ثلاثة من أساتذة الكنيسة
أربعة رجال يُطلق عليهم «أساتذة الكنيسة الغربية»، هم: القديس أمبروز، والقديس جيروم، والقديس أوغسطين، والبابا جريجوري الأعظم، والثلاثة الأولون من هؤلاء ينتمون إلى عصر واحد، أما الرابع فقد عاش في عصر متأخر، وسأعرض في هذا الفصل صورة لحيوات الثلاثة الأولين وعصرهم، على أن أعود في فصل تالٍ فأبسُط آراء القديس أوغسطين، الذي هو من وجهة نظرنا أهم الثلاثة جميعًا.
ازدهرت حياة «أمبروز» و«جيروم» و«أوغسطين» في الفترة القصيرة التي وقعت بين انتصار الكنيسة الكاثوليكية في الإمبراطورية الرومانية، وبين غزوات البرابرة، وكانوا كلهم في عهد الشباب حين كان «جوليان المارق» ممسكًا بزمام الحكم. وعاش «جيروم» عشرة أعوام بعد نهب روما على أيدي القوط بزعامة «ألارك». وعاش أوغسطين إلى أن قام الوندال بغارتهم في أفريقيا، ومات لما كان الوندال يحاصرون «هبو» التي كان هو أسقفًا عليها. ولم يكد ينقضي زمن «أمبروز» و«جيروم» و«أوغسطين» حتى أصبح البرابرة سادة على إيطاليا وإسبانيا وأفريقيا، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أصبح هؤلاء السادة من الزنادقة المعتنقين لمذهب أريوس. وتدهورت المدنيَّة مدى قرون، بحيث لم تستطع البلاد المسيحية أن تعود من جديد فتنجب رجالًا يجارون أمبروز وجيروم وأوغسطين في العلم والثقافة، إلا بعد ألف عام تقريبًا. ولبث أمبروز وجيروم وأوغسطين خلال العصور المظلمة والعهد الوسيط مرجعًا يوثق به، فهم الذين حددوا الأوضاع التي صُبت الكنيسة في قالبها، أكثر مما صنع أي رجل آخر في هذا السبيل؛ فنقول على وجه التقريب إنَّ «القديس أمبروز» هو الذي حدد لرجال الدين فكرتهم عن العلاقة بين الكنيسة والدولة. وقدَّم «القديس جيروم» للكنيسة الغربية إنجيلها اللاتيني، وكان لها حافزًا كبيرًا نحو الرهبنة في الأديرة. وأمَّا «القديس أوغسطين» فهو الذي صاغ للكنيسة لاهوتها الذي ظل حتى «الإصلاح الديني»، وكذلك صاغ شطرًا كبيرًا من الآراء التي اعتنقها فيما بعد لوثر وكلفن. ولن تجد إلا رجالًا قلائل بزُّوا هؤلاء الأساتذة الثلاثة في مدى تأثيرهم في مجرى التاريخ؛ فالمبدأ الذي أخذ به «القديس أمبروز» — موفَّقًا — من حيث استقلال الكنيسة بالنسبة إلى الدولة العلمانية؛ كان مبدأ جديدًا انقلابيًّا، ساد حتى حركة «الإصلاح الديني». ولما جاء «هبز» في القرن السابع عشر، وجعل يسدد إليه سهام نقده، فإنَّما كان يوجه حُججه إلى «القديس أمبروز» قبل أي إنسان آخر. وكذلك كان «القديس أوغسطين» في المقدمة في المناقشات اللاهوتية التي احتدمت إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ فالبروتستنت والجانسينيون يدافعون عنه، والكاثوليك الأرثوذكس يهاجمونه.
كانت ميلان — التي كان «أمبروز» أسقفًا عليها — هي عاصمة الإمبراطورية الغربية في أواخر القرن الرابع، فكانت واجبات «أمبروز» تقتضيه الاتصالَ الدائم بالأباطرة، الذين كان يتحدث إليهم عادةً كما يتحدث النِّد مع أنداده، بل كان يتحدث إليهم أحيانًا حديث الأعلى مع من هو أدنى منه. وعلاقاته بالبلاط الإمبراطوري تصور لنا تباينًا بين طرفين يتَّسم به ذلك العهد؛ فبينما كانت الدولة ضعيفة عاجزة، يحكمها أنانيون لا مبدأ لهم، ولا تسير قط على سياسة، اللهم إلا ما تمليه الضرورات العاجلة الناشئة مع الظروف الطارئة؛ كانت الكنيسة قوية قادرة، يقودها رجال على استعداد لتضحية كل مصلحة شخصية في سبيل صالحها، وتحدوها سياسة بعيدة المدى، بلغت من بُعد المدى حدًّا قرر لها النصر مدى ألف عام تَلَت. نعم إنَّ التعصب الديني والاعتقاد في الخرافة قد حدَّ من قيمة هذه المزايا، لكن التعصب والخرافة كانا — في ذلك العصر — شرطين لا مندوحة عنهما لأية حركة إصلاحية تريد النجاح.
كانت كل الفرص سانحة أمام «القديس أمبروز» لكي يحرز نجاحًا في خدمة الدولة؛ فقد كان أبوه — واسمه أمبروز كذلك — يشغل منصبًا ساميًّا؛ منصب عميد الغال، والأرجح أن يكون القديس قد وُلد في «تريفيس»، وهي مدينة ذات حامية عند الحدود، حيث كانت تُعسكِر الفِرق الرومانية لتَذود الجرمانَ عن البلاد. ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره نقلوه إلى روما حيث رُبي تربية جيدة، تشتمل على أساس متين في اللغة اليونانية. ولما شبَّ أخذ في دراسة القانون، فأصاب فيه نجاحًا عظيمًا. وفي عامه الثلاثين عُين حاكمًا على «لجْيوريا» و«إيمليا»، ومع ذلك فلم تمضِ عليه أربعة أعوام حتى استدبر مناصب الحكومة العلمانية، وأصبح أسقفًا على ميلان برغبة أجمع عليها الشعب، ففاز بهذا المنصب على منافس له من أتباع مذهب أريوس، وعندئذٍ تصدَّق بكل متاعه الدنيوي على الفقراء، وخصص كل ما تبقى له من حياته في خدمة الكنيسة، حتى لقد كان يتعرض أحيانًا في سبيل ذلك إلى خطر شخصي جسيم. وليس من شكٍّ في أن اختياره لهذا الطريق في حياته لم يكن الحافز إليه دوافع دنيوية، ومع ذلك، فلو كانت الدوافع الدنيوية هي التي حفزته إلى اختيار هذا الطريق لكان ذلك منه تصرفًا حكيمًا؛ فقد كان يستحيل عليه إذ ذاك أن يجد في «الدولة» — حتى لو ظفر فيها بمنصب الإمبراطور — مجالًا فسيحًا يبدي فيه مواهبه السياسية الإدارية، كالمجال الذي وجده في تصريفه لواجباته الكنسية.
وكان الإمبراطور في الغرب إبان التسعة الأعوام الأولى من أسقفية أمبروز؛ هو «جراتيان» الذي كان كاثوليكيًّا فاضلًا، لكنه كان قليل العناية بكل شيء؛ إذ اتجه بعنايته كلها إلى الصيد فأهمل شئون الحكم، واغتيل آخرَ الأمر، وخَلَفه في معظم أجزاء الإمبراطورية الغربية مغتصبٌ للعرش، اسمه «ماكسيموس»، أما في إيطاليا فقد خَلَفه أخوه الصغير «فالنتينيان الثاني» الذي كان لم يزل صبيًّا، فتولَّت أمه «يوستينا» السلطة الإمبراطورية أول الأمر، وهي أرملة الإمبراطور «فالنتينيان الأول»، ولما كانت تعتنق مذهب أريوس فقد كان لا مناص من قيام النزاع بينها وبين القديس أمبروز.
ولقد كتب القديسون الثلاثة الذين نتناولهم بالبحث في هذا الفصل عددًا لا يُحصَى من الرسائل، بقي لنا منها شيء كثير، ولذا فنحن نعلم عنهم أكثر مما نعلمه عن أي من الفلاسفة الوثنيين، وأكثر مما نعلمه عن سائر رجال الكنيسة في العصور الوسطى — ما عدا نفرًا قليلًا — فقد كتب القديس أوغسطين رسائل لعدد كبير جدًّا من الناس، كان معظمها يدور حول المذهب الديني أو حول تنظيم الكنيسة. وأما رسائل القديس جيروم فمعظمها موجَّه إلى سيدات، يتقدم إليهن بالنصح في كيف يحتفظن بالبكارة. وأما القديس أمبروز، فأهم رسائله وأمتعها موجَّه إلى أباطرة، ينبئهم فيها كيف قصروا عن أداء واجباتهم في هذا أو ذاك من الأمور، وأحيانًا كان يرسل لهم الرسائل مهنئًا إياهم على أدائهم لتلك الواجبات.
وكان أول موضوع عام تناوله أمبروز هو مسألة المذبح وتمثال النصر في روما، فقد كانت الوثنية أطول بقاء بين أسرات أعضاء الشيوخ في العاصمة، منها في أي مكان آخر، وكانت الديانة الرسمية في أيدي كهنة أرستقراطيين، فارتبطت بالعزة الإمبراطورية التي كان يشعر بها غزاة العالم، وكان تمثال النصر في مجلس الشيوخ قد أزاله قنسطنطيوس بن قنسطنطين، ثم استرده جوليان المارق على الدين، وعاد الإمبراطور جراتيان من جديد فأزال التمثال، وعندئذٍ تألَّف وفد من أعضاء مجلس الشيوخ، برئاسة «سيماخوس» عمدة المدينة، ليطالب بإعادة التمثال إلى مكانه مرة أخرى.
كان «سيماخوس» — الذي لعب كذلك دورًا في حياة أوغسطين — عضوًا ممتازًا في أسرة ممتازة؛ كان غنيًّا أرستقراطيًّا مثقفًا ووثنيًّا، نفاه «جراتيان» من روما سنة ٣٨٢م لاحتجاجه على إزالة تمثال النصر، لكن نفيه لم يطُلْ؛ إذ كان عمدة على المدينة سنة ٣٨٤م، وهو جد «سيماخوس» الذي كان والدًا لزوجة «بيثيوس»، والذي كان عَلمًا بارزًا إبان حكومة «ثيودورك».
وتشير الرسالة التالية إلى أن مخصَّصات الكنيسة تحقق أغراضًا لم تحققها قط أموال المعابد الوثنية؛ «فأملاك الكنيسة هي أملاك الفقراء، فليعدُّوا كم أسيرًا دفعتْ معابدهم الفدية عنه، وأيَّ طعام تقدموا به صدقةً للفقراء، وإلى مَن ممَّن أصابهم النفيُ قد أعدُّوا وسائل العيش.» تلك كانت حُجة منه مُثقَلة بالنبأ، وهي حجة يؤيدها كل التأييد ما كان المسيحيون يؤدونه فعلًا من حسن الصنيع.
وكسب «القديس أمبروز» الموقف بدفاعه، لكن إمبراطورًا آخر جاء بعد ذلك — هو «يوجينيوس» — فوقف في جانب الوثنية، وأعاد المذبح والتمثال، ولم ينتهِ الأمر نهاية حاسمة في صالح المسيحيين إلا بعد هزيمة «يوجينيوس» أمام «ثيودوسيوس» سنة ٣٨٤م.
ولم يكن الأسقف مغاليًا في مخاوفه هذه؛ لأنه لم يكن بعيدًا على الجند القوطيين أن يغوصوا في وحشية غاشمة كما فعلوا بعد ذلك بخمسة وعشرين عامًا، في حادثة انتهاب روما.
وكانت قوة «أمبروز» قائمة على أساس من تأييد الشعب، وقد اتُّهم بإثارتهم فأجاب: «كان في مستطاعي ألا أثيرهم، لكن الله وحده هو القادر على تهدئتهم»، ويقول إن أحدًا من أتباع مذهب أريوس لم يجرؤ على التقدم؛ لأن جموع الناس لم يكن بينهم رجل واحد من أتباع الآرية، ولقد صدرت له الأوامر رسميًّا أن يسلِّم ساحة القضاء، وأمر الجنود باستعمال القوة لو دعت الضرورة إليها، لكنهم في النهاية أبَوا أن يستعملوا القوة كما أُمروا، واضطُر الإمبراطور إلى التسليم، وبهذا اكتُسِبت معركة عظيمة في كفاح كان مرماه أن تستقل الكنيسة، وقال «أمبروز» مؤكدًا بأن «الدولة» لا بدَّ لها في بعض الأمور من الخضوع ﻟ «الكنيسة»، وبهذا دعم مبدأ جديدًا لا يزال له خطره حتى يومنا هذا.
«لكن ربما كان حافزك إلى ذلك هو استتباب النظام أيها الإمبراطور، إذن فقل لي أيهما في رأيك أعظم شأنًا؛ مظهر من نظام أم قضية الدين؟! إنه لا مندوحة عن مسايرة الأحكام للدين، ألم يَبلُغك أيها الإمبراطور أنه لما أمر «جوليان» بإعادة بناء «معبد أورشليم» أُحرق في النار أولئك الذين كانوا يزيلون الأنقاض؟!»
فليس من شك في أن رأي «القديس أمبروز» هو ألا يُعاقَب على تدمير معابد اليهود بأية حال من الأحوال، وذلك مَثل يبيِّن كيف أخذت «الكنيسة» تحرض على كراهية الساميين بمجرد استيلائها على قوة السلطان.
«حدث ما حدث في مدينة التسالونيين، مما لا نجد له مثيلًا فيما بين أيدينا من مدوَّنات التاريخ، وهو ما لم أستطع منع حدوثه، نعم حدث ما قلتُ عنه مرارًا قبل وقوعه — حينما رجوتُ ألا يقع — إنه سيكون أفظع الفظائع.»
وكان أن تقدم الإمبراطور بتوبته، وقدم الكفارة علنًا في كاتدرائية ميلان بعد أن جُرِّد من رمز سلطانه، ولم يحدث أن نازع «أمبروز» في شيء منذ ذلك اليوم حتى وافته منيَّته سنة ٣٩٥م.
وبينما كان «أمبروز» ممتازًا كرجل سياسي، كنت تراه في نواحٍ أخرى لا يزيد على رجل يمثِّل العصر الذي يعيش فيه، فكتب — كما كتب غيره من المؤلفين من رجال الكنيسة — رسالة في الثناء على الاحتفاظ بالبكارة، ورسالة أخرى يحط فيها من شأن زواج الأرامل. ولما وقع اختياره على موضع معين تُقام فيه كاتدرائيته الجديدة كُشف من ذلك الموضع عن هيكلين عظيمين (قيل إنه علم بوجودهما في أحد أحلامه) فجاء كشفًا نافعًا، ووُجد أنهما يأتيان بالمعجزات، وأعلن أنهما هيكلان لشهيدين، وهو يذكر غير ذلك من المعجزات في رسائله، بكل ما كان يتَّسم به عصره من سذاجة في سرعة التصديق. وقد كان «أمبروز» أقل من «جيروم» في قدرته العلمية، وأدنى من «أوغسطين» في الفلسفة، أمَّا في السياسة فقد كان السياسيَّ الذي عرف بمهارته وشجاعته أن يوحد سلطة «الكنيسة»، ولذا فهو يُعَد سياسيًّا من الطراز الأول.
وأما «جيروم» فأشهر ما يُعرف به أنه المترجم الذي أخرج النسخة الشعبية للإنجيل، التي لا تزال حتى يومنا هذا هي الصورة الكاثوليكية الرسمية للكتاب المقدس؛ فإلى عهده كانت «الكنيسة الغربية» تعتمد في «العهد القديم» — أكثر ما تعتمد — على ترجمات مأخوذة من «الترجمة السبعينية للتوراة»، وهي ترجمات كانت تختلف عن الأصل العبري في نقط هامة؛ فقد رأينا كيف اعتقد المسيحيون بأن اليهود قد أخذوا — منذ نشأة المسيحية — يشوهون في النص العبري للتوراة، في المواضع التي بدت لهم كأنما تنبئ بقدوم «المسيح»، وهو رأي دل البحث العلمي الرصين على أنه باطل، وقد رفض «جيروم» الأخذ بهذا الرأي رفضًا قاطعًا، وقبِل معاونة الأحبار اليهود التي قدموها له سرًّا؛ خوفًا من طوائف اليهود، وقال دفاعًا عن نفسه ضد نقد المسيحيين له: «ليسأل اليهودَ كلُّ من تحدثه نفسه أن ينقد شيئًا في هذه الترجمة.» ولقد قوبلت ترجمته أول الأمر لقاء كريهًا بسبب قبوله للنص العبري على الصورة التي عدَّها اليهود صورة صحيحة، لكن ترجمته لم تلبث أن شقَّت طريقها، وقد يرجع ذلك إلى حد ما إلى تأييد القديس أوغسطين لها في جملتها، وكان هذا العمل من «جيروم» عملًا عظيمًا، وهو ينطوي على كثير من نقد النصوص.
كان «القديس جيروم» رجلًا كثير الاشتباك في المعارك، فاشتبك مع «القديس أوغسطين» حول سلوك «القديس بطرس»، وهو سلوك تشوبه بعض الشائبات من الريبة، إذا اعتمدنا في وصفه على رواية «القديس بولس» في «الغلاطيين، الجزء الثاني». وخاصم صديقه «رفينوس» بسبب اختلافهما في «أوريجن». وكان عنيفًا في مقاومته ﻟ «بلاجيوس» إلى الحد الذي حفز نفرًا من الغوغاء التابعين ﻟ «بلاجيوس» إلى مهاجمة ديره. والظاهر أنه بعد موت «داماسوس» اشتبك في خلاف مع البابا الجديد. وأثناء إقامته في روما كان قد اتصل بسيدات كثيرات ممن جمعن بين الأرستقراطية والتقوى، وقد حمل بعضَهن على اصطناع حياة الزهد، فكَرِه البابا الجديد هذا المسلك من «جيروم»، وشارك البابا في كرهه كثيرون من أهل روما؛ فمن أجل هذا، وغيره من الأسباب، غادر «جيروم» روما قاصدًا إلى بيت لحم، حيث أقام من ٣٨٦م حتى وافاه الأجل سنة ٤٢٠م.
احرصي أبد الدهر على أن تكون لغرفتك حرمة تحرسك، احرصي أبد الدهر على أن يلاعبك «العريس» داخل غرفتك، هل تؤدين الصلاة؟ إنك في الصلاة تتحدثين إلى «العريس»، هل تقرئين؟ إنه في القراءة يتحدث إليك؛ إنه إذا ما أخذك النعاس أتاك من خلف ووضع يده خلال ثقب الباب، وعندئذٍ سيهتز له قلبك، فستستيقظين وستنهضين لتقولي: «إنني نشوانة من الحب»، وعندئذٍ سيجيبك قائلًا: «إن بستانًا مستورًا هو بمثابة أختي وعروسي، إنها ينبوع مصون (في هذه الغرفة) ونافورة مختومة.»
وظل بعد ذلك بضعة أعوام يُدخِل في رسائله قليلًا من المقتطَفات المستمَدة من الأدب القديم، غير أنه ما قضى على هذه الحال فترة معينة حتى انتكس مرة أخرى إلى أشعار يقتبسها من «فيرجيل» و«هوراس»، بل ومن «أوفد» كذلك، لكن يظهر أنه كان يورد هذه الأشعار من ذاكرته، ويؤكد ذلك أنه كان يذكر بعضها مرة بعد مرة.
«إني لأرتعش فزعًا إذا ما تصورت كوارث زماننا؛ فقد لبث الدم الروماني، مدى عشرين عامًا أو يزيد، يُراق كل يوم بين القسطنطينية والألب اليوليوية. إن «سيثيا» و«تراقيا» و«مقدونيا» و«واقيا» و«تساليا» و«آخيا» و«إبروس» و«دالماشيا» و«البانونيا»؛ هذه كلها قد نزل بها السلب والنهب والتدمير على أيدي القوط والسارماتيين والقاضيين والعلانيين والهون والوندال وأهل المستنقعات … إن العالم الروماني يتهاوى للسقوط، ومع ذلك ترانا نشمخ برءوسنا عاليةً ومن حقنا أن نَحنيها ذلةً. ماذا بقي من الشجاعة — في ظنك — للكورنثيين، أو للآثينيين، أو لأهل لاسيديمونيا، أو لأهل أركاديا، أو من شئت من اليونان الذين يفرض البرابرةُ عليهم اليوم سلطانهم؟ وإني لم أذكر ها هنا إلا عددًا قليلًا من المدن، ولكنها مدن كانت يومًا عواصم دول لم تكن بالدول الحقيرة.»
ثم يمضي بعدئذٍ فيذكر كيف عاث الهون فسادًا في الشرق، ويختم قوله بهذه العبارة: «إن «ثيوسيديد» و«سَالسْت» لَيُصيبهما ما يشبه البكَم إذا ما أرادا أن يعالجا مثل هذه الأمور بما هي جديرة به.»
«إنَّ العالم يهوِي إلى الخراب، نعم! لكن وا عاراه أن أقول إن آثامنا ما زالت حية مزدهرة! إن المدينة المشهورة، عاصمة الإمبراطورية الرومانية، قد ابتلعتها نار فظيعة دفعة واحدة، ولست تجد على ظهر الأرض مكانًا يخلو من رومان مشرَّدين في مطارح النفي، والكنائس التي كانت لها القدسية يومًا قد باتت اليوم أكوامًا من تراب ورماد، ومع ذلك فلا تشغل عقولَنا إلا رغبةُ الكسب، إننا نعيش كما لو كنا سنلاقي حتوفنا غدًا، ومع ذلك ترانا نبني كأنما سيمتد بقاؤنا في هذه الدنيا أبد الآبدين، إن جدراننا تلمع بالذهب، وكذلك سقوفنا ورءوس أعمدتنا، ومع ذلك يقضي المسيح أمام ديارنا عريانًا جائعًا في شخص فقرائه.»
هذه فقرة وردَتْ عرَضًا في رسالة إلى صديق اعتزم أن يتجه بابنته إلى البكارة الدائمة، ومعظم الرسالة يدور حول القواعد التي يجب اتباعها في تربية البنات اللائي يُراد بهن إلى الحياة العذرية، وإنه لمن العجيب أن يظن «جيروم» — على عمق شعوره بسقوط العالم القديم — أن احتفاظ النساء ببكارتهن أهم من الانتصار على الهون والوندال والقوط، فلا نراه يتجه بأفكاره مرة واحدة إلى تدبير إجراء مفيد من إجراءات السياسة العملية، ولا تراه يشير مرة واحدة إلى مضارِّ النظام الاقتصادي القائم، أو إلى الشر الذي ينجم عن الاعتماد على جيش قِوامه البرابرة. وقل ذلك بعينه عن «أمبروز» و«أوغسطين»، نعم قد كان «أمبروز» سياسيًّا، لكنه لم يكن كذلك إلا نائبًا عن «الكنيسة»، فلا عجب أن تندكَّ قوائم الإمبراطورية، ما دامت خير العقول وأقواها في ذلك العصر قد أبعدت نفسها إبعادًا تامًّا عن شواغل هذه الحياة الدنيا، لكننا نقول من ناحية أخرى إنه ما دام الدمار أمرًا لا مفرَّ منه؛ فقد كانت نظرة المسيحيين مُعدَّة خير إعداد لتبثَّ في نفوس الناس الصبر على المكاره، وتعينهم على الاحتفاظ بآمالهم الدينية، حين بدت آمال هذه الحياة عبثًا فارغًا، وإن أسمى ما يسمو بمكانة القديس أوغسطين هو التعبير عن هذه الوجهة من النظر في كتابه «مدينة الله».
وسأتحدث عن «القديس أوغسطين» في هذا الفصل من جهة كونه إنسانًا فقط، أمَّا باعتباره رجلًا من رجال اللاهوت وفيلسوفًا، فسيكون ذلك مدار بحثي في الفصل الآتي.
وُلد سنة ٣٥٤م، بعد «جيروم» بتسع سنين، وبعد «أمبروز» بأربعة عشر عامًا. وهو من أهل أفريقيا، وفي أفريقيا سَلَخ الشطرَ الأعظم من حياته. وكانت أمه مسيحية، أما أبوه فلم يكن كذلك، وبعد فترة قضاها معتنقًا للمانكية أصبح كاثوليكيًّا، وقام بتعميده «أمبروز» في ميلان، وعُين أسققًا على «هبو» التي لا تبعد كثيرًا عن قرطاجنة، سنة ٣٩٦م تقريبًا، ولبث هناك حتى جاءه الموت سنة ٤٣٠م.
وإنَّا لنعلم عن سِنيه الأولى أكثر جدًّا مما نعلمه عن معظم رجال الكنيسة في بواكير حياتهم، وذلك لأنه أنبأنا بها في كتابه «الاعترافات»، وهو كتاب نَسج على منواله رجالٌ مشهورون، أخُص بالذكر منهم «روسو» و«تولستوي»، ولا أظنه قد سُبق بكتاب شبيه يمكن مقارنته به. وإن «القديس أوغسطين» ليشبه «تولستوي» من بعض الوجوه، لكنه أعلى منه في مقدرته العقلية، وهو رجل جَموح العاطفة، كان في صباه أبعدَ ما يكون الإنسانُ عن مُثُل الفضيلة، لكن حافزًا باطنيًّا فيه جعل يسوقه سَوقًا إلى البحث عن الحق والتقوى. وهو مثل «تولستوي» في أنه عندما تقدمت به السنون تملَّكته فكرة اقترافه الخطيئة، التي جعلت حياته صارمة، وصبغت فلسفته بصبغة غير إنسانية، وحارب الزندقة حربًا عنيفة، لكن بعض آرائه قد عُدَّت بدورها زندقة حين أخذ بها «جانسيوس» في القرن السابع عشر، ومع ذلك فالكنيسة الكاثوليكية لم تشكَّ قط في سلامة آرائه من الوجهة الدينية، حتى اعتنقها البروتستنت.
وجاء المسيحيون فوضعوا «الكنيسة» موضع «الشعب المختار»، لكن التحوير — إذا استثنينا جانبًا واحدًا — لم يكن بذي أثر في إحساس الناس بالخطيئة؛ فالكنيسة عانت من النكبات مثلما عانى اليهود، فقد عكَّرت ألوانُ الزندقة صفوها، وارتدَّ المسيحيون أفرادًا عن دينهم، تحت ضغط الاضطهاد، إلا أن الإحساس بالخطيئة قد تطور تطورًا هامًّا — وهو تطور بدأ بالفعل وسار شوطًا بعيدًا لدي اليهود — وأعني به إحلال الخطيئة الفردية مكان الخطيئة الجمعية؛ فالأصل في بداية الأمر هو أن الأمة اليهودية هي التي اقترفت الخطيئة، وأن عقاب الخطيئة قد نزل باليهود جماعةً، لكن الخطيئة قد أصبحت مع تقدم الأيام أمرًا يتعلق بالشخص أكثر مما يتعلق بالجماعة، ففقدت بهذا التحول صبغتها السياسية، وكان هذا التحول جوهريًّا حين حلت «الكنيسة» محل الأمة اليهودية؛ وذلك لأن الكنيسة باعتبارها كائنًا روحيًّا، لا تخطئ، أما الفرد المخطئ فيُستطاع فصله عن جماعة «الكنيسة». إن الخطيئة كما قلنا الآن توًّا مرتبطة بشعور الإنسان بأهمية نفسه، لكنها فيما بعد تحولت فأصبحت أهمية الفرد لا أهمية «الكنيسة»؛ لأن الكنيسة لم تقترف قط إثمًا؛ ومن ثم أصبح اللاهوت المسيحي منقسمًا قسمين؛ أحدهما خاص ﺑ «الكنيسة»، والآخر بروح الفرد، ولقد كان الجانب الأول من هذين هو موضع اهتمام الكاثوليك في العصور التالية، بينما ركز البروتستنت اهتمامهم بالجانب الثاني. أما عند «القديس أوغسطين» فكلاهما قائم جنبًا إلى جنب، دون أن يشعر قط بأن ذلك يتضمن شيئًا من عدم الاتساق؛ فالذين قد ظفروا بالنجاة من الخطيئة هم أولئك الذين كتب لهم الله منذ الأزل خلاصًا، وفي هذا علاقة مباشرة بين الروح والله، غير أنه محال على إنسان عن أن يظفر بالنجاة إلا إذا عُمِّد، بحيث يصبح بفضل تعميده عضوًا في «الكنيسة»، وهذا يجعل «الكنيسة» حلقة اتصال بين الروح والله.
إن الخطيئة هي النقطة الجوهرية في العلاقة المباشرة (بين الروح والله)؛ لأنها هي التي تفسر كيف يمكن لإله خَيِّر أن يخلق للناس ألوان العذاب، وكيف يمكن — رغم هذا — أن تكون أرواح الأفراد هي أهم كائنات في العالم المخلوق بأسره، وإذن فلا عجب أن يكون اللاهوت الذي ارتكزت عليه حركة «الإصلاح الديني» صادرًا عن رجل كان إحساسه بالخطيئة خارقًا للمألوف.
وحسبُنا هذا القدر عن الكمثرى (المسروقة)، ولننتقل الآن إلى ما تقوله «الاعترافات» عن غير ذلك من الموضوعات.
«فمن الجليِّ الواضح — إذن — أن حب الاستطلاع الحر له أثر في تشويقنا إلى تعلم هذه الأشياء، أكبر من أثر الإرغام المخيف فينا، لكن هذا الإرغام وحده هو الذي يكبح ذبذبات تلك الحرية بفضل شريعتك يا إلهي، شريعتك التي تتراوح قوانينها من عصا الأستاذ إلى محنة الشهيد؛ ذلك لأن شريعتك تعمل على تخفيف المرارة التي لا بدَّ منها للعيش الصحيح، تلك المرارة التي تعيدنا إلى حظيرتك من مجالات النعمة المؤذية التي تصرفنا عنك.»
فضربات الأستاذ التي فشلت في حمله على تعلم اليونانية قد شفَتْه من داء النعمة المؤذية؛ ولذا فهو يعدُّها — على هذا الأساس — أداة لا بد منها في التربية. وإنها لوجهةُ نظر تتفق والمنطقَ السليم عند أولئك الذين يجعلون الخطيئة أهم شواغل الإنسان. ثم يمضي فيقول إنه قد اقترف الإثم، ليس فقط حين كان تلميذًا يقول الكذب ويسرق الطعام، بل قبل ذلك أيضًا، وقد أسرف في هذا الصدد بحيث خصص فصلًا كاملًا (الكتاب الأول، الفصل السابع) للبرهنة على أن الرُّضَّع على أثداء أمهاتهم مفعمون بالخطايا، من شراهة في الغذاء إلى غيره، وغير ذلك من فظيع الرذائل.
ولم يكلِّف أبوه نفسَه شيئًا من العناء ليمنع عن ولده هذا الشر، بل قصَر نفسَه على معونة أوغسطين في دراساته. أما أمه — القديسة مونيكا — فكانت على نقيض ذلك، تستحثُّه نحو الطهر، ولكن عبثًا حاولتْ، وحتى أمه هذه لم تحاول في ذلك الوقت أن تغريه بالزواج «خشية أن تقف الزوجة عَثْرة في طريق مستقبلي».
وإن هذه العاطفة منه لتدهشنا بسماحتها؛ لأن أحدًا لم يكن يتوقعها من أحد في ذلك العصر، كلا ولا هي متفقة كل الاتفاق مع الموقف الذي وقفه القديس أوغسطين فيما بعد إزاء الزنادقة.
وفي هذه الفترة من حياته قرر السفر إلى روما، وهو يقول إنه لم يقرر ذلك لأن راتب المعلم في روما أكثر منه في قرطاجنة، بل لأنه علم بأن الفصول الدراسية هناك أكثر نظامًا؛ فقد كانت الفوضى التي يُحدِثها الطلاب في قرطاجنة مما يجعل التعليم مستحيلًا تقريبًا، أمَّا في روما، فبينما كانت الفوضى هناك أقل منها في قرطاجنة، إلا أن الطلاب كانوا يراوغون في دفع أجور تعلُّمهم مراوغةَ محتال.
ولحقت به أمه في ميلان، فكان لها الفضل في التعجيل بخُطاه نحو اعتناقه للمسيحية؛ فقد كانت كاثوليكية متحمسة لعقيدتها غاية التحمُّس، ولذا تراه يكتب عنها دائمًا في نغمة التوقير، وقد زادت أهميتها له في ذلك الوقت خاصة؛ لأن «أمبروز» كانت لديه كثرةٌ من شواغل تحُول دون التحدث إليه حديثًا خاصًّا.
ووجد عند الأفلاطونيين — بصفة إجمالية — المذهب الميتافيزيقي الذي يقول ﺑ «الكلمة» (اللوغوس)، لكنه لم يجد عندهم مذهب التجسيد، ولا وجد المذهب الذي يتفرع عن التجسيد، وهو مذهب خلاص الإنسان. وترى في «الأورفيَّة» وغيرها من الديانات التي تقيم تعاليمها على الأسرار شيئًا قريب الشبه بهذه التعاليم، لكن يظهر أن القديس أوغسطين لم يكن ملمًّا بهذه الديانات، وعلى كل حال لم تكن تلك الديانات والمذاهب القديمة متصلة بحوادث التاريخ الحديث إذ ذاك، كما ارتبطت بها المسيحية.
ووقف القديس أوغسطين موقفًا معارضًا للمانويين الذين كانوا ثنائيين في مذهبهم؛ وذلك أنه لم يذهب إلى أن أصل الشر عنصر قائم بذاته، بل رأى أصل الشر في انحراف الإرادة.