الفلسفة واللاهوت عند القديس أوغسطين
كان القديس أوغسطين مكثارًا في كتابته، ومعظم ما كتبه يدور حول موضوعات لاهوتية، وكان بعض ما كتبه ليناقش به أعداءه موضوعًا يدور فيه الحديث بين الناس، ثم فقد أهميته عندهم بسبب نجاحه فيما كتب، على أن بعضًا آخر مما كتبه — خصوصًا ما كان متعلقًا منه ﺑ «البلاجيين» — ظل ذا أثر قوي حتى هذه العصور الحديثة. ولست أنوي الحديث عن مؤلفاته حديثًا يتناول كل ما فيها، بل سأَقصُر حديثي على ما يبدو لي هامًّا منها، سواء كانت تلك الأهمية متعلقة بطبيعة الموضوع نفسه، أو راجعة إلى ظروفه التاريخية؛ فسأتناول بالبحث:
- أولًا: فلسفته الخالصة، وبخاصة نظريته في الزمن.
- ثانيًا: فلسفته في التاريخ، كما بسطها في كتابه «مدينة الله».
- ثالثًا: نظريته في الخلاص، كما عرضها ليناهض بها البلاجيين.
أولًا: الفلسفة الخالصة
إن القديس أوغسطين — في معظم الأحيان — لا يشغل نفسه بالفلسفة الخالصة، فإذا هو فعل أبدى في ذلك مقدرة عظيمة جدًّا. وهو أول فيلسوف من سلسلة طويلة من الفلاسفة، تأثرت آراؤهم التأملية الخالصة بضرورة مجاراتهم لما ورد في الكتاب المقدس، ولستَ تستطيع أن تقول هذا القول عن الفلاسفة المسيحيين الأولين، مثل «أوريجن»؛ فعند «أوريجن» ترى المسيحية والأفلاطونية قائمتين جنبًا إلى جنب، لا تدخل إحداهما في الأخرى. أما القديس أوغسطين، فترى تفكيره المبتكَر في الفلسفة الخالصة قد استثاره ما وجده في بعض نواحي الأفلاطونية، مما لا يتفق مع «سِفر التكوين».
وخير ما كتبه القديس أوغسطين في الفلسفة الخالصة هو الكتاب الحادي عشر من «الاعترافات»، مع أنك ترى الطبعات الشعبية ﻟ «الاعترافات» تنتهي بالكتاب العاشر، على أساس أن ما يتلو ذلك لا متعة فيه، وهو لا يُمتِع لأنه فلسفة جيدة، لا ترجمة حياة؛ فالمشكلة التي تشغل الكتاب الحادي عشر هي: ما دام الخَلق قد تم على نحو ما يقرر الإصحاح الأول من «سِفر التكوين»، وعلى نحو ما يذهب القديس أوغسطين معارضًا بذلك المانويين؛ فقد كان ينبغي أن يتم في أقرب فرصة ممكنة. هكذا يتصور القديس أوغسطين أن يجيء اعتراض المعترض.
وأول نقطة لا بدَّ من تبيانها، إذا أردت أن تفهم ما أجاب به عن ذلك الاعتراض، هي أن فكرة الخَلق من لا شيء — التي كانت بين تعاليم «العهد القديم» — فكرة غريبة عن الفلسفة اليونانية كل الغرابة؛ فإذا تحدث أفلاطون عن الخَلق تصوَّر مادة أولية تناولها الله بالتشكيل، وقُل ذلك أيضًا في أرسطو؛ فالإله عندهم أقرب إلى أن يكون فنانًا أو مهندس عمارة منه إلى أن يكون «خالقًا»؛ فالمادة في رأيهم أبدية أزلية لم تُخلق، والذي خلقته إرادة الله هي الصورة وحدها. فجاء القديس أوغسطين وذهب إلى ما يعارض هذا الرأي، وهو مذهب لا مندوحة عنه لكل مسيحي أصيل، وأعني المذهب القائل إن العالم لم يُخلق من مادة بعينها، بل خُلق من لا شيء؛ فالله قد خلق المادة، ولم يكن أمره مقصورًا على التنظيم والترتيب.
إن وجهة النظر الإغريقية القائلة باستحالة الخلق من لا شيء قد عاودت الظهور على فترات في العصور المسيحية، وانتهت إلى مذهب وحدة الوجود، وهو مذهب يرى أن الله والعالم لا يتميز أحدهما عن الآخر، وأن كل شيء في العالم جزء من الله، وقد بلغ تطور هذا المذهب إلى أقصى مداه على يدَي سبينوزا، على أنه مذهب يكاد يجتذب المتصوفة جميعًا، ولهذا كان من العسير على المتصوفة خلال العصور المسيحية أن يظلوا مستمسكين بالأرثوذكسية؛ إذ تعذَّر عليهم الإيمان بأن العالم كائن خارج الله. أمَّا أوغسطين، فلا يرى في هذه النقطة شيئًا من العسر؛ ﻓ «سِفر التكوين» واضح في هذا الموضوع، وحَسْبه ذلك. ولرأي أوغسطين في هذا الموضوع أهمية جوهرية بالنسبة لنظريته في الزمن.
ولست أوافق شخصيًّا على هذه النظرية، من حيث كونها تجعل الزمن حقيقة عقلية، لكن لا شكَّ في أنها نظرية غاية في القوة تستحق أن تُبحث بحثًا جادًّا، بل إني لأذهب أبعد من ذلك وأقول إنها تتقدم تقدمًا فسيحًا على كل ما عسانا واجدوه في موضوع الزمن في الفلسفة اليونانية، وفيها شرح أجود وأوضح من شرح «كانت» للنظرية الذاتية في الزمن، وهي نظرية أقبلَ عليها الفلاسفة إقبالًا عظيمًا منذ «كانت».
إن النظرية القائلة بأن الزمن إنْ هو إلا مظهر من مظاهر أفكارنا؛ هي إحدى الصور المتطرفة التي سيقت فيها النزعة الذاتية التي أخذت — كما رأينا — تزداد شيئًا بعد شيء في العصور القديمة، منذ عهد بروتاجوراس وسقراط فصاعدًا، وجانبها العاطفي هو وسواس الخطيئة الذي تشبَّث بالعقول، وهو جانب جاء متأخرًا بعد جوانبها العقلية، وهذان النوعان من الذاتية تراهما معروضين معًا عند القديس أوغسطين، الذي انتهت به النزعة الذاتية لا إلى سَبْق «كانت» فحسب في نظرية الزمن، بل كذلك أدت إلى سَبْق ديكارت في «الكوجيتو» [أنا أفكر، فأنا إذن موجود]، وهو يقول في «نجواه»: «أنت يا من تريد العلم، هل تعلم أنك موجود؟ نعم إنني أعلم ذلك، فمن أين جئت؟ لست أدري، هل تشعر بذاتك واحدةً أم كثرةً؟ لست أدري، هل تشعر بذاتك تتحرك؟ لست أدري، هل تعلم أنك تفكر؟ نعم أعلم ذلك.» وليس يقتصر ذلك على «كوجيتو» ديكارت، بل إنه ليشتمل كذلك على ردٍّ موجَّه إلى جاسندي الذي يقول: «أنا أتحرك، فأنا إذن موجود»، وعلى ذلك فأوغسطين بين الفلاسفة جدير بمكانة عالية.
ثانيًا: مدينة الله
لما اجتاح القوط مدينة روما سنة ٤١٠م لم يكن غير طبيعي من الوثنيين أن يعزوا هذه الكارثة إلى هجر الناس للآلهة القديمة، قائلين إن روما ظلت قوية ما بقيت عبادة «جوبتر» قائمة، أما وقد أدبر الأباطرة عن عبادته، فلم يَعُد يحمي أتباعَه الرومان. وكانت هذه الحجة الوثنية تتطلب ردًّا، فكان كتاب «مدينة الله» — الذي كُتب جزءًا جزءًا فيما بين عامَي ٤١٢–٤٢٧م — هو الرد الذي تقدم به أوغسطين، لكن الكتاب كلما تقدمت به خطوات البحث اتسع نطاقه عما أُريدَ له، حتى بسط تاريخًا كاملًا للمسيحية؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وقد كان كتابًا عظيم الأثر خلال العصور الوسطى، خصوصًا فيما يتعلق بالمعارك التي نشبت بين «الكنيسة» والأمراء العلمانيين.
والكتاب شبيه بغيره من الكتب العظيمة جدًّا، في كونه يرتسم في أذهان من قرءوه، على صورة أفضل من الصورة التي تصادف القارئ — فيما يبدو له عند الوهلة الأولى — حينما يعاود قراءته من جديد. وهو يحتوي على كثير مما يكاد يستحيل على إنسان في عصرنا هذا أن يسلِّم به، وفكرته الرئيسية قد غمضت بعض الشيء؛ لِما في الكتاب من زوائد استطرادية أملَتْها ظروف العصر، غير أن الفكرة الأساسية في مجملها — وهي الموازنة بين «مدينة» هذه الدنيا و«مدينة الله» — ما زالت مصدر وحي لكثيرين، وفي مستطاعنا حتى اليوم أن نبسطها مرة أخرى في لغة غير لغة اللاهوت.
وإذا حذفنا تفصيلات الكتاب عند عرضه، بحيث ركزنا اهتمامنا في الفكرة الرئيسية، أعطينا عن الكتاب صورة أفضل من صورته الحقيقية، بغير موجب؛ لكننا من جهة أخرى لو ركزنا اهتمامنا في التفصيلات كان معنى ذلك أن يفوتنا خير ما في الكتاب وأهم ما فيه. وسأحاول أن أجتنب الخطأين؛ بأن أبدأ أولًا بعرض التفصيلات إلى حد ما، ثم أنتقل إلى الفكرة الرئيسية كما تبدَّت خلال تطورها التاريخي.
يبدأ الكتاب بنظرات أثارها اجتياح روما، وترمي إلى بيان أن العصور السابقة للمسيحية قد شهدت ما هو أشد من ذلك فظاعة، ويقول القديس [أوغسطين] إن عددًا كبيرًا من الوثنيين الذين ينسبون الكارثة إلى المسيحية؛ قد التمسوا إبان موجة الاجتياح التي طغت على روما ملاذًا في الكنائس، ولما كان القوط يدينون بالمسيحية، فقد ضمنوا لهم الأمن في ملاذهم ذاك، مع أن نقيض ذلك شهدته طروادة حين تعرضت لمثل هذا الاجتياح، إذ لم يكن معبد «جونو» وقاية تصلح أن يلوذ بها أحد، كلا ولا ضَمن الآلهةُ صيانة المدينة من عوامل التدمير، ولم يحدث قط أن أَبقى الرومان على معابد المدن التي غزوها، وعلى ذلك فاجتياح روما من هذه الناحية قد كان أهون من معظم تلك الغزوات، وإنما جاءت خفة الفظاعة نتيجة للمسيحية.
وليس يحق للمسيحيين الذين أصابهم اجتياح المدينة بالضر؛ أن يتذمروا، لعدة أسباب؛ فبعض القوطيين الأشرار ربما جاءهم الغُنم على حساب أولئك المسيحيين، لكن هؤلاء القوط سيلقون على ذلك عذابهم في الحياة الآخرة، ولو لقيت كل خطيئة جزاءها في هذه الدنيا لما كان ثمَّة ضرورة ليوم الحساب، ولو كان المسيحيون من ذوي الفضيلة لتحولت آلامهم إلى ما هو خير لهم، ذلك لأن أولياء الله حين يفقدون المتاع الدنيوي لا يفقدون شيئًا ذا قيمة، وليس بذي خطر أن تُترك أجسادهم بعد الموت بغير دفن، لأن كواسر الوحش لن تحُول دون عودة أجسادهم يوم النشور.
ويأتي بعد ذلك موضوع العذارى الفُضليات اللائي انتُهكن إبان الاجتياح؛ فالظاهر أن بعض الناس قد ذهبوا إلى أن أولئك النساء قد فقدن زهرة البكارة بغير ذنب أتينه؛ فيعارض القديس [أوغسطين] هذا القول معارضة غاية في السداد حين يقول: «صه، إن شهوة غيرك يستحيل أن تصيبك أنت بالدنس»، إن العفاف فضيلة يتحلى بها العقل، ولا يزيلها انتهاك الجسد، وإنما يزيلها اعتزام الخطيئة، حتى ولو لم تقم فعلًا بما اعتزمت فعله. وهو يسوق رأيًا في هذا الصدد، وهو أن الله قد أذن بوقوع ما وقع من اغتصاب العذارى، لأن هؤلاء العذارى قد أسرفن في زهوهن بعفافهن، فمن الضلال أن تنتحر المرأة منهن اجتنابًا لاغتصاب جسدها، وذلك يؤدي به إلى نقاش طويل في موضوع «لوكريشيا» التي ما كان ينبغي لها أن تزهق روح نفسها؛ لأن الانتحار خطيئة دائمًا.
على أن تبرئة النساء الفضليات اللائي قد اغتُصبت أجسادهن؛ متوقفة على شرط واحد، وهو ألا يكون هؤلاء النساء قد استمتعن بذلك، أما إذا كن قد وجدن في ذلك متعة فقد لحقت بهن الخطيئة.
إن المدينتين — المدينة الأرضية والمدينة السماوية — تمتزجان إحداهما بالأخرى في هذه الدنيا، أمَّا في الحياة الآخرة فسيتميز الرشد من الغي. إنه ليس في مستطاعنا أن نعرف في هذه الحياة مَن ذا يكون في نهاية الأمر مِن زمرة الأخيار، ليس في مستطاعنا معرفة ذلك حتى عن أعدائنا الظاهرين.
لقد كانت روما دَنِسة بشرورها طَوال عهدها، منذ اغتصاب النساء «السَّابيَّات» فصاعدًا. ويخصص الكاتب فصولًا لعرض الخطيئة التي لحقت بالاستعمار الروماني، وليس صوابًا أن يقال إن روما لم تعانِ الويلات قبل أن تصبح الدولة مسيحية؛ إذ عانت من الغال ومن الحروب الأهلية مثلما عانت على أيدي القوط، بل يزيد.
ويعارض القديس أوغسطين جماعة الرواقيين الذين تنكَّروا للعواطف جميعًا؛ إذ يقول إن عواطف المسيحيين قد تكون سببًا في الفضيلة، فلا ينبغي أن نحارب الغضب أو الإشفاق لذاتهما، بل يجب أن نبحث أولًا عن الأسباب التي أدت إليهما.
والأفلاطونيون على صواب فيما قالوه عن «الله»، لكنهم مخطئون فيما ذكروه عن الآلهة. كذلك أخطئوا في عدم اعترافهم ﺑ «التجسيد».
وفي الكتاب مناقشة مستفيضة عن الملائكة والشياطين، لها صلة بأتباع الأفلاطونية الجديدة؛ فالملائكة قد يتصفون بالخير وقد يتصفون بالشر، أما الشياطين فأشرار دائمًا؛ فمعرفة الأشياء الدنيوية بالنسبة للملائكة خسَّة (ولو أنهم ملمُّون بها). ويذهب القديس أوغسطين إلى ما ذهب إليه أفلاطون من أن العالم المُحَس أحطُّ منزلةً من العالم الأزلي.
ويبدأ الكتاب الحادي عشر في وصف طبيعة «مدينة الله»؛ فمدينة الله قِوامها جماعة الأخيار، والعلم بالله لا وسيلة له إلا عن طريق المسيح؛ فهنالك أشياء يمكن معرفتها بالعقل (كما هي الحال عند الفلاسفة). أما عن سائر المعرفة الدينية فلا مندوحة لنا في الحصول عليها سوى الكتاب المقدس. ولا يجوز لنا أن نحاول فهم الزمان والمكان قبل خلق العالم؛ فليس ثمة زمان قبل «الخلق»، وليس ثمة مكان حيث لا عالم.
وكل كائن أحاطت به البَركة أزلي، لكن ليس كل ما هو أزلي قد حلَّت به البَركة، مثال ذلك جهنم والشيطان؛ فقد سبق اللهُ إلى معرفة آثام الشياطين قبل اقترافها، لكنه كذلك قد سبق إلى معرفة فائدتهم في إصلاح الكون بصفة عامة، وذلك شبيه بالمقابلة في علم البلاغة.
ولقد أخطأ «أوريجن» في ظنِّه بأن الأرواح قد أُعطيت أجسادًا على سبيل العقاب، ولو كان الأمر كذلك لكان نصيب الأرواح الشريرة أجسادًا سيئة، لكن الشياطين — حتى أسوأهم — لهم أجساد من هواء، وهي خير من أجسادنا.
وعلة خلق العالم في ستة أيام هي أن العدد ستة عدد كامل (أعني أنه يساوي حاصل جميع عوامله).
ولو كان أبوانا الأولان لم يقترفا إثمًا لما لَحِق بهما الموت، لكنهما اقترفا الإثم، فحقَّ على خَلَفهما كله أن يموت؛ فأكْل التفاحة لم يَعُد عليهما بالموت الطبيعي فحسب، بل كان من نتائجه كذلك الموت الأبدي (أي اللعنة).
وأخطأ فورفوريوس في رفضه بأن يكون للقديسين أجساد في الجنة، بل سيكون لهم أجساد خير من جسد آدم قبل سقوطه، وستكون أجسادهم روحانية وإن لم تكن أرواحًا، ولن تكون بذات ثقل، وسيكون للرجال أجسام الذكور، وللنساء أجسام النساء، والذين ماتوا في طفولتهم سيُبعثون في أجسام البالغين الرشد.
وهذا ينتهي بنا إلى مناقشة طويلة دقيقة في الشهوة الجنسية، التي استولت علينا كجزء من عقابنا على خطيئة آدم. وهذه المناقشة غاية في الأهمية؛ لأنها تكشف لنا عن نفسية مَن أخذوا عندئذٍ بمبدأ الزهد؛ ولذا فلا بدَّ لنا من تناولها بالعرض، ولو أن القديس [أوغسطين] يعترف بأن موضوعها يندُّ عن الاحتشام، وفيما يلي نظريته التي تقدَّم بها.
لا بدَّ من الاعتراف بأن الاتصال الجنسي في الزواج لا خطيئة فيه، على شرط أن تكون الغاية المقصودة منه هي النسل، ومع ذلك فحتى في الزواج ترى الرجل الفاضل متمنيًا أن يؤدي العملية الجنسية بغير شهوة، فالناس حتى في حالة الزواج يشعرون بالخجل من العلاقة الجنسية، بدليل رغبتهم في إخفائها؛ وذلك لأن «هذا الفعل الطبيعي المشروع (منذ أبوينا الأولَين) يصاحبه شعور بالخجل من هذا العقاب». ولقد ذهب الكلبيون إلى وجوب أن يتخلى المرء عن شعوره بالخجل، ولم يسمح «ديوجنيس» لنفسه بمثل هذا الشعور أن يتولاه قط، متمنيًا أن يكون شبيهًا بالكلب في كل أموره، ومع ذلك فحتى «ديوجنيس» هذا لم يسعه بعد محاولة واحدة من الناحية العملية سوى أن ينصرف عن هذا التطرف في محو الشعور بالخجل؛ فإن ما يثير في الناس الخجل من شهوتهم هو أن هذه الشهوة لا تخضع للإرادة، وقد كان في وسع آدم وحواء — قبل السقوط — أن يجعلا الصلة الجنسية بينهما بغير شهوة، ولكنهما في الواقع لم يفعلا ذلك. إن أصحاب الحِرف اليدوية حين يزاولون حِرفهم؛ يحركون أيديهم بغير شهوة، وعلى هذا النحو كان في مستطاع آدم — لو كان قد اجتنب شجرة التفاح — أن يؤدي العملية الجنسية خالية من الانفعالات التي تتطلبها الآن، وكان من الممكن للأعضاء الجنسية — كسائر أعضاء الجسد — أن تَصدَع بأمر الإرادة؛ فضرورة الشهوة في الاتصال الجنسي هي بمثابة العقاب على خطيئة آدم، ولولا ذلك لأمكن للعملية الجنسية أن تخلو من اللذة. تلك هي نظرية القديس أوغسطين في المسألة الجنسية، بعد حذف بعض التفصيلات الفسيولوجية، التي أصاب المترجم في عدم نقلها عن أصلها اللاتيني الذي يساعد بغموضه على الاحتفاظ بروح الاحتشام عند ذكر هذه الأجزاء.
وواضح من الفقرة السابقة أن ما يميل بالزاهد إلى كراهية الأمور الجنسية هو عدم خضوعها للإرادة، ويقول الزاهدون في هذا الصدد إن الفضيلة تتطلب سيطرة تامة من الإرادة على البدن، لكن مثل هذه السيطرة لا تكفي لإمكان القيام بالعملية الجنسية، وإذن فالعملية الجنسية — فيما يبدو — لا تتسق مع الحياة التي تبلغ من الفضيلة درجة كمالها.
وبعد أن يورد في كتابه فصلًا رائعًا يهاجم به التعذيب كوسيلة من وسائل المحاكمات، يمضي القديس أوغسطين في حديثه متحديًا الأكاديميين المُحدَثين الذين ذهبوا إلى وجوب الشك في كل شيء: «إن كنيسة المسيح تمقت هذه الشكوك على أنها ضرب من الجنون؛ لأن لديها العلم اليقين الذي لا يأتيه الشك أبدًا فيما تعرفه من أمور»؛ فينبغي أن نؤمن بصدق الكتاب المقدس. ويمضي في حديثه قائلًا إنه يستحيل أن تقوم فضيلة حقة بغير ديانة حقة؛ فالفضيلة الوثنية «ينتهكها الشياطين القذرون الوقحون بنفوذهم»، فما هو فضيلة لدى المسيحي يكون رذيلة عند الوثني: «فهاتيك الأشياء التي تعدُّها (الروح) من الفضائل — وبذلك تنصرف إليها بكل قوتها — إذا لم ترجع في أصلها إلى الله فهي بغير شك إلى الرذائل أقرب منها إلى الفضائل»؛ فأولئك الذين لا ينتمون إلى هذه الجماعة (الكنيسة) سيعانون شقاء أبديًّا: «إنه في معاركنا التي تنشب بيننا على هذه الأرض، إما أن ينتصر الألم، ثم يمحو الموت إحساسنا بذلك الألم، وإما أن تنتصر غرائزنا الطبيعية فيُمحى الألم بانتصارها. أما هناك، فالألم سيظل قائمًا إلى الأبد، وستعاني غرائزنا الطبيعية عذابًا إلى الأبد، كلاهما يبقى إلى الأبد قائمًا لكي يظل العقاب المحكوم به موصولًا غير مقطوع.»
وهنالك بعثان؛ بعث للروح عند الموت، وبعث للجسد في يوم الحساب. وبعد مناقشته لطائفة مختلفة من المشكلات الخاصة ﺑ «العهد الألفي السعيد» (أي: النعيم الموعود)، وبما يترتب على ذلك من أفعال يأجوج ومأجوج، ينتقل إلى نص وارد في الجزء الثاني من «التسالونيكيين» (ج٢، ١١-١٢)، وهو: «إن الله سيُغشِّي على قلوبهم بوهمٍ قوي، فيصدِّقون الكذب، وتحقُّ عليهم جميعًا اللعنة، أولئك الذين لم يؤمنوا بالحق، بل وجدوا متعتهم في الفجور»؛ فقد يعتقد بعض الناس أن من الإجحاف أن يبدأ الله القادر على كل شيء بخداعهم، ثم يعاقبهم على انخداعهم، لكن القديس أوغسطين لا يرى في ذلك شيئًا من تناقض، «فما دامت قد حقَّت عليهم اللعنة فهم على ضلال، وما داموا على ضلال فقد حقَّت عليهم اللعنة، وضلالهم قضاء خفيٌّ من الله عليهم، وهو خفي بما يقتضيه العدل، وعادل عدلًا خفيًّا؛ هذا هو حكم الله الذي ما انفكَّ يحكم منذ بدأ العالم.» ويعتقد القديس أوغسطين أن الله قد قسم الإنسان قسمين؛ مَن رضي عنهم، ومَن غضب عليهم، لا على أساس حسناتهم أو سيئاتهم، بل قسمهم هكذا جزافًا؛ فالكل على السواء يستحقون اللعنة، وعلى ذلك فليس لدى المغضوب عليهم ما يبرر تذمرهم مما أصابهم. ويتضح من الفقرة السالفة المقتبَسة من ا القديس بولس أن الأشرار أشرار لأنهم من المغضوب عليهم، وليسوا هم بالمغضوب عليهم لأنهم أشرار.
وبعد بعث الجسد، ستحترق أجساد الذين حقَّت عليهم اللعنة احتراقًا أبديًّا دون أن تفنى، وليس في ذلك من عجب، فهو يحدث للسَّمندر (حيوان خرافي) كما يحدث لجيل إطنة. وعلى الرغم من أن الشياطين ليس لها أجساد مادية، إلا أنه من الممكن إحراقها بنار مادية. وليس عذاب الجحيم مما يطهِّر الأدران، ولن تخفَّ حدَّته بشفاعات الأولياء، وقد أخطأ «أوريجن» في ظنه بأن الجحيم ليست أبدية، وستحقُّ اللعنة على الزنادقة وعلى الكاثوليك الآثمين.
وينتهي الكتاب بوصف رؤية القديس لله في السماء، ورؤيته للنعيم الأبدي في «مدينة الله».
قد لا تتضح أهمية هذا الكتاب من الخلاصة التي أسلفناها؛ فالجانب ذو الأثر من جوانب الكتاب هو فصلُه «الكنيسةَ» عن «الدولة»، بما يترتب على ذلك في وضوح من أن «الدولة» لا تستطيع أن تكون جزءًا من «مدينة الله» إلا إذا خضعت للكنيسة في كل الأمور الدينية. ولقد لبث هذا المبدأ هو مبدأ الكنيسة منذ ذلك التاريخ؛ فالقديس أوغسطين هو الذي أمدَّ «الكنيسة الغربية» خلال العصور الوسطى كلها، وإبَّان ازدياد السلطة البابوية شيئًا فشيئًا، وفي كل ما نشب بين البابا والإمبراطور من صراع، أقول إن القديس أوغسطين هو الذي أمدَّ الكنيسة الغربية في كل ذلك بالأساس النظري الذي تقيم عليه سياستها. لقد كانت «الدولة اليهودية» إبان العصر الأسطوري الذي ساده «القضاة»، وإبان الفترة التاريخية التي أعقبت العودة من الأَسر البابلي؛ دولة دينية، وكان على «الدولة المسيحية» أن تحذو حذوها في هذا الصدد. ولقد تمكنت الكنيسة إلى حد كبير من تحقيق المثل الأعلى المتمثل في «مدينة الله» بفضل ضعف الأباطرة، وضعف الكثرة الغالبة من الملوك الغربيين في العصور الوسطى. أما في الشرق — حيث كان الإمبراطور قويًّا — فلم يتم هذا التطور أبدًا، وظلت الكنيسة أكثر خضوعًا للدولة بكثير عما آلت إليه في الغرب.
وقليل مما جاء في كتاب «مدينة الله» مبتكَر أصيل؛ ففلسفة الحشر والنشر فيه مستمَدة من أصول يهودية، جاء معظمها إلى المسيحية عن طريق «كِتاب الوحي». ومبدأ الجبرية والاختيار مستمَد من القديس بولس، ولو أن القديس أوغسطين قد طوَّره تطورًا أخصب امتلاءً، وأكثر منطقًا مما نجده عليه في «الرسائل». والتفرقة بين التاريخ المقدس والتاريخ الملوَّث مبسوطة بسطًا واضحًا في «العهد القديم»، وكل ما عمله القديس أوغسطين هو المطابقة بين عناصرها، وعَقْد الصلة بينهما وبين تاريخ عصره، على صورة تجعل المسيحيين يتقبلون سقوط الإمبراطورية الغربية، وما أعقب ذلك من فترة سادها الفوضى، دون أن ينال ذلك من عقيدتهم الدينية فيرجَّها في نفوسهم رجًّا عنيفًا بغير موجب.
فالألفاظ التي إلى اليمين تعبر عن المضمون الشعوري الذي تحويه الألفاظ التي إلى اليسار، وهذا المضمون الشعوري الذي يَأْلفه الذين نشئوا في جوٍّ مسيحي أو يهودي هو الذي يقرِّب فلسفة ماركس في الحشر والنشر إلى الأذهان فيصدقها الناس، وتستطيع أن تُعِد قاموسًا شبيهًا بهذا للنازيين، غير أن تصوراتهم أوضح من تصورات ماركس ميلًا إلى «العهد القديم» الخالص، وبعدًا عن المسيحية، ومسيحهم أقرب شبهًا بالمقَّابيين منه بالمسيح.
ثالثًا: مشكلة بلاجيوس
ينصرف أوغسطين في جزء كبير من أقوى جوانب لاهوته أثرًا؛ إلى مناهضة زندقة بلاجيوس. وقد كان «بلاجيوس» هذا رجلًا من «ويلز»، واسمه الحقيقي «مورجان»، ومعناها «رجل البحر»، وهو نفسه معنى لفظة «بلاجيوس» في اليونانية. وكان رجلًا من رجال الكنيسة المثقفين المحبَّبين إلى النفوس، ولم يذهب في تعصبه الديني إلى ما ذهب إليه كثيرون من معاصريه؛ فقد آمن بالإرادة الحرة، وشك في مبدأ الخطيئة الأولى، وذهب إلى أن الناس حين يتصرفون بمقتضى الفضيلة، فإنما يفعلون ذلك بفضل ما يبذلونه من جهد أخلاقي، فإذا جاء فعلهم صوابًا، وكانوا من الأرثوذكس؛ ذهبوا إلى الجنة جزاء ما أتَوا من فضيلة.
فعلى الرغم من أن هذه الآراء قد تبدو الآن بغير جديد يستوقف النظر، إلا أنها قد سببت في ذلك العصر اضطرابًا شديدًا، وأُعلنَ أنها زندقة، وكان ذلك يرجع في أغلبه إلى جهود بذلها القديس أوغسطين، ومع ذلك فقد صادفتْ نجاحًا ملحوظًا، وإن يكن نجاحًا إلى حين؛ فاضطُر أوغسطين إلى الكتابة إلى رئيس الكنيسة في أورشليم، يحذِّره من هذا الكنسي الزنديق الماكر، الذي حمل عددًا كبيرًا من رجال اللاهوت في الشرق على اعتناق آرائه، وحتى بعد اتهامه، قام قوم آخرون يُطلَق عليهم «أشباه البلاجيين» يدافعون عن مبادئه بعد وضعها في صورة مخففَّة، ولم تستطع تعاليم القديس أوغسطين الأشد من معارِضتها صفاءً أن تظفر بنصر كامل — خصوصًا في فرنسا — إلا بعد زمان طويل؛ ففي فرنسا تم اتهام «أشباه البلاجيين» الزنادقة نهائيًّا في «مجمع أورنج» سنة ٥٢٩م.
ذهب القديس أوغسطين إلى أن آدم — قبل «السقوط» — كانت له إرادة حرة، وكان في مستطاعه أن يمتنع عن اقتراف خطيئته، لكنه لما أكل التفاحة هو وحواء دخلهما الفساد، الذي انتقل منهما إلى خَلَفهما كله، ولم يَعُد أحد من هذا الخَلَف يستطيع بقوته الخاصة أن يمتنع عن الخطيئة، فلا سبيل أمام الناس إلى حياة الفضيلة إلا برحمة من الله، ولما كنا جميعًا قد ورثنا خطيئة آدم حقَّت علينا اللعنة الأبدية جميعًا. وكل من يموت بغير تعميد — حتى الرُّضَّع من الأطفال — مصيره جهنم حيث يَصلَى عذابًا لا ينتهي، وليس من حقنا أن نتذمر من هذا الجزاء؛ لأننا جميعًا أشرار (وقد ذكر القديس في كتاب «الاعترافات» الجرائم التي اقترفها وهو في المهد)، لكن الله برحمته — التي يرحم بها من يشاء — يختار فريقًا ممن نالهم التعميد، فيذهب به إلى الجنة، وهؤلاء هم المرضيُّ عنهم، لكنهم لا يذهبون إلى الجنة لأنهم خيِّرون؛ فنحن كلنا فاجرون فجورًا تامًّا، إلا من شاء الله برحمته أن يرفع عنه فجوره، وهذه الرحمة الإلهية قاصرة على من رضي عنهم، ولا تستطيع أن تجد علة لخلاص فريق ولعنة فريق آخر، فذلك محض اختيار من الله لا تدفعه إليه الدوافع؛ فاللعنة برهان على عدالة الله، والخلاص برهان على رحمته، وكلاهما معًا يكشفان عما يتصف به الله من خير.
إن الحُجج التي تؤيد هذا المبدأ القاسي — ذلك المبدأ الذي أحياه «كلفن»، وأقلعت عنه الكنيسة الكاثوليكية منذ ذلك الحين — موجودة في كتابات القديس بولس، خصوصًا في «رسالته» إلى الرومان، وهي حُجج يتناولها أوغسطين كما يتناول القانونَ رجلُ القانون؛ فشرْحُه لها يدل على قدرته، حتى لقد أخرج من النصوص كل ما يمكن استخلاصه منها من المعاني، ولا يسعك في النهاية إلا أن تقول عن بعض النصوص — بعد إفرادها وعزلها عن بقية النصوص — إنها تحمل من المعنى ما يزعم لها أوغسطين، لا أن تقول إن القديس بولس قد ذهب إلى هذا المبدأ أو ذاك مما قد استخلصه أوغسطين من النصوص؛ فقد يبدو لنا غريبًا ألا يقع القول بلعنة الأطفال غير المعمَّدين موقعًا أليمًا في النفوس، وأنه على العكس من ذلك يُتخَذ دليلًا على أن الله خَيِّر، غير أن اعتقاده في خطيئة الإنسان قد ملأ شعاب نفسه، حتى لقد آمن حقًّا بأن الأطفال الحديثي الولادة أعضاء من جسم الشيطان. وتستطيع أن تردَّ شطرًا كبيرًا من الجوانب التي هي أقسى جوانب الكنيسة في العصور الوسطى؛ إلى إحساس أوغسطين، هذا الإحساس المكتئب بما يعمُّ الكون من إثم.
ولا يصطدم أوغسطين اصطدامًا حقيقيًّا إلا بمشكلة عقلية واحدة، وليست هذه المشكلة هي العجب في حسرة من أن يُخلق الإنسان إطلاقًا، ما دامت الأغلبية العظمى من البشر قد كُتب عليها أن تَصلَى عذابًا سرمديًّا؛ إنما مشكلته هي هذه: إذا كانت الخطيئة الأولى قد ورثها الناس عن آدم — كما يذهب القديس بولس في تعاليمه — إذن فلا بد أن تكون الروح — مثل الجسد — وليدة الأبوين؛ ذلك لأن الخطيئة خطيئة الروح لا الجسد، فهو يرى في هذا الرأي مشكلات عسيرة، لكنه يقول إنه ما دام الكتاب المقدس قد سكت عنها فيستحيل أن يكون الوصول إلى رأي صحيح فيها مما يهم في موضوع الخلاص، وعلى ذلك فهو يترك المشكلة بغير حل.
إنه لأمر عجيب أن يُعنَى آخر مَن ظهر من رجال ذوي قدرة عقلية قبل العصور المظلمة، لا بإنقاذ المدنيَّة أو طرد البرابرة أو إصلاح مفاسد الإدارة الحكومية؛ بل يُعنَون بالتبشير بحسنات عدم زواج المرأة، وبما ينزل على الأطفال غير المعمَّدين من لعنة، فإذا علمنا أن هذه هي الشواغل الرئيسية التي أسلمَتْها الكنيسة إلى البرابرة الذين اعتنقوا المسيحية؛ لم يَعُد أمامنا ما يبرر العجب من أن العصر الذي تلا ذلك قد بزَّ معظم العصور التي تقع في المراحل التاريخية وقوعًا صريحًا، في مدى ما ساده من قسوة وخرافة.