خاتمة
ظهرت الحركة العمالية المصرية كنتيجة لنشوء الطبقة العاملة المصرية في أحضان المشروعات الصناعية ومشروعات المرافق العامة التي أقامتها رءوس الأموال الأجنبية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ فتمكن العمال من تحقيق وجودهم الطبقي خلال الفترة من عام ١٨٩٩ إلى عام ١٩١٤م، وتلقَّنوا أول دروس العمل النقابي على يد العمال الأجانب، الذين قادوا ووجَّهوا الإضرابات العمالية الأولى في تاريخ الحركة العمالية المصرية، ثم انفصل العمال المصريون عن رفاقهم الأجانب وكوَّنوا نقابات مصرية صميمة سرعان ما اتخذت جانب النضال الوطني تحت زعامة محمد فريد. وكان العمل النقابي في تلك الحقبة مقصورًا على المطالبة بتحسين ظروف العمل وشروطه، والمطالبة بزيادة الأجور.
وبرغم أن فترة ما بين الحربين كانت مهدًا لاتحادات النقابات التي ظهرت في أواخر العقد الثالث من هذا القرن؛ فإن ظهور هذه الاتحادات لم يؤدِ إلى وضع أسس ثابتة للعمل النقابي أو إيجاد أيديولوجية عمالية ذات خط واضح؛ لأن تلك الاتحادات لم تقُم على أساس التطور الطبيعي للحركة، ولكنها قامت بدوافع سياسية وشخصية أكثر منها عمالية، ولذلك كانت أضعف من أن تقاوم سخط السلطات عليها واضطهادها لها، وكانت تنهار بمجرد توجيه أي ضربة إليها، وكان ضررها على الحركة العمالية أكبر من فائدتها. وشهدت تلك الفترة كذلك ازدياد نشاط النقابة واتساع نطاقه، وساعد على ذلك ازدياد رءوس الأموال المستغلة في الإنتاج، فقد ازداد عدد المشروعات الصناعية والتجارية، فزاد عدد العمال وتنوعت حاجاتهم فالتفوا حول نقابات مؤسساتهم.
والواقع أن أغلبية العمال كانت تناصر حزب الوفد المصري، وذلك بسبب الدعاية الواسعة التي بثها الحزب بين صفوف العمال، والطابع الشعبي الذي اتسم به الحزب في أول أمره، وارتباطه في أذهان الشعب بقضية النضال الوطني ضد الاستعمار البريطاني وضد استبداد القصر الملكي، ودفاعه عن حقوق الجماهير السياسية والانتخابية، فقد قاوم الوفد منذ البداية الانتخاب على درجتين، وأصر على أن يكون الانتخاب مباشرًا، وذلك ما كانت تقضي به مصلحته الخاصة وما وافق في نفس الوقت رغبة العمال الذين كانوا يعدون الانتخاب المباشر أحد مطالبهم السياسية الرئيسية حتى تتاح لهم فرصة الاشتراك بطريقة مباشرة في اختيار ممثلي الشعب.
وشجعت الأحزاب السياسية تكوين اتحادات للنقابات الموالية لها أصبحت مجرد أدوات تحركها الأحزاب، ويفسر هذا ظاهرة الاتحادات ذات النشأة المعكوسة، فمن المسلم به أن النقابات هي نواة كل اتحاد عمالي؛ إذ إن الاتحاد العام للنقابات يمثل تجمع المصالح الطبقية للعمال في مواجهة رأس المال، ولكن الاتحادات التي نشأت في فترة ما بين الحربين كانت تقوم أولًا بجهود عدد قليل من النقابيين الذين يتولون تأسيس نقابات جديدة ووضع لوائح لها، وكانت تلك النقابات تتخذ من دور هذه الاتحادات مقار لها، ولذلك لم يقدر لها أن تعمر طويلًا، فسرعان ما كانت تتداعى بمجرد انهيار الاتحاد الذي أسسها.
ولكن السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تميزت بتخلص النقابات — نسبيًّا — من سيطرة الأحزاب والهيئات السياسية على قياداتها، فتولى قيادة النقابات وتوجيهها عناصر عمالية تمرَّست بالعمل النقابي على جميع المستويات، وساهمت العناصر اليسارية في المحاولات التي قامت لتأسيس اتحاد عام لنقابات العمال، فكان نشاطها في منتصف الأربعينيات موجهًا إلى محاولة الحلول مكان الوفد في السيطرة على قيادة الحركة العمالية وتوجيهها، وإيجاد ركيزة يسارية قوية بين النقابات، ولكن هذه المحاولات مُنيت بالفشل لمقاومة السلطات لها ولعدم وجود البيئة الفكرية الملائمة لنمو الأفكار اليسارية بين صفوف العمال.
وقد واكبت الحركة العمالية النضال الوطني، فساهم العمال في الحركة الوطنية بنصيب كبير، فما من شكٍّ أن النقابات التي تأسست في العقد الأول من هذا القرن كانت تدعم نضال الحزب الوطني وتناصره، كما ساهم العمال بنصيب كبير في ثورة ١٩١٩م وكان لهم أثر كبير في نجاحها، ودعموا النضال الشعبي في مواجهة الانقلابات الدستورية — بتحريك من الوفد — فقاوموا حكومات زِيور ومحمد محمود وإسماعيل صدقي. وكان للعمال دور بارز في المظاهرات التي قامت في القاهرة وبعض المدن الكبرى في (نوفمبر عام ١٩٣٥م)، احتجاجًا على تصريح وزير خارجية إنجلترا المتعلق بالدستور، وكان لهم بالغ الأثر في حمل الأحزاب على تحقيق الوحدة الوطنية ونبذ خلافاتها السياسية من أجل إعادة دستور ١٩٢٣م. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية دعم العمالُ النضال الوطني من أجل الاستقلال والجلاء في مواجهة مشروع معاهدة صدقي-بيفن، وأخيرًا ساهم العمال في حركة المقاومة الشعبية التي قامت في منطقة القناة عام ١٩٥١م عقب إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، وترك آلاف العمال خدمة قوات الاحتلال مضحين بما كانوا يحصلون عليه من أجور مرتفعة بالقياس إلى مستوى الأجور حينئذ.
ولم تعِش الحركة العمالية المصرية في معزِل عن الحركة العمالية العالمية والعربية، فاشتركت المنظمات العمالية المصرية في بعض مؤتمرات العمال الدولية على نطاق محدود، ولكنها لم تكن في موقف يسمح لها بالمساهمة في نشاط المنظمات العمالية الدولية، فلم تكن قادرة — في معظم الأحوال — على سداد قيمة اشتراكها في تلك المنظمات، كما لم يقدَّر لها أن تعمر طويلًا بسبب مطاردة السلطات لها. وقامت صلات تعاطف بين الحركة في مصر والمنظمات النقابية في فلسطين وسوريا ولبنان، وأقامت المنظمات النقابية المصرية علاقات خاصة مع الحركة العمالية في السودان.
وكان للنقابات العمالية دور كبير في حركة المطالبة بتشريع العمل، تلك الحركة التي بلغت أقصى مداها في أواخر الثلاثينيات، واستمرت خلال سنوات الحرب الثانية، وأدَّت إلى إصدار تشريعات العمل ومن بينها القانون المنظم للنقابات، وقد بذلت النقابات جهودًا كبيرة في إحباط مساعي بعض أرباب الأعمال لمنع إصدار تلك القوانين، كما أبدى رجالها ملاحظات عند تحضير نصوصها، وكان لذلك أثر يُذكر في صدور تلك التشريعات واشتمالها على أحكام موافقة لصالح العمال، كذلك نجحت في خدمة الأغراض التعاونية التي رمَت إليها بتقديم الإعانات المختلفة لأعضائها، أما في غير هذه الأمور فقد أصاب الشلل النقابات، باستثناء أقلية ضئيلة منها، فأغلبية النقابات لم تحقق شيئًا من الأغراض النقابية الحقة، فلم توجه العناية الكافية إلى الناحية الاجتماعية والثقافية في حياة الأعضاء ولم تستطع أن تحمل أرباب الأعمال على أن يهتموا بأمر العمال، أو يعقدوا معها اتفاقات تنظم ما يهم العمال من شئون المهنة، كما عجزت عن حمل الرأي العام على تحتيم الاعتناء بالعمال عناية كافية، لهذا بقيت قليلة الأثر في حياة أعضائها وحياة الطبقة العاملة على وجه العموم. وبقي مستوى العمال الأدبي والمادي حيث هو أو يكاد، فلم يترتب على وجودها ارتفاع ملحوظ في مستوى الأجور أو نقصان محسوس في ساعات العمل، إلى غير ذلك من الشئون التي تُهم العمال بصفة عامة.
ويرجع ذلك إلى ضعف النقابات المصرية منذ نشأتها، ولهذا الضعف أسباب متعددة، فالنقابات تقوى عادة عندما تقوم الصناعة الحديثة والمشروعات المتركزة، فيزداد عدد العمال وتتنوع حاجاتهم وتقوى شوكتهم، وكانت مصر حديثة العهد بذاك النوع من الصناعات أو المشروعات، كما تقوى النقابات حيثما كانت طبقة العمال نشيطة مثقفة، فالعامل المثقف أكثر إدراكًا لفوائد التضامن، وأكثر إخلاصًا لنقابته من غيره، فإذا علمنا أن الجهل كان يسود أغلبية العمال في مصر، وأن الفقر كان يطحن تلك الطبقة بين شقي رحاه، لأدركنا مدى ما كانت تعانيه النقابات التي لم تكن تستطيع تحصيل اشتراكات كبيرة بصفة منتظمة من أعضائها.
وحين صدر قانون الاعتراف بالنقابات وضعت القيود على الحرية النقابية، وأخضعت النقابات للرقابة الإدارية، وسلط عليها سلاح الحل الإداري، وحرمت من حق إقامة اتحاد عام للنقابات.
وكان لظروف الحياة في مصر في تلك السنوات أثر كبير في إضعاف الحركة العمالية، فقد امتصَّ الكفاح الوطني الجانب الأكبر من جهود العمال ومنظماتهم، ومن هنا ناصَبهم العداء الاستعمار وأعوانه من الطبقات الممتازة التي استحوذت على مصادر الثروة وكانت مع العمال على طرفي نقيض، ولما كانت الحكومات المتعاقبة تمثل مصالح هذه الطبقات، كما تمثل مبادئها وأفكارها، فقد كانت سيفًا مسلطًا على الحركة العمالية، بدد جهود المنظمين النقابيين وحطم كل محاولاتهم لدفع عجلتها إلى الأمام.
وبقدر ما تحملت ظروف الحياة في مصر في تلك السنوات نصيبها في ضعف الحركة العمالية، يتحمل العمال نصيبهم أيضًا، فقد كان الكثيرون منهم تنقصهم روح الطاعة والنظام وحب المهنة والغيرة عليها، والميل إلى تثقيف أنفسهم، وإلى الكفاح في سبيل الطبقة التي ينتمون إليها، بل إن منهم كثيرين كانوا لا يرون في النقابة إلا وسيلة إلى الاستزادة العاجلة من الأجر، والحصول على الإعانات والقروض، فإن لم يجدوا بغيتهم أعرضوا عنها وقطعوا علاقتهم بها.
أما عمال الزراعة فلم يكن لهم دور المشاركة في الحركة العمالية المصرية، لأن ظروف الفلاحين الذين كانوا يرزحون تحت وطأة الإقطاع لم تمكِّنهم من إدراك قيمة النقابات ومحاولة تأسيس نقابات تحمي مصالحهم، ولم تُتَح لهم فرصة المشاركة في الحركة العمالية إلا بعد قيام الثورة فتأسست النقابات الأولى للعمال الزراعيين في عام ١٩٦٥م.