العمال وثورة ١٩١٩م
وما إن وضعت الحرب أوزارها في (نوفمبر عام ١٩١٨م)، حتى تألَّف الوفد
المصري من سبعة من أعضاء الجمعية التشريعية برياسة سعد زغلول بهدف
«السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجد للسعي سبيلًا في استقلال
مصر استقلالًا تامًّا»، وشرع الوفد يجمع التوكيلات التي تخوله حق
التحدث عن الأمة، ثم طلب الوفد من قيادة الجيش الإنجليزي السماح له
بالسفر إلى بريطانيا للمفاوضة بشأن مستقبل مصر، ولكن طلب من الوفد
أن يقدم ما لديه من مقترحات إلى المندوب السامي في مصر على أن تكون
مقصورة على نظام الحكم في حدود الحماية، واحتج الوفد على هذا
القرار لدى معتمدي الدول، فأنذرت السلطة العسكرية الوفد بسوء
العاقبة، ونفذت في مارس تهديدها فألقت القبض على سعد زغلول وثلاثة
من أعضاء الوفد ونقلتهم إلى مالطة في اليوم التالي. وكان انتقال
زعماء الوفد ونفيهم هو الشرارة التي أشعلت نيران الثورة، وهو ما لم
يكن في حسبان أحد.
ولا يدخل في نطاق هذا البحث دراسة الثورة من حيث المقدمات
والنتائج، وإنما نعني هنا بإبراز دوافع اشتراك العمال في الثورة
ودورهم فيها وما أسفر عنه من إعادة النشاط النقابي وظهور اتحادات
النقابات.
لقد نتج عن الحرب العالمية الأولى أمران هامان بالنسبة للطبقة
العاملة، فقد زاد عددها نتيجة للنشاط الصناعي الذي تطلبته الحرب،
ونتيجة — أيضًا — للعمل في السلطة العسكرية. ففي إحصاء عام ١٩٠٧م
كان عدد المشتغلين بالصناعة يبلغ ٣٥٦٤٢٥ وذلك بالإضافة إلى ١٠١٠٢٦
كانوا يعملون في النقل بمجموع قدره ٤٥٧٤٥١ عاملًا. وقد ارتفع هذا
الرقم في عام ١٩١٧م إلى ٤٨٩٢٩٦ بخلاف عمال النقل (السكك الحديدية
وغيرها) الذين بلغ عددهم ١٥٠٦٣٣ عاملًا، فيكون المجموع ٦٣٩٩٢٩
عاملًا. أما الأمر الثاني فهو انتكاس الحركة النقابية بدلًا من
نموها بنمو الطبقة العاملة، بسبب الأحكام العرفية مما أدى إلى
زيادة تعرض العمال للظلم والاستغلال حتى أصبحت ساعات العمل تصل إلى
اثنتي عشرة ساعة على وجه العموم دون أن يستطيعوا إبداء أي نوع من المقاومة.
٤ فإذا أخذنا في الاعتبار أن الرخاء النسبي الذي جلبته
الحرب لم يستفد منه إلا طبقات التجار وملاك الأراضي الزراعية، أما
العمال فلم تزد دخولهم برغم ارتفاع تكاليف المعيشة التي ربت في بعض
الأحيان على ١٠٠٪ مما كانت عليه قبل الحرب
٥ ومن ثَم كان اشتراك العمال في الثورة ضرورة فرضتها
ظروفهم وأوضاعهم.
اشترك العمال في الثورة منذ يومها الثاني، وكان عمال النقل أول
المضربين، ونسج على منوالهم سائقو سيارات الأجرة والنقل، حتى أصبحت
المواصلات معطلة في جميع أنحاء العاصمة
٦ وأضرب عمال العنابر في ١٥ مارس عام ١٩١٩م، وكان عددهم
يزيد على أربعة آلاف عامل يقومون بأعمال الصيانة اللازمة للقطارات،
وعمد بعضهم إلى إتلاف مفاتيح القضبان الحديدية، ثم قطعوا الخط
الحديدي بالقرب من إمبابة فتعطلت قطارات الوجه القبلي. وكان مما
عجل بهذا الإضراب أن الحكومة ألحقت بعض الجنود الإنجليز بهذه
العنابر لتمرينهم على مختلِف الصناعات، فاعتقد العمال أن الحكومة
تهدف إلى إحلال هؤلاء الجنود محلهم، فهاجوا وأضربوا وحاولت السلطات
تهدئتهم، ولكن دون جدوى، فأرسلت السلطة العسكرية قواتها إلى حي
السبتية حيث العنابر لحفظ النظام وتشتيت المظاهرات، ومنعت الاتصال
بين العمال والمتظاهرين في الأحياء الأخرى.
٧
وفي يوم ١٦ من مارس اعتصم عمال شركة النور فباتت العاصمة في ظلام
حالك، وأخذت المظاهرات التي تسير ليلًا تحمل المشاعل. وقد انضم
الحِرفيون إلى الحركة فانخرطوا في المظاهرات الصاخبة التي كانت تجوب
شوارع القاهرة كل يوم. وفي ١٨ من مارس اجتمع عمال العنابر وفريق من
الصناع في شارع بولاق، ثم ساروا رافعي الأعلام، قاصدين الأزهر
للانضمام إلى المتظاهرين فيه، فاعترضتهم القوات البريطانية بالقرب
من كوبري أبي العلاء وحدث اشتباك سقط فيه كثير من القتلى والجرحى.
٨
وبعد إعلان الجنرال اللنبي الإفراج عن سعد ورفاقه، قامت مظاهرات
ابتهاج يومي ٧ و٨ من أبريل، وكانت مظاهرة ٨ من أبريل أعظمها شأنًا؛
إذ اشتركت فيها طبقات الشعب كافة من العلماء والقسس والقضاة
والمحامين والأطباء والأعيان والموظفين والطلبة وطوائف العمال
والصناع، ومع كل فريق عَلمه الخاص، وسارت المظاهرات في شوارع
القاهرة مارَّة بقصر عابدين وبيت الأمة، وتعرض لها الإنجليز عند
الأزبكية فأطلقوا عليها نيرانهم، فأصيب البعض وقتل البعض الآخر.
٩
أدَّى اشتراك العمال في الثورة إلى إحياء روح النضال الجماعي في
نفوسهم تلك الروح التي خبت جذوتها حين نشبت الحرب، فعاد العمال إلى
تنظيم صفوفهم، وبُعثت النقابات من جديد، وأخذت ترفع شعار التضامن
والاتحاد لتحقيق نضال موحد من أجل تحسين ظروف العمل وشروطه، ومن ثم
كان ظهور الاتحادات العمالية التي كانت تشكل المحاولات الأولى في
تاريخ الطبقة العاملة المصرية، لغرض وجودها كتجمع للعمل في مواجهة
رأس المال الذي أخذ يعلو مدارج النمو في شتى نواحي استغلاله سواء
في الصناعة أو التجارة إلى جانب الزراعة؛ حيث بدأت البرجوازية
المصرية تنمو ويعلو كعبها في اقتصاديات البلاد.
ولما كان نمو الحركة العمالية مرهونًا بتطور الصناعة وما يتبعه من
اتساع الطبقة العاملة، فلا بدَّ أن نقوم بدراسة تطور الصناعة بعد
الحرب الأولى قبل أن نتناول النشاط العمالي — في تلك الحقبة —
بالدراسة.
تطور الصناعة بعد الحرب الأولى
منعت ظروف الحرب استيراد المواد الصناعية، مما أدى إلى ازدهار
بعض الصناعات في مصر. كما أدَّت متطلبات الحرب إلى إقامة عدد من
الصناعات الصغيرة التي تخدم جيوش بريطانيا، وكان طبيعي أن تؤدي هذه
الظروف إلى بعث بعض الصناعات القديمة. وفي عام ١٩١٧م تشكلت لجنة
حكومية لدراسة أحوال التجارة والصناعة، فقدمت تقريرًا أوصت فيه
الحكومة بتشجيع الصناعة وحمياتها.
١٠ ومن الصناعات التي ازدهرت خلال الحرب صناعة الأثاث على
اختلاف أنواعه والمصنوعات الخشبية عمومًا، والمصنوعات الجلدية
وبخاصة الأحذية، وصناعة الأسمنت والصابون والزيوت والكحول، ومطاحن
الغلال التي تدار بالآلات، وصناعة السجاد والأكلمة، والمصنوعات
الزجاجية والخزفية، ومنسوجات التريكو والملابس، والأسرة المعدنية،
والأدوات المنزلية.
١١
وكان من أثر هذا الانتعاش الذي أصاب الصناعة أن استفاد الكثير من
أهل الحرف التي كاد يقضي عليها تمامًا في فترةٍ ما قبل الحرب بسبب
اتباع سياسة «الباب المفتوح»، كما أن الشركات التي كانت موجودة منذ
أوائل القرن العشرين والتي كثيرًا ما هددها الإفلاس استطاعت تثبيت
مركزها وجني أرباح وافرة بسبب احتكارها الفعلي للسوق المحلية، فكأن
الحرب كانت بمثابة تعريفة مؤقتة حمَت السلع التي كانت تنتجها البلاد
على نطاق ضيق.
هكذا كانت الحرب العالمية الأولى نقطة تحوُّل بالغة الأهمية في
تاريخ الصناعة المصرية، فقد أخذت الصناعة الحديثة تجد لقدمها موضعًا
مع مرور الزمن، ولا أدل على ذلك من الانكماش النسبي لحجم الواردات
في تلك الحقبة. وأدت موجة المطالبة بالاستقلال السياسي إلى إثارة
فكرة تدعيم هذا الاستقلال بقيام صناعة مصرية صميمة، ومن ثَم كانت
فكرة تأسيس بنك مصر التي نفِّذت في مايو عام ١٩٢٠م. وحدد طلعت حرب
برنامج البنك الذي انحصر في تأدية الخدمات المالية بأجر مناسب،
والعمل على تنظيم الحالة التجارية، وإنشاء الغرف التجارية وشركات
التعاون اللازمة لأصحاب المزارع والمصانع، والعمل على بثِّ روح العمل
والتعاون والتضامن والنظام في الشبيبة، وإنماء ملكة الاقتصاد
والتجارة فيهم، وألحت على وضع أساس التربية الاقتصادية العملية في
البلاد، وجعل تعليم النظام الحسابي أساسًا في مناهج التعليم فيها.
١٢
وقد بدأ بنك مصر برأس مال قدره ثمانون ألف جنيه، واشترط في عقد
تأسيسه أن يكون حملة الأسهم من المصريين، فكفل له الصبغة القومية،
وأخذ البنك يؤدي رسالته وينمو مع الأيام، فأنشأ فروعًا له في معظم
مدن القطر الهامة وتضاعف رأس ماله، واتسعت معاملاته على مرِّ السنين،
فبلغ رأس ماله واحتياطيه في آخر عام ١٩٤٤ مليونين و١٤٨,٤١٠ من
الجنيهات، بعد أن كان ١٧٥,١٠٨ جنيهات في آخر عام ١٩٢٠م. وبلغت قيمة
الودائع والحسابات الدائنة فيه ٣٣ مليونًا من الجنيهات ونيفًا في
عام ١٩٤٤ بعد أن كانت ٢٠٩,٩٤٠ في نهاية عام ١٩٢٠م.
وأصبح البنك النواة الاقتصادية والمالية لنهضة الصناعات الوطنية،
فقد أنشأ شركاتِ مساهمة مصرية كان لها أداة تمويل وتوجيه منها: شركة
مصر للطباعة عام ١٩٢٢م، وشركة مصر لحليج الأقطان عام ١٩٢٤م، وشركة
مصر للنقل والملاحة النهرية عام ١٩٢٥م، وشركة مصر للتمثيل والسينما
عام ١٩٢٥م، وشركة مصر لغزل ونسج القطن بالمحلة عام ١٩٢٧م، وفي نفس
السنة أنشِئت شركة مصر لمصايد الأسماك وشركة مصر للكتان، كما أسس
البنك شركة بيع المصنوعات المصرية عام (١٩٣٢م)، وشركة مصر لغزل ونسج
القطن الرفيع بكفر الدوار عام (١٩٣٨م)، وشركة مصر لتصدير الأقطان عام
(١٩٣٠م)، وشركة مصر للتأمين عام (١٩٣٤م)، وشركة مصر لصناعة وتجارة
الزيوت عام (١٩٣٧م) وفي نفس السنة أنشِئت شركة مصر للمناجم والمحاجر،
كما أسس البنك شركات أخرى للمستحضرات الطبية ودباغة الجلود
والأسمنت والملاحة النهرية.
١٣
وأدى نجاح تلك الشركات إلى تشجيع المصريين على استثمار أموالهم
في الصناعة والتجارة؛ فأسسوا شركات ومؤسسات صناعية وتجارية أصابت
قدرًا من النجاح، بعد أن كانت الأرض وحدها مجالًا لاستثمار أموال
المصريين وخاصة فيما بين عام ١٩١٩م والعشرينيات الأولى حين ارتفعت
أسعار القطن ارتفاعًا أدَّى إلى اتجاه أصحاب رءوس الأموال إلى
استثمار أموالهم في الزراعة التي كانت مركزا لتجمع رأس المال بلا حدود.
١٤
ونتج عن الأزمة الاقتصادية العالمية، وما تبعها من تدهور أسعار
القطن بالإضافة إلى تزايد عدد السكان بالصورة التي جعلت الأرض
عاجزة عن تحمل أعباء الحياة، ظهور موجة شعبية ورسمية لتشجيع
الصناعات الوطنية. فعلى النطاق الشعبي أسس بعض الوطنيين «جمعية
المصري للمصري» التي كان قانونها يشترط على الأعضاء ألا يشتروا
سلعة أجنبية ما دام هناك ما يقابلها من السلع المصرية، وأن يقاطعوا
المصنوعات الإنجليزية، وأن يتَّجروا مع التجار المصريين دون الأجانب،
حتى يمكن أن «نحقق استقلالنا ونجعل مصر ملتقى للمصريين».
١٥ وقد نظمت هذه الجمعية حملة بالصحف أدت إلى نشر الوعي
الاقتصادي بين أفراد الشعب، فأقبلوا على تشجيع المصنوعات الوطنية.
وعلى الصعيد الرسمي كانت الحكومة تساير الرغبة القومية في تشجيع
الصناعة، فأنشأت مصلحة للتجارة والصناعة عام ١٩٢٢م وقررت الحكومة
مبدأ التسليف الصناعي الحكومي، وأصدرت التعليمات المتعاقبة في
سنوات ١٩٢٢، ١٩٢٨، ١٩٣٠م إلى مصالحها المختلفة بتفضيل المصنوعات
المحلية متى تساوت مع الأجنبية في الجودة والمتانة ولو زاد ثمنها
بنسبة معينة، (١٠٪ على حسب القرار الصادر في ٣١ مارس عام ١٩٣٠م).
١٦
ولكن تعديل التعريفة الجمركية في عام ١٩٣٠م بما يكفل حماية
الصناعة المحية، كان أهم عمل أقدمت عليه الحكومة لتشجيع الصناعة
الوطنية فقد كانت الحكومة مرتبطة باتفاقيات دولية تتعلق بالرسوم
الجمركية، ومن ثم لم تكن تملك حق تعديل الرسوم الجمركية التي ثبتت
عند ٨٪ من قيمة البضاعة المستوردة، ولكن بانتهاء العمل بهذه
الاتفاقيات في عام ١٩٣٠م أصبح من الممكن تعديل التعريفة الجمركية
فقامت الحكومة بزيادة العوائد الجمركية على البضائع المستوردة،
وكان هذا بمثابة انطلاق للصناعة المصرية على أساس نظام الإنتاج
الواسع بالمفهوم الحديث.
١٧
ونظرًا لعدم وجود إحصائيات عن النشاط الصناعي في تلك الفترة،
وكذلك عن حركة العمالة، فإنه من الصعوبة بمكان أن نحدد مدى ما
بلغته الصناعة من تقدم في تلك الحقبة تحديدًا دقيقًا. ومن بين
الصناعات التي دُعمت: صناعة السكر الذي ازداد إنتاجه من ٧٩ ألف طن
في عام ١٩١٧م إلى ١٠٩ آلاف طن في عام ١٩٢٨م، و١٥٩ ألف طن في عام
١٩٣٩م، أما الأسمنت فقد بلغ إنتاجه ٢٤ ألف طن ثم ٦١ ألف طن. والنسيج
الميكانيكي بلغ إنتاجه من ٩ ملايين ياردة مربعة إلى ٢٠ مليونًا في
عام ١٩٣١م و١٠٩ ملايين في عام ١٩٣٩م. وهنا إحصائيات متفرقة تلقي
الضوء على ازدياد كميات الزيوت المعدنية والشحومات المستوردة في
عام ١٩٣٨م بما يقدر بأربعة عشر ضعفًا مما كان عليه حجم المستورد
منها عام ١٩١٣، ولهذا دلالة كبيرة على الزيادة المطردة للمصانع
الآلية. بينما قلت كمية البضائع المستوردة عنها في عام ١٩١٣ بما
يوازي ٦٪، وبالنسبة للأحذية ١٣٪ وللطرابيش ٢٢٪ والجلود المدبوغة
٢٤٪ والأسمنت ٢٩٪ وغزل القطن ٤٥٪ والزجاج ٥١٪ والصابون ٥٨٪. ويتضح
من هذا مدى ما بلغته فروع الصناعة المختلفة من تطور في عام ١٩٣٩م
بالنسب المئوية، فقد زادت صناعة السكر والكحول والسجاير والملح عما
كانت عليه قبل الحرب ﺑ ١٠٠٪ وطحن الغلال وصناعة الزجاج ٩٩٪
والأحذية والأسمنت والصابون والأثاث ٩٠٪ والكبريت ٨٠٪ وصناعة
البيرة والزيوت النباتية ٦٠٪ والصودا الكاوية ٥٠٪ ونسج القطن ٤٠٪.
١٨
وقد ترتب على هذا النشاط الصناعي الواسع زيادة الطلب على الأيدي
العاملة وأدى هذا إلى نمو الطبقة العاملة عما كانت عليه قبل الحرب،
وليس بين أيدينا إحصائيات دقيقة تبين مدى ما بلغته الطبقة العاملة
من نمو، فيما عدا إحصاء سنة ١٩٢٧م. ويبين الإحصاء التالي
١٩ عدد العمال في مدينتي القاهرة والإسكندرية:
المدينة |
الصناعة |
التجارة |
النقل |
الخدمات |
القاهرة |
٩٠٣٩٥ |
٤٢٢٩١٣ |
٣٥٨٦١ |
٥٧٢٠٣ |
الإسكندرية |
٤٦١١٤ |
٣٢٥٩٤ |
٢٨٤٨٠ |
٢٣٩١٠ |
المجموع |
١٣٦٥٠٩ |
٤٥٥٥٠٧ |
٦٤٣٤١ |
٨١١١٣ |
ويتضح من هذا الإحصاء أن عدد العمال في المدينتين يبلغ ٧٣٧٤٧٠
عاملًا، فإذا علمنا أنه كان يوجد بالقاهرة والإسكندرية ٣٦٪ من
المصانع والمتاجر الموجودة بالقطر، أدركنا أن هذا العدد كان يمثِّل
نصف عدد عمال القطر تقريبًا، وأن عدد العمال وقتئذٍ كان يربو على
المليون.
ومع النمو المطرد للصناعة والاتساع المفاجئ للطبقة العاملة،
يحتدم الصراع بين العمل ورأس المال، ويمارس العمال نضالهم الجماعي
من أجل الحصول على أحسن شروط التعاقد الحر، فيطالبون بالتشريعات
التي تحفظ لهم حقوقهم قبل رأس المال، والتي كان التشريع المصري
خلوًا منها حتى ذلك الحين، فأخذ الشعور بضرورة التعاون والتضامن
يسري بين العمال، وأدركوا ما لجهودهم المشتركة من الآثار البالغة
في إنتاج المؤسسات التي يعملون بها، ومن ثَم ضرورة رفع أجورهم
وتحسين أحوالهم وظروف عملهم، فكان أن أخذت نقابات المؤسسات في
مزاولة نشاطها.
النشاط النقابي في أعقاب ثورة ١٩١٩م
أخذ العمال ينظمون نقاباتهم في أعقاب الثورة، بعدما زودتهم
الأحداث التي شاركوا فيها بقدر كبير من الاعتداد بالنفس والثقة
بها، كما أن ما وصلَت إليه أحوالهم من سوء كان حافزًا على التكتُّل
وإعادة نشاط النقابات، بالإضافة إلى زيادة عددهم نتيجة المشروعات
الصناعية التي قامت خلال الحرب، ونتيجة استخدام السلطة العسكرية
لمئات الألوف منهم.
لقد كانت أحوال العمال في أعقاب الحرب — كما قدمنا — بالغة
السوء، فقد سرحت السلطة العسكرية العمال المصريين الذين كانوا في
خدمتها خلال الحرب ولم تكُن الأعمال الموجودة في ذلك الحين تتحمل
هذا الجيش الزاحف من العاطلين، فتفاقمت مشكلة البطالة وفاق المعروض
المطلوب في سوق العمل، فانخفضت الأجور انخفاضًا كبيرًا برغم ارتفاع
تكاليف المعيشة ارتفاعًا مفاجئًا إلى الحدِّ الذي جعل دخول العمال لا
تكاد تفِي بما يسدُّ الرمق.
فقد ارتفعت معدلات الأسعار عما كانت عليه في عام ١٩١٣-١٩١٤م على
النحو التالي:
٢٠
تكاليف المعيشة (١٩١٣-١٩١٤ = ١٠٠٪)
السنة |
النسبة |
١٩١٩ |
٢٠٢٪ |
١٩٢٠ |
٢٣٧٪ |
١٩٢١ |
١٩٦٪ |
١٩٢٢ |
١٧٦٪ |
١٩٢٣ |
١٦٢٪ |
وبذلك تحالفت البطالة وتدهور مستوى الأجور وارتفاع تكاليف
المعيشة على العمال، وجعلتهم يواجهون أسوأ ظروف العمل، ويقبلون —
على مضض — أشد شروطه إجحافًا لهم.
وهكذا كانت الضرورة تفرض على العمال مواجهة تحدي هذه الظروف، ومن
ثم كان إقبالهم على تأسيس النقابات بهمة كبيرة. فأعادت بعض
النقابات القديمة نشاطها، وظهرت نقابات أخرى جديدة، وكان المظهر
السائد للنقابة في أعقاب الحرب هو نقابة المؤسسة، أي النقابة التي
تضمُّ عمال شركة واحدة أو مصنع واحد. فتألفت النقابات الخاصة بعمال
الطباعة والدخان والسيارات والترام والترسانة والعنابر، كذلك تأسست
نقابات لعمال هليوبوليس وعمال النقش والزخرفة وعمال البناء
والترزية والنجارين، كما أقيمت نقابة لمستخدمي الحكومة الخارجين عن الهيئة.
٢١
وعادت نقابة عمال الصنائع اليدوية إلى مزاولة نشاطها تحت زعامة
الدكتور محجوب ثابت، على نفس النمط الذي كانت عليه قبل الحرب.
واقتصر نشاطها على تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأعضائها،
فأسست جمعية تعاونية لبيع المواد الغذائية وحاجات المنازل العادية
بأسعار معتدلة، وتكون رأس مالها من أسهم قيمة السهم الواحد منها
عشرون قرشًا، واقتصر الاشتراك فيها على أعضاء النقابة وحدهم. وأنشأت
النقابة فروعًا لها في بورسعيد والإسماعيلية والإسكندرية.
٢٢
انتشرت النقابات في مختلف أنحاء البلاد، فقام عدد كبير منها
بالإسكندرية ومدن القناة والبحر الأحمر (عمال السويس والغردقة
والزيتية) وطنطا. ووضعت لوائح لتلك النقابات لا تخرج في مضمونها عن
قانون نقابة الصنائع اليدوية، وأدخل عليها منصب «المستشار» أو
«الرئيس الفخري»، وخُصص هذا المنصب ليشغله إما محامي النقابة أو أحد
مشاهير رجال المجتمع الذين يُسدُون إلى النقابة خدمات ممتازة، أو
الذين تلتمس النقابة الحماية في ظل ما يتمتعون به من جاه.
٢٣ ولقد كان هذا المركز سببًا في وثوب بعض رجالات الأحزاب
إلى قيادة بعض النقابات وتوجيهها وفقًا لمصالح أحزابهم
السياسية.
وكانت النقابات تشترط في أعضائها شروطًا خاصة بالأخلاق والسلوك
والخضوع لقانون النقابة وقراراتها، والانتظام في دفع الاشتراكات.
وكانت لا تهتم عادة بإضافة شروط أخرى إلى ما تقدم فلم تكن تفرِّق في
العادة بين العمال بحسب العمل الذي يتولونه في المشروع أو بحسب
جنسيتهم أو سنهم، وبرغم ذلك كان معظم المنضمين إلى النقابات من
العمال اليدويين، وكان اشتراك مستخدمي الإدارة والفنيين قليلًا
نسبيًّا، وربما رجع ذلك إلى قرب هؤلاء المستخدمين من رب العمل،
وارتفاع مستواهم الاقتصادي والثقافي عادة عن مستوى العمال
اليدويين، أما النساء العاملات فلم يؤلِّفن نقابات خاصة بهن، كما لم
يشتركن إلا نادرًا مع العمال في نقاباتهم، وربما كان ذلك نتيجة قلة
عددهن ورغبتهن في الابتعاد عن حياة النقابات التي لا تتميز بالهدوء
والسكينة، فضلًا عن وقوف التقاليد حائلًا — إلى حدٍّ كبير — دون
اشتراكهن بدرجة فعالة في الحياة العامة. وضمت النقابات في عضويتها
فريقًا من الأحداث المشتغلين بالصناعة أو ببعض الحِرف، على أن
انضمام الأحداث إلى النقابات كان مقصورًا — في الغالب — على دفعهم
الاشتراك للنقابة، فلم يكونوا يساهمون فعلًا في تسيير
أمورها.
وكانت لائحة كلِّ نقابة تتناول بيان الأحكام الخاصة بتكوينها
وإدارتها وحلها، وإلى جانب ذكر الشروط الخاصة بالعضوية كانت تُحدِّد
أغراض النقابة، وكانت تلك الأغراض تنحصر في الدفاع عن مصالح العمال
المشروعة أمام رب العمل والسلطات العامة، وتحسين حال الأعضاء
ماديًّا وأدبيًّا بكل الوسائل الممكنة، وأخَصُّها إنشاء بعض المنشآت
الاجتماعية التعاونية كصناديق التوفير وجمعيات التعاون … إلخ.
وكثيرًا ما كانت لوائح النقابات تنصُّ صراحة على تجنب الاشتغال
بالأعمال السياسية الحزبية أو الدينية، وبرغم ذلك فإن النقابات
التي انصرفت إلى خدمة الأغراض النقابية وحدها كانت لا تمثل إلا
نسبة ضئيلة من مجموع النقابات.
٢٤
تحركت هذه النقابات للعمل بدافعٍ من ظروف العمال الاقتصادية،
فوقعت عدة إضرابات قام بها عمال الترام بالقاهرة والإسكندرية وعمال
المياه وعمال التنظيم وعمال الدخان وعمال المطابع بما فيهم عمال
المطبعة الأميرية وعمال الترسانة والعنابر وعمال شركة النور.
وانحصرت مطالب العمال في تخفيض ساعات العمل، وزيادة الأجور،
والاعتراف بحقهم في الحصول على إجازات مدفوعة الأجر، وتخصيص يوم
للراحة الأسبوعية.
وكانت أبرز نتيجة لهذه الإضرابات، صدور قانون لجان التوفيق
والتحكيم في ١٨ من أغسطس عام ١٩١٩م التي كان اختصاصها فحص وتحقيق
الشكاوى بين العمال وأصحاب الأعمال، واستطاعت هذه اللجان — في بعض
الأحيان — أن تجعل النقابات تجني ثمار مفاوضتها الجماعية بوضع
البذرة الأولى لعقود العمل المشتركة التي تشكل ركنًا أساسيًّا من
نشاط النقابات، مما أدى إلى تعضيد النقابات وتدعيمها وزيادة
الإقبال على الانضمام إليها.
٢٥ لذلك عمدت الشركات إلى مناهضة تلك الحركة عن طريق فصل
رؤساء النقابات وأعضاء مجالس إداراتها وشراء ذمم من أبدَوا
استعدادهم للتفاهم معها على حساب زملائهم، برفع أجورهم أو إغداق
المناصب عليهم.
وقد سجلت العشرينيات الأولى احتدام الصراع بين العمل ورأس المال
— على وجه العموم — فقد شهدت مولد الحزب الاشتراكي المصري في عام
١٩٢٠م، وارتفع على صفحات الجرائد غبار المعارك بين مؤيدي الحزب
ومعارضيه، ثُم ما تلا ذلك من وقوع الانشقاق في صفوفه وتحوُّله إلى حزب
شيوعي عام ١٩٢١م. وساعدت هذه الظروف على إنماء الوعي النقابي بين
العمال، وخلق الإحساس بينهم بضرورة تأسيس اتحادات تجمع شمل
النقابات لتُقوي جبهة العمل في مواجهة رأس المال.
الاتحادات العُمالية الأولى
قام أول اتحاد لنقابات العمال في مصر عام ١٩٢١م، بفضل جهود رجال
الحزب الاشتراكي المصري، وكان الاتحاد يضمُّ ثلاثة آلاف عامل عند
بداية تأسيسه في القاهرة، ثم انتقل إلى الإسكندرية بانتقال الحزب
إليها بعد تحوُّله إلى حزب شيوعي، وكان لنشاط المنظمين الشيوعيين أثر
كبير في تقوية النقابات وتنظيم عملها، وبلغ الاتحاد أقصى درجات
قوته عام ١٩٢٣م؛ حيث كانت تضمُّ تحت لوائه نقابات عدة بالقاهرة
والإسكندرية والمنصورة وطنطا وشبين الكوم، فنظَّم عددًا من الإضرابات
لتحقيق المطالب الاقتصادية للعمال، كان أخطرها إضراب عمال «معمل
الخواجات أبي شنب» بالإسكندرية، واحتلالهم المصنع بعد مناوشات وقعت
بينهم وبين البوليس، وقيامهم بطرد أصحاب المصنع منه.
٢٦
وشهد عام ١٩٢٤م سلسلة من الإضرابات التي وقعت بالقاهرة
والإسكندرية بتأثير الدعاية الشيوعية وتحت ضغط سوء الأحوال التي
كان يعاني منها العمال. كان أبرزها إضراب عمال شركة الملح والصودا،
وعمال شركة زيت فاكوم، وعمال الغزل بالإسكندرية، وعمال التليفونات،
وعمال هليوبوليس، وعمال الترام بالقاهرة.
فقد تقدَّم عمال شركة الملح والصودا إلى إدارة شركتهم بمطالب
لتحسين أحوالهم؛ فردت الشركة على مطالبهم بفصل أربعين من زملائهم،
فأضرب العمال احتجاجًا على تصرف الشركة، وطالبوا بإجابة مطالبهم،
واستمر الإضراب مدة ثلاثة وعشرين يومًا؛ فقامت إدارة الشركة بإحضار
عمال جدد بدلًا من عمالها المضربين، ودخلوا المصنع تحت حراسة
البوليس فحاول العمال احتلال المصنع لمنع الشركة من تشغيل غيرهم
بالقوة، ولكن البوليس تصدى لهم وأحبط تدبيرهم. وأخيرًا تدخل محافظ
الإسكندرية ووفَّق بين العمال المضربين وشركتهم، فعادوا إلى العمل
بعد أن عدلت الشركة عن فصل زملائهم.
٢٧ كما حدثت نفس الظروف مع عمال شركة الزيت بالإسكندرية
الذين كان يوجههم زعماء الحزب الشيوعي.
وقدم عمال التليفونات بالقاهرة إلى وزير المواصلات مطالبهم التي
كانت تنحصر في تعديل درجاتهم وتحسين أحوالهم، وحددوا مدة ٢١ يومًا
يضربون بعدها إذا لم تُجَب مطالبهم، وبعد مرور المهلة المحددة أضربوا
عن العمل مدة ساعة في مكاتبهم، فذهب وزير المواصلات إليهم ونصحهم
بالعدول عن الإضراب مؤكِّدًا لهم أن الوزارة تعمل لمصلحة الأمة لا
لمصلحة الأشخاص، ومهمتها شاقة جدًّا، وهي تعطف على مطالب العمال،
وطلب منهم أن يُمهلوه مدة شهر لبحث مطالبهم، وطلب العمال منه أن
يعطيهم وعدًا كتابيًّا بهذا فأبى، وعدَل العمال عن إضرابهم بعد أن
توقفت المواصلات التليفونية مدة ساعة كاملة.
٢٨
ويعكس إضراب عمال التليفونات موقف حكومة سعد زغلول من مطالب
العمال، فهي حكومة الطبقة الوسطى تلك الطبقة التي تزعَّمت ثورة ١٩١٩م
وجنت مكاسبها، ولذلك كانت تَعتبر أن أمامها من المهام ما هو أجدر
باهتمامها، واعتَبرت مسائل العمال مشاكل ثانوية لا تستحق الاهتمام؛
فلم تُعنَ بإصدار تشريع للعمل ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل
ويحفظ للعامل حقه ويحميه من عسف رأس المال. وكانت سلبية الحكومة
هذه سببًا في أن وجد نشاط الحزب الشيوعي ونقاباته مرتعًا خصبًا
للعمل، وأن تبلغ مشكلة العمال ذروتها في عام ١٩٢٤م، إلى الحد الذي
دفع الحكومة إلى إلقاء القبض على أعضاء الحزب وتصفيته وحل اتحاد
النقابات.
ولم يكُن من الحكمة أن تترك حكومة الوفد العمال في فراغ لا تؤمن
عواقبه، فسارعت إلى تأسيس اتحاد تزعمه عبد الرحمن فهمي — أحد
رجالات الوفد — تحت اسم «اتحاد نقابات عمال وادي النيل»، وكان نواة
هذا الاتحاد «النقابة العامة للعمال» التي أسسها بعض الأعضاء الذين
خرجوا على نقابة عمال الصنائع اليدوية
٢٩ بعد أن أثبتت عدم قدرتها على القيام بالمهمة التي كانت
تفرضها عليها ظروف أعضائها اكتفاءً بمنهجها التقليدي الذي لا يخرج
عن تقديم الرعاية الاجتماعية والمعونات المالية لأعضائها، وبعد
تلاشي دورها النضالي في الحركة الوطنية حين فقدت اهتمام الحزب
الوطني بها، لم تقم بتنظيم عمل جماعي من أجل تحسين أحوال أعضائها،
ولم تساهم في حركة الإضرابات التي وقعت في العشرينيات
الأولى.
ولكن لم تلبث حكومة الوفد أن اضطرت إلى الاستقالة أثر حادث مقتل
السردار، وآلت مقاليد الأمور إلى زيور باشا، فحلت وزارته مجلس
النواب، وأسس حزب الاتحاد لتأييد الحكومة وشرع البوليس يطارد رؤساء
النقابات وزعماء العمال بحجة تدخلهم في الأمور السياسية، كما أخذ
البوليس يدس أنفه في أمور النقابات ويصادر اجتماعاتها. وقد عمَّت
إضرابات العمال البلاد مطالبة بعودة الدستور والبرلمان. ثم أعقبت
وزارة زيور قيام وزارة محمد محمود في (يونيو عام ١٩٢٨م) التي عصفت
للمرة الثانية بالدستور.
٣٠
وبلغت النقابات في عهد الوزارتين حدًّا كبيرًا من السوء، فوثب
ذَوو الأطماع الحزبية إلى مراكز القيادة فيها، وتزعم محجوب ثابت
فكرة إقامة اتحاد جديد للعمال ينأى بهم عن النشاط الحزبي، فوجه
الدعوة في (٢ من أكتوبر عام ١٩٢٧م) باسم «نقابة العمال المتحدين» —
التي كانت تضمُّ عمال السكة الحديد والترسانة والعنابر، وكان رئيسًا
لها — لعقد اجتماع لبحث تكوين اتحاد عام لنقابات العمال. وعقدت
بالفعل عدة اجتماعات لذلك الغرض لم تسفر عن نتيجة ما لسببين:
أولهما، مطاردة الحكومة للنقابات وعدم ارتياحها لفكرة إعادة تكوين
اتحاد يجمع شملها، وثانيهما، تباين الأغراض والمشارب السياسية لبعض
المحامين الذين كانوا على رأس بعض النقابات؛ فكان لكل منهم مطامعه
التي كانت انعكاسًا لمطامع حزبه، فماتت دعوة محجوب ثابت في مهدها.
٣١
ونجح بعض المشتغلين بالحركة النقابية في تأسيس اتحاد من بعض
النقابات في عام ١٩٢٨م تحت اسم «الاتحاد العام لنقابات عمال القطر
المصري». وكانت بعض أموال النقابات المنضمة للاتحاد في ذمة
مستشاريها، فلجأ الاتحاد الجديد إلى القضاء واسترد أموال نقابة
السيارات التي كانت كافية لشراء ثلاث سيارات أجرة ليعمل عليها
المتعطلون من أعضاء النقابة، كما استرد أموال «النقابة العامة
لعمال القطر المصري»، واشترى بها قطعة أرض بالسبتية بنى عليها دارًا
للنقابة، وناديًا رياضيًّا لأعضائها، وهذا يوضح لنا كيف كان
مستشارو النقابات يسيئون استغلال سلطتهم ويسطون على أموال
النقابات.
ويُعتبر هذا الاتحاد أول تنظيم عمال مصري تمكن من إقامة علاقات مع
منظمات العمال في الخارج، فقد عقدت أواصر الصلات بينه وبين حزب
العمال المستقل في بريطانيا، كما كان على صلة بالاتحاد الدولي
لنقابات العمال بأمستردام ومكتب العمل الدولي بجنيف، وقام أحمد
إسماعيل — سكرتير الاتحاد — بزيارة نقابات أوروبا للدرس والتحصيل
وتطبيق ما يمكن تطبيقه من نظمها في نقابات مصر، فزارَ المنظمات
العمالية في اليونان وتركيا ورومانيا والمجر والنمسا.
٣٢
وليس لدينا بيان عن عدد النقابات المنضمة للاتحاد، ومدى ما بلغه
الاتحاد من نفوذ، ولكن يتضح من القليل الذي عثرنا عليه أن هذا
الاتحاد كان محدود الأثر محدود النشاط، ولا نعرف تفاصيل وافية عن
فحوى اتصالاته الخارجية وأهدافها، ولكن نستطيع أن نقطع أن هذه
الصلات كانت سطحية، فلم يكَد سكرتير الاتحاد يعود من رحلته
الاستطلاعية لشرق أوروبا حتى استغنى الاتحاد عن خدماته، وشبَّ النزاع
بين أعضاء الاتحاد؛ فتقرر إيقاف نشاطه بصفة مؤقتة.
وبقي الميدان النقابي خلوًا من اتحاد ينظِّم النقابات التي كانت
موجودة في ذلك الحين حتى أبريل عام ١٩٣٠م، حين قامت محاولة وفدية
تزعمها عزيز ميرهم — عضو مجلس الشيوخ الوفد — لإقامة مكتب لتنظيم
حركة العمال يكون نواة تأسيس اتحاد للنقابات. واستجاب لنداء عزيز
ميرهم عدد من النقابات الهامة في تلك الحقبة، أبرزها نقابة عمال
ورش ترام مصر الجديدة، ونقابة عمال المطابع المصرية، وجمعية رقي
العمال، ونقابة خريجي المدارس الصناعية، وعمال ورش النجارة
الميكانيكية، وعمال السيارات والنقابة العامة للعمال، وعمال الدخان،
وعمال ترام القاهرة. وعقدت عدة اجتماعات لهذا الغرض أسفرت عن تأسيس
«اتحاد عام النقابات» برياسة أحمد محمد أغا المحامي — أحد رجالات
الوفد — ونصب حسني الشنتناوي (وهو وفدي كذلك) مستشارًا للاتحاد،
واتخذ الاتحاد من دار نقابة عمال ترام القاهرة مقرًّا له.
٣٣
الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري
وفي أوائل عام ١٩٣٠م أعاد بعض مؤسسي الاتحاد العام لنقابات عمال
القطر المصري (القديم) نشاطه من جديد، ولكن بدلًا من أن يكون
الاتحاد نابعًا من تجمع النقابات قام الاتحاد — هذه المرة —
بأعضائه فقط الذين كانوا من عشر مهَن، وقام هؤلاء بتأسيس النقابات،
ولم تُسفر جهودهم إلا عن إقامة ثلاث نقابات هي: النقل الميكانيكي
والتنظيم والحلاقين، وأُسندت رياسة الاتحاد إلى داود راتب — عضو
الأحرار الدستوريين — ومن ثَم ما اتَّسم به الاتحاد من محاولة خلق سند
شعبي للحزب، ولكن لم يقدَّر له النجاح؛ إذ ما لبث بعض أعضاء الاتحاد
أن قاموا بحركة (انقلابية) على رئيس الاتحاد، فعزلوه في ديسمبر
عام ١٩٣٠م ونادَوا بعباس حليم زعيمًا للعمال.
٣٤
كانت البلاد في تلك الحقبة تمرُّ بظروف سياسية عصيبة، فقد أقدمت
وزارة إسماعيل صدقي — التي أعقبت وزارة النحاس في يونيو عام ١٩٣٠م —
على تأجيل انعقاد البرلمان شهرا ابتداء من ٢١ من يونيو عام ١٩٣٠م،
ولكن أعضاء البرلمان صمموا على الاجتماع يوم ٢٣ لتلاوة مرسوم
التأجيل، لكن الحكومة فرضت الحراسة على المجلس، وبرغم هذا تمكَّن
البرلمان من الانعقاد، واحتج على ما ارتكبته الحكومة من مخالفات
للدستور. ثم تقرر — فيما بعد — مبدأ عدم التعاون مع
الوزارة.
وتزعَّم الوفد حركة مقاومة الحكومة، مما أدى إلى وقوع عدة اضطرابات
في جبهات متعددة، واجهتها حكومة صدقي بالعنف الذي بلغ ذروته في
حوادث الإسكندرية في ١٥ من يوليو عام ١٩٣٠م والقاهرة، فاستغلت
بريطانيا هذا الموقف وأرسلت بارجتين إلى الإسكندرية بحجة المحافظة
على أرواح الأجانب، وأبلغَت صدقي بأنه يُعَد مسئولًا عن حماية أرواح
الأجانب ومصالحهم في مصر، كما أُبلِغَ النحاس أنه يجب أن تُحل مشاكل
مصر الداخلية دون أن تتعرض أرواح الأجانب ومصالحهم للخطر.
وتمادَت وزارة صدقي في اعتدائها على الدستور، ففضَّت الدورة
البرلمانية، ثم ألغَت دستور عام ١٩٢٣م (في ٢٥ من أكتوبر عام ١٩٣٠م)،
واستبدلته بدستور جديد، ثم أصدرَت قانونًا للانتخاب اشتَرط أن تكون
سن الناخب ٢٥ سنة، واشتَرط في المندوب أن يكون مالكًا لأموال ثابتة
مربوط عليها ضريبة عقارية أو ساكنًا في منزل لا يقل إيجاره السنوي
عن اثني عشر جنيهًا، أو مستأجرًا لأرض زراعية لا تقل ضريبتها عن
جنيهين سنويًّا، أو حائزًا على الشهادة الابتدائية أو ما يعادلها.
وهؤلاء المندوبون هم الذين ينتخبون أعضاء البرلمان. وكان معنى هذا
حرمان الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين من انتخاب أعضاء
البرلمان، ومن ثم ضمان عدم وصول الوفد إلى الحكم، لأن الوفد كان
يعتمد على الطبقة الكادحة في الوصول إلى الحكم، وكانت الفكرة التي
استقرت في أذهان الشعب أن الوفد هو الأمة، وبذلك تمتع الوفد بشعبية
واسعة بين العمال والفلاحين.
ووسط موجة السخط التي عمَّت البلاد على تصرفات وزارة صدقي، وقف بعض
أمراء البيت المالك في صف الشعب، وكان أبرزهم عمر طوسون وعباس
حليم. وركزت الأضواء في صحف الوفد على عباس حليم بالذات، وكان في
شرخ الشباب له نشاط رياضي واسع، وعلى علاقة طيبة بالوفد حتى إنه
صرح في أثناء الأزمة الدستورية أنه يتخذ الوفدية «دينًا ثانيًا له
بعد الإسلام»
٣٥ وكان موقف كهذا من الحزب الذي يناضل من أجل حقوق الأمة
الدستورية، كفيلًا بأن يكسب صاحبه شعبية واسعة، وهو ما حدث بالنسبة
لعباس حليم، الذي زاد من شعبيته تجريد السراي له من لقب «نبيل»
وحرمانه من امتيازات أبناء أسرة محمد علي، حتى إن البرلمان الوفد
منحه — باسم الأمة — لقب «حضرة صاحب الشرف الرفيع»، وذلك في
اجتماعه بالنادي السعدي (في ٢١ من يوليو عام ١٩٣٠م)، بعد صدور مرسوم
فضِّ الدورة البرلمانية
٣٦ فأصبح اسم عباس حليم يتردد على كل لسان.
ولا ريب أن شهرة النبيل الشاب وشعبيته التي اكتسبها بعد موقفه
السياسي وحرمانه من اللقب الملكي، جعل أعضاء الاتحاد العام لنقابات
عمال القطر المصري يفكِّرون في إسناد الرياسة إليه لإنقاذ الاتحاد من
الوقوع بين براثن حزب الأحرار الدستوريين، بعد ما اتضحت نيات داود
راتب رئيس الاتحاد، ولاعتقادهم أن وجود عباس حليم على رأس الاتحاد
سيدعم نفوذه، ويجمع النقابات حوله، وخاصة أنه كان معروفًا أن عباس
حليم يعمل باتساق تام مع الوفد، ومن ثَم كان عرضهم الرياسة عليه
فقبلها، وأعلنوا فصل داود راتب من الاتحاد وإسناد الزعامة إلى عباس
حليم في (١٧ من ديسمبر عام ١٩٣٠م).
٣٧
ولم تكُن رياسة عباس حليم للاتحاد العام لنقابات عمال القطر
المصري هي المرة الأولى التي يرأس فيها منظمة عمالية، فقد كان
رئيسًا شرفيًّا للاتحاد الوطني لنقابات العمال المصرية الذي تألف
نتيجة لاتحاد نقابتي سائقي السيارات والميكانيكيين عام ١٩٢٢م واستمر
حتى عام ١٩٢٨م،
٣٨ ولكنه لم يكن مهتمًّا في تلك الفترة بالتوجيه الإيجابي
لهذا الاتحاد الذي كان محدود الأثر، كما أن صلته بالمنظمات
العمالية انقطعت بانفراط عقد ذلك الاتحاد الصغير.
ولم يمضِ شهر على رياسة عباس حليم للاتحاد حتى أعلن اندماج «اتحاد
عامِّ النقابات» الوفدي — الذي كان يرأسه عزيز ميرهم بعد تنحية أحمد
أغا عن رياسته — في اتحاد عباس حليم، ولعل هذا يُلقي المزيد من
الضوء على دور الوفد في مساندة عباس حليم ويكشف عن سياسة الوفاق
التي قامت في تلك الفترة بين الوفد والنبيل، وبرغم حرص الوفد على
الاستفادة من عباس حليم في تنظيم الحركة العمالية، على أن يكون
وجوده في الاتحاد واجهة يعمل من ورائها رجال الحزب، فإن طموح عباس
حليم دفعه إلى الحرص على أن تكون له السيطرة التامة على الاتحاد،
فرفض السماح بتسلل الوفديين إلى مجلس إدارته.
٣٩
وُضع قانون الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري، وأُعلن في
أبريل عام ١٩٣١م بجريدة «الصفاء» لسان حال الاتحاد، وكان ذلك القانون
ثمرة دراسة واسعة لقوانين اتحادات النقابات في أوروبا، فقد أرسل
الاتحاد إلى جميع اتحادات العمال بإنجلترا وفرنسا وألمانيا
وإيطاليا، يطلب نُسخًا من قوانينها لدراستها، وقد أرسلت اتحادات
العمال الشيوعية قوانينها للاتحاد؛ ليسترشد بها عند وضع قانونه،
ولكنها أُهملت ولم تؤخذ مبادئها في الاعتبار عند وضع قانون الاتحاد
الذي استُفيد فيه كثيرًا بالمبادئ التي جاءت بقوانين الاتحاد في أوروبا.
٤٠
حدَّد القانون أغراض الاتحاد في النواحي الاقتصادية بالعمل على
تأليف النقابات لمختلِف المهن، وتنظيم حركة المطالبة بتشريعات
العمل، والسعي لتمثيل العمال بمكتب العمل، والعمل على تحسين حال
الطبقة العاملة المادية والفكرية والاجتماعية، ومساواة العمال
المصريين بزملائهم الأجانب الذين يعملون معهم في مهنة واحدة في
الأجور والامتيازات على ألا تقل نسبة عدد العمال المصريين
بالمؤسسات عن ٨٠٪، وحق العامل في الراحة الأسبوعية وتحديد ساعات
العمل بالقدر المعقول، وتحديد الحد الأدنى للأجور في جميع المهن
على أن يكون الأجر مناسبًا مع متطلبات الحياة للعامل وأسرته،
وإعداد المساكن الصحية بوساطة الحكومات والبلديات وأصحاب الأعمال،
وإنشاء بورصات للعمل لتشغيل العمال العاطلين، وإقامة شركات
للتعاون.
وفي النواحي الثقافية نصَّ القانون على أن من أهداف الاتحاد، العمل
على «توحيد الدرجة الأولى من التعليم (الإلزامي – الأولى –
الابتدائي) وجعله إجباريًّا مجانيًّا لجميع المصريين بنين وبنات»،
وأن ينشر الاتحاد مدارس ليلية لمحو الأمية ومدارس آخر الأسبوع
Weekend على نحو المدارس التي
ينشِئها اتحاد عمال إنجلترا واتحاد عمال ألمانيا وغيرها، وإنشاء
جامعة ليلية لنشر الثقافة العامة بين الطبقة العاملة، وتأسيس جريدة
تنطق بلسان الاتحاد يشرف عليها العمال ويحررونها بأنفسهم لتعبِّر عن
مصالحهم وتعمل على تنويرهم، كما يؤسس الاتحاد أنديةً لاجتماعات
العمال، وينظم فيها دورًا للكتب وغرفًا للمطالعة، وفيها تلقَّى
المحاضرات، وتعرض وسائل التسلية البريئة على اختلافها، كما أن
الاتحاد يُعنى بنشر الثقافة الرياضية بين الطبقة العاملة.
وفي مجال العلاقات الخارجية نصَّ قانون الاتحاد على أن تنظم
العلاقات بين الاتحاد والاتحاد الدولي للنقابات بأوروبا
I.F.T.U. ومكتب العمل بجنيف،
واتحادات الدول الشرقية، وإرسال مندوبين سنويًّا لحضور مؤتمرات
العمال لدرس حالاتهم ونظمهم وقوانينهم.
وفي مجال التنظيم، نصَّ القانون على تأليف نقابة من العمال الذين
لا توجد لهم نقابة تمثِّلهم باسم «نقابة العمال المختلطة» إلى أن يصل
عدد كل طائفة من مشتركيها إلى خمسين، فيعلنوا تأليف نقابة باسم
طائفتهم. وأن يؤلف الاتحاد العام اتحادات مركزية في كل مركز من
مراكز القطر المصري به ثلاث نقابات أو أكثر خاضعة للاتحاد
العام.
وحرص القانون على تأكيد أن الاتحاد العام والاتحادات المركزية
والنقابات لا يتدخلون في الشئون السياسية والدينية، وأن الاتحاد
سيقوم بحماية كل عامل يُفصل من عمله بسبب اشتغاله بالنقابات.
٤١
ومن الواضح أن لهذا القانون مصدرين: أحدهما، قوانين اتحادات
العمال في الخارج وثانيهما، قانون نقابة عمال الصنائع اليدوية الذي
يبدو أثره واضحًا في النص على قيام الاتحاد بتأدية الخدمات
الثقافية والرياضية للأعضاء وإقامة شركات للتعاون.
ولم تكُن حكومة صدقي لتدعَ الاتحاد يشبُّ عن الطوق، وتعظم قوته
بازدياد عدد النقابات المنضمة إليه، وخاصة أن كل الشواهد كانت تدل
على أن هناك صلة وثيقة تربط الاتحاد بالوفد بما يشبه التحالف،
فأسرعت الحكومة على إغلاق دار الاتحاد في ١٥ من مارس عام ١٩٣١م،
وشنَّت على النقابيين حربًا في أرزاقهم، فكانت تفصلهم وتلقي القبض
عليهم بين وقت وآخر، وتزج بهم في سجون الأقسام بمختلِف أنحاء القاهرة.
٤٢
وقد وجه رئيس الاتحاد إنذارًا
٤٣ إلى إسماعيل صدقي قدِّم إلى محكمة السيدة زينب في ٣٠ من
مارس عام ١٩٣١م، طالبَه فيه برد أموال الاتحاد التي كانت قد صُودرت،
وسحب رجال البوليس من أمام دار الاتحاد، وألا يكون ملزمًا بدفع ٢٥
جنيهًا كتعويض عن كل يوم من الأيام التي تعطَّل فيها الاتحاد عن
العمل. ولكن القاضي رفض قبول هذا الإنذار، فكتب الاتحاد مذكرة إلى
رئيس الحكومة ناشده فيها العدول عن مطاردة الاتحاد، ولكن دون جدوى،
فجأَر الاتحاد بالشكوى إلى الاتحاد العام لنقابات العمال
البريطانيين طالبًا التدخل لدى الحكومة الإنجليزية للضغط على
الحكومة المصرية حتى تعدِل عن مناهضتها للاتحاد؛ فتقرر حضور وفد من
الاتحاد الإنجليزي مكون من ثلاثة أعضاء برياسة مستر بين السكرتير
العام لدراسة أحوال النقابات المصرية،
٤٤ ولكن حكومة صدقي عملت على منع وصوله.
وحين عقد مؤتمر اتحاد النقابات العالمي بمدريد (في أواخر يوليو
عام ١٩٣١م)، أوفد اتحاد نقابات عمال القطر المصري سكرتيره العام
(إبراهيم زين الدين) لحضور المؤتمر وتقديم شكوى عمال مصر من تكبيل
الحرية النقابية، وكان من نتيجة ذلك أن اتخذ المؤتمر قرارًا بالاحتجاج،
٤٥ على ما تتخذه الحكومة المصرية من وسائل القمع ضد
الاتحاد العام، وناشد حكومة العمال بإنجلترا وغيرها من الحكومات
بذل مساعيها لدى الحكومة المصرية لمنعها من مقاومة حركة العمال،
كما قرر المؤتمر إيفاد سكرتير الاتحاد الدولي إلى مصر لعمل تقرير
عن أحوال العمال المصريين ونقاباتهم.
وفي خريف عام ١٩٣١م وصل والتر سكفنلز
Walter
Scavenlis سكرتير الاتحاد الدولي للعمال إلى
القاهرة، وحاولت الحكومة أن تحول بينه وبين لقاء العمال، ولكن
الاتحاد نجح في إقامة مؤتمر بالمعادي حضره ممثلون عن ٣٣ نقابة من
نقابات الاتحاد، واستمر الاجتماع ثلاث ساعات.
٤٦ وقف خلالها سكفنلز على أحوال العمال المصريين ورفع
مذكرة إلى الاتحاد الدولي ذهب فيها إلى ضرورة تحسين أحوال عمال مصر
ورفع الاضطهاد عنهم.
وكان لهذا النشاط الدعائي المضاد للحكومة على مستوى المنظمات
العمالية في الخارج أثره الكبير في إقدام الحكومة على محاولة إصدار
تشريعات للعمل، واستعانت في هذا بخبير أجنبي من مكتب العمل الدولي
وضع مشروعًا لتشريع العمل، كما أنشأت الحكومة مكتب العمل، وجعلته
ملحقًا بوزارة الداخلية؛ لأن مسائل العمل كانت تُعَد عندئذ من اختصاص
جهاز الأمن العام. ولم تُعنَ الحكومة بإصدار التشريع.
لذلك أصدر الاتحاد بيانًا في ديسمبر عام ١٩٣٢م حمَل فيه على الحكومة
واتَّهمها بحرمان العمال من تمثيلهم بالمجلس الاستشاري الأعلى للعمل
والعمال، والاعتداء على الحرية النقابية بإغلاق دور النقابات
والاتحاد العام، وإهمال معالجة أزمة البطالة، وطالب الاتحاد في
ختام بيانه بإطلاق الحرية النقابية.
٤٧
ولكن الحكومة لم تعدِل عن خُطتها في مطاردة الاتحاد وغلق دُوره،
وإلقاء القبض على أعضائه، حتى أصبح وجوده في حكم العدم من أواخر
عام ١٩٣٢م حتى أوائل عام ١٩٣٤م إلا ما كان يصدره رئيسه من حين لآخر
من بيانات الاحتجاج على تصرفات الحكومة في المسائل
العمالية.
وعمَرت تلك الفترة بالاضطرابات والقضايا السياسية وخاصة قضية
القنابل المشهورة وما تبِعها من تشديد الإجراءات البوليسية، وعلوِّ مدِّ
العنف في مواجهة النشاط العمالي؛ مما أدى إلى توقف النشاط العمالي
العلني، وبقِي للنقابات دورها البارز في المقاومة السياسية التي كان
يوجهها الوفد.
٤٨
وفي أوائل عام ١٩٣٤م أعاد الاتحاد العام لنقابات عمال القطر
المصري نشاطه متخذًا من دار عباس حليم بقصر الدوبارة مقرًّا له
ووضع الاتحاد برنامجًا جديدًا للعمل هدفه تحسين ظروف العمل ورفع
مستوى الأجور، وتقديم خدمات ثقافية ورياضية وعلاجية لأعضائه،
وإلحاق العاطلين منهم بالعمل، والتدخل في المنازعات التي تنشب بين
النقابات المنضمة إلى الاتحاد وأصحاب الأعمال لمحاولة الوصول إلى
ما يشبه نظام عقود العمل المشتركة، هذا بالإضافة إلى العمل على
تجميع العمال في نقابات لبث الوعي النقابي بينهم.
٤٩
وقد بلغ عدد النقابات المنضمة للاتحاد حدًّا أثار مخاوف الحكومة،
وخاصة بعد ما بدا أثر توجيهات الاتحاد واضحًا في إضراب عمال
المدابغ وعمال الفواخير والجزارين، كما أن انضمام نقابات عمال
السكك الحديدية من سائقي القطارات وعمال المناورة والحركة وكذلك
عمال الترام وثورتيكروفت، أعطى الاتحاد قوة لا يستهان بها إذا ما
لجأ إلى تنظيم عمل جماعي ضد رأس المال، خاصة أن عدد أعضاء الاتحاد
وفروعه (الاتحادات المركزية) في الجيزة والفيوم والمنيا وأسوان
وطنطا والمنصورة ودمنهور والإسكندرية وحلوان ومنوف وبنها بلغ حوالي
٣٠٠ ألف عامل.
٥٠
وقد وضع الاتحاد برنامجه الاجتماعي موضع التنفيذ، فأقام نظامًا
للعلاج الطبي، واهتم بالرياضة البدنية، ومحو الأمية. كما خصص زيًّا
موحدًا للأعضاء وكان هذا الزي يتكون من قميص وبنطلون وغطاء للرأس
أطلق عليه اسم «المصرية»، كما كان الأعضاء يحيون بعضهم البعض برفع
اليد على الطريقة النازية.
٥١ وكان رئيس الاتحاد على علاقة ودية بالمستر «جريفز»
مدير مكتب العمل الحكومي، فقد بارك الأخير جهود الاتحاد في التوفيق
بين العمال وأصحاب الأعمال، مما جنب المكتب الحكومي مواجهة
المشاكل، ونجح الاتحاد في عقد اتفاقات جماعية باسم العمال مع أصحاب
الأعمال قريبة الشبه بعقود العمل المشتركة، كان أهمها ذلك الذي عقد
بين أصحاب الفواخير والعمال، فقد تعرضت تجارة الفخار في أوائل
الثلاثينيات للكساد، مما دفع أصحاب الفواخير إلى تخفيض أجور العمال
وتوفير عدد كبير منهم، فقام العمال بإضرابات عدة أسفرت عن تدخل
الاتحاد بين المضربين وأرباب العمل والتوصل إلى اتفاق يقضي بأن
تتوقف مصانع الفخار مدة شهر حتى يتم بيع الإنتاج المتراكم في
مخازنها، على أن تدفع المصانع ١٠٪ من قيمة مبيعات الإنتاج للعمال،
ثم تستأنف عملها بعد مرور الشهر دون المساس بأجور العمال. ووقع على
ذلك الاتفاق أصحاب ٣٢ مصنعًا للفخار، وأبلغ الاتحاد صورته إلى مكتب
العمل، ولكن أحد أصحاب الفواخير خرج على الاتفاق وطلب من البوليس
حمايته، فتدخل البوليس واستخدم العنف مع العمال، ففشل الاتفاق وعاد
العمال إلى الإضراب.
٥٢
ومع مرور الأيام أخذ الاتحاد يزداد نفوذًا بزيادة عدد النقابات
المنضمة إليه، وعُني بتنظيم الإضرابات المتفرقة التي قام بها العمال
للمطالبة بتحسين أجورهم وخاصة أن الأزمة الاقتصادية أدت إلى
الاستغناء عن عدد كبير من العمال مما خلق مشكلة بطالة عجزت الحكومة
عن حلها. وكانت دار الاتحاد ملتقى العمال من كل حدب وصوب لتدارس
شئونهم. ورأت الحكومة أن تضع لهذا النشاط حدًّا، فأصدر كين بويد
مدير الإدارة الأوربية بوزارة الداخلية أوامره بمنع العمال من دخول
دار الاتحاد، فضرب البوليس حصارًا حول الدار (في ٢٠ من يونيو عام
١٩٣٤م). فاجتمعت الهيئة التنفيذية للاتحاد في مقهى بالخازندار،
وقررت تنظيم زحف من العمال لدخول الدار عنوة.
٥٣
وصل العمال إلى دار الاتحاد متفرقين في صباح اليوم التالي، ثم
تجمعوا أمامها وكان عددهم يربو على المائتين، فأحاطوا بالقوة التي
التي كانت تحاصر الدار واشتبكوا معها في معركة استعملت فيها العصي
من الجنود والحجارة والزجاجات من العمال، واضطر أفراد القوة أن
ينجوا بأنفسهم أمام تكاثر العمال، واستنجدوا بالداخلية وفي تلك
الأثناء تمكن الكثير من العمال من الدخول إلى حديقة دار الاتحاد
واستمرت المعركة بينهم وبين رجال القوة الذين حاصروهم داخل الدار،
استخدم فيها العمال الحجارة وأصص الزرع، ورد عليهم البوليس — الذي
كان قد وصلته نجدة كبيرة — بإطلاق الرصاص حتى تمكن من اقتحام الدار
وإلقاء القبض على ٩٥ عاملًا من مختلف النقابات. وأسفر الحادث عن
إصابة سبعة من العمال بطلقات الرصاص كانت إصابات بعضهم خطيرة، كما
أصيب عدد من رجال البوليس بجروح.
٥٤
قد أثار هذا الحادث عطف الرأي العام على العمال، وشرعت الصحف
تتناول الحادث كلٌّ من وجهة نظرها الخاصة؛ فذرفت صحف الوفد المداد
بسخاء على ضحايا الحكومة، بينما رمت الصحف المؤيدة للحكومة العمال
بتهمة إشاعة الفوضى وانتهاج سبل البلشفية. ونظر فريق ثالث من الصحف
إلى المشكلة نظرة موضوعية فطالب بضرورة إصدار تشريع يحمي العمال من
عسف أصحاب الأعمال وإطلاق الحرية النقابية من عقالها.
وبعد ثلاثة أيام من وقوع الحادث مات أحد العمال
٥٥ الذين جُرحوا برصاص البوليس فشُيعت جنازته في شبه مظاهرة
سياسية وعمالية، وتقدم المشيعين كبار رجال الوفد وعباس حليم، وقام
عمال النقل بعدة إضرابات احتجاجًا على اعتقال إخوانهم العمال
المتهمين، كان أبرزها إضراب سائقي التاكسي وسائقي وعمال
ثورتيكروفت. وأصدر الاتحاد بيانًا ناشد فيه العمال التزام الهدوء
والسكينة انتظارًا لكلمة القضاء.
٥٦
وفي ٢٩ من يونيو أُلقي القبض على عباس حليم، ولكن لم يلبث أن أُطلق
سراحه بتدخل السفير البريطاني — نتيجة لمساعي الأمير محمد علي —
دون أن توجه إليه تهمة معينة. وتمت محاكمة العمال المتهمين في
الحادث وكان معظمهم من قادة النقابات البارزين، فحُكم على البعض
مُددًا متفاوتة، وأُطلق سراح البعض الآخر. وتوقف نشاط الاتحاد
ونقاباته نتيجة لوجود المنظمين البارزين في السجن.
إن مسئولية الدم العمالي الذي أريق في ٢١ من يونيو عام ١٩٣٤م تقع
— في رأينا — على عاتق المنظمين النقابيين الذين قادوا زحف العمال
على دار الاتحاد، فوضعوا أنفسهم أمام البوليس وجهًا لوجهٍ في معركة
يعلمون جيدًا لمن سيكون النصر فيها، فلم يكن مُجديًا أن يدخل العمال
دار الاتحاد عنوة، ولكن كان الأجدى أن يعمد الاتحاد ممثلًا في
نقاباته إلى إعلان الإضراب العام في جميع أنحاء البلاد — وقد كان
في مركز يسمح له بهذا — لإجبار الحكومة على إطلاق الحرية النقابية
والاعتراف بالاتحاد لقد كانت العناصر القيادية التي نظمت هذا الزحف
محدودة الخبرة بالتنظيم وتوجيه النضال الجماعي، برغم أنها تضمنت
أناسًا من الرعيل الأول الذي خدم الحركة بإخلاص طيلة ربع قرن من
الزمان.
ومهما يكُن من أمر، فقد أظهر هذا الحادث الاتحاد بمظهر بطولي بين
صفوف العمال وحين استأنف نشاطه بعد خروج أعضاء الهيئة التنفيذية من
السجن في ديسمبر عام ١٩٣٤م انضم إليه عدد كبير من النقابات، وكان
العمال يتسابقون لتسديد الاشتراكات وحمل بطاقات العضوية.
٥٧
وقام الاتحاد في تلك المرحلة بتأسيس شركة تعاونية للسجاير، بقصد
تشجيع العمال على المساهمة في المشروعات الاقتصادية، ومن ثم كانت
فكرة تأسيس الشركة برأس مال عمالي خالص، تعود أرباحه على العمال
وحدهم. فوزعت الأسهم على العمال بالتقسيط المريح، ولكن انتشارها
كان محدودًا لوقوع العمال تحت ظروف اقتصادية سيئة في وقت كان فيه
الانخفاض هو الطابع المميز للأجور، ولذلك بدأت الشركة عملها برأس
مال مدفوع قدره ثلاثون ألف جنيه دفعها عباس حليم بصفة سلفة للشركة.
ونميل إلى الاعتقاد أن عباس حليم استغل اسم الاتحاد في تأسيس هذه
الشركة، فهو يعلم جيدًا أن أحوال العمال أسوأ من أن تسمح بجمع رأس
المال اللازم للمشروع، وأن استغلال اسم الاتحاد في شركة تنتج
السجاير الشعبية كان من شأنه أن يضمن استثمارًا مربحًا لرأس المال
الذي دفعه عباس حليم نظرًا لما كان متوقعًا من إقبال العمال على
شراء إنتاج الشركة التي تحمل اسم اتحادهم.
وقد تحقق هذا بالفعل — في بداية الأمر — فحقق المشروع نجاحًا
ملحوظًا، وأقبل العمال على تشجيع إنتاج الشركة، ولكنها تعرضت لحرب
ضروس شنتها الحكومة وشركات الدخان الاحتكارية. وقاومت الحكومة
عملية بيع الأسهم، وشنَّ الوفد في صُحفه حملة على الشركة، وحرض العمال
على عدم تسديد بقية أقساط الأسهم. وتدهور المركز المالي للشركة،
مما ترتب عليه تصفيتها في عام ١٩٣٦م.
٥٨
على أن أقوى ضربة وُجهت إلى الاتحاد العام لنقابات العمال هي تلك
التي سددها الوفد في فبراير عام ١٩٣٥م، حين أقام «المجلس الأعلى
للعمال» في شكل اتحاد للنقابات نجح في اقتناص عدد كبير من النقابات
التي كانت منضمة إلى الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري،
فكان «المجلس الأعلى للعمال» إسفينًا شقَّ الحركة العمالية إلى
قسمين، شايع أحدهما الوفد، وانضم الآخر إلى عباس حليم. فكانت فرصة
ذهبية اقتنصها البوليس السياسي للقضاء على الاثنين معا.
ولكن انقسام الحركة العمالية لم يمنع العمال من تلبية داعي
النضال الوطني حين تمسُّ مصالح البلاد. فقد بقيت النقابة هي الخلية
الأولى التي تجمع عمال المؤسسة وتبرز دورهم السياسي حين ينفجر سخط
الشعب. وكان للعمال دور بارز في المظاهرات التي قامت في نواحي
القاهرة وبعض المدن الكبرى في نوفمبر عام ١٩٣٥م احتجاجًا على تصريح
صمويل هور
٥٩ وزير خارجية بريطانيا المتعلق بالدستور، ولمطالبة
زعماء الأحزاب السياسية بالاتحاد للحفاظ على الحقوق الدستورية
للأمة. وأصيب كثير من العمال في هذه المظاهرات وسقط أحدهم قتيلًا
برصاص البوليس، كما قتل عدد من الطلبة كذلك، وقام إضراب عام فتوقفت
الحياة الاقتصادية في القاهرة، واحتجبت الصحف، وعطلت الأعمال
حدادًا على الشهداء.
وقد أدت هذه الحوادث إلى اتفاق الأحزاب على إقامة جبهة وطنية على
أساس إعادة دستور ١٩٢٣، وإجراء انتخابات حرة والعمل على عقد معاهدة
بين مصر وبريطانيا طبقًا لنصوص المشروع الذي انتهت إليه مفاوضات
النحاس — هندرسن في ربيع عام ١٩٣٠م — وكُللت مساعي الجبهة بالنجاح،
وأسفرت عن تأسيس «الجبهة الوطنية» من الوفد المصري وحزب الأحرار
الدستوريين وحزب الشعب وحزب الاتحاد والحزب الوطني وبعض المستقلين.
وكتبت الجبهة للملك وللحكومة البريطانية، فاستجاب الملك فؤاد لطلب
الجبهة وأصدر أمرًا ملكيًّا في ١٢ ديسمبر عام ١٩٣٥م بإعادة العمل
بدستور ١٩٢٣، ووافقت الحكومة البريطانية على عقد معاهدة على شرط أن
تتباحث الحكومتان — بمساعدة مستشاريهما العسكريين — بصفة سرية
وبروح التحالف المنشود في تطبيق الأحكام العسكرية الواردة في مشروع
معاهدة ١٩٣٠ على الحالة التي تغيرت عما كانت عليه من قبل.
٦٠
وكانت هذه الأحداث فرصة مناسبة لترميم الصدع الذي أصاب الاتحاد
العام لنقابات عمال القطر المصري بعد تأسيس الوفد للمجلس الأعلى
للعمال، فدعا الاتحاد إلى عقد مؤتمر لنقابات العمال لبحث موضوع
اشتراك العمال في الجبهة الوطنية. واجتمع المؤتمر في ٢٢ من ديسمبر
عام ١٩٣٥م وقرر تأليف «كتلة برلمانية» عمالية، بغرض تمثيل الطبقة
العاملة ببعض أفرادها وبمن تأنس فيهم التوفر على مبادئها في
البرلمان الذي تسفر عنه الانتخابات، وتأييد مبادئ الجبهة الوطنية
والعمل على دوامها واستمرارها
٦١ ولكن أحدًا لم يُعِر اهتمامًا لقرارات المؤتمر.
وحين صدر القانون بتحديد ساعات العمل في الصناعات الخطرة، اجتمع
ممثلو النقابات المنضمة للمجلس الأعلى للعمال في ١١ من يناير عام
١٩٣٦م لدراسة القانون، ثم قرروا الاحتجاج عليه، وطالبوا الحكومة
بإعادة النظر فيه، وتكوين لجنة لاستطلاع رأي العمال، وعرض القانون
المعدل في الدورة البرلمانية التالية.
٦٢
ولكن حين دعا الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري إلى عقد
مؤتمر مماثل في ١٢ من يناير عام ١٩٣٥م لمناقشة مشروع قانون عقد
العمل الذي وضعه المجلس الأعلى للعمل والعمال،
٦٣ فقام البوليس بمنع العمال من دخول دار الاتحاد حيث
مكان انعقاد المؤتمر فنظم العمال مظاهرة طافت شوارع القاهرة ومرَّت
بوزارة التجارة والصناعة وبمجلس الوزراء والبرلمان، واجتمعت لجنة
تنظيم المؤتمر في مقر نقابة موظفي المحال التجارية، وأصدرت قرارًا
بالاحتجاج على مشروع قانون عقد العمل وتحديد ساعات العمل في المحال
الخطرة بتسع ساعات، وطالَبوا بجعل الأعضاء الذين ينوبون عن العمال
في المجلس الأعلى للعمل يتساوون في العدد مع مندوبي أصحاب الأعمال،
وأن يكون اختيار مندوبي العمال لمدة سنتين، كما طالبوا بتحديد
ساعات العمل في المحالِّ التجارية والصناعية بحيث لا تزيد على ثماني
ساعات، ومطالبة الحكومة بالانضمام إلى مكتب العمل الدولي،
والاحتجاج على عدم السماح بعقد مؤتمر العمال لدى رئيس الوزراء
ووزير الحقانية ووزير التجارة والصناعة، وإبلاغ الاحتجاج إلى سفراء
الدول في مصر، ومكتب العمل الدولي بجنيف، واتحاد نقابات العمال بباريس.
٦٤
وقد حمل عام ١٩٣٦م نُذر اضمحلال شأن اتحاد نقابات عمال القطر
المصري، فقد ألغى الملك فاروق مرسوم حرمان عباس حليم من امتيازات
أفراد أسرة محمد علي وأعاد له لقب «النبيل»، فانصرف عباس حليم عن
الاهتمام بشئون العمال، وأخذ يتنصل من تبِعاته، وخاصة أن النحاس كان
على رأس الوزارة التي شكلت لمفاوضة الإنجليز، وكان وجود عباس حليم
على رأس الاتحاد بعدما ساءت علاقته بالوفد من شأنه أن يظهره بمظهر
المناوئ للحكومة الوطنية، والذي يضع العقبات في طريق تحقيق أمل
الشعب، كما أن اهتمامه بالعمال لم يعد له ما يبرره بعد أن استنفد
أغراضه، ولم تبد في الأفق بشائر تحقيق مطامعه السياسية.
وهكذا أخذ الاتحاد يتداعى، وطارد رجال القلم المخصوص البارزين من
أعضائه وزج بهم في السجن، وحررت لهم محاضر التحري، وحرض البوليس
الشركات والمصانع على فصل المنظمين النقابيين من أعضاء الاتحاد،
كما تعقب دور النقابات التي أسستها جهود رجال الاتحاد فأغلقها
واستولى على أموال وأوراق الاتحاد المركزي بالإسكندرية الذي استنجد
سكرتيره بالاتحاد العام وهدد بحل الاتحاد المركزي بالإسكندرية إذا
لم يقم الاتحاد العام ببذل الجهود لحماية أعضائه.
٦٥ ولكن ما من مجيب فقد انفرط عقد الاتحاد، وعادت
النقابات تناضل منفردة من أجل تحسين أحوال أعضائها وظروف
عملهم.
وكما شهد عام ١٩٣٦م توقف نشاط الاتحاد العام لنقابات عمال القطر
المصري، شهد أيضا موجة عارمة من الإضرابات العمالية اجتاحت البلاد
وكانت أبرزها إضرابات عمال النسيج والسكر النقل، وقد قامت تلك
الإضرابات بدافع من سوء الأحوال الاقتصادية التي كان يعيش العمال
في ظلها … فلقد شهدت تلك الفترة نوعا من التحالف بين الرأسمالية
المصرية والرأسمالية الأجنبية، فتأسست مجموعة من المؤسسات
والشركات، وخاصة في صناعة النسيج برأس مال مشترك، وأدى صدور قانون
عقد العمل في عام ١٩٣٥م وتحديد مكافأة تمنح للعامل عند تركه الخدمة
بعد مرور سنوات معينة حددها القانون إلى لجوء أصحاب الأعمال إلى
فصل العمال ثم إعادة تعيينهم كل بضعة شهور، وبذلك لا يكون للعامل
مدة خدمة يستحق عنها مكافأة، كما اتجه معدل الأجور إلى الانخفاض
برغم أن الأسعار كانت آخذة في الارتفاع وبقيت ساعات العمل لا تعرف
حدودًا، ومن ثم كان انفجار السخط العمالي على هذه الأوضاع السيئة
الذي اتخذ مظهرا عنيفا بعكس سوء تنظيم هذه الإضرابات، فقد لجأ
العمال إلى تحطيم الآلات والمرافق، وأدى هذا إلى اتباع الحكومة
الشدة معهم فأطلق الرصاص على العمال في مصانع السكر بالحوامدية،
وعلى عمال الترام بالإسكندرية، ورفض رئيس الوزراء النحاس باشا
مقابلة وفد عمال وسائقي السيارات قدم لرفع مطالب العمال وأهان
رئيسه.
٦٦ وقبض على زعماء تلك الإضرابات ووجهت إليهم تهمة
الشيوعية.
هيئة تنظيم الحركة العمالية وتأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال
المملكة المصرية
كان من أثر المطامع الحزبية والشخصية التي وجهت مصير الحركة
العمالية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى منتصف الثلاثينيات،
أن اتجه بعض قادة العمال ممن تربَّوا في حِجر اتحادات العمال في تلك
الحقبة وتمرسوا بالعمل النقابي، إلى ضرورة إيجاد حل عمالي للأزمة
التي مرت بها الحركة نتيجة تصارع الأطماع الحزبية والشخصية، ومن ثم
أسسوا «هيئة تنظيم الحركة العمالية» في ١٢ من سبتمبر عام ١٩٣٧م بهدف
إعادة نشاط النقابات وتنظيمها وبث الدعاية لإعادة حزب العمال كهيئة
سياسية تحمي العمال من الوقوع بين براثن الأحزاب السياسية، وأخيرًا
تحذير العمال من الأشخاص والجماعات التي تعمل باسمهم لغايات خاصة.
٦٧
وشرعت هذه الهيئة في التمهيد لإقامة اتحاد عام للنقابات فأخذ
مندوبو النقابات يجتمعون للتشاور، وبدأت الهيئة تجمع شمل النقابات
وتعيد تنظيمها برغم الصعوبات المادية التي كانت تعترض
طريقها.
لكن لم يكَد يمضي شهر ونصف الشهر على قيام الهيئة حتى عاد عباس
حليم في الثاني من نوفمبر عام ١٩٣٧م من رحلة كان قد قام بها إلى
أوروبا في أغسطس، وظهر اتجاه بين أعضاء الهيئة للعودة إلى العمل مع
عباس حليم الذي كان قد صرح
٦٨ قبل سفره بأنه يعتزم استئناف رياسته للحركة العمالية
بعد أن كان قد أوقف نشاطه مدة ثمانية عشر شهرًا «حتى يتمكَّن الوفد
من عقد معاهدة الصداقة مع إنجلترا، وللحصول على قرار بإلغاء
الامتيازات الأجنبية في جو مفعم بالسلام». فنظم مؤيدوه استقبالًا
عماليًّا حافلًا له بالإسكندرية والقاهرة، وأصبحت الهيئة تعقد
اجتماعاتها برياسته.
وفي الأول من مارس عام ١٩٣٨م أعلن تأسيس الاتحاد العام لنقابات
عمال المملكة المصرية من ٣٢ نقابة برياسة عباس حليم، وبعد شهر أُجري
تعديل على رياسة الاتحاد؛ فأُسندت إلى محمد الدمرداش الشندي، وكان
عاملًا فنيًّا من عمال النسيج بالإسكندرية فاز بعضوية مجلس النواب،
ووجه سؤالين إلى وزير التجارة والصناعة، أحدهما عن استطلاع رأي
الحكومة في إصدار قانون للاعتراف بالنقابات، والآخر عن نشاط المجلس
الاستشاري للعمل والعمال. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يرتفع
فيها صوت واحد من العمال داخل قاعة مجلس النواب بمطالب عمالية.
٦٩ ومن ثَم كان اختيار النائب العمالي الأول رئيسًا
للاتحاد، واختار مجلس الاتحاد لعباس حليم مركز «الزعيم»! … والحق
أن عباس حليم لم يكُن له أي نفوذ يذكر على هذا الاتحاد، فقد كانت
العناصر العمالية النشيطة هي التي توجِّه أموره.
وكان لهذا الاتحاد نشاط كبير في المطالبة بإصدار تشريعات العمل،
فنظَّم مظاهرة ٨ من مايو عام ١٩٣٨م للمطالبة بالاعتراف بالنقابات،
وإعادة النظر في قانون إصابات العمل، وتخفيض ساعات العمل، ووضع حدٍّ
أدنى للأجور، وحل مشكلة البطالة،
٧٠ فوعدت الحكومة بإجابة مطالب العمال، وحين أغفلت
الحكومة إجابة تلك المطالب لجأ الاتحاد إلى تنظيم الإضراب عن
الطعام حتى تصدَّر تشريعات العمل في (١٣ من يونيو عام ١٩٣٩م) ونجح هذا
الإضراب في إرغام الحكومة على إدراج مشروع قانون الاعتراف
بالنقابات في جدول أعمال مجلس النواب بإحدى جلسات دورة الانعقاد،
ونوقش المشروع بمجلس النواب، وظل موضع نقاش طويل حتى عام ١٩٤٠م، ثُم
اتخذ فيه قرار في فبراير عام ١٩٤٠م، لكن مجلس الشيوخ اعترض عليه
فتوقف صدوره.
٧١
وقد أدى هذا النضال من أجل إصدار تشريعات العمل إلى التفاف
العمال حوله، بقدر ما أدى إلى جلب سخط الحكومة عليه ونحت العناصر
التي كانت على رأس الاتحاد — وجميعها من العمال — بالاتحاد نحو
الاستقلال التام عن الهيئات السياسية للأفراد، فقرر الاتحاد أن
يتحمل أعباءه بنفسه حتى يتمكن من تنظيم صفوف العمال تنظيمًا صحيحًا
يعود بالخير عليهم ويحقق أمانيهم، ولم يجد الاتجاه الذي نادى به
البعض بجعل عباس حليم رئيسًا شرفيًّا للاتحاد أذنًا صاغية، بل أعلن
الاتحاد تنصُّله من كل علاقة بعباس حليم وبغيره من السياسيين، وشرع
الاتحاد يُعِد نظامًا إداريًّا جديدًا ولائحة جديدة.
٧٢
ولكن ظروف قيام الحرب العالمية الثانية كانت فرصة هيأت للحكومة
سبيل القضاء على الاتحاد بمطاردة قادته وإلقاء القبض عليهم بحجة
خطورتهم وقيامهم بنشاط هدام. وبذلك لم يقدِّر للمحاولة الأولى
لاستقلال الحركة العمالية عن الساسة أن تعمِّر طويلًا.
لقد كانت فترة ما بين الحربين مهدًا لاتحادات النقابات التي ولدت
في أوائل العشرينيات ثم نمت وترعرعت حتى وصلت إلى درجة كبيرة من
القوة والتنظيم في الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري. وكان
أبرز ما يميز تلك الحقبة من تاريخ الحركة العمالية أنها كانت تعمُر
بالجهود التي بذلتها الأحزاب والمنظمات السياسية للسيطرة على
الحركة العمالية، كما امتازت بذلك النوع من الاتحادات ذي النشأة
المعكوسة، فمن المعروف أن النقابات هي نواة الاتحاد العمالي؛ إذ إن
الاتحاد العام يمثل تجمع المصالح العمالية في مواجهة رأس المال،
ولكن منذ أواخر العشرينيات أصبحت الاتحادات تنشأ أولًا بعدد قليل
من النقابات، ثم تأخذ على عاتقها مهمة تأسيس النقابات ووضع
لوائحها، وكانت تلك النقابات تتخذ من دار الاتحاد مقرًّا لها،
ولذلك لم يكن هذا النوع من النقابات يعمر طويلًا فسرعان ما كان
يتداعى بمجرد انهيار الاتحاد.
وبرغم تعاقب الاتحادات، ووجود أكثر من اتحاد للنقابات في وقت
واحد، فقد بقيت «النقابة» هي بؤرة النضال الجماعي من أجل تحسين
ظروف العمل، وقد نجحت بعض النقابات في الحصول على اتفاق مع أصحاب
الأعمال تشبه عقود العمل المشتركة. كما أن دور النقابة في العمل
السياسي كان واضحًا، فكانت تغذي حركة المطالبة بالدستور.
وثمة ظاهرة أخرى حكمت مصير النقابات في تلك الفترة هي عدم وجود
وعي نقابي تام بين العمال، ولا أدل على هذا من سيطرة أفراد بعينهم
على عدد من النقابات، فكان باستطاعة كل منهم أن يؤلف نقابة تجمع
عمال مهنته متى شاء ويحلها متى أراد، ويناصر هذا الحزب أو ذاك. وقد
أدى هذا إلى عدم وجود تربية نقابية سليمة تخلق العناصر القيادية
التي تستطيع متابعة برنامج النقابة، ومن ثَم ما كان يحدث من انهيار
النقابة بمجرد فصل أعضاء مجلس إدارتها من عملهم أو
اعتقالهم.
وبقِي أسلوب العمل النقابي ينحصر في تقديم الخدمات الاجتماعية
للعمال من أعضاء النقابة وكذلك الإعانات المالية، ولم يكُن هناك
رباط بين أعضاء النقابة أوثق من سوء أحوال وظروف العمل في المؤسسة
التي يعمل بها أعضاء النقابة، فعندئذ كان العمل النقابي يرقى إلى
مرتبة المساومة الجماعية، فكانت تقوم النقابة بتنظيم الإضرابات
وتفاوض أرباب العمل للوصول إلى أحسن شروط التعاقد الحر، ولكن شابَ
معظم تلك الإضرابات ما اتَّسمت به أحيانًا من اللجوء إلى العنف
والتخريب، وقد كان هذا الأسلوب يؤدي إلى فشل الإضرابات، وإلى تبديد
وجود النقابة ذاتها.
وقد ظلت الحركة موزعة بين الأحزاب، منقسمة على نفسها حتى بداية
النصف الثاني من الثلاثينيات؛ فنمت الروح الاستقلالية وأثمرت عملًا
نضاليًّا على درجة فائقة من التنظيم.