًا على كل شيء، خلق السماء والأرض. ولما وُجد أن العدالة الإلهية لا تعود على ذوي الفضيلة بأسباب النجاح في هذه الدنيا؛ نُقلت إلى السماء، ومن ثَم تولدت عقيدة في خلود الروح، لكن الديانة اليهودية إبان تطورها في مراحلها جميعًا لم تشتمل قط على شيء من التعقيد أو من التفكير الميتافيزيقي، ولم تكن تكتنفها الأسرار الغامضة، فكان في مقدور كل يهودي أن يفهمها.
يقول «أوريجن» أنْ ليس ثمة شيء روحاني خالص ما عدا الله؛ الأب والابن والروح والقدس. والنجوم كائنات حية عاقلة، نفخ فيها الله أرواحًا كانت موجودة من قبل، وفي رأيه أن الشمس يمكن لها أن تقترف الخطيئة. وأرواح الناس — كما اعتقد أفلاطون — قد جاءت إليهم عند مولدهم من عالم آخر، لأنَّها كانت قائمة منذ أول الخلق. والعقل والروح متميزان عنده كما هما متميزان — على وجه التقريب — عند أفلوطين، فإذا ما هبط العقل أصبح نفسًا، وإذا ما سمَت النفسُ بالفضيلة أصبحت عقلًا. والأرواح كلها في النهاية ستخضع للمسيح خضوعًا تامًّا، وعندئذٍ ستكون أرواحًا بغير أجسام، حتى الشيطان نفسه سيصيبه الخلاص في النهاية.
وعلى الرغم من أن «أوريجن» قد اعتُرف به «أبًا» من «الآباء»، إلا أنه فيما بعد ذلك قد اتُّهم بالخروج على الدين في أربعة أشياء:
-
(١)
في اعتقاده بوجود الأرواح قبل مولد أصحابها، وهو رأي أفلاطون.
-
(٢)
وفي اعتقاده بأنَّ الطبيعة البشرية للمسيح قد كانت قائمة قبل حلوله في الجسد، وليس الأمر في ذلك بمقتصر على طبيعته الإلهية.
-
(٣)
وفي اعتقاده بأنَّ أجسادنا عند البعث ستتحول إلى أجساد أثيرية خالصة.
-
(٤)
وفي اعتقاده بأنَّ الناس جميعًا — بل والشياطين كذلك — سيصيبها الخلاص في نهاية الأمر.
وحتى القديس جيروم الذي كان قد أبدى إعجابًا لم يتحفَّظ فيه بعض الشيء ﺑ «أوريجن»، لما بذله هذا من جهد في تثبيت نص «العهد القديم»؛ قد عاد بعد ذلك فرأى من الحكمة أن ينفق وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا في تفنيد أخطائه اللاهوتية.
وهذه الفقرة السالفة هامة؛ لأنَّها تبيِّن الحجة ذات الطرفين، التي كانت تطبع الفلسفة المسيحية بطابعها الخاص في تأييدها للعقيدة الدينية؛ فالعقل الخالص — من جهة — إذا ما أُحسنَ استخدامُه كان وحده كافيًا للبرهنة على المبادئ الأساسية في العقيدة المسيحية، وعلى الخصوص «الله» و«الخلود» و«حرية الإرادة»، لكن الكتاب المقدس— من جهة أخرى — لا يكتفي بالبرهنة على هذه المبادئ الأساسية وحدها، بل يبرهن على كثير غيرها، ويمكن إقامة البرهان على أنَّ الكتاب المقدس موحًى به من عند الله بكَون الأنبياء كانوا قد تنبئوا بقدوم «المسيح»، وبالمعجزات، وبالنتائج الطيبة التي يعود بها الإيمان على حياة المؤمنين، وقد أصبح بعض هذه الحجج عتيقًا لا يؤخذ به الآن، غير أن آخرها قد أخذ به «وليم جيمز»، على أن كل فيلسوف مسيحي ظل يأخذ الحجج كلها حتى قيام النهضة.
وتطورت حكومة الكنيسة تطورًا بطيئًا خلال القرون الثلاثة الأولى، ثم سارت في تطورها بعد ذلك بخطوات سريعة، وذلك بعد اعتناق قنسطنطين للمسيحية، فأضحى الأساقفة يُنتخبون انتخابًا شعبيًّا، وأصبح لهم بالتدريج نفوذ قوي على المسيحيين في مناطقهم، أمَّا قبل قنسطنطين فقد كاد ألا يكون هناك أية صورة لحكومة مركزية على الكنيسة كلها. وازداد نفوذ الأساقفة في المدن الكبرى بفضل الصدقات؛ ذلك أن تصدُّق المؤمنين كان يتم على يد الأسقف، الذي كان في مستطاعه أن يعطي الصدقة للفقراء أو أن يحبسها عنهم؛ فنشأت طبقة من سواد الفقراء مستعدة أن تنفذ مشيئة الأسقف. ولما أصبحت الدولة مسيحية أُعطي الأساقفة مناصب قضائية وإدارية، وكذلك قامت حكومة مركزية — على الأقل فيما يختص بشئون الدين — وقد غضب قنسطنطين بما كان بين الكاثوليك والآريين من عراك، ولما كان قد وقف في صف المسيحيين، فقد أراد لهم أن يكونوا موحَّدين، ولكي يزيل بينهم أسباب الخلاف أمر بعقد «المجمع المسكوني» في «نيقيا»، الذي انتهى إلى صياغة «العقيدة النيقية»، وفيما يختص بالخلاف مع الآريين، قرر قرارًا للعصور كلها، وهو أن يؤخذ بوجهة النظر الأرثوذكسية، وكذلك انحسمت خلافات كثيرة فيما بعد، على هذا النحو، أي بانعقاد مجالس مسكونية، حتى انقسم الشرق والغرب، ورفض الجانب الشرقي أن يعترف بسلطة البابا، وعندئذٍ استحال انعقاد تلك المجالس.
وعلى الرغم من أنَّ البابا هو، من الوجهة الرسمية، أهم فرد في «الكنيسة»؛ لم تكن له سلطة على «الكنيسة» باعتبارها كلًّا واحدًا إلا بعد ذلك بزمن طويل. ونموُّ السلطة البابوية نموًّا تدريجيًّا موضوع غاية في الإمتاع، وسأتناوله بالبحث في فصول قادمة.
وقد أخفق المؤرخون في تفسير نمو المسيحية قبل قنسطنطين، كما اختلفوا في الدوافع التي دفعت قنسطنطين إلى اعتناق المسيحية، ويعلل «جِبُن» ذلك بأسباب خمسة:
- أولًا: غيرة المسيحيين على دينهم غيرة لا تلين، بل غيرة لا تتسامح — إذا صح لي أن أقول هذا التعبير — نعم إنَّهم قد استمدوا غيرتهم هذه من الديانة اليهودية، لكنهم طهروها من الروح الضيقة الأفق، المجافية للامتزاج بالناس، مما أدَّى إلى نفور غير اليهود من اعتناق التشريع الموسوي، بدل أن يُغروهم بالانضمام إليه.
- ثانيًا: القول بحياة آخرة قولًا أخذوا يصلحونه بكل طريقة ممكنة، مما عسى أن يزيد هذا الرأي الهام وزنًا وأثرًا.
- ثالثًا: ما نُسب إلى المسيحيين الأولين من القدرة على أداء المعجزات.
- رابعًا: أخلاق المسيحيين الخالصة المتزمِّتة.
- خامسًا: ما تتصف به الجمهورية المسيحية من وحدة ونظام، مما انتهى شيئًا فشيئًا إلى تكوين «دولة» قائمة بذاتها، وآخذة في ازدياد قوتها، في قلب الإمبراطورية الرومانية.
ولا شكَّ في أن المعجزات قد لعبت دورًا كبيرًا جدًّا في الدعاية المسيحية، غير أنها في الشطر المتأخر من العصور القديمة كانت شائعة شيوعًا عظيمًا، ولم تكن تتميز بها ديانة دون أخرى، وليس من اليسير الهين أن ندرك السبب الذي جعل المعجزات المسيحية — في هذا التسابق بين الديانات — تظفر بإيمان عدد من الناس أكبر مما ظفرت به معجزات أية عقيدة أخرى. وأعتقد أن «جِبُن» قد فاته أمر غاية في الخطورة، وهو كون المسيحية لها «كتاب مقدس»؛ فالمعجزات التي كان المسيحيون يعتمدون عليها قد ظهرت في زمن بعيد القِدم؛ إذ ظهرت في أمة رأى القدماء فيها أمة محوطة بالأسرار، وكان ثمة تاريخ يقال بحيث تطَّرد أجزاؤه من «بداية الخلق» فصاعدًا، وهو يروي كيف أن الله قد أتى بالعجائب المعجزة في كل عصر من العصور، قصد بها إلى اليهود أولًا، ثم إلى المسيحيين. نعم إن المؤرخ الحديث لا يرتاب قط في أن التاريخ القديم للإسرائيليين أسطوري إلى حد كبير، لكنه لم يبدُ أسطوريًّا في أعين القدماء؛ فقد آمن القدماء بصدق رواية هومر عن حصار طروادة، وآمنوا كذلك بقصة روميولوس وريموس وما إلى ذلك؛ ولذا ترى «أوريجن» يتساءل: لماذا تُصدَّق هذه الروايات وتُرفَض روايات اليهود؟ ولم يكن ثمة جواب منطقي على هذا السؤال؛ ولذلك كان من الطبيعي للناس أن يقبلوا معجزات «العهد القديم»، فإذا ما سلَّم بها الناس أصبح يسيرًا عليهم أن يصدقوا معجزات العصر الذي جاء بعد ذلك في تتابع التاريخ، وخصوصًا ما يتعلق منها بالتفسير المسيحي لأقوال الأنبياء.
وليس من شكٍّ في أن أخلاق المسيحيين قبل قنسطنطين قد كانت أسمى جدًّا من الأخلاق في أوساط الوثنيين؛ فكان المسيحيون يُضطهدون أحيانًا، كما كانوا في معظم الأحيان في موقف الضعفاء بالنسبة إلى منافسيهم من الوثنيين، لكنهم آمنوا إيمانًا قويًّا بأن جزاء الفضيلة يكون في الجنة، وعقاب الإثم يكون في النار. وكانت مبادئهم الخلقية فيما يختص بالعلاقة الجنسية على درجة من الصرامة قلَّ مثيلها في العالم القديم؛ حتى لَترى «بليني» يشهد لهم بعلوِّ مستواهم الخلقي، مع أن مهمته الرسمية كانت اضطهادهم. ولئن ظهر بين المسيحيين بطبيعة الحال نفر من الوصوليين بعد دخول قنسطنطين في العقيدة المسيحية، إلا أن الأعلام من رجال الدين — مع استثناءات قليلة — قد ظلوا ثابتين على مبادئ خلقية لا تلين. وأعتقد أن «جِبُن» على صواب حين ينسب لهذا المستوى الخلقي الرفيع أهمية كبرى، باعتباره سببًا من الأسباب التي أدت إلى انتشار المسيحية.
وشاء سوء الحظ للمسيحيين أن يوجهوا هذه الحماسة في معاداة بعضهم بعضًا حينما أصبحت لهم القوة السياسية؛ فقد كان ثمة عدد كبير من الزنادقة قبل قنسطنطين، لكن المتزمِّتين الدينيين لم تكن لديهم عندئذٍ وسيلة عقابهم. ولما أصبحت الدولة مسيحية انفسح أمام رجال الكنيسة مجال الطيِّبات العظيمة، جاءتهم في صورة النفوذ والثروة؛ فكانت المناصب الكنسية يُختار لها بالانتخاب الذي تحيطه المنازعات، فتنشب بذلك معارك بين اللاهوتيين، في سبيل المزايا الدنيوية. نعم إنَّ قنسطنطين نفسه قد استطاع أن يحتفظ بدرجة من الحياد إزاء منازعات اللاهوتيين، إلا أنَّ خلفاءه (إذا استثنينا جوليان المرتد عن الدين) كانوا بعد موته (٣٣٧م) يحابون الآريين محاباة تفاوتوا فيها قوة وضعفًا، ولبث الأمر كذلك حتى اعتلى العرشَ ثيودوسيوس سنة ٣٧٩م.
وبطل هذه الفترة من الزمن هو أثاناسيوس (حوالي ٢٩٧–٣٧٣م) الذي لبث خلال حياته الطويلة أجرأ مدافع عن أرثوذكسية نيقيا.
وكانت الفترة الواقعة بين قنسطنطين و«مجلس شالْسيدون» (٤٥١م) ذات طابع خاص، وذلك لِما كان للَّاهوت من أهمية سياسية عندئذٍ؛ ففي تلك الفترة اهتز العالم المسيحي بمشكلتين قامتا على التتابع؛ الأولى هي مشكلة «الثالوث»، ما حقيقته؟ والثانية هي مبدأ التجسيد. وكانت أولى هاتين المشكلتين وحدها هي التي احتلت المكانة الأولى في عهد «أثاناسيوس»؛ فذهب «أريوس» — وهو كاهن إسكندري مثقف — إلى أن «الابن» ليس معادلًا «للأب»، بل مخلوق له، ولو قيل هذا الرأي في وقت سابق لذلك العهد لأمكَنَ ألا يثير معارضة شديدة، أمَّا في القرن الرابع فقد كانت الكثرة الغالبة من رجال اللاهوت ترفضه، والرأي الذي كانت له السيادة آخر الأمر هو القائل بتعادل «الأب» «والابن»، وبأنَّهما من عنصر واحد بعينه، ومع ذلك ﻓ «الابن» و«الأب» «شخصان» متميزان، حتى لقد أُطلقَ على الرأي القائل بأنَّهما ليسا متميزين، بل هما جانبان مختلفان ﻟ «كائن» واحد؛ اسمُ الزندقة «السابيلية»، نسبةً لمؤسسها «سابليوس»، وهكذا تحتَّم على الأرثوذكسية أن تسير في طريق ضيق؛ فأولئك الذين بالغوا في إبراز صفة التمييز بين «الأب» و«الابن» كانوا مهدَّدين بخطر الاتهام ﺑ «الآرية» (نسبةً إلى أريوس)، وأولئك الذين بالغوا في إبراز وحدانية «الأب» و«الابن» كانوا مهدَّدين بخطر الاتهام بالزندقة «السابيلية».
وجاء «مجلس نيقيا» (٣٢٥م) فهاجم مبادئ «أريوس» بأغلبية ساحقة، وتقدَّم كثيرون من رجال اللاهوت باقتراحات مختلفة لتعديل تلك المبادئ، وكانت تلك الاقتراحات تصادف القبول عند الأباطرة؛ فلبث «أثاناسيوس» — الذي ظل أسقف الإسكندرية من ٣٢٨م حتى وفاته — محكومًا عليه بالنفي المتصل، بسبب دفاعه الحار عن أرثوذكسية نيقيا، وكان له أتباع كثيرون في مصر، التي لبثت إبان قيام هذه المشكلة تؤيد آراءه تأييدًا لا انحراف فيه. وإنَّه لممَّا يدعو إلى العجب أن يعود الشعور القومي إلى الظهور (أو على الأقل الشعور الإقليمي) الذي خُيل للناس أنه زال منذ الغزو الروماني، وأن تجيء عودة ذلك الشعور إبان جدل لاهوتي؛ فالقسطنطينية وآسيا كانتا تميلان إلى النزعة الآرية، وتعصبت مصر في تبعيتها لأثاناسيوس، وتمسَّك الغرب تمسكًا شديدًا بمراسيم «مجلس نيقيا»، وبعد أن فرغ الناس من مشكلة «أريوس» احتدمت مشكلات جديدة من النوع نفسه تقريبًا، تعصبت فيها مصر تعصبًا سار بها في طريق، وتعصبت سوريا تعصبًا سار بها في طريق آخر. وكانت هذه الألوان من الزندقة — التي لقيت اضطهادًا من المتمسكين بأصول الدين — خطرًا يهدد وحدة الإمبراطورية الشرقية، ومهَّدت السبيل للفتح الإسلامي. وليس في الحركات الانفصالية ذاتها شيء من غرابة، إنَّما الغرابة أن تُربط هذه الحركات بمشكلات لاهوتية غاية في الدقة والتعقيد.
وكان الأباطرة — من ٣٣٥م إلى ٣٧٨م — يؤيدون آراء «أريوس»، مع تفاوت بينهم في قوة التأييد أو ضعفه، وذلك ما استطاعوا إلى ذلك التأييد سبيلًا من الجرأة، ما عدا «جوليان المارق على الدين» (٣٦١–٣٦٣م) الذي وقف موقف الحياد باعتباره وثنيًّا، فلم يؤيد فريقًا دون فريق في المنازعات الداخلية الناشبة بين المسيحيين. وأخيرًا جاء الإمبراطور ثيودوسيوس، ومال بتأييده كله (٣٧٩م) نحو الكاثوليك، وبهذا تم لهم النصر كاملًا في أرجاء الإمبراطورية كلها. ولقد سَلَخ القديس أمبروز، والقديس جيروم، والقديس أوغسطين — الذين سنتناولهم بالبحث في الفصل التالي — سَلَخوا معظمَ حيواتهم في هذه الفترة التي شهدت فوز الكاثوليك بالنصر، على أن ذلك النصر قد أعقبه في الغرب سيادة مذهب أريوس مرةً أخرى، وهي سيادة فرضها القوط والوندال، الذين اقتسموا فيما بينهم غزو الجزء الأكبر من الإمبراطورية الغربية، ودام سلطانهم نحو قرن من الزمان، ثم جاء في ختامه جستنيان واللمبارديون والفرنجة، فأزالوا عنهم ذلك السلطان، وكان جستنيان والفرنجة — ثم اللمبارديون بعدئذٍ — من الأرثوذكس، وهكذا ظفرت العقيدة الكاثوليكية بالنصر المحقَّق آخر الأمر.