مقدمة
بقلم الأستاذ الدكتور
أحمد عزت عبد الكريم
ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمصر الحديثة، بعد أن طغى الاهتمام بالتاريخ السياسي على ما عداه، وخاصة تاريخ الأمراء والحاكمين أو تاريخ الحركات السياسية بصفة عامة، ثم اتجه الاهتمام إلى دراسة البناء الاجتماعي للأمة المصرية في مختلف عصورها وخاصة في عصرها الحديث. ويتضمن هذا البناء الاجتماعي الخلايا التي يتكون منها المجتمع، كالفلاحين والعمال والجنود وغيرهم من الطوائف العاملة.
وهذه الرسالة التي يسعدني أن أقدمها اليوم إلى جمهور القارئين ثمرة لهذا الاتجاه الحديث في كتابة التاريخ المصري.
والحق أني حمدتُ لتلميذي رءوف عباس حامد اختياره «تاريخ الحركة العمالية في مصر» موضوعًا لرسالته، وإن كنت أشفقت عليه في الوقت نفسه. حمدتُ له هذا الاختيار لأنه يتمشَّى مع هذا الاتجاه الحديث الذي أشرت إليه، والذي تحرص مدرسة التاريخ الحديث بجامعة عين شمس على دعمه، ولأن توفيقه في بحثه لا بدَّ مضيفٌ إلى تاريخ البناء الاجتماعي لبلادنا لبنة جديدة، بل ركنًا هامًّا يدعم هذا التاريخ وينير جوانبه.
وأشفقت في الوقت نفسه على تلميذي رءوف لأني أعلم الصعوبات والعقبات التي تكتنف مثل هذه البحوث، وقد أشار صاحب الرسالة إلى نماذجَ منها فلا أعود إليها هنا. وكنت ألقَى رءوفًا من وقت لآخر فيُحدثني عن بعض هذه الصعوبات والعقبات وأساليبه في مواجهتها أو الالتفاف حولها، فأمضي في تشجيعه وأنا أراه متنقلًا بين القاهرة وكفر الزيات والإسكندرية منقبًا باحثًا عن المادة (الحية) الماثلة فيمن بقِي على قيد الحياة من الشخصيات التي عاصرت الحركة العمالية وخاصة في أطوارها الأخيرة، أو عن المادة المسطورة في مختلف المراجع والدوريات والنشرات، حتى استوى له طريق البحث فبدأ بتحديد بدايته ونهايته فجعله يقع بين عام ١٨٩٩م وهو العام الذي شكل فيه العمال المصريون أول نقابة لهم، وعام ١٩٥٢م وهو العام الذي قامت فيه الثورة التي عملت — ولا زالت تعمل — على إعادة البناء الاجتماعي لمصر على أسس جديدة من التخطيط الاشتراكي.
على أني حرصت على أن أوجه الباحث إلى دراسة الحركة العمالية في مصر قبل نشوء التنظيم «النقابي» الحديث لا اعتقادًا مني أن التنظيم «النقابي» الحديث يستمد أصوله من التنظيم «الطائفي» القديم، ولكن لتتضح أمام الباحث — ثم أمام القارئ — أوجه الاختلاف بين التنظيمين، وهو الاختلاف الذي يرجع — قبل كل شيء — إلى التطور الخطير الذي بدأ المجتمع المصري يشهده منذ القرن التاسع عشر نتيجة للمؤثرات الثقافية والاقتصادية والسياسية التي بدأت تفعل فعلها في هذا المجتمع.
إن التنظيم الطائفي القديم — كما نراه حتى القرن التاسع عشر — قد جعل في المجتمع المصري — وخاصة في المدن — خلايا حية قادرة على الحركة والتأثير، واستخدمت هذه الخلايا قدرتها هذه للدفاع عن نفسها وصيانة مصالحها، كما استخدمتها لخدمة المجتمع المصري — بصفة عامة — في وجه الغضب والعدوان. وتاريخ الجبرتي حافل بأنباء الثورات في أحياء القاهرة — وتتزعمها طوائف الحرف — أيام سطوة العثمانيين ثم الفرنسيين في مصر.
وتولى محمد علي، وكانت توليته هو نفسه نتيجة لحركة شعبية لعب الدور الأكبر فيها بعض طوائف الحرف في القاهرة. ولعل هذه الحركة الشعبية بهذا الوصف كانت آخر الحركات الشعبية التي شهدتها القاهرة من هذا القبيل. ذلك لأن الحاكم الجديد مضى يحكم البلاد نحو نصف قرن بأسلوب جديد يقوم على جمع شتات السلطان والقضاء على العصبيات والطوائف وتركيز السلطة في يد الدولة، حتى أصبح المواطنون أمامها (آحادًا) بعد أن تحللت طوائفهم وذابت في سلطان الدولة. وحُرم المجتمع المصري بذلك من قواه الذاتية التي طالما مكنته من الحركة والتأثير لتحل محلها سلطة الحكم المطلق للدولة بأجهزتها وأنظمتها الحديثة في التعليم والتصنيع والفلاحة وغيرها من المرافق.
ولكن المأساة الحقيقية في تاريخنا أن سلطة الحكم المطلق في القرن التاسع عشر كما تمثلت في محمد علي وإسماعيل خاصة — على نجاحها في كثير من مشروعات التنمية الاقتصادية التي قامت بها وفي توضيح جوانب كثيرة من رسالة مصر السياسية في هذا الركن من العالم — عجزت عن تحقيق «العدل» الاجتماعي لجمهور «المواطنين»، وأنكى من هذا أنها عجزت عن الاحتفاظ لنفسها بحقيقة الحكم المطلق — وإن ظلت تحتفظ بمظاهره — واضطرت أن تتنازل عنه للقوى الاستعمارية التي بدأت موجاتها الأولى تصاحب اليقظة المصرية منذ بدأت في القرن التاسع عشر.
وعجز المجتمع المصري بدوره عن مواجهة الحكم المطلق والإمبريالية الغربية؛ إذ فقد خلاياه الحية بفقدان تنظيمه الطائفي القديم ولم يكن قد استكمل بعد تنظيمه (النقابي) الحديث الذي يَعُد الباحث بدايته تشكيل أول نقابة للعمال في مصر عام ١٨٩٩م.
وبذلك ألقت ظروف المجتمع المصري على الحركة العمالية في مصر الحديثة مسئولية مزدوجة: الدفاع عن مصالح العمال أنفسهم، والدفاع عن مصالح الوطن عامة في مواجهة السلطان المطلق والإمبريالية الغربية. ومضت الحركة العمالية تحمل هذا العبء المزدوج ومن هنا جاء ارتباطها بالحركات السياسية والحزبية في مصر حتى قيام ثورة ١٩٥٢م.
وقد تتبع المؤلف فصول هذه الحركة في تكوينها ومشكلاتها ومؤثراتها كما تتبع كفاحها النقابي والسياسي في صبر وأناة يذكران له بالتقدير. ولعل أوضح ما يخرج به قارئ هذه الرسالة هو قدرة الباحث على التحليل والعرض في موضوعية وتجرد، فتحلى بذلك بما ينبغي للمؤرخ من صفات وقدم للمكتبة التاريخية هذا البحث القيم الذي أعتز بتقديمه داعيًا المؤلف إلى مواصلة أبحاثه في تاريخ البناء الاجتماعي في مصر الحديثة.