القرنان الخامس والسادس
شهد القرن الخامس غزوة البرابرة، وسقوط الإمبراطورية الغربية، فبعد موت أوغسطين سنة ٤٢٠م لم يكن ثمة فلسفة إلا قليلًا؛ إذ إن ذلك القرن الخامس قد سادته أفعال التدمير، ومع ذلك، فهي نفسها الأفعال التي رسمت — إلى حد كبير — الخطوط التي كانت أوروبا لتسير عليها فيما بعد وهي في طريقها إلى التطور؛ فهو القرن الذي غزا فيه الإنجليز بريطانيا، ليجعلوها بهذا الغزو «إنجلترا» [أي أرض الإنجليز]، وهو كذلك القرن الذي حولت فيه غزوة «الفرنكيين» بلاد الغال حتى أصبحت «فرنسا»، وهو القرن الذي غزا فيه الوندال إسبانيا، فخلعوا اسمهم على «الأندلس». وفي أواسط هذا القرن حوَّل القديس باتريك أهل أيرلندا إلى المسيحية، وحدث في أرجاء العالم الغربي كله أن قامت ممالك جرمانية جافية، بعد زوال الحكومة المركزية التي كانت تسود الإمبراطورية، فلم يَعُد هناك إمبراطور، وأُهملت الطرق فتقطعت، وأسدلت الحروبُ ستارًا على التجارة التي كانت تقوم على نطاق واسع، وعادت الحياة من جديد إلى الانحصار في حدود إقليمية من الوجهة السياسية والوجهة الاقتصادية معًا، ولم يبقَ للسلطة المركزية وجود إلا في «الكنيسة»، وحتى هناك، كان الاحتفاظ بالسلطة المركزية أمرًا عسيرًا.
وكان القوط أهم القبائل الجرمانية التي غزت الإمبراطورية في القرن الخامس، فقد كان «الهون» دفعوهم إلى الغرب بهجمات شنُّوها عليهم من الشرق، وحاولوا بادئ ذي بدء أن يفتحوا الإمبراطورية الشرقية، لكنهم مُنوا بالهزيمة، فأداروا وجوههم نحو إيطاليا، وكانوا منذ عهد ديوقلتيان يُستخدمون للرومان جنودًا مرتزقة، فعلَّمهم ذلك من فنون الحرب أكثر مما كان يُتاح للبرابرة أن يتعلموه بغير هذا السبيل. وحدث سنة ٤١٠م أن اجتاح «ألارِك» ملك القوط مدينة روما، لكن لقي حتفه في السنة نفسها. وأسدل «أودوفاكر» — ملك الأوستروقوط — ستارَ الختام على الإمبراطورية الغربية عام ٤٧٦م، وظل يحكم حتى سنة ٤٩٣م، وعندئذٍ اغتاله غادر من أبناء الأوستروقوط أنفسهم، وهو «ثيودورك» الذي كان ملكًا على إيطاليا حتى سنة ٥٢٦م، وسأعود إلى الحديث عنه بعد قليل، فله خطره في التاريخ وفي الأساطير سواء بسواء؛ فهو الذي نراه مذكورًا في «أغنية الظلام» [في الأدب الألماني، معروفة باسم نيبِلَنْجِنْليد] باسم «ديتريش فون برن» (و«برن» هي هنا فيرونا).
وفي الوقت نفسه ثبَّت الوندال أقدامهم في أفريقيا، والفيسيقوطيون في جنوبي فرنسا، والفرنكيون في شمالها.
وفي غضون الغزوة الجرمانية جاءت غارات «الهون» بزعامة «أتلا»، وقد كان «الهون» من سلالة منغولية، ومع ذلك كثيرًا ما ارتبطوا في الأذهان بالقوط، على أنهم — رغم ذلك — حين جاءت الساعة الفاصلة في غزوهم للغال سنة ٤٥١م؛ اعتركوا مع القوط، واستطاع القوط والرومان معًا أن يدحروهم في ذلك العام عند «شالون»، وعندئذٍ وجَّه «أتلا» هجماته إلى إيطاليا، وفكر في السير إلى روما، لولا أن البابا «ليو» ثبَّط من عزيمته، مذكِّرًا إياه أن «أَلارِك» قد مات بعد اجتياحه لروما، بَيد أن امتناعه عن غزو روما لم يمدَّ في أجله؛ إذ وافته منيَّته في العام التالي، وانهارت قوة «الهون» بعد موته.
ونتيجةً لهذا الاجتماع وُصِم نسطوريوس بالزندقة، فلم يَنقُض ما حُكم عليه به، لكنه أصبح مؤسسًا للمذهب النسطوري، الذي كان له أتباع كثيرون في سوريا وفي أرجاء الشرق جميعًا. وبعد أن انقضَتْ على ذلك عدة قرون باتت النسطورية من القوة في الصين بحيث خُيل للناس أن الفرصة قد سنحت لها لتكون هي الديانة الثابتة الدعائم. ولما ذهب المبشرون المسيحيون من أهل إسبانيا والبرتغال، إلى الهند في القرن السادس عشر، وجدوا نسطوريين هناك. وترتب على اضطهاد الحكومة الكاثوليكية في القسطنطينية للنسطوريين؛ تنافرٌ ساعد المسلمين على غزوهم لسوريا.
وكان للنسطوريين لغة استطاعت بفصاحتها أن تغري كثيرين بالانضمام إليهم، لكن الديدان قد أتت على تلك اللغة فأكلتها، أو على الأقل هذا ما يؤكدون لنا صِدقه.
وعرفتْ «أفسوس» كيف تُحِل «العذراء» محلَّ «أرتميس»، لكنها رغم ذلك ما فتئت تشتعل بالحماسة لإلهتها «أرتميس» كما كانت حالها في عهد القديس بولس سواء بسواء. وقيل إن العذراء دُفنت هناك. وبعد موت «القديس كيرلس» حاول رؤساء الطائفة الدينية في أفسوس أن يدفعوا بنصرهم إلى آخر شوطه، فتردَّوا في زندقة من نوع يناقض زندقة «نسطوريوس»، وهي ما يُطلَق عليه اسم «الزندقة القائلة بالطبيعة الواحدة»، ومؤدَّى ما تذهب إليه هو أن المسيح ذو طبيعة واحدة فقط. ولو قد كان القديس كيرلس لا يزال عندئذٍ حيًّا لأيَّد هذا الرأي تأييدًا لا شك فيه، وأصبح بذلك زنديقًا. وأيد الإمبراطور ما ذهب إليه مجمع الرؤساء الدينيين في ذلك، لكن البابا أنكره، وأخيرًا استطاع البابا ليو — وهو نفس البابا الذي صرف «أتلا» عن غزو روما — استطاع في العام الذي وقعت فيه معركة شالون أن يجمع مجلسًا مسكونيًّا في شلسيدون سنة ٤٥١م، وقرر ذلك المجلس رفض ما أخذ به «موحدو طبيعة المسيح»، ثم فَصَل القول في صحة المبدأ الأرثوذكسي في «التجسيد»؛ فقد كان مجلس أفسوس قرر أن في المسيح «شخصًا» واحدًا، وجاء مجلس شلسيدون وقرر أنه (أي المسيح) كائن في «طبيعتين»؛ إحداهما إنسانية والأخرى إلهية، وكان للبابا كل الأثر في الانتهاء إلى هذا القرار.
ورفض «موحدو طبيعة المسيح» — كما فعل النسطوريون — أن يخضعوا لما تقرر في شأنهم. وكادت مصر عن بكرة أبيها أن تصطنع زندقة أولئك «الموحدين»، ثم انتشرت تلك الزندقة صاعدة مع النيل حتى بلغت بلاد الحبشة. وإنا لنذكر ها هنا أن موسوليني قد جعل زندقة أهل الحبشة من بين الأسباب التي تبرر فتحه لبلادهم. وأما زندقة مصر فقد فعلت ما فعلته الزندقة المضادة لها في سوريا، وأعني بذلك أنها هيَّأت سبيل الفتح أمام العرب.
وظهر خلال القرن السادس أربعة رجال من ذوي الأهمية الكبرى في تاريخ الثقافة، وهم: «بيثيوس» و«جستنيان» و«بندكت» و«جريجوري العظيم»، وسأجعل من الحديث عنهم موضوع البحث الرئيسي في بقية هذا الفصل وفي الفصل الذي يليه.
لم يكن غزو القوط لإيطاليا بمثابة الختام للمدنية الرومانية؛ فقد كانت الحكومة المدنية في إيطاليا رومانية خالصة في عهد «ثيودورك» ملك إيطاليا والقوط، ونعمت إيطاليا بالسلام والتسامح الديني (حتى النهاية تقريبًا). وكان الملك شابًّا مليئًا بالحياة، فعيَّن القناصل، وحافظ على القانون الروماني، واحتفظ بمجلس الشيوخ. ولما قصد إلى روما، كانت أولى زياراته زيارة إلى مجلس الشيوخ.
وعلى الرغم من أن «ثيودورك» كان آريًّا، فقد لبث على صلات الود مع الكنيسة حتى أواخر سِنيه. ثم حدث سنة ٥٢٣م أن وجَّه الإمبراطور «يوستين» التُّهم إلى الآرية، فأثار ذلك عوامل الغيظ في نفس «ثيودورك»، وكان ثمة ما يبرر خوفه؛ لأن إيطاليا كانت كاثوليكية، وكانت قمينة أن تندفع بالتعاطف الديني إلى الوقوف إلى جانب الإمبراطور. واعتَقد — صوابًا أو خطأ — أن قد كان هنالك مؤامرة يشترك فيها رجال من حكومته، فأدَّى به ذلك إلى أن يأمر بالسجن ثم بالإعدام على وزيره عضو الشيوخ «بيثيوس» الذي كتب كتابه «عزاء من الفلسفة» وهو سجين.
و«بيثيوس» شخصية فريدة، قرأ له الناس خلال العصور الوسطى كلها، وأُعجبوا به، وما فتئوا يعدُّونه مسيحيًّا متحمسًا لعقيدته، ويعاملونه كأنما هو يوشك أن يكون في اعتبارهم واحدًا من «الآباء»، ومع ذلك فكتابه «عزاء من الفلسفة» الذي كتبه سنة ٥٢٤م وهو في سجنه يرقب الإعدام؛ أفلاطونيٌّ خالص، نعم إنه لا يقدم برهانًا على أنه لم يكن مسيحي العقيدة، إلا أنه يبيِّن أن الفلسفة الوثنية كانت تتملَّكه بقبضة أقوى جدًّا مما يتملكه به اللاهوت المسيحي. وبعض المؤلفات الدينية — وخصوصًا كتاب في «الثالوث» — يُنسب إليه، لكن كثيرين من ذوي الكلمة العلمية المسموعة يرون أن النسبة باطلة، ومع ذلك فالأرجح أن هذه المؤلفات المنحولة له هي التي جعلت العصور الوسطى تنظر إليه باعتباره مسيحيًّا متأصِّل العقيدة، وبذلك أُتيح لها أن تتشرَّب منه كثيرًا من النزعة الأفلاطونية، ولولا ذلك لظلَّت تنظر إلى تلك الأفلاطونية نظرة مشوبة بالارتياب.
والكتاب [عزاء من الفلسفة] يتناوبه الشِّعر والنثر؛ ﻓ «بيثيوس» حين يعبر عن نفسه يُطلِق حديثه نثرًا، ثم يجعل «الفلسفة» ترد في كلام منظوم. وثمة قدْر من الشبه بينه وبين دانتي في هذا، وليس من شك في أن دانتي قد تأثر به في «الحياة الجديدة».
ونغمة الكتاب أقرب شبهًا بأفلاطون منها بأفلوطين. وليس فيه أثر من خرافة أو من تفكير يعبر عن نظرة مريضة، مما كان يسود ذلك العصر، كلا ولا تجد فيه شيئًا من وسواس الخطيئة، ولا إسرافًا في استهداف ما لا يمكن بلوغه، بل ترى فيه هدوءًا فلسفيًّا بلغ الكمال. ولو قد كُتب هذا الكتاب في عهد ازدهار لكاتبه لكان الأرجح أن يقول عنه الناس إنه دليل على غرور صاحبه بنفسه، لكنه كُتب في السجن، حين كان صاحبه يرتقب الموت، فهو إذن جدير بمثل الإعجاب الذي نُبديه إزاء سقراط كما صوَّره أفلاطون في ساعاته الأخيرة.
ظلَّ «بيثيوس» حتى النهاية صديقًا ﻟ «ثيودورك»، وكان أبوه قنصلًا، وكذلك كان هو وكان ابناه، وكان صهره (والد زوجته) «سيماخوس» (وربما كان حفيدًا ﻟ «سيماخوس» الذي كان قد نشب الخلاف الجدلي بينه وبين أمبروز على تمثال «النصر») رجلًا ذا مكانة عالية في بلاط الملك القوطي، وقد طلب «ثيودورك» من «بيثيوس» أن يصلح العملة، وأن يثير الدهشة في نفوس الملوك البرابرة الذين لم يبلغوا مبلغه من التحضر، بآلات مثل الساعة الشمسية والساعة المائية. ويجوز أن تحرُّره من الخرافات لم يكن غريبًا بالنسبة للعائلات الرومانية الأرستقراطية غرابته في غيرها، لكن الجمع بين هذه الصفة وبين العلم الواسع والتحمس للصالح العام كان نسيج وحده في عصره؛ فلستُ أرى عالمًا واحدًا في أوروبا، في القرنين السابقين لعصره، وفي القرون العشرة التالية له، قد كان له مثل تحرره من الخرافة والتعصب. وليست حسناته كلها سلبية على هذا النحو، بل هو يمتاز كذلك في نظرته للأمور بالسموق والحيدة والسمو، ولو عاش في أي عصر لاستلفت الأنظار بامتيازه، وهو موضع دهشة لا تنقضي بالنسبة للعصر الذي عاش فيه.
ومات «ثيودورك» بعد تنفيذ الإعدام في «بيثيوس» بعامين، وأصبح جستنيان في العام التالي إمبراطورًا، ولبث يحكم حتى سنة ٥٦٥م، وهي فترة طويلة استطاع خلالها أن يُحدِث كثيرًا من الضرر، وقليلًا من النفع. ولا شك أنه مشهور قبل كل شيء ﺑ «الصفوة»، لكنني لن أغامر بالحديث في هذا الموضوع الذي يخص رجال القانون. وكان يتصف بعمق تقواه عمقًا أدى به — بعد تولِّيه العرش بعامين — إلى إغلاق مدارس الفلسفة في أثينا، التي كانت الوثنية لم تزل قائمة بها، وهنا ارتحل الفلاسفة المطرودون من مدارسهم إلى بلاد فارس، حيث وجدوا عند ملكها ترحيبًا كريمًا، لكنهم صُدموا صدمة عنيفة — أعنف في رأي «جِبُنْ» مما كان يليق بفلاسفة مثلهم — لما شهدوه بين الفرس من تعدد الزوجات ومضاجعة المحارم، فعادوا إلى وطنهم، وامَّحى ذِكرهم في ظلام النسيان. وبعد هذه الفعلة بثلاث سنين (٥٣٢م) بدأ جستنيان فعلة أخرى، أحق من سابقتها بالثناء، وأعني بها تشييده لكنيسة القديسة صوفيا، ولم أشهد بعينيَّ هذا البناء، لكني رأيت ما عاصره من فسيفساء جميلة في «رافنا»، بما في ذلك صور لجستنيان وزوجته الإمبراطورة «ثيودورا»، وكلاهما معروف بالتقوى، غير أن «ثيودورا» كانت سيدة تأخذ فضائلها بشيء من اليسر، وقد صادفها في ملعب للحيوان فتزوجها. بل ما هو شر من ذلك في أمرها، هو أنها كانت أميَلَ إلى أن تكون «موحدة لطبيعة المسيح».
وحسبنا ذلك من ذِكر مساوئه، فيسعدني أن أقول عن الإمبراطور نفسه إنه كان ذا عقيدة سليمة لا تشوبها شائبة، اللهم إلا في موضوع «الفصول الثلاثة»، وهو موضوع قام فيه الجدال واحتدم؛ لقد كان «مجلس شلسيدون» قرر عن ثلاثة «آباء» من الأرثوذكس أنهم متهمون باعتناق النسطورية، فقبلت «ثيودورا» — ومعها كثيرون غيرها — كل قرارات المجلس إلا هذا القرار، على حين أيدت «الكنيسة الغربية» كل قرار أصدره «المجلس»، فما وسع الإمبراطورة إزاء ذلك إلا أن تضطهد البابا. وكان لها في نفس جستنيان مكانة عالية، حتى إنها بعد موتها سنة ٥٤٨م أصبحت له ما كان زوجُ الملكة فكتوريا لها بعد موته، ثم انتهى به الأمر إلى الانحدار في مهاوي الزندقة، وفي ذلك يقول مؤرخ معاصر له (إفاجريوس): «إنه بعد ختام حياته أخذ يتقاضى أجر ما فعل من سوء، وبعد أن فرغ من ذلك ذهب يلتمس العدالة التي كان حقيقًا بها، لدي منصة القضاء في جهنم.»
وطمع جستنيان أن يعود إلى فتح كل ما كان يمكن فتحه من أراضي الإمبراطورية الغربية؛ فغزا إيطاليا سنة ٥٣٥م، وظفر بنجاح سريع ضد القوط أول الأمر؛ فقد رحب به السكان المعتنقون للكاثوليكية، وجاء ممثلًا لروما ضد البرابرة، لكن القوط جمعوا شملهم، وامتدت الحرب ثمانية عشر عامًا، عانت خلالها روما — بل إيطاليا بصفة عامة — من العذاب ما لم تشهد مثيله في غزوة البرابرة لها.
لقد وقعت روما في أيدي أعدائها خمس مرات؛ ثلاث مرات للبيزنطيين، ومرتين للقوط، وبعدئذٍ تقلصت إلى مدينة صغيرة. وحدث بعد ذلك بعينه في أفريقيا، التي تستطيع أن تقول عنها كذلك إنها وقعت في فتوح جستنيان، وصادفت جيوشه فيها أول الأمر ترحيبًا، لكن الناس هناك لم يلبثوا أن تبينوا فساد الإدارة البيزنطية، وفداحة الضرائب البيزنطية، حتى لقد تمنَّى كثيرون في النهاية عودة القوط والوندال، ومهما يكن من أمر، فقد ظلت «الكنيسة» إلى ختام سِنيه مؤيدة للإمبراطور تأييدًا لا يتزعزع، وذلك بسبب تمسكه بالأرثوذكسية، فمن ذلك أنه لم يحاول العودة إلى غزو الغال؛ لبُعدها من جهة، ولاعتناق الفرنج للأرثوذكسية من جهة أخرى.
وبعد موت جستنيان بثلاثة أعوام، أي في سنة ٥٦٨م، غزَتْ إيطاليا قبيلةٌ جرمانية جديدة، كانت غاية في الوحشية، وأعني بها اللمبارديين، الذين لبثت الحرب قائمة بينهم وبين البيزنطيين، تظهر تارة وتختفي تارة، مدى مائتي عام، حتى دنا عهد شارلمان، وأثناء ذلك زالت سيادة البيزنطيين تدريجيًّا عن إيطاليا. وكذلك اضطُر البيزنطيون في الجنوب أن يواجهوا العرب، غير أن روما بقيت تابعة لهم تبعية اسمية، وأخذ البابوات يعاملون الأباطرة الشرقيين في شيء من الإكرام والمجاملة، لكن الأباطرة لم يَعُد لهم في معظم أنحاء إيطاليا — بعد مجيء اللمبارديين — إلا سلطان ضئيل جدًّا، أو قل لم يكن لهم سلطان على الإطلاق، فكانت هذه الفترة هي التي تقوضت فيها أركان المدنية الإيطالية، وتم بناء «البندقية» على أيدي الفارين من وجه اللمبارديين، لا الفارِّين من وجه «أتلا» كما يؤكد الرواة.