الفصل الرابع
النضال في سبيل التشريعات العمالية
رأينا كيف ظهرت الطبقة العاملة المصرية في أواخر القرن التاسع عشر
ومطلع القرن العشرين، وحققت وجودها بتأسيس النقابات العمالية، وبتحرك
تلك النقابات للمطالبة بتحسين ظروف العمل وشروطه. ولكن الحكومة وقفت
بمنأًى عن التدخل في شئون العمل وعلاقاته، ولعل هذا الموقف كان راجعًا
إلى سببين: أولهما أن أكثر الإضرابات التي وقعت في تلك الحقبة كانت تتم
من جانب العمال الأجانب أو بقيادتهم، ولم تكن الحكومة المصرية تملك
الولاية القضائية على هؤلاء العمال، كما لم تكن تملك التدخل الفعال في
شئونهم إلا بالاتفاق مع قناصل دولهم الذين كانوا يتولون التحقيق في
مطالب العمال ومحاكمة المسئولين منهم عن الشغب، أما العمال المصريون
فكان أمرهم هينًا عند الحكومة؛ فالبوليس يتولى ذلك بمعرفته ووسائله،
وثانيهما أن سلطات الاحتلال وعلى رأسها كرومر كانت تعلن التزامها —
بصورةٍ ما — بمفاهيم الحرية الاقتصادية فيما يتصل بعلاقات العمل وبضرورة
الحد من التدخل فيها من جانب الحكومة، ولم تكن هذه السياسة إلا ساترًا
لموقف الحكومة ضد إصدار تشريعات تنظم علاقات العمل وتحمي العمال من جَور
أصحاب الأعمال، ولعلها كانت تجد في صدور التشريعات عبئًا على رءوس
الأموال الأجنبية المستثمرة في البلاد.
١
وكان أول عمل جِديٍّ قامت به الحكومة لتنظيم شئون العمل بمصر هو إصدار
القانون رقم ١٣ لسنة ١٩٠٤م الخاص بالمحالِّ المقلقة للراحة والضارة بالصحة
والخطرة، ثم القانون رقم ١٤ لسنة ١٩٠٩م الخاص بتشغيل الأحداث في محالج
القطن ومصانع المنسوجات والدخان.
٢ وحين تفاقمت مشاكل العمل بعد الحرب العالمية الأولى، وقامت
النقابات التي عادت لمزاولة نشاطها بعد الحرب بتنظيم حركة المطالبة
بتحسين أحوال العمل، وقيام الإضرابات في أماكن متفرقة لتحقيق هذه
الغاية؛ قامت الحكومة بتشكيل لجنة التوفيق في ١٨ من أغسطس عام ١٩١٩م من
خمسة أعضاء من كبار الموظفين برياسة موظف إنجليزي كبير يُدعى السير
جرانفيل، وعهِد إليها بتسوية المنازعات التي تنشأ بين العمال وأصحاب
الأعمال في شتى أنحاء البلاد، وكانت اللجنة تعقد جلساتها في مكان
النزاع، وتصدر قراراتها نتيجة اتفاق الطرفين المتنازعين.
٣
وسرعان ما تعقدت مشاكل العمل في مطلع العشرينيات نتيجة غياب التشريع
المنظِّم لها، وعمَّت الإضرابات مدن القطر، وعجزت لجنة التوفيق عن الوصول
إلى حل لمعظم المشاكل التي عرضت عليها لأنها اتخذت من العاصمة مقرًّا
لها، ولم يكن نشاط أفرادها كافيًا لبحث المشاكل التي تراكمت أمامها،
وتحوَّل العمال إلى «العمل المباشر» فاحتلوا المصانع — كما رأينا —
ونظموا مظاهرة احتجاج أمام دور أعضاء اللجنة، وعمدت الحكومة إلى إيجاد
حلٍّ للموقف الذي ازداد توترًا بزيادة عدد لجان التوفيق، فتَقرر في أول
مايو عام ١٩٢٤م تشكيل لِجان إقليمية برياسة المديرين أو المحافظين وعضوية
ممثل للنيابة العامة وأحد القضاة وممثلَين لطرفي النزاع، على أن تُصدِر
قراراتها بإجماع آراء الحاضرين.
٤
ولكن هذه اللجان لم تكُن ذات فائدة؛ لأن قراراتها لم تكن ملزِمة لأحد،
وكثيرًا ما نزلت الشركات على حكمها ثم عادت تنقضه دون حسيب أو رقيب،
كما أن أصحاب الأعمال رفضوا الاعتراف بممثلي نقابات عمالهم لعدم وجود
اعتراف قانوني بالنقابات، مما جعل العمال يطالبون الحكومة بسن تشريع
يعترف بنقاباتهم، ويحسن أحوالهم وينظم علاقاتهم بأصحاب الأعمال. وخشيت
السلطات أن يؤدي الأمر إلى إفلات الزمام من يدها — كما حدث في عام ١٩٢٤م
— فعرضت وزارة الداخلية على مجلس الوزراء مذكرة بهذا الشأن اقترحت فيها
تشكيل لجنة يعهد إليها بحث نظام العمل والعمال في البلاد وتقديم
الاقتراحات بما يمكن اتخاذه في هذا الصدد من وسائل تشريعية. ووافق مجلس
الوزراء على هذا الاقتراح في ٢ يوليو ١٩٢٧م، وعهد إلى وكيل وزارة
الحقانية عبد الرحمن رضا باشا برياسة اللجنة التي تكوَّنت من اثنين من
أعضاء البرلمان هما الدكتور محجوب ثابت، ومحمد صبري أبو علم، وبعض
الموظفين الذين لوظائفهم علاقة بنظام العمل.
بدأت اللجنة أعمالها في أكتوبر عام ١٩٢٧م، وعقدت حتى أوائل مارس عام
١٩٢٩م (تاريخ انتهاء عملها) ٣٥ جلسة عامة ما عدا الجلسات التحضيرية والتقارير
٥ التي وضعتها اللجان الفرعية وتناولت فيها موضوعات:
الاحتياطات الصحية العامة لوقاية العمال من الإصابات، وساعات العمل
والراحة الإجبارية، ومشاكل العمال في مصر من واقع أعمال لجان التوفيق
من عام ١٩١٩ إلى عام ١٩٢٧م، والمسائل المتعلقة بتشغيل النساء والأحداث
ونقابات العمال، والعمل المنزلي وتسوية المنازعات المتعلقة بالعمل
ومجموعة القواعد الأساسية لتشريع العمل.
ورأت اللجنة أن الاقتصار على الدراسات النظرية في التشريع والقانون
والاقتصاد السياسي لن يكون كافيًا ما لم يقرَن بالاطلاع على أحوال العمل
والعمال على الطبيعة، فقامت اللجنة بزيارة بعض الشركات والمصانع، ودونت
مذكرات بملاحظات الأعضاء على هذه الزيارات، وبما أجاب مديرو الشركات
على الأسئلة التي وجهتها اللجنة إليهم، ورأت اللجنة أيضًا أن تستأنس
برأي بعض ذوي الشأن من أصحاب الأعمال والعمال، فبحثت ما قدِّم إليها من
شكاوى العمال وطلباتهم واقتراحاتهم، وكذلك اقتراحات نقابات وجمعيات
المستخدمين الأهلية المختلفة بالقاهرة والإسكندرية وغيرهما، كما بحثَت
اللجنة الآراء التي قدمتها بعض الشركات الكبرى وجمعية الصناعات بالقطر
المصري، واصلت اللجنة بمكتب العمل الدولي بجنيف وحصلت منه على مجموعات
القوانين والمعاهدات الخاصة بالعمل والعمال في جميع الدول.
٦
وأخيرًا قدمت اللجنة مشروع تشريع العمل في مارس عام ١٩٢٩م، وتناول
الفصل الأول منه حدود تطبيق القانون فنصَّ على استبعاد عمال الزراعة من
دائرة القانون، واختص الفصل الثاني بعقود العمل، فنصَّ فيه على عدم إلزام
العامل بأي عمل غير منصوص عليه في العقد، وأنه لا يجوز إلزامه بعمل لا
يتفق مع قوته وكفايته ودرجته وحالته، وحرَّم اشتراط حصول العامل على جزء
من الأجر في صورة بضائع استهلاكية من مخازن أو محالَّ معينة. وتناول
الفصل الثالث التزامات أصحاب الأعمال والعمال فنصَّ على ضرورة إتباع صاحب
العمل للشروط الصحية والفنية لمنع وقوع الإصابات، واتخاذ الإجراءات
الوقائية من الأمراض المهنية، وإيجاد مساكن للعمال تتوافر فيها شروط
الراحة والصحة، وتقديم خدمات طبية مجانية للعمال إذا زاد عددهم عن ٣٠٠
عامل. أما الفصل الرابع من المشروع فقد خُصص لساعات العمل، فحدد أقصى
مدة للعمل الفعلي بتسع ساعات يوميًّا على أن يُمنح العامل أجرًا إضافيًّا
إذا استدعى الأمر بقاءه في العمل أكثر من ذلك. وعرض الفصل الخامس
للأحكام الخاصة بتشغيل الأحداث والنساء، فحدد سنَّ الحدث عند الالتحاق
بالعمل باثني عشر عامًا، وحدد ساعات عمله بثمان ساعات يوميًّا، كما نصَّ
المشروع على عدم تشغيل النساء والأحداث في الأعمال الخطرة أو الضارة
بالصحة، وحرَّم تشغيلهم ليلًا، واعترف بحق المرأة العاملة في الحصول على
إجازة وضع بنصف أجرٍ لمدة ثلاثة أسابيع وعلى راحة استثنائية لمدة نصف
ساعة في الصباح ومثلها بعد الظهر لإرضاع الأطفال، ثم انتقل المشروع إلى
لجان التوفيق والتحكيم، وعرَّج بعد ذلك على النقابات واتفاقات العمل
المشتركة، فنصَّ على الاعتراف بنقابات العمال وأصحاب الأعمال، وبحق
النقابات في إبرام اتفاقات العمل المشتركة ومباشرة الحقوق والدعاوى
الناشئة عنها أو المتعلقة بها، وتناول المشروع بعد ذلك الأحكام الخاصة
بإصابات العمل والأمراض الناشئة عن العمل، ثم فصَّل الكلام عن مكتب العمل
فنصَّ على تشكيله بقرار من وزير الداخلية على أن يكون عمله الأساسي
مراقبة تنفيذ القانون وتسجيل عقود النقابات والتفتيش على المصانع.
٧
لقد كان مشروع عبد الرحمن رضا مشروعًا تقدُّميًّا بالنسبة لظروف تلك
المرحلة، برغم عدم اشتماله على أحكام تحمي العامل من الفصل التعسفي
وتؤمِّن مستقبله في حالة تقاعده بسبب الشيخوخة أو العجز، وبرغم خلوِّه من
الاعتراف بحق العامل في إجازة سنوية مدفوعة الأجر، وكذلك لم يشِر إلى
الراحات الأسبوعية، ولكنه وضع في اعتباره ضرورة الاعتراف القانوني
بالنقابات وضرورة إقامة هيئة حكومية تختصُّ بمراقبة مسائل العمل والعمال،
وإن كان قد تردَّى في الخطأ حين اقترح أن يكون مكتب العمل تابعًا لوزارة
الداخلية، وحين أخرج عمال الزراعة من دائرة الخضوع للقانون.
ولكن الحكومة أهملت مشروع القانون المقترح على ما فيه من ثغرات، ولم
تأخذ إلا بالاقتراح الخاص بإنشاء مكتب العمل، فأصدَرت في نوفمبر عام
١٩٣٠م قرارًا وزاريًّا بإنشائه، وألحق بإدارة عموم الأمن العام بوزارة
الداخلية، وحدد القرار اختصاصات المكتب فيما يلي:
٨
- (١)
تنفيذ القانون رقم ١٣ لسنة ١٩٠٤م واللائحة الصادر بها قرار
وزير الداخلية في ٢٩ أغسطس عام ١٩٠٤م، والجدول الملحق بهما بشأن
المحالِّ المقلقة للراحة والضارة بالصحة والخطيرة.
- (٢)
تنفيذ القانون رقم ١٤ لسنة ١٩٠٩م والقرارات الصادرة في ٢١
سبتمبر عام ١٩٢٤م و١٤ من أغسطس عام ١٩٢٦م و٢٠ مارس عام ١٩٢٧م بشأن
تشغيل الأحداث في محالج القطن ومحالِّ كبس القطن وتنظيفه ومصانع
الدخان والسجاير ومحالِّ غزل ونسج الحرير والقطن والكتان.
- (٣)
عمل الأبحاث وتقديم البيانات التي يقتضيها إصدار تشريع العمل
الجديد.
- (٤)
القيام بتنفيذ القوانين الجديدة عند صدورها.
- (٥)
مراجعة اللوائح الداخلية للورش والمصانع والمعامل ومحالِّ
التجارة والإشراف على تنفيذها.
- (٦)
درس أسباب المنازعات التي تقوم بين العمال وأصحاب الأعمال
ووضع حدٍّ لها سواء بالاتصال برجال الإدارة المحليين أو عن طريق
لجان التوفيق.
- (٧)
درس تنظيم النقابات والسبل إلى إدارتها إدارة صحيحة.
- (٨)
درس عادات العمال ووسائل معيشتهم ومساكنهم وأحوال عائلاتهم
وطرق تغذيتهم وما يؤدي إلى إصلاح حالهم ورفع مستواهم وتربية
أولادهم.
- (٩)
درس أسباب البطالة وجمع الإحصاءات والمعلومات عن العمال
العاطلين والاتصال بالوزارات والمصالح التي لها ورش أو مصانع
أو التي تستخدم الصناع أو العمال أو تشرف على تنفيذ الامتيازات
والاحتكارات الممنوحة للشركات والأفراد أو المصالح التي تشرف
على التعليم الصناعي وذلك لتدبير أعمال للعمال بقدر
المستطاع.
- (١٠)
جمع المعلومات والإحصاءات عن المنازعات بين العمال وأصحاب
الأعمال وقرارات لجان التوفيق ومخاطر العمل والإصابات الناشئة
عن العمل، والأجور وأسباب صعودها وهبوطها، وساعات العمل في
أثناء الليل وفي أثناء النهار.
وقد بدأ المكتب حياة محفوفة بالصعاب لقلة الموظفين الذين خصصوا له
وعدم تدريبهم على مثل تلك الأعمال، وضآلة ميزانيته، فضلًا عن الصلة
المثيرة لسوء الظن التي تربطه بإدارة أهم وسائلها سلطة البوليس، فلم
يكُن من المنتظر والحالة هذه أن يقوم بتنفيذ البرنامج الواسع الذي ألقيَ
على عاتقه.
شهد عام ١٩٣٠-١٩٣١م نشاطا نقابيًّا واسعًا برز فيه على مسرح الأحداث
— كما رأينا — الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري، وارتفعت أصوات
العمال تطالب بإصدار التشريع المنظم لشئون العمل، وترددت أصداء أصواتهم
في مؤتمر اتحاد النقابات العالمي بمدريد في أواخر يوليو عام ١٩٣١م وحضر
إلى مصر سكرتير الاتحاد الدولي للنظر في شكوى عمال مصر وبحث أحوالهم
(خريف عام ١٩٣١م) وكتب تقريرًا طالب فيه بتحسين أحوال العمال المصريين.
٩
ولمواجهة هذا الموقف طلبت حكومة صدقي من مكتب العمل الدولي بجنيف في
٣٠ من سبتمبر عام ١٩٣١م «إرسال بعثة استشارية لمصر لتقوم بفحص حالة
الصناعة في البلاد عن كثب وتقديم تقرير للحكومة المصرية عن خير الوسائل
لتنظيم إدارة العمل»،
١٠ فوافق المكتب على إيفاد هارولد بتلر
١١ H. BUTLER مساعد مدير مكتب
العمل الدولي يعاونه سكرتيره س. لوفورد شيلدز
S.
LAWFORD CHILDS إلى مصر لهذا الغرض.
وصلت البعثة إلى مصر في ١٦ من فبراير عام ١٩٣٢م، وعلمت بعد وصولها أن
ما هو مطلوب منها ليس تنظيم إدارة العمل فحسب، بل إبداء الرأي فيما
تنويه الحكومة من إجراءات تتعلق بالإصلاح الاجتماعي، وهي الإجراءات
التي ستقوم الإدارة بتنفيذها، ولذلك قامت البعثة بزيارة ٣٢ مصنعًا، ٢٠
ورشة خلال الأسابيع الأربعة التي قضتها في مصر، وتلقَّت الكثير من
المعلومات من الشركات واتحاد الصناعات المصرية وبنك مصر ونقابات العمال
التي أمدت البعثة بمعلومات وافية عن كيفية معاملة العمال في مختلف
الصناعات. وقد اتضح لبتلر أن هم النقابات الأكبر ينحصر في تحسين حالة
أعضائها تحسينًا فعليًّا، وأنها لا تهتم كثيرًا بالفلسفة الاجتماعية
العامة، مثال ذلك ما جاء في خطاب ألقاه أحد زعماء العمال أمام البعثة
في الإسكندرية نائبًا عن ٢٥ نقابة من نقابات الثغر؛ إذ أكد أن ما يريده
العمال هو الأخذ بنصيب من التعليم وتخفيض أجور السكن ووضع أحكام
قانونية تنظم شئون استخدامهم، كما قال عمال طنطا للبعثة أن ما يُهم
العمال هو تحديد ساعات العمل اليومية تبعًا لحالة كل صناعة وإبطال دفع
الأجور عن طريق وسطاء أو في فترات غير متساوية، وإيجاد عمل للعاطلين.
أما في المحلة فقد وجه العمال أنظار البعثة إلى كثرة عدد العاطلين
وانتشار الأمراض الصدرية بين العمال الذين يشتغلون بصناعة النسيج
اليدوي نظرًا لعدم مراعاة الشروط الصحية في محال العمل.
١٢
وبعد أن قامت البعثة بدراساتها لظروف العمل وأحوال العمال في الصناعة
والتجارة على الطبيعة، قدم بتلر تقريرين نشر أحدهما باللغات العربية
والإنجليزية والفرنسية وطُبع بالمطبعة الأميرية ببولاق، وقد تناول فيه
حالة مصر الاجتماعية كما تبينها البحوث التي قام بها، وبيان الإصلاحات
التشريعية والإدارية التي رأى ضرورتها لتنظيم شئون العمال في مصر بما
يتفق مع حالة الصناعة المصرية في تلك الحقبة، أما التقرير الآخر فكان
سريًّا لم تقم الحكومة بنشره، تضمن ضرورة إنشاء إدارة للعمل تزود بما
يلزم لها من موظفين ليتسنى لها القيام بواجباتها على الوجه الأكمل، على
أن تمنح مركزًا يضمن لها الاستقلال والسلطة اللازمين لتحقيق الغرض الذي
أنشئت من أجله. ونصح الحكومة بألا تجعل الإدارة المقترحة فرعا من
البوليس وألا يشمل اختصاصها شيئًا من أعمال إدارة عموم الأمن العام،
وأن تكون قادرة على نهج سياسة اجتماعية ثابتة وغير معرضة للتأثر
بالتقلبات السياسية حتى تكون موضع ثقة أصحاب الأعمال والعمال على
السواء.
وفي التقرير المنشور خرج بتلر من دراسته لأحوال الصناعة والعمال في
مصر بنتيجة مؤدَّاها أن الوقت قد حان للبدء بسياسة اجتماعية جديدة، ولكن
هذه السياسة «ينبغي أن ترمي إلى عدم الأخذ فورًا بالنظم الراقية التي
تسير عليها الدول الصناعية الكبرى، فالتفكير في وضع نظام للتأمين الصحي
أو تأمين الشيخوخة أو البطالة يُعَد في مصر سابقًا لأوانه مهما تكن
التكاليف تافهة، وحتى في المسائل الخاصة بحماية النساء والأحداث وتحديد
ساعات العمل وتنفيذ الشروط الصحية والشروط الخاصة بسلامة العمال وما
شاكلَ ذلك، فلا يمكن الوصول لأول وهلة إلى ما وصلت إليه أوروبا الغربية
وإنما يمكن التدرج في هذا السبيل كلما زاد إتقان الصناعة وحسنت
الإدارة. فإذا أريد التقدم بانتظام في هذا السبيل وجب وضع منهج عام
ينفَّذ تدريجيًّا كلما سنحت الظروف، وبهذه الطريقة يجتنب تحميل الصناعة
أعباء جديدة دفعة واحدة، كما يسهل تمرين المفتشين على القيام بأعمالهم
بدلًا من أن يجدوا أنفسهم أمام واجبات متنوعة لا قِبل لهم
بأدائها.»
وتناول التقرير النواحي التشريعية المختلفة، وأبدى بعض الملاحظات على
القوانين الخاصة بتشغيل الأحداث والنساء، وأوصى بضرورة سنِّ قانون
للتعويض عن إصابات العمل، وإيجاد دوائر قضائية خاصة للنظر في قضايا
التعويضات، واقترح تعديل القانون الخاص بالمحالِّ المضرة بالصحة والمقلقة
للراحة، وإيجاد مستوى أرقى للمحافظة على صحة العمال وسلامتهم، دون
الالتجاء إلى التشريع، واقترح إقامة بورصة صغيرة للعمال في كل من
القاهرة والإسكندرية وجعلهما على اتصال بالأقاليم للحصول على خبرة
كافية تصلح أساسًا لتكوين هيئة قادرة على حصر العمال العاطلين في
المستقبل وإيجاد عمل لهم، وأوصى بضرورة الاعتراف القانوني بالنقابات؛
لأنه «لو أتيح لها متابعة أغراضها تحت حماية القانون فمن المرجح أن
تقصِر جهودها على رعاية مصلحة أعضائها من ناحية العمل وتبتعد عن
السياسة»، ونصح بأن تترك للنقابات حرية إدارة شئونها المالية مع مراجعة
حساباتها سنويًّا بمعرفة أحد المحاسبين حتى يكون الأعضاء على ثقة بأن
أموالهم تدار إدارة حسنة، وأيد مقترحات لجنة عبد الرحمن رضا باشا
الخاصة بتحديد ساعات العمل بتسع ساعات يوميًّا وطالب بإجراء أبحاث
للنظر في تحديد ساعات العمل، والمبادرة بسَن قانون يمنح العمال يومًا
للراحة في الأسبوع سواء كانوا مشتغلين بالصناعة أو التجارة.
وبالنسبة لعقود العمل اقترح بتلر أن يُؤخذ في الاعتبار — عند وضع
تشريع العمل — أن يكون صاحب العمل مسئولًا عن دفع الأجور لكل شخص يشتغل
في محله، وألا تدفع الأجور عن طريق وسيط، مع ضرورة حصول العامل على
أجره في مواعيد منتظمة، وتحديد ما يجوز توقيعه من الغرامات والوجوه
التي تستعمل فيها حصيلة الغرامات، وتحريم دفع الأجور كلها أو بعضها
عينًا، وإقرار حق العامل في المكافأة عند فصله من الخدمة عن طريق لجنة
تشكل لهذا الغرض من ممثلين للمحاكم المختلطة والأهلية، واقترح إيكال
مهمة التوفيق في المنازعات التي تنشب بين العمال وأصحاب الأعمال إلى
اثنين من الموظفين بإدارة العمل، على أن يكون لهما حق طلب المساعدة من
السلطات المحلية إذا قدر أن هذه المساعدة ضرورية أو ذات فائدة، فإذا لم
يقتنع الطرفان حُوِّل الموضوع إلى هيئة تحكيم تقام لهذا الغرض.
وأوصى بتلر في ختام تقريره بضرورة إنشاء مجلس استشاري للعمل برياسة
أحد الأشخاص البارزين وبعضوية موظفين من المصالح المختلفة، وممثلين
لأصحاب الأعمال والعمال وبعض الأشخاص المستقلين ممن تتوافر فيهم
الأهلية للنظر في الشئون الصناعية. على أن يكون تكوين هذا المجلس خطوة
أولى في سبيل تنفيذ البرنامج الذي ورد بالتقرير، لأنه «من الضروري جعل
مسائل العمال بمعزل عن السياسة، واتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإمكان
السير على سياسة واحدة بصفة مستمرة برغم تغيير الحكومات».
١٣
لقد وضع بتلر الأسس السليمة لتشريع العمل، فكان بعيد النظر حين نادى
بإصدار التشريعات تدريجيًّا وبإبعاد مسائل العمل عن السياسة، ولكنه بخس
العمال حقهم بإهماله مسائل التأمين ضد البطالة والشيخوخة بحجة أن معظم
العمال يعملون في ورش صغيرة لن يتمكن أصحابها من تحمل أعباء التأمين،
كما لم يشِر إلى حق العمال في الحصول على العلاج المجاني، وقد غطى مشروع
لجنة عبد الرحمن رضا هذه النواحي كلها، ولكن تقرير بتلر كان أول تقرير
رسمي أشار إلى ضرورة فصل مسائل العمال عن تبعيتها لإدارة الأمن العام
حتى يكسب مكتب العمل ثقة العمال وأصحاب الأعمال.
وعملت الحكومة على تنفيذ بعض ما أشار به التقرير فأصدرت القانون رقم
٤٨ لسنة ١٩٣٣م الخاص بتنظيم تشغيل الأحداث، والقانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٣٣م
الخاص بتنظيم تشغيل النساء، ثم القانون رقم ١٤٧ لسنة ١٩٣٥م الخاص بتحديد
ساعات العمل لبعض الصناعات الخطيرة، والقانون رقم ٦٤ لسنة ١٩٣٦م الخاص
بالتعويض عن إصابات العمل،
١٤ كما أخذت الحكومة باقتراح بتلر الخاص بإنشاء مجلس العمل
الاستشاري الأعلى، فأنشِئ المجلس بقرار صدر من مجلس الوزراء في ديسمبر
عام ١٩٣٨م، وحُدد اختصاصه بمعاونة الحكومة في إعداد قوانين العمل
وإرشادها فيما يتعلق بمعالجة شئون العمال، ومساعدة مكتب العمل في رسم
خطة لمختلِف الأبحاث التي يقوم بها، والاشتراك مع الحكومة بوجهٍ عام في
تحسين حالة العمل والعمال. وعين أحمد زِيور باشا رئيسًا للمجلس، واختير
أعضاء المجلس من بين رؤساء المصالح التي تستخدم عمالًا، وممثلين لدوائر
الأعمال الهامة كشركة قناة السويس وشركة السكر وشركات الترام وغيرها،
ولم تعين الحكومة بالمجلس ممثلين عن العمال بحجة عدم صدور التشريعات
المنظمة للنقابات والتي يمكن بموجبها تحديد الهيئات التي تتولى انتخاب
ممثلي العمال بالمجلس. وقد اقترح مستر جريفز — مدير مكتب العمل — أن
تقوم الحكومة بتعيين من يمثلون العمال بالمجلس على أن يستبدلوا بغيرهم
ممن تنتخبهم النقابات متى نظمت وأصبحت قادرة على إجراء انتخابات
١٥ وتحقق فصل مكتب العمل عن إدارة الأمن العام في عام ١٩٣٥م
فألحق بوزارة التجارة والصناعة.
ولم تستمع الحكومة إلى اقتراحات بتلر الخاصة بالنقابات، وكان موقف
الحكومة من النقابات غامضا منذ عام ١٩٢١م حين صدر القانون رقم ٢ لسنة
١٩٢١م الذي حذر على العمال والخدمة والمستخدمين والكتاب التنازل عن جزء
من أجورهم إلى نقابة أو شركة أو جمعية صناعية أخرى مهما كان الشكل الذي
تألفت بمقتضاه. وأوضحت الحكومة في صدر هذا القانون ما رأته من مبررات
إصداره فقالت «بما أنه لا يوجد الآن تشريع يتضمن من الأحكام الواجب
مراعاتها في تأليف النقابات، وبما أنه بالرغم من عدم وجود مثل هذا
التشريع فقد حدث أخيرًا أن بعض الأشخاص اجتمعوا وكونوا نقابات خارجة عن
دائرة أي تقنين، وبما أن هذه الحالة في الواقع مدعاة لسوء التصرف، وبما
أنه قد تبين على الأخص أن بعض أعضاء هذه الجماعات قد تنازلوا عن أجورهم
تنازلًا لا رجوع فيه لمصلحة النقابة التي ينتمون إليها، وبما أن هذا
التنازل مخالف للنظام العام، والحالة تقتضي الإسراع في اتخاذ التدابير
الواقية لمصلحة العمال أنفسهم، وذلك إلى أن يصدر قانون خاص عن النقابات
…» فالحكومة لم تتعمد بإصدار هذا القانون حماية أجر العامل فقط، بل
تذهب إلى عدم رضائها عن النقابات والتشكيك في شرعية تكوينها، مستندة
إلى أنه لم يكن قد صدر أي قانون يبين أحكام تأليف النقابات، مع أن
القاعدة أن كل ما لم يحرمه القانون فهو مباح، ولم يكن تأليف النقابات
محرمًا صراحة أو ضمنًا في مصر يومًا ما، وقد أرادت الحكومة بذلك
القانون إضعاف النقابات بإضعاف ماليتها.
١٦
وصدر بعد ذلك القانون رقم ٣٧ لسنة ١٩٢٣ الذي أضاف إلى قانون العقوبات
مواد جديدة حدت من حرية بعض فئات العمال في ممارسة حق الإضراب، وحمت حق
الغير في أن يشترك أو لا يشترك في جمعية من الجمعيات، فاعترفت صراحة
بحق كل شخص في الانتماء أو عدم الانتماء إلى الجمعيات، وبذلك ضمنت حرية
العمال في الالتحاق بالنقابات. كذلك اعترف القضاء بمشروعية تكوين
النقابات ما دامت لا ترمي إلى فرض غير مشروع، كما أقر لها بالشخصية
المعنوية مرتبا على ذلك أهليتها القانونية للتملك والتعاقد والتقاضي
ووضع بذلك النقابات والجمعيات الأخرى على قدم المساواة.
١٧
لم تكن الخطوات التشريعية التي اتخذت لترضي العمال، فقد بقيت ساعات
عملهم اليومية لا تعرف حدودًا، وماطلَت الحكومة في إصدار قانون عقد العمل
الذي ينظم حقوقهم وواجباتهم، وظلت أجورهم عرضة لتقلبات أمزجة أصحاب
الأعمال وتبعًا للعرض والطلب، وعضَّت البطالة بأنيابها الآلاف منهم،
وأغمضت الحكومة عينيها عن كل الاقتراحات التي قدمت للاعتراف بنقابات
العمال. لذلك أخذ اتحاد نقابات عمال المملكة المصرية على عاتقه مهمة
تنظيم المطالبة بتشريعات العمل، فاقترح في مجلس الاتحاد تشكيل وفد من
مندوبي النقابات لعرض مطالب العمال على المسئولين، ولكنهم عدَلوا عن
الفكرة، وقرروا القيام بعمل جماعي منظم للمطالبة بالتشريعات العمالية،
ولتكون حركتهم في نفس الوقت ردًّا مقنعًا على الخطاب الذي أرسله رئيس
اتحاد الصناعات إلى الحكومة طالبًا التريُّث في إصدار تشريعات العمل،
١٨ فكانت مظاهرة ٨ من مايو عام ١٩٣٨م.
ففي ذلك اليوم نظَّم الاتحاد مظاهرة ضمَّت مندوبي النقابات وحشد كبير من
العمال طافت بشوارع القاهرة مارَّة بقصر عابدين ورياسة مجلس الوزراء
ووزارة التجارة والصناعة ومجلس النواب ودُور الصحف، وقدَّم المتظاهرون إلى
الجهات التي طافوا بها عرائض اشتملت على المطالب التالية:
- (١)
الاعتراف بالنقابات.
- (٢)
إعادة النظر في قانون إصابات العمل.
- (٣)
تنفيذ تعليمات مصلحة العمل في مراقبة الشركات
والمصانع.
- (٤)
تخفيض ساعات العمل ووضع حدٍّ أدنى للأجور.
- (٥)
حل مشكلة العمال العاطلين.
وبلغت المظاهرة حدًّا فائقًا من التنظيم، فلم يقع ما يعكر صفوَ الأمن،
وأكد المسئولون وعودهم للمتظاهرين بالنظر في إصدار التشريعات وتحقيق مطالبهم.
١٩
ولبث العمال يترقبون تنفيذ الحكومة لوعودها حتى مضى عام كامل، فملَّ
العمال طول الانتظار وعقد مجلس الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة
المصرية اجتماعًا فوق العادة في ٢٥ مايو عام ١٩٣٩م للنظر فيما يجب عمله
إزاء تلك الظروف، وتمخَّض الاجتماع عن إصدار بيان وجَّهه الاتحاد إلى
المسئولين واستهلَّه بمقدمة صور فيها بؤس العمال وشقاءهم بسبب مماطلة
الحكومة في إصدار تشريعات العمل وخاصة قانون الاعتراف بالنقابات، ثم
ختم البيان بالقرارات التي اتخذها مجلس الاتحاد وهي:
٢٠
- (١)
تغيير خطة الاستجداء التي كان يتبعها في المطالبة بحقوق
العمال، واتخاذ طريق إيجابي بأن يجعل من أعضائه ضحايا في سبيل
زملائهم العمال ونصرة قضيتهم.
- (٢)
مطالبة الحكومة بإصدار تشريعات العمال في أقرب فرصة وخصوصًا
قانون الاعتراف بالنقابات.
- (٣)
إذا لم يصدَر التشريع في ظرف خمسة عشر يومًا من تاريخ إعلان
هذا القرار لولاة الأمور فسيضرب الأعضاء عن تناول الطعام في
مكان سيعين فيما بعد، يجتمع فيه المضربون حتى تُجاب مطالب
العمال أو يكون لهم شرف الاستشهاد في سبيل إسعاد العمال في
المملكة المصرية.
ووقع اختيار الاتحاد العام لنقابات العمال بالمملكة المصرية على
ثمانية من أعضاء مجلس الاتحاد باعتبارهم الفوج الأول للمضربين عن
الطعام، حتى إذا ماتوا ولم تستجب الحكومة لمطالب العمال حلَّ محلهم فوج
آخر، ورُوعي في اختيار أولئك العمال تمثيل مختلِف طوائف العمال ونقاباتهم واتحاداتهم،
٢١ وأصدر الاتحاد بيانًا للعمال بهذه المناسبة شرح فيه ظروف
الإضراب ودواعيه حتى يعبئ الرأي العام وراء حركة الإضراب.
٢٢
وفي ١٢ من يونيو عام ١٩٣٩م بدأت المجموعة الأولى الإضراب عن الطعام
وكان من المقرر أن يتم الإضراب بدار حزب الفلاح الذي كان يقع بميدان
الملكة فريدة (العتبة الخضراء)، ولكن حين توجَّه العمال إلى الدار وجدوا
البوليس قد حاصرها ومنعهم من دخولها، فجلسوا على الأرض في المنتزه الذي
يتوسط الميدان، ووضعوا حولهم لافتات كتِب عليها عبارة «العمال المضربون
عن الطعام حتى تصدر التشريعات العمالية»، فقام رجال البوليس بجمع
اللافتات؛ فكان ذلك مسترعيًا لأنظار الجمهور، فطلب البوليس من العمال
مغادرة الميدان والدخول إلى دار حزب الفلاح،
٢٣ فدخلوا الدار وقبعوا بإحدى الغرف، وقامت فرقة من البوليس
السياسي وبوليس قسم الموسكي باحتلال دار الحزب ومنعت الاتصال بالعمال
من الخارج إلا بإذن من بوليس الموسكي.
٢٤ ونجح بعض مندوبي الصحف في الوصول إلى مكان المضربين وأجروا
معهم تحقيقات صحفية؛ فأخذت أخبارهم تحتل صفحات الجرائد، وعندئذ اهتمَّ
المسئولون بأمرهم وزارهم مصطفى العسال عضو مجلس النواب وأفهمهم أن
قانون النقابات قد أدرج في جدول أعمال جلسة مساء ١٤ من يونيو، ونصحهم
بالعدول عن الإضراب ما دام القانون قد أصبح موضع البحث؛ فطلب العمال
المضربون أن يطلعوا على جدول الأعمال المطبوع، فلما جيء به تبين أن
القانون لم يُدرج فيه، فصمموا على مواصلة الإضراب،
٢٥ وشدَّ من أزرهم ما كانت تكتبه الصحف عن حركتهم واهتمام الرأي
العام بهم، وقيام مظاهرات العمال أمام دار حزب الفلاح تأييدًا لهم،
وحضور وفد من عمال بنها إلى القاهرة سيرًا على الأقدام لتأييدهم، عندئذ
استسلمت الحكومة لرغبتهم وأدرِج مشروع قانون النقابات بجدول أعمال جلسة
مجلس النواب يوم ١٥ من يونيو، فعدَل العمال عن إضرابهم الذي استمر ثلاثة أيام.
٢٦
وفكرة تقديم مشروع قانون بشأن النقابات إلى البرلمان ترجع إلى عام
١٩٣٦م، حين قدَّم الأستاذ زهير صبري إلى مجلس النواب اقتراحًا بقانون بشأن
النقابات، ولكن المجلس أعاده إلى لجنة العمال والشئون الاجتماعية
والتعاون بِناءً على طلب الحكومة التي قررت أنها تضع قانونًا بهذا الشأن،
وفي مايو ١٩٣٩م قدم النائب مصطفى العسال إلى المجلس اقتراحًا آخر بمشروع
قانون في الموضوع ذاته، ونظرته لجنة العمال والشئون الاجتماعية
والتعاون، وقدمت عنه تقريرًا إلى المجلس، ولكن الحكومة قدمت مشروعًا
آخر أحِيل على اللجنة لبحثه وهو الذي أدرج في جدول أعمال جلسة مجلس
النواب يوم ١٥ من يونيو عام ١٩٣٩م تحت ضغط إضراب العمال عن
الطعام.
وقد ثارت المناقشة حول الفقرتين ٢، ٤ من المادة الثانية من المشروع
حين اعترض بعض النواب على استثناء عمال الحكومة من حق إنشاء النقابات،
ورأَوا أنه يجب أن يسري عليهم ما يسري على باقي العمال، ولا معنى أن
تُصدَر التشريعات بعضها يُسوِّي بين العمال وبعضها يُفرِّق بينهم، ولكن اللجنة
لم تأخذ بهذا الرأي وحين بُحثِت المادة الثالثة من المشروع عرض رأى بعدم
جواز تعدد النقابات لمهنة واحدة، ولكن اللجنة رفضت الاستجابة لهذا
الرأي لأنها كانت ترى أنه «لا معنى للتحكم في حصر الحركة النقابية على
أفراد أو جماعة قد تحتكرها وتُسيء استعمالها بعد ذلك.»
٢٧
وأخيرًا قدمت لجنة العمال والشئون الاجتماعية والتعاون تقريرها إلى
مجلس النواب في ٤ من يناير عام ١٩٤٠م متضمنًا مشروع القانون بعد إدخال
تعديلات طفيفة عليه، وعرض القانون على المجلس بجلسة ٣٠ من يناير عام
١٩٤٠م؛ حيث تمت الموافقة عليه، ولكن مجلس الشيوخ اعترض على القانون فتوقف
صدوره.
ويعكس موقف مجلس الشيوخ من قانون الاعتراف بالنقابات الأوضاع الطبقية
في المجتمع المصري في ذلك الحين، فقد كانت هناك طبقة كبار الرأسماليين
والإقطاعيين، وهذه الطبقة كانت تملك المصانع وتحتكر عضوية مجالس إدارة
الشركات وتستحوذ على آلاف الأفدنة، تليها الطبقة الوسطى من تجار المدن
والعمد والمشايخ والمثقفين وهي الطبقة التي استفادت من ظروف الحرب
واستطاعت أن تكون لنفسها ثقلًا في الحياة السياسية للبلاد، أما الطبقة
الدنيا فتمثلت في العمال والفلاحين وصغار الموظفين، وهي الطبقة التي وقع
عليها استغلال الطبقات المسيطرة في المجتمع، وكان مجلس الشيوخ يمثل
المصالح الرأسمالية والإقطاعية الكبرى، أما مجلس النواب فكان يمثل
الطبقة الوسطى، وبقيت الطبقة الكادحة المعدمة (العمال والفلاحون وصغار
الموظفين) بعيدة عن الحكم وعن مقاعد البرلمان، ولذلك لم يكن غريبًا أن
يظلَّ مشروع قانون الاعتراف بالنقابات محل بحث لجنة العمال والشئون
الاجتماعية لمدة ثمانية شهور، وأن يعطل مجلس الشيوخ إصدار القانون لأن
صدوره يكسب النقابات الشخصية الاعتبارية ويجعلها تستند إلى حماية
القانون، فتقوَى ويزداد التفاف العمال حولها مما يهدد المصالح
الرأسمالية بالخطر.
وعاصرَت تلك الأحداث بداية الحرب العالمية الثانية، وكانت الأسعار قد
ارتفعت ارتفاعًا جنونيًّا في الوقت الذي تدفقت فيه جموع الفلاحين على
المدن للعمل بالصناعات التي انتعشت خلال الحرب، وللالتحاق بالمصانع
الحربية التي أنشأتها قوات الحلفاء، فزاد العرض في سوق العمل مما أدى
إلى تثبيت الأجور عند حدود ما قبل الحرب، فأصبحت لا تكاد تفي بالمطالب
الضرورية لحياة العامل وأسرته ورفع العمال أصواتهم إلى المسئولين
يطالبون بزيادة الأجور لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة ولضمان حق الحياة
لهم ولذويهم.
وصمَّت الحكومة آذانها عن سماع تلك المطالب، فضلًا عن الاستجابة لها،
فيَئس العمال وقرروا سلوك سبيل العمل الإيجابي فرفع عمال الترام والمترو
وسيارات الأتوبيس بالقاهرة مذكِّرة إلى المسئولين يطلبون فيها التوسط لدى
الشركات التي يعملون بها لزيادة أجورهم وعقدت عدة اجتماعات خاصة لبحث
تلك المسألة، وأذاع رئيس الوزراء بيانًا أعلن فيه أن الحكومة تبذل
مساعيها لدى الشركات للوصول إلى اتفاق حول تحسين أجور العمال.
٢٨ غير أن العمال عقدوا العزم على الإضراب إذا لم تقُم الشركات
بالاستجابة لمطالبهم حتى ١٥ من سبتمبر عام ١٩٤١م.
وفي صبيحة ١٦ سبتمبر توقَّفت جميع وسائل المواصلات في القاهرة ومصر
الجديدة والضواحي ونتج عن ذلك تعطُّل العمل في دواوين الحكومة بسبب تأخُّر
الموظفين عن أعمالهم وانقطاع الكثيرين منهم من سكان الضواحي عن العمل،
فأذاعت رياسة مجلس الوزراء بلاغًا رسميًّا جاء فيه أنه «قد سبق للحكومة أن
وعدت بدراسة موضوع غلاء المعيشة وما يُلابسه على أن تصل إلى حل في أقرب
وقت ممكن، إلا أنها رأت إصرارًا من جانب بعض العمال على الإضراب ابتداء
من اليوم (١٦ سبتمبر) مع ما في هذا من مخالفة للأمر العسكري رقم ٧٥
الصادر في ١٤ من يوليو عام ١٩٤٠م. لهذا تنصح الحكومة بعودة العمال إلى
عملهم فورًا والاستمرار فيه، بينما تُعنى الحكومة بدراسة الموقف، وهي لا
تتهاون مطلقًا في تطبيق الأمر العسكري السالف الذكر، وتود ألا تلجأ إلى
اتخاذ إجراءات أخرى للمحافظة على راحة الجمهور وإقرار النظام والأمن
العام.»
واغتنم عباس حليم الفرصة — كعادته — للظهور بمظهر الزعيم العُمالي،
فتصدَّى لمحاولة إيجاد حلٍّ للموقف، وقابل رئيس الوزراء وأقنع العمال
باستئناف العمل بعد أن وعدت الحكومة — في اجتماع عُقِد برياسة مجلس
الوزراء وحضره عباس حليم وحمدي محجوب باشا وكيل الداخلية — أن تنفِّذ
مطالب غلاء المعيشة في مدة لا تتجاوز خمسة عشر يومًا ابتداء من ١٦ سبتمبر.
٢٩
وانتهى الإضراب نهاية درامية في (١٧ من سبتمبر)؛ إذ قام عباس حليم
بقيادة أول ترامٍ غادر مخزن الجيزة حتى ميدان الملكة فريدة، وتتابع سير
قطارات الترام بعد ذلك، وعادت سيارات الأتوبيس إلى العمل، وانتظمت حركة
المواصلات بالعاصمة.
٣٠
وأوفَت الحكومة بوعدها — تحت ضغط العمال وظروف الحرب — فأصدر مجلس
الوزراء قرارًا بمنح علاوة الغلاء للعمال في (٢٩ من سبتمبر)، ونصَّ القرار
على ألا تقلَّ العلاوة التي تمنح للعامل بالأجرة اليومية عن عشرة مليمات
يوميًّا، وألا تقلَّ للصبي عن خمسة مليمات يوميًّا، وألا تقلَّ العلاوة
التي تمنح للخارجين عن هيئة العمال عن ٢٥ قرشًا، كما نصَّ القرار على منح
الموظفين من صغار مستخدمي الحكومة الذين تقلُّ رواتبهم عن عشرة جنيهات
علاوة غلاءٍ قدرها ١٠٪، ورأت الحكومة عدم تعميمها على غير هذه الفئات
«لأن الظروف الحالية توجب التضحية على ميسوري الحال ومتوسطي الموظفين،
وربما كان بسط الإعانة على مدًى أوسع أو زيادة عن الحدِّ المقرر عاملًا
لازدياد الغلاء لا يُستطاع تجنبه أو مقاومته، على أن طبقات صغار
الموظفين والمستخدمين والعمال لن تصل بهذه الإعانة إلى مثلِ ما كانت
عليه قبل نشوب الحرب وهي بذلك تتحمل قدرًا غير يسيرٍ من التضحية.» ويستوي
في هذه العلاوة موظفو الحكومة والشركات والمصانع والمتاجر وعمالها وصناعها.
٣١
وواضح أن هذا القرار كان دون مطالب العمال بكثير من واقع اعتراف
الحكومة نفسها في صلبه، ولذلك لم يقضِ على مشكلة انخفاض الأجور التي ظلَّ
العمال يعانون منها، واستمرت توجِّه نضالهم من أجل إصدار تشريعات تضع حدًّا
أدنى للأجور يضمن للعامل حياة كريمة.
وحين تولى الوفد الحكم بعد حادث ٤ فبراير عام ١٩٤٢م، سعى لجمع
الجماهير حوله، ولمِّ شعث ولاء العمال له، فأصدر مجموعة من التشريعات
العمالية التي عَقدت عليها الطبقة العاملة الآمال، كان أبرزها قانون
الاعتراف بالنقابات، ثم قانون التأمين الإجباري ضد حوادث العمل، وقانون
عقد العمل الفردي، وقانون مكافحة الجهل ومحو الأمية بين صفوف الشعب،
كما صدر الأمر العسكري الخاص بصرف إعانة غلاء المعيشة لعمال الشركات
الصناعية في ٩ ديسمبر عام ١٩٤٢م.
أما القانون ٨٥ لسنة ١٩٤٢م الخاص بالاعتراف بالنقابات؛ فقد صدر في ٦
سبتمبر، ونصَّ في مادته الثالثة على أن «العمال الذين يشتغلون بمهنة أو
صناعة أو حرفة واحدة أو مهن أو حرف متماثلة أو مرتبطة بعضها ببعض أو
تشترك في إنتاج واحد لهم أن يكوِّنوا فيما بينهم نقابات ترعى مصالحهم
وتدافع عن حقوقهم وتعمل على تحسين حالتهم المادية والاجتماعية»،
واستثنى القانون بعض فئات العمال من الدخول في دائرته، فحرَمَ موظفي
الدولة ومستخدمي المجالس المحلية والبلدية والقروية ومجالس المديريات
الداخلين في هيئة العمال، وعمال الجيش والطيران والبحرية والبوليس
الدائمين، وعمال الزراعة والممرضين وعمال المستشفيات من حق تكوين
النقابات، واعترف بحق الأشخاص الذين يشتغلون في غير الأعمال الصناعية
والتجارية — عدا الفئات المستثناة من دائرة القانون — في تكوين نقابات
تقوم بجميع المهام النقابية ما عدا التدخل بين الخادم ومخدومه أو بين
العامل وصاحب العمل.
٣٢
وقد تم التمييز بين العمال الذين لهم حق تأليف النقابات وغيرهم بِناءً
على اقتراح الحكومة؛ ذلك أن البعض في مجلس الشيوخ كان يطالب بحرمان
الخدم الخصوصيين ومن شاكلَهم من حق تأليف النقابات، واستندوا في ذلك إلى
أنه ليس من المقبول — وخاصة في بلادنا الشرقية — أن يُسمح بتأليف نقابات
تتدخل في العلاقة بين الخادم ومخدومه، وقد تلجأ إلى إعلان الإضراب.
وأضافوا أن هذه العلاقة أشبه بالعلاقات العائلية التي تقوم على أساس من
التسانُد والتعاضُد، وأن السبب الذي يدعو عمال الصناعة والتجارة إلى
تأليف النقابات هو حاجاتهم إلى الحماية لِما يحيط بهم من ظروف خاصة،
والمشرِّع إذ يبيح لهم تأليف هذه النقابات إنما يريد استتباب السلام في
المصنع، فيجب أن يقتصر حق تكوين النقابات على هؤلاء العمال دون غيرهم،
وخاصة أنهم أرفع في مستواهم الاجتماعي من الخدم والطهاة
والسواقين.
ولما خشيت الحكومة أن يُقضى نهائيًّا على حق الخدم ومن شاكلَهم في
تأليف النقابات، اقترحت أن يُعترف لهم كغيرهم بهذا الحق، على ألا تتدخل
نقاباتهم في العلاقة بين الخادم ومخدومه أو بين العامل وصاحب العمل،
وذكرت أن الغرض من هذه الإشارة الأخيرة هو أنه لا يجوز لنقابات الخدم
والطهاة والسواقين الخصوصيين ومن في حكمهم التدخل بين الخادم والمخدوم،
وأنه «لا يجوز لهم تقرير الإضراب وأن أعمال هذه النقابات انحصر في
التخديم والتمرين والاستشارات القانونية والطبية، والتسليف والإعانات
والشئون الاجتماعية كإنشاء النوادي والمكتبات والألعاب الرياضية،
والشئون الاقتصادية كصناديق الادخار والتأمين الاجتماعي ونحوه، على
أنها إذا قررت الإضراب وجَب حلها».
٣٣
وليس لهذا التفسير الذي أدلت به الحكومة أمام مجلس الشيوخ دُون مجلس
النواب من قوة ملزِمة، وإنما يستعان به على تعرُّف نية المشرِّع، كما لا
يترتب عليه القضاء على حق هذه الفئة من العمال في الإضراب طبقًا للقواعد
العامة، فالأمر مقصور على تحريم إعلان النقابة الإضراب.
٣٤
وقيل في تبرير حرمان عمال الزراعة من حق تكوين النقابات لهم أنهم قد
يعمدون إلى الإضراب مما يشلُّ الزراعة ويكون مصدر خطر على البلاد، كذلك
سرى الخوف من أن تكون النقابات سبيلًا لتسرب المبادئ الشيوعية إلى
الريف المصري، كما قد يؤدي إلى إثارة النزاع بين الملَّاك ومُزارعيهم وهما
فريقان يسودهما الوئام.
وواضح من هذا الموقف المشحون بالمغالطات أن الإقطاع خشيَ أن تتصدى
نقابات الفلاحين له مطالِبة بإصلاح أحوال عمال الزراعة المادية
والاجتماعية. وتكشف المعارضة العنيفة التي قامت في البرلمان ونجحت في
إقصاء عمال الزراعة عن دائرة القانون عن مدى سيطرة المصالح الزراعية
الواسعة على السلطة التشريعية في تلك الفترة من تاريخ البلاد.
ونصَّت المادة السابعة من القانون على أن يكون عضو النقابة مصري
الجنسية بالغًا من العمر خمس عشرة سنة على الأقل، أما العمال الأجانب
فيجوز انضمامهم إلى النقابة إذا كانوا مقيمين بمصر بصفة دائمة وبشرط
ألا يتجاوز عددهم ربع عدد أعضاء النقابة، ورُوعي في تحديد هذه النسبة
ألا تؤثر زيادتهم العددية في توجيه النقابة وطريقة إدارتها. وقد تناول
القانون قواعد تكوين مجالس إدارة النقابات ولوائح نظامها الأساسي، ونصَّ
على أن يكون للنقابة الشخصية المعنوية إذا شُكلت طبقًا لأحكام القانون،
فيجوز لهم إبرام العقود والاتفاقات الخاصة بشرط عقد العمل المشترك،
ولها حق التقاضي، وشراء أو إنشاء المباني اللازمة لسكانها أو لسكان
المنشآت المرخص لها بإقامتها، ومن حقها أن تنشئ صناديق ادخار وجمعيات
تعاونية وجمعيات للتأمين الاجتماعي وغير ذلك من المنشآت التي تُهم
النقابة. وحظرَ القانون على النقابات توظيف أموالها في أعمال مالية أو
تجارية أو صناعية، أو اقتناء أسهم أو سندات لشركات مالية غير تلك التي
يصدُر باعتمادها قرار من وزير الشئون الاجتماعية أو استعمال هذه الأموال
فيما يجاوز الحدود التي يبينها القرار، كما حظر عليها الدخول في
مضاربات مالية أو تجارية والاشتغال بالمسائل السياسية أو الدينية.
٣٥
وفيما يتعلق بالاتحادات العمالية نصَّ القانون على أن «للنقابات
المسجلة تسجيلًا صحيحًا أن تكون فيما بينها اتحادات لترعى مصالحها
المشتركة، على أنه لا يجوز أن تضم الاتحادات غير النقابات التي تتعلق
بمهنة واحدة أو صناعة واحدة أو صناعات تشترك في إنتاج نوع واحد من السلع».
٣٦ وبذلك أباح القانون قيام الاتحادات المهنية فقط، ولم يسمح
بقيام اتحاد عام يجمع نقابات العمال في البلاد، وقد برر ذلك بالخوف من
أن يترتب على إقامته تهديد للأمن العام وخاصة إذا اشتغل بالمسائل
السياسية أو تبنى مطالب العمال من أجل تحسين ظروف عملهم، ومن الطريف أن
حكومة الوفد كانت أول من تحايل على القانون؛ فأقامت اتحادًا من النقابات
الموالية لها تحت اسم «رابطة النقابات» ونسج العمال على منوالها؛ فأسسوا
اتحادًا عامًّا تحت اسم «مؤتمر نقابات عمال مصر».
لقد كان قانون الاعتراف بالنقابات مخيبًا لآمال العمال الذين كرَّسوا
نضالهم من أجله منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد أخضع النقابات
لرقابة البوليس وفرض عليها ضرورة إبلاغه عن الاجتماعات التي تُزمِع
النقابة عقدها قبل موعدها بوقت كافٍ، كما أخضعها للحل الإداري إذا رأت
السلطات أنها انحرفت عن الغرض الذي أقيمت من أجله، وحرَم فئات عدة من
العمال من حق تكوين النقابات حمايةً للمصالح الكبرى الإقطاعية
والرأسمالية التي كانت توجِّه أمور البلاد وتتحكم في السلطة التشريعية،
وحرَم العمال من إقامة اتحاد عام يحقق وجودهم الطبقي، وينظِّم نضالهم من
أجل حقوقهم ويحمي مصالحهم.
تطور تشريع العمل
واستكمالًا لملامح النضال في سبيل التشريعات العمالية نعرض فيما
يلي للتطورات التي طرأت على القوانين المتعلقة بالأجور وساعات
العمل والبطالة وإصابات العمل وعلاقات العمل ورأس المال.
أما عن الأجور، فقد بلغ عدد العاملين بالصناعة — طبقًا لإحصاء عام
١٩٣٧م — ٣٩٣٥٦٣ من الذكور و٤٤٤٣٩ من الإناث، وبذلك بلغت جملتهم
٤٣٨٠٠٢ عامل كانوا يشتغلون بالصناعة والحِرف اليدوية، بالإضافة إلى
١٠٨٠٠ عامل كانوا يعملون بالخدمات والمرافق، ويتضح من إحصاء أجراه
اتحاد الصناعات عن نصف الأعمال الصناعية التي كانت موجودة عندئذ أن
تلك المؤسسات كانت تدفع أجورًا لعمالها تبلغ قيمتها ٥٢١٣,٠٠٠ جنيه
لعددٍ يصل إلى حوالي ١٢٩٤٠٠ عامل، أي إن متوسط أجر العامل بلغ ٤٠٫٣
من الجنيهات سنويًّا، ولما كان هذا الرقم يتضمن الذين يحصلون على
أجور مرتفعة فقد قدَّر ألفريد بونيه
٣٧ المتوسط الشهري لأجر العامل بثلاثة جنيهات، وهو تقدير
مبالغ فيه إذا قُورن بالإحصائيات التي أوردها شارل عيسوي،
٣٨ فقد ذكر أن متوسط الأجر اليومي للرجل في عام ١٩٣٨م بلغ
٨٫٨ من القرش، وللمرأة ٤٫٣ من القرش، وللصبي ٢٫٥ قرش. وأن إحصائيات
الأجور تبين أن متوسط أجر الأسبوع في يوليو عام ١٩٤٤م بلغ ١١٥ قرشًا،
وفي يوليو عام ١٩٤٦م ارتفع إلى ١٢٥ قرشًا، وفي يناير عام ١٩٤٨م ثبت
عند ١٣٩ قرشًا، وبلغ ١٤٩ قرشًا في يناير عام ١٩٥٠م أو ١٨٩ قرشًا في
يناير عام ١٩٥١م، ويتضح من هذا أن الأجور لم تبلغ حدًّا موازيًا
لازدياد تكاليف الحياة حتى عام ١٩٤٨م، ثم ازدادت زيادة سريعة ترتب
عليها زيادةٌ فعليةٌ للأجور، كما يتضح أيضًا من دراسة إحصائيات الأجور
أنها كانت أعلى من المتوسط في الصناعات البترولية وفي صناعة الحديد
والصلب وبناء السفن وصيانتها وصيانة الخطوط الحديدية والطرق وصناعة
الكهرباء والمياه، بينما كانت الأجور أقل من المتوسط في صناعة
الورق والخشب والنسيج والتعدين. وترجع أسباب انخفاض الأجور إلى
انخفاض نسبة الإنتاج نتيجة سوء الإدارة ونقص التدريب وقلة
الإمكانيات، هذا بالإضافة إلى الهجرة المستديمة من الريف إلى المدن
التي أوجدت رصيدًا ضخمًا من الأيدي العاملة العاطلة مما ساعد على
تناقُص الأجور، وبرغم هذا كانت الأجور في المدن أكبر منها في الريف،
وبالإضافة إلى هذا كان أصحاب الأعمال في مركز المساومة القوي،
ويرجع هذا إلى تزايد الاحتكارات بالدرجة التي لم تستطِع إزاءها
نقابات العمال أن تفرض إرادتها.
وقد خلا تشريع العمل في مصر من قانون يحدد الأجور حتى صدور
الأوامر العسكرية المتعلقة بإعانة غلاء المعيشة، ولكن تلك الأوامر
لم تؤدِ إلى رفع الأجور بما يكفي لمواجهة تكاليف المعيشة الباهظة،
فظل عمال الصناعة طوال الحرب الثانية وما بعدها يعانون عجزًا كبيرًا
في أجورهم الحقيقية، وظلوا يكافحون هذا العجز ويقاومون التضخم الذي
حدث بالمطالبة بزيادة أجورهم النقدية، وارتفعت لذلك معدلات
المنازعات العُمالية التي قدَّمت إلى أجهزة العمل ارتفاعًا مطردًا
عامًّا بعد عام، وكان أبرز هذه المنازعات ما كان منها متصلًا
بالأجور والمطالبة بتحسينها.
وفي عام ١٩٥٠م صدر قانون جمع النصوص التي جاءت بالأوامر العسكرية
المتعلقة بإعانة الغلاء، فجمَّد الموقف بالنسبة للأجور، ولكنه لم
يستطع أن يُجمِّده بالنسبة لغلاء المعيشة، فقد تناول نظام غلاء
المعيشة عند تقريره مبدأين حديثين، أحدهما مراعاة الحالة الشخصية
للعامل كحالة العزوبة والزواج وعدد الأولاد، والمبدأ الثاني مراعاة
أن تزيد علاوة الغلاء كلما قلَّ الأجر الأساسي، كما استحدثت نظم غلاء
المعيشة أيضًا لأول مرة في تاريخ تشريع الأجور في مصر وضع حدٍّ أدنى
للأجور، وقد ساعد ذلك في حينه على رفع الأجور التي كانت تقلُّ عن
الحدِّ الذي أشارت إليه الأوامر العسكرية، وقضت على كثير من التناقص،
وخصوصًا بالنسبة لمن يؤدُّون عملًا واحدًا وفي صناعة واحدة أو في
منطقة واحدة.
٣٩
ولما لم تكن علاوة الغلاء بكافية لمواجهة ارتفاع نفقات المعيشة
اتَّجه العمال بعد الحرب الثانية إلى المطالبة بإيجاد نظم مالية
للأجور، فطالبوا بوضع كادرات لهم. وقد قاوم أصحاب الأعمال هذا
المطلب لأنهم لا يوافقون على أن يلتزموا بالتزامات مالية ثابتة
لدرجات محدودة وترقيات منتظمة وعلاوات دورية، وأسرعت الحكومة في
عام ١٩٤٦م بوضع كادر لعمالها؛ فطالب عمال الشركات في قطاعات الصناعة
والتجارة والخدمات والمرافق بوضع كادر لهم استنادًا إلى مادة في
قانون عقد العمل الفردي رقم ٤١ لسنة ١٩٤٤م كانت توجِب على صاحب العمل
وضع لائحة داخلية لعماله إذا بلغ عددهم رقمًا معينًا، على أساس أن
مفهوم اللائحة الداخلية إيجاد نظام للأجور (كادر)، وعرض هذا المطلب
على هيئات التحكيم فقضى بعضها برفضه وقضى بعضها الآخر بقبوله على
أساس أن يؤخذ في الاعتبار المبدأ فقط وأن يترك للمؤسسة حرية تقدير
الوضع المالي ونظم الترقيات والدرجات والعلاوات تبعًا لحجم نشاطها
وحالتها المالية. وقد أدَّت هذه المحاولات إلى قيام بعض الشركات
الكبرى بوضع كادرات لعمالها.
أما عن ساعات العمل، فقد بدأ التشريع المصري بتحديدها بالقانون
رقم ١٤٧ لسنة ١٩٣٥ الذي حدد ساعات العمل اليومية في بعض الصناعات
بتسع ساعات تتخللها ساعة للراحة، ولكنه لم يقرر حق العمال في راحة
أسبوعية أو إجازة سنوية أو مرضية، ثم صدر القانون رقم ٧٢ لسنة ١٩٤٦م
بشأن تنظيم ساعات العمل في المحال التجارية ودور العلاج، فأصبح
هؤلاء العمال يشتغلون عددًا من الساعات تساوي عدد الساعات التي
يشتغلها من ينطبق عليهم القانون رقم ١٤٧ لسنة ١٩٣٥م كما قرر حق
العمال في الراحة الأسبوعية.
٤٠
ويتضح أثر هذه التشريعات في الإحصائيات الخاصة بساعات العمل، فقد
جاء بإحصاء عام ١٩٣٧م أن ٥٧٪ من العمال كانوا يشتغلون لمدة ٦٠ ساعة
أسبوعيًّا بينما كان ١٧٪ منهم يعملون ٨٠ ساعة فأكثر أسبوعيًّا. وفي
عام ١٩٤٤م قلت هذه النسب إلى ٢٢٪ للفئة الأولى و٥٪ للفئة الثانية،
وفي عام ١٩٥١م بلغت ١٣٪ للفئة الأولى، و٢٪ للفئة الثانية.
وبرغم عدم وجود إحصائيات عن البطالة، فمن الممكن أن نقرر أنه
كانت هناك بطالة موسمية بسبب وجود بعض الصناعات الموسمية كحليج
القطن والسكر تجلب عمالها من الريف، وكذلك كان هناك احتياطي كبير
من الأيدي العاملة العاطلة في المدن، وخاصة بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية حين استغنى الجيش البريطاني عن عشرة آلاف عامل،
بينما لم يتأثر العمال الفنيون من البطالة إلا تأثرًا طفيفًا.
٤١
وظهر أول اهتمام رسمي بمعالجة مشكلة البطالة في مصر في يناير عام
١٩٣١م حين قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة خاصة لدراسة مشكلة البطالة
وتقديم الاقتراحات عن خير الوسائل لمكافحتها، وزاد من صعوبة حصر
العاطلين عندئذ عدم وجود وسيلة تكفل الوصول إلى إحصاء دقيق عنهم؛
فضلًا عن ذلك فإن ما اعتاده أغلب العمال من العمل أيامًا متقطعة
وتفضيلهم في عدة حالات هذا النوع من العمل قد زاد مهمة الإحصاء
تعقيدًا. وقد أدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى تفاقم مشكلة
البطالة التي تفشَّت بين كثير من العمال وأرباب الحِرف، وكثر عدد
العاطلين من حملة الشهادات الدراسية. وقد أجرى إحصاء في فبراير عام
١٩٣٢م عن العمال العاطلين ماعدا المشتغلين بالزراعة، كما أجرِي إحصاء
آخر في مارس ١٩٣٤م، وكانت نتيجة كل منهما الفشل؛ لأن عدد العاطلين
على حسب هذين الإحصاءين كان أقل من الحقيقة بكثير فقد رغب العمال
عن قيد أسمائهم لتفشي الإشاعات التي أخذ يطلقها خصوم الحكومة بينهم
من أنها تعتزم تطبيق قانون التشرد على كل رجل عاطل فيكون نصيبه
الحبس إذا ظل عاملًا أكثر من عشرين يومًا، أو أن الحكومة ستكلف من
قيدوا أسماءهم بالعمل في مشروع خزان جبل الأولياء بالسودان، أو
تلزمهم بالاشتراك في حملة حربية وهمية في الصين. وفيما يلي أهم
الاقتراحات التي قدمتها لجنة مكافحة البطالة:
- (١)
تخفيض عدد أيام العمل في الأسبوع لعمال المياومة بمصالح
الحكومة تبعًا لظروف كل منها حتى يمكن استبقاء العمال
الزائدين عن حاجة العمل.
- (٢)
إدراج شرط في العقود المتعلقة بالأعمال الجديدة يلزم
المقاولين بإيقاف العمل يومًا في الأسبوع.
- (٣)
تجزئة الكميات اللازمة من التوريدات العامة كالأحذية
والملبوسات وغيرها بحيث يمكن أن يشترك في المناقصات الخاصة
بها أصحاب المصانع المحلية الصغيرة.
- (٤)
حماية صناعة الأسمنت بمصر من المنافسة الأجنبية وذلك
برفع قيمة الرسوم الجمركية على الأسمنت الوارد من
روسيا.
- (٥)
منع موظفي الحكومة من العمل في المحال التجارية أو
الصناعية في أوقات فراغهم.
- (٦)
منع المدارس الصناعية الحكومية ومصلحة السجون من منافسة
المصانع الخاصة.
- (٧)
منح البلديات والمجالس المحلية المال اللازم للقيام
بالأعمال الجديدة كالإدارة والمياه والمجاري.
٤٢
ولكن هذه الاقتراحات كانت محدودة الأثر في علاج أزمة البطالة في
أوائل الثلاثينيات.
واهتمت الحكومة بمكافحة البطالة مرة أخرى في عام ١٩٤٠م عقب نشوب
الحرب الثانية ولا سيما بعد أن دبَّ الكساد في كثير من الصناعات سواء
تلك التي تعتمد على خامات واردة من الخارج أو التي كانت تصدر بعض
منتجاتها إلى الخارج، كما واجهت الموانئ البحرية والعمليات المتصلة
بها أزمة شديدة بسبب ضعف نشاط البواخر، وتوقفت حركة التعمير
والبناء بسبب الأزمة التي حلَّت بالبلاد وما صاحبها من شعور بالقلق
والخطر، وجمَّدت الحكومة مشروعاتها.
٤٣
وشكلت لجنة وزارية مثلت فيها الوزارات المختلفة لمواجهة الأزمة
فقدَّمت عددًا من التوصيات أهمها:
٤٤
- (١)
وضع تشريع يحدد نسبة مئوية للعدد وللأجور بالنسبة لتشغيل
المصرين والأجانب في المؤسسات على اختلاف أنواعها، وذلك
لإفساح مجال العمل في الاقتصاد والتصنيع المصري، ولا سيما
بين المتعلمين بعد أن كان وقفًا على الأجانب.
- (٢)
وضع تشريع لاستعمال اللغة العربية في الأنشطة الاقتصادية
كلها حتى يهيئ للشباب المصري المتعلم الوسيلة للعمل في
الاقتصاد القومي، ولا سيما الذي يغلب عليه الطابع
الأجنبي.
- (٣)
وضع تشريع ينظم إيجاد بطاقات شخصية للعمال كوسيلة للوقوف
على البيانات الموضحة لهم وإمكان التعرف عليهم وعلى
صناعاتهم والأعمال التي يزاولونها.
- (٤)
الإقلال من فصل العمال وتخفيض أيام العمل عند الضرورة
تفاديًا للفصل وإعطاء إعانات بسيطة في حالات البطالة
الشديدة.
ما لبثت الأزمة أن انقشعت عندما أصبحت مصر ميدانًا للجيوش
المتحالفة، ومركزًا لتموين هذه القوات مما ساعد على التوسع في كثير
من الصناعات القائمة وإنشاء صناعات حربية جديدة فضلًا عن قيام
القوات الأجنبية باستخدام مئات من العمال في الورش والخدمات
والأسلحة الملحقة بها.
وبمجرد انتهاء الحرب عادت الأزمة كأبشع ما تكون، فقد سرحت القوات
المحاربة عمالها، فاهتمت الحكومة بموضوع البطالة مرة أخرى، وشكلت
لجنة عامة أصلية ولجان فرعية ثلاث تتكون من مندوبين من الوزارات
المختلفة، وأوصَت هذه اللجان بتيسير الآلات والماكينات اللازمة
لإنشاء مصانع جديدة أو توسيع المصانع القائمة ووضع تشريع يلزم
الأجانب الذين يزاولون عملًا بالبلاد بالحصول على ترخيص بالعمل
بشروط وقيود معينة، ووضع النظم والتشريعات التي تتصل بإنشاء مكاتب
للتخديم وتشغيل المتعطلين والعناية بموضوع التدريب المهني.
٤٥
ولكن هذه التوصيات لم تؤخذ في الاعتبار، وأدى إثراء بعض الأفراد
خلال الحرب إلى الإقبال على عمليات البناء ورواج السلع
الاستهلاكية. وما لبثت البلاد أن واجهت مرحلة عنيفة من أزمة
البطالة في عام ١٩٥١م بعد إلغاء المعاهدة واضطرار آلاف العمال
المصريين إلى الانسحاب من العمل بالمعسكرات البريطانية بمنطقة قناة
السويس، وضعفت الحركة بالموانئ، وجاء حريق القاهرة في ٢٦ يناير عام
١٩٥٢م ليزيد الطين بلة، فانتاب الذعر أصحاب رءوس الأموال واتجهوا
إلى تهريب أموالهم إلى الخارج، واضطرت الحكومة إلى تقديم تعويضات
مالية لأصحاب الأعمال في التجارة والصناعة ومساعدات للمشردين من
العمال، بالإضافة إلى اضطلاعها باستخدام آلاف العمال الذين تركوا
العمل لدى القوات البريطانية في وزارات الحكومة ومصالحها دون حاجة
إلى خدماتهم. وتدهورت الأوضاع الاقتصادية في البلاد مما أدى إلى
التوقف التام في مجال المشروعات العامة في جميع المرافق سواء ما
كان منها تابعًا للجهات الحكومية أو المجالس البلدية والمحلية،
وقفل باب التوظيف في الحكومة بسبب تدهور الميزانية العامة.
٤٦
افتقر تشريع العمل في مصر حتى منتصف الثلاثينيات إلى وجود قانون
لتعويض العمال من الإصابات الناشئة عن العمل، وقد كانت الحاجة ماسة
إلى هذا التشريع، فعدَّه العمال ضمن مطالبهم منذ نادَوا بإصدار
التشريعات العمالية في مطلع العشرينيات، كما أن أصحاب الأعمال شعروا
بالحاجة إلى سنِّ قانون وافٍ بشأن حوادث العمل والتعويض عنها، وقد ظل
التعويض عن حوادث العمل — حتى منتصف الثلاثينيات — خاضعًا لقاعدة
«مسئولية العمل» ومؤداها أن العامل المصاب أو ورثته لا يستحقون
تعويضًا إلا إذا ثبتت مسئولية صاحب العمل. وظلت مصر متشبثة بذلك
المبدأ العتيق على الرغم من أن جميع الدول المتمدينة أخذت منذ عهد
بعيد بنظرية «مخاطر المهنة» في تشريعها، ولم يكن ذلك عن عدم الرغبة
في التجديد، وإنما مرجعه إلى عدم وجود مصلحة حكومية مختصة بالتشريع
العمالي.
وسارت المحاكم المختلطة في الثلاثينيات — فيما يتعلق بالتعويض عن
حوادث العمل — على عدم التقيد بالمبدأ الذي تضمنه القانون، فكانت
تحكم بالتعويض حتى ولو لم يُنسَب إلى صاحب العمل أي خطأ، غير أن
التعويض المحكوم به كان في عدة حالات أكثر مما يحكم به لو طبقت
نظرية «مخاطر المهنة»، وقد تباينت أحكام المحاكم المختلطة بهذا
الخصوص كل التباين، لذلك طالب أصحاب الأعمال بإلحاح أن يكون لهم
الحق في معرفة مدى مسئوليتهم نحو عمالهم في حالة وقوع حوادث، كما
أن العمال رغبوا في الحصول على حق التعويض عن الإصابات التي تقع
لهم دون إلزامهم بإثبات خطأ أصحاب الأعمال، ما لم تكن تلك الحوادث
نتيجة خطأ جسيم ارتكبه العمال. وتمسكت المحاكم الأهلية بتطبيق
«مسئولية صاحب العمل» وكان بعضهم أكثر تساهلًا من البعض الآخر في
اعتبار صاحب العمل مخطئًا.
٤٧
وخطَت الحكومة خطوة عملية حين أصدرت في ١٤ من سبتمبر عام ١٩٣٦م
القانون رقم ٦٤ بشأن إصابات العمل الذي أقر حق العامل في الحصول
على تعويض عن إصابته طبقًا للقواعد التي حددها القانون إلا إذا ثبت
أن الإصابة وقعت نتيجة عجز العامل عن تأدية عمله أو نتيجة إهماله.
ونصَّ القانون على إلزام صاحب العمل على تقديم الإسعافات الأولية
للعامل المصاب، وأن يكون للمصابين حق العلاج المجاني بمستشفيات
الحكومة؛ فإذا لم تتوافر أماكن العلاج بها كان صاحب العمل ملزمًا
بدفع نفقات علاج العامل المصاب. وحدد القانون مقدار التعويض
للمستحقين بعد وفاة العامل وكيفية توزيعه عليهم، كما عيَّن الإصابات
التي تُعَد مؤدية لعاهة جزئية أو مستديمة.
٤٨
وبرغم أن هذا القانون كان خطوة عملية نحو حماية حقوق العمال، لم
يَعدم أصحاب الأعمال وسائل التهرب من أحكامه، كما أن التعويضات التي
نصَّ عليها القانون كانت تافهة، ففي حالة وفاة المصاب كان يُصرف
لورثته أجر ٧٠٠ يوم بحيث لا تزيد قيمة التعويض عن ٣٠٠ جنيه ولا تقلُّ
عن ٧٠ جنيهًا، أما في حالة حدوث عاهة مستديمة للمصاب فكان يصرف له
تعويض يوازي أجر ١٠٠٠ يوم بحد أدنى مائة جنيه وحد أقصى ٣٥٠
جنيهًا.
ثم صدر القانون رقم ٨٦ لسنة ١٩٤٢م الخاص بالتأمين الإجباري على
العمال ضد حوادث العمل الذي نص فيه على إلزام أصحاب الأعمال
الصناعية بالتأمين على عمالهم ضد حوادث العمل. وقد أوضحت المذكرة
التفسيرية الغاية من القانون بأنه «لما كان القانون رقم ٦٤ لسنة
١٩٣٦م الخاص بإصابات العمل يقرر للعمال حقوقًا جديدة قد يعجز
الكثيرون من أصحاب الأعمال الصغيرة عن القيام بها رؤى أن خير علاج
لهذه الحالة هو التأمين ضد الإصابات لأنه ييسر على صاحب العمل دفع
التعويضات ولا يكلفه إلا جزءًا يسيرًا بالنسبة لما يستحق عليه من
تعويض». ونص القانون على أنه لا يجوز تحميل العمال أي نصيب في
نفقات التأمين كلها أو بعضها بأية طريقة كانت، وجعل القانون من حق
وزير الشئون الاجتماعية إعفاء بعض أصحاب الأعمال من أحكامه إذا
توافرت فيهم شروط معينة.
٤٩
وفيما يتعلق بتنظيم العلاقة بين العمل ورأس المال، صدر القانون
رقم ٤١ لسنة ١٩٤٤م الخاص بعقد العمل الفردي، أي العقد الذي يتعهد
بمقتضاه عامل أن يشتغل تحت إدارة صاحب عمل أو سلطته أو إشرافه
مقابل أجر محدد، وأخرج القانون عمال الزراعة وعمال الورش الصغيرة
وعمال الملاحة البحرية وخدم المنازل من دائرته، وأجاز القانون أن
يكون العقد شفويًّا إذا كان أجر العامل اليومي أو الأسبوعي أو
الشهري يقلُّ في مجمله عن عشرة جنيهات وبذلك أفسح المجال أمام أصحاب
الأعمال للتلاعب والتحايل على القانون وتعريض مصالح عمالهم للخطر،
وحدد القانون قواعد دفع الأجور وطريقة مكافأة العامل في حالة ما
إذا قام صاحب العمل بفسخ العقد من جانبه وفي حالة عجز العامل عن
تأدية عمله، وألزم صاحب العمل باتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية
العامل من أخطار العمل، ونص على حق العامل في الحصول على إجازة
سنوية حددت بسبعة أيام لعمال المياومة، وخمسة عشر يومًا في السنة
للعمال والمستخدمين المعينين بأجر شهري.
٥٠
وبرغم أن قانون عقد العمل الفردي كان خطوة نحو تنظيم العلاقة بين
العمل ورأس المال، فإنه لم يفِ بما كان يداعب أحلام العمال، فلم يشِر
من قريب أو بعيد إلى الخدمات الاجتماعية التي كان العمال في أمس
الحاجة إليها، كما لم يوفر للعمال الضمانات الكافية ضد الفصل
التعسفي، وكثيرًا ما اتخذ أصحاب الأعمال من نصوصه سلاحًا للتخلص من
عمالهم بالفصل، وأبسط مثال على ذلك ما كانت تقدم عليه الشركات من
فصل أعضاء مجالس إدارة النقابات.
لقد تأثر تطور تشريع العمل في مصر بالوضع السياسي الداخلي، وخاصة
بالتنافس بين الأحزاب السياسية المختلفة لكسب أصوات العمال في
المعارك الانتخابية، كما تأثر بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
السائدة، فعكس المصالح الإقطاعية والرأسمالية التي حرصت الطبقات
الحاكمة البرجوازية على اتخاذ التشريع وسيلة لحمايتها، لذلك تميزت
تشريعات العمل بأنها لم تكن صادرة عن مخطط معين، فكان الارتجال
والتناقض طابعها المميز، وظلت دون الغايات التي وجه العمال نضالهم
في سبيل إصدار التشريعات من أجل تحقيقها، فبقي العامل ألعوبة في يد
صاحب العمل، يتلاعب بأجره متحايلًا على الأوامر العسكرية الخاصة
بإعانة الغلاء، ويتلاعب بحقه في العمل فيفصله كلما تجاوزت مدة
خدمته سنة أو سنتين تهربًا من مكافأة نهاية الخدمة التي ألزمه
القانون بدفعها، ثم يقوم بتعيينه من جديد بأجر ضئيل لا يكاد يوازي
نصف أجره السابق. ووقف العامل إزاء هذه التصرفات الجائزة حائرًا لا
يملك وسيلة للدفاع عن حقه، واضطر للنزول على إرادة مستغليه.
وقد وجهت هذه الظروف مجتمعة تشريعات العمل بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م،
فعملت الدولة على توحيد قوانين العمل بعد تعديلها بما يتمشى مع
المبادئ التي نادت بها الثورة، مما أدى إلى استقرار العلاقة بين
العمل ورأس المال على أسس راسخة.