الفصل الخامس
جهود المنظمات السياسية للسيطرة على الحركة العمالية
أدت ظروف الكفاح الوطني ضد السيطرة الأجنبية إلى ظهور قيادات سياسية
قامت بتنظيم النضال من أجل الاستقلال، ذلك النضال الذي بلغ ذروته في
ثورة ١٩١٩م. وما أن سلَّم المستعمر لمصر بالاستقلال الذاتي في ٢٨ من
فبراير عام ١٩٢٢م حتى تفتتت وحدة البلاد السياسية وأخذت تظهر فيها
تكتلات انشغلت في المحل الأول بعلاقات مصر بإنجلترا انشغالها بمشكلة
النضال الدستوري وبمشاكل الفوز بالحكم، وهبطت القضية الوطنية من مستوى
النضال ضد المستعمر إلى التحايل على الفوز بكراسي الحكم، وأدَّى انحراف
الحركة الوطنية إلى هذا الدرك إلى إقصاء القوى الشعبية عن مجالها،
وتحول الأحزاب السياسية من توجيه النضال الوطني إلى السعي وراء كسب
أكبر عدد ممكن من أصوات الجماهير في الانتخابات ضمانًا للوصول إلى
الحكم.
ولما كان العمال قوة جماهيرية لا يمكن إغفالها، كما أن أصواتهم لها
وزنها في ترجيح كفة هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات فقد حرص كل حزب
سياسي على تكوين قاعدة جماهيرية بشتى السبل، ومن ثم كانت محاولات
الأحزاب المتكررة للسيطرة على الحركة العمالية، وكان للوفد المصري
القدح المُعلَّى في هذا المجال. وأدَّى افتقار العمال إلى الوعي النقابي
وعدم وجود قادة قادرين على إدارة دفة التنظيم النقابي إلى تمهيد الطريق
أمام الأحزاب والهيئات السياسية للزج برجالها بين صفوف العمال فتصدى
هؤلاء لقيادة النقابات وتوجيهها لخدمة أغراض أحزابهم.
وكانت أبرز نتيجة لجهود المنظمات السياسية للسيطرة على الحركة
العمالية ذلك الانقسام الذي ترك بصماته على تاريخ الحركة العمالية
المصرية، فأصبح هناك أكثر من اتحاد عام للنقابات في وقت واحد ينتمي كل
منها إلى حزب أو هيئة سياسية. وأدى هذا إلى تعطيل قيام اتحاد عام يجمع
شمل النقابات ويوجه العمال أموره بأنفسهم يحقق تجمع العمال كطبقة في
مواجهة رأس المال إلى الأربعينيات حين قامت محاولة إقامة اتحاد عام تحت
اسم «مؤتمر نقابات عمال مصر»، تلك المحاولة التي ضربت في مهدها، ثم ما
أعقبها من محاولة إقامة اتحاد عام للنقابات في مطلع الخمسينيات. وبرغم
أن هذه المحاولات جميعًا كانت مستقلة عن نشاط الأحزاب، وكانت تقوم على
أكتاف عمال مستقلين، فقد كان للمنظمات الشيوعية السرية في هذا النشاط
نصيب لا يستهان به بالدرجة التي تجعلنا نذهب إلى أنها كانت تحاول أن
ترث الوفد في السيطرة على الحركة العمالية المصرية وتوجيه
مصيرها.
وكانت محاولات الأحزاب للسيطرة على الحركة العمالية تقوم على جهود
المحامين من أعضائها الذين كانوا يتسللون إلى النقابات عن طريق مركز
«مستشار النقابة» — الذي ظهر في أعقاب الحرب الأولى — ويحاولون
توجيهها، ثم يسعون إلى جمع النقابات في جبهة يتزعمها أحد رجالات الحزب
اللامعين تحت اسم «اتحاد نقابات».
ووجد الكثيرون من رؤساء النقابات في هذه الظروف فرصة للاستفادة
الشخصية، فكانوا ينضمون بنقاباتهم إلى الاتحاد الذي تحقق لهم من وراء
مناصرته المنفعة، وينسلخون من عضويته حين يلوح لهم منافسة بشروط أكثر
تحقيقًا لمآربهم، أو حين يفقد الحزب — الذي يتبنى الاتحاد — كرسي
الحكم.
محاولات الوفد المصري للسيطرة على الحركة العمالية
نشأ الوفد المصري أول ما نشأ كحركة وطنية، حين تألف في أعقاب
الحرب الأولى في (نوفمبر عام ١٩١٨م) من سبعة من أعضاء الجمعية
التشريعية برياسة سعد زغلول، بغرض «السعي بالطرق السلمية المشروعة
حيثما وجد للسعي سبيلًا في استقلال مصر استقلالًا تامًّا»، ثم تحول
إلى حزب سياسي عقب صدور دستور عام ١٩٢٣م، وتولى الحكم في أول وزارة
أسفرت عنها الانتخابات التي أجريت وفقًا للدستور في عام ١٩٢٤م، وظل
مرتبطًا في الأذهان بالنضال من أجل تحقيق الاستقلال، وتمثَّلت فيه
الحركة الوطنية والنضال الثوري حتى عام ١٩٣٦م، ومن ثم استقر في
الأذهان أن الوفد هو الأمة، واكتسب الحزب شعبية واسعة، وكان إجراء
انتخابات حرة كفيلًا بأن يمهد له السبيل إلى الحكم في كل مرة تجرى
فيها هذه الانتخابات.
وقد سجلت قيادة الوفد البرجوازية أبرز محاولات السيطرة على
الحركة العمالية وأبعدها أثرًا منذ فجر العمل السياسي للوفد حتى
أوائل الأربعينيات. ويرجع اهتمام الوفد بتنظيم العمال إلى عام
١٩١٩م، فقد ذكر عبد الرحمن فهمي في التقرير الذي أرسله إلى سعد
زغلول في (١٨ أكتوبر عام ١٩١٩م) أن «نتيجة المجهودات التي بذلت في
سبيل تعميم النقابات بطول البلاد وعرضها قد أثمرت وتشكلت لكل حرفة
نقابة»، وأكد أن النقابات مفيدة جدًّا للحركة الوطنية وأنها سلاح
قوي لا يمكن الاستهانة به.
١
وندرس فيما يلي هذه المحاولات بالتفصيل:
الاتحاد العام لنقابات العمال بالقطر المصري عام
(١٩٢٤-١٩٢٥م)
شهدت السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى نشاطًا نقابيًّا
واسعًا، فكثر عدد النقابات كثرة دفعت الصحف الأجنبية إلى اتهام
الحركة العمالية والحركة الوطنية كلها بالبلشفية. وانبرت جريدة
المنبر لدحض تلك التهم، فأكدت أنه ليس في المصريين من يميل إلى
البلشفية وأنهم أول من يحاربونها، وأن العامل المصري لا يرضى أن
يأخذ مليمًا واحدًا فوق أجره دون حق. وأصدر الشيخ محمد بخيت مفتي
الديار المصرية فتوى ندد فيها بالشيوعية.
٢
وساعد على تدعيم هذا الاتجاه أن العناصر اليسارية نشطت إبان ثورة
١٩١٩م في أوساط العمال ولا سيما في الإسكندرية فتأسس اتحاد عام
للنقابات بها نظم في عام ١٩٢٣-١٩٢٤م حركة اعتصام قام بها عمال
الإسكندرية وكانت مثار اهتمام الحكومة والرأي العام، وأسفرت عن
إقدام حكومة سعد زغلول على إلقاء القبض على قادة الحزب الشيوعي
واتحاد النقابات وتصفية المنظمتين.
ولم تكن حكومة الوفد لتترك العمال في فراغ يسمح بقيام عناصر
يسارية جديدة بتوجيههم؛ فكان تأسيس «الاتحاد العام لنقابات العمال
بالقُطْر المصري» بزعامة عبد الرحمن فهمي الذي كان سكرتيرًا للجنة
المركزية للوفد المصري، وساهم بنصيب كبير في عملية جمع التوكيلات،
كما ساهم في تنظيم حركة مقاطعة لجنة ملنر، وانتُخب في أول مجلس
للنواب نائبًا عن دائرة عابدين.
٣
بدأ مشروع الاتحاد باستقالة الدكتور محجوب ثابت من رياسة
«النقابة العامة للعمال» التي كانت تضمُّ أعضاء من مختلِف المهن،
واختير عبد الرحمن فهمي زعيمًا للنقابة (آخر مارس عام ١٩٢٤)
٤ وبذلك أصبحت النقابة العامة هي نقطة الانطلاق للعمل من
أجل إقامة اتحاد عام للنقابات، فأقامت النقابة حفلًا في (١٤ من
أبريل) دُعي إلى حضوره عدد من نواب الوفد منهم: علي الشمسي وراغب
إسكندر وشفيق منصور. وخطب عبد الرحمن فهمي (الذي كان قد لُقب بزعيم
العمال) داعيًا إلى «الاتحاد والتمسك بأهداب السكينة»، وفي أعقاب
الاحتفال خرجت مظاهرة مكونة من حوالي خمسة آلاف عامل مرت بالقصر
الملكي ومجلس النواب ثم قصدت دار عبد الرحمن فهمي الذي ألقَى في
العمال خطبة جاء فيها أنه قد تكونت لجنة من أعضاء مجلس النواب
لتتولى الدفاع عن العمال وأنه قد تم الاتفاق نهائيًّا على تأليف
اتحاد لنقابات العمال يكون مركز إدارته في النقابة العامة، وتكون
لكل طائفة نقابة خاصة بها تحت إشراف الاتحاد.
٥
وتدحض هذه الواقعة ما أورده أستاذنا الدكتور أنيس نقلًا عن
مذكرات عبد الرحمن فهمي من أنه رفض قبول زعامة النقابة العامة حين
عرضت عليه، وأنه اشترط لقبول الزعامة أن تسلم بها جميع النقابات
وترتضي الانتظام في الاتحاد العام، فإن نشأة الاتحاد تمت في —
اعتقادنا — على أساس مخطط وفدي أسند تنفيذه إلى عدد من شباب الوفد
الذين احتكوا بالنقابات واشتغلوا بتنظيمها.
٦
وقد هاجمت (الجازيت) مشروع الاتحاد، وأكدت عدم احتمال نجاحه «لأن
حركته لا تحدوها الغيرة على مصالح العمال ولا يديرها عمال»، ولأن
الغرض السياسي الذي يرمي إليه المشروع هو خدمة مصالح أولئك الذين
وجدوا — لأسباب مختلفة — أن الطريق العادي للترقي مسدود في وجوههم؛
فأخذوا يبحثون عن وسائل أخرى ليخلقوا لأنفسهم مراكز تؤدي بهم في
النهاية إلى الأغراض السياسية التي يرمون إليها.
٧
وانبرت الأهرام للرد على مزاعم الجازيت، فأثنت على المشروع وأكدت
«أن العمال في كل بلد محتاجون لمن يأخذ بناصرهم في كل طور من أطوار
الانتقال من عهد عتيق إلى عهد جديد»، وأن تلك الحركة ترمي إلى إيجاد
جو هادئ يعيش العامل فيه مطمئن البال، راضي النفس، بعيدًا عن
الفوضى والعبث بالنظام.
٨
وتشكلت لجنة من أعضاء مجلس النواب الوفديين كان على رأسها عبد
الرحمن فهمي ومن بين أعضائها علي الشمسي ومكرم عبيد وشفيق منصور
وحسن نافع، أطلقت على نفسها اسم «اللجنة التحضيرية لتكوين اتحاد
النقابات العام بالقطر المصري»، وأصدرت بيانًا
٩ أعلنت فيه أنها قد اتخذت من دار عبد الرحمن فهمي
مقرًّا لها، وأن أغراضها تنحصر فيما يلي:
- (١)
الاتصال بنقابات العمال التي تؤدِّي وظيفتها
بالفعل.
- (٢)
مراجعة قوانين تلك النقابات وتعديل ما يحتاج إلى
التعديل.
- (٣)
وضع نظام ثابت لها وترقية حالتها ماديًّا
واجتماعيًّا.
- (٤)
إنهاض النقابات التي توقَّفت عن عملها لسبب من
الأسباب.
- (٥)
تأسيس نقابات للطوائف التي ليست لها نقابات.
وطالب البيان النقابات بإرسال نسخ من قوانينها لدراستها.
قامت تلك اللجنة بإعداد قانون «الاتحاد العام لنقابات العمال
بالقطر المصري» الذي حدد أغراض الاتحاد في تنظيم حركة العمال
والوصول بهم إلى ما فيه الخير لهم أدبيًّا وماديًّا وصحيًّا
واقتصاديًّا، والإشراف على نقابات العمال، والاتصال بالاتحادات
العمالية في بلاد العالم المختلفة، والاشتراك في مؤتمراتهم،
والدفاع عن مصالح العمال وتأليف لجنة برلمانية لخدمة أغراضهم
المشروعة، والسعي لاعتراف الحكومة بهيئاتهم، والعمل على إيجاد
تشريع خاص يحدد العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال.
وخصص الباب السادس من القانون للإضراب، فنصَّ على أن إعلان الإضراب
العام أو الإضراب الجزئي من حق الاتحاد وحده، وأنه ليس لأية نقابة
أن تعلن الإضراب دون موافقة الاتحاد العام. وقد أملت ظروف
الاعتصامات التي قام بها عمال الإسكندرية على اللجنة هذا الجانب من
القانون، ليتمكَّن الاتحاد من السيطرة على الإضرابات وتوجيهها الوجهة
التي يريدها. وزيادة في الحيطة نص القانون على أن مصدر قرارات
الإضراب بأغلبية ٦٠٪ من أعضاء مجلس إدارة الاتحاد.
١٠
وبعد إعلان تأسيس الاتحاد، حلت النقابة العامة للعمال، ودعيت كل
طائفة من طوائفها إلى تكوين نقابة مستقلة تتبع الاتحاد العام، ولكن
قام البعض بإعادة كيان النقابة العامة وإصدار قانون لها. وقد
استنكر عبد الرحمن فهمي هذا العمل ودعا إلى التفاف العمال حول الاتحاد.
١١
لقد كان اتحاد نقابات العمال يمثِّل — على هذه الصورة — محاولة
البرجوازية الوطنية «ممثلة في الوفد» فرض وصايتها على الحركة
العمالية. ومما يدعم هذا الرأي سلسلة الخطب التي ألقاها عبد الرحمن
فهمي في العمال في مختلف المناسبات.
ففي الحفل الذي أقامه عمال هليوبوليس لتكريمه في (٤ يوليو) حذر
العمال من المغالاة في مطالبهم تجنبًا للشيوعية، وأكد أن رأس مال
العمال إنما يرتكز على الوفاء والصدق والاستقامة والتضحية والطاعة.
١٢
وفي الحفل الذي أقيم لتكريمه بدار التمثيل العربي في (٥ أكتوبر)
تحدث عن المطالبة بإصدار تشريع للعمل فقال «إن استبداد عشرات
السنين لا يمكن تلاشيه تمامًا في بضعة شهور»، وأوصى العمال بالتقوى
والتمسك بالدين «ففي الدين سلوى كبيرة وعزاء عظيم».
١٣
وفي الحفل الذي أقامته نقابة عمال الورش الأهلية ببولاق في
(٢ نوفمبر)، وقف عبد الرحمن فهمي يقول «اعلموا أيها الأبناء أنه وإن
كان من واجبي الدفاع عن حقوقكم، فمن واجبي أيضًا الدفاع عن حقوق
الغير منكم ولو لم يكلفني الغير الدفاع عن حقه، فلا أسمح لعامل
منكم أن يحصل على أكثر من حقه».
١٤
وفي حفل افتتاح فرع الاتحاد بالفيوم في (٩ نوفمبر) ألقى كلمة جاء
فيها «… يقول بعضهم إن العامل فقير حقير ذليل، وإني أقول إنه غني
بقوة إيمانه ودينه وعقيدته. ما هو المال والجاه؟ وما قيمتها؟ هما
زائلان بزوال الزمن، فانيان مع العمر … وإن العامل الذي يطمع فيما
بيَدِ أصحاب رءوس الأموال بلا حق إنما يسعى لدمار بلاده وخراب سوقها
الاقتصادي … واعلموا أن هؤلاء القوم الذين يقولون إن العامل يشتغل
طول يومه وليله بأجر زهيد بينما صاحب رأس المال يكدِّس الذهب، إنما
هم قوم يفسدون العقول والعقائد، وإني لا أنكر أن العامل في مصر
مهضوم الحق، ولكن تحسين حاله أمر يستدعي جهدًا كبيرًا».
١٥
ويتضح من ذلك كله مدى حرص البرجوازية الوطنية على كبح جماح حركة
العمال للمطالبة بتحسين أحوالهم في زمن ارتفعت فيه الأسعار وهبط
فيه مستوى الأجور نتيجة لتفشي البطالة، ولهذا لم يكن غريبًا أن
يطلق العمال المتأثرون بالنشاط اليساري من أعضاء النقابات التي
كانت ترفع راية اتحاد النقابات الشيوعي بالإسكندرية على هذا
الاتحاد اسم «الاتحاد الأصفر».
١٦
لوَّح عبد الرحمن فهمي للعمال بمشروع لتشريع العمل ذكر أنه أعده
بمساعدة حسن نافع المحامي، وأنه يعتزم التقدم به إلى مجلس النواب
في دور الانعقاد التالي، على أن يتم إصلاح أحوال العمال خطوة خطوة،
١٧ وما انفك الاتحاد يصدر البيانات مطالبًا العمال بعدم
القيام بأي إضراب من أجل تحقيق مطالبهم الاقتصادية، وأن عليهم أن
يقدموا مطالبهم إلى الاتحاد ليعمل على تحقيقها «ويقرر الطريق الذي
يراه مناسبًا لذلك»، وإلا فإن الاتحاد لن يناصر العمال الذين
يضربون من تلقاء أنفسهم.
١٨
ولقد وقع خلال رياسة عبد الرحمن فهمي للاتحاد العام للنقابات
حادثان كان للاتحاد موقف منهما، وأثار ثائرة العمال بصفة عامة في
مصر، أولهما خيبة الأمل في حكومة العمال في بريطانيا إثر إخفاق
مفاوضات سعد — مكدونالد، ورفض حزب العمال البريطاني الاعتراف
بأماني مصر في الاستقلال، أما الآخر فكان حوادث السودان في عام
١٩٢٤م، وما قام به الإنجليز من مقابلتها بالقمع، فشرع الاتحاد ينظم
مظاهرة كبرى في جميع أنحاء القطر المصري يوم ٢٣ من أغسطس، ولكن
السلطات خشيت مغبة الأمر فمنع عبد الرحمن فهمي قيام المظاهرة
اكتفاء بالاحتجاجات المكتوبة
١٩ وأصدر الاتحاد بيانًا احتج فيه على «الأعمال الخالية
من كل حق وعدل التي ترتكب في السودان» وعلى السياسة الاستعمارية
التي تنفذ باسم الحكومة البريطانية.
٢٠
وسرعان ما تطورت الأحداث فكان مصرع سير لي ستاك سردار الجيش
المصري وما ترتب عليه من استقالة وزارة سعد زغلول، واعتقال عبد
الرحمن فهمي الذي لم يطلَق سراحه إلا في يناير عام ١٩٢٥م حين ثبتت
براءته.
واستمر الاتحاد في العمل بعد اعتقال زعيمه، كما استمرت جريدته
الأسبوعية «اتحاد العمال» في الصدور، وظهر على صفحاتها في ٢٨
ديسمبر نداء موجَّه إلى العمال بمناسبة صدور المرسوم الملكي بحل مجلس
النواب، يدعوهم إلى توحيد الصفوف والاستعداد لخوض المعركة
الانتخابية لينتخبوا مِن بينهم «من العمال نوابا يدافعون عن حقهم
المهضوم حتى ينالوا ما يبغون».
تُرى هل كان هذا اتجاهًا جديدًا لتحويل هذا التنظيم العمالي إلى
قيادة عمالية سياسية بعيدًا عن نفوذ الوفد؟ على كلٍّ ليس لدينا من
الأدلة ما يكفي للتحقق من وجود مثل هذا الاتجاه وأبعاده.
وفي آخر يناير عام ١٩٢٥م أصدر عبد الرحمن فهمي بيانًا أعلن فيه
استقالته من الاتحاد بسبب أحواله الصحية. ويذكر أستاذنا الدكتور
أنيس
٢١ أنه قد ورد بمذكرات عبد الرحمن فهمي أنه استقال خشية
لجوء السلطات إلى دفع بعض العمال إلى ارتكاب شيء من الجرائم ثم
تنسبها إليه، فاستقال من زعامة الاتحاد تجنبًا للمتاعب، كما أكد
المرحوم حسني الشنتناوي
٢٢ أن استقالة عبد الرحمن فهمي من زعامة الاتحاد كانت
نتيجة خلاف شخصي وقع بينه وبين سعد زغلول الذي كان لا يقبل شريكًا
في زعامة الأمة، فتأثر بوِشايات الواشين وشجب النزاع بينه وبين
«زعيم العمال»؛ فآثر الأخير الاستقالة، ونعتقد أن سبب الاستقالة يرجع
إلى زوال الظروف التي دعت الوفد إلى تنظيم العمال تجنبًا لوقوعهم
في أيدي العناصر اليسارية باستقالة وزارة سعد، وتمشيًا مع اتجاه
الحزب — في تلك الفترة — بعدم الظهور بمظهر المحتضن للعناصر
المثيرة للشغب. ولا يعني هذا أن الوفد كان ينصرف عن محاولة السيطرة
على الحركة العمالية وهو خارج الحكم فقد كان — في تلك الظروف — أشد
حاجة إلى كسب تأييد الجماهير، ومن ثم مواصلته — كما سنرى — لمحاولة
توجيه الحركة لصالحه.
ومهما يكن الأمر، فقد أسندت رياسة الاتحاد إلى الدكتور محجوب
ثابت، ولكن الإجراءات التي قامت بها حكومة زِيور أدت إلى القضاء على
الاتحاد وإيقاف جريدته عن الصدور، وبذلك أسدِل الستار على أول
محاولة قام بها الوفد — على نطاق واسع — للسيطرة على حركة
العمال.
اتحاد عام النقابات عام (١٩٣٠م)
استمرت جهود الوفد للسيطرة على الحركة العمالية مقصورة — خلال
الفترة عن عام (١٩٢٥ إلى عام ١٩٢٩م) — على نشاط المحامين الوفديين
الذين عملوا كمستشارين للنقابات، وعلى نشاط شباب الحزب، فحاول عباس
العقاد تكوين جبهة عمالية وفدية في أواخر العشرينيات، ولكن محاولته
باءت بالفشل لنشوب خلاف بينه وبين زعماء النقابات التي كانت ستقوم
عليها جبهته العمالية.
٢٣
وما أن تولى الوفد الحكم في أعقاب الانتخابات التي أجريت في
أكتوبر عام ١٩٢٩م بعد فوزه بالأغلبية، حتى بدأ العمل على إقامة
اتحاد النقابات، وإيجاد هيئة لتنظيم العمال.
نهج الوفد في تلك المرحلة نهجًا قريب الشبه بذلك الذي حدث في عام
١٩٢٤م فأصدر حسني الشنتناوي — أحد شباب الحزب البارزين — جريدة
أسبوعية أطلق عليها اسم «العامل المصري» في (٤ مارس عام ١٩٣٠م)
وأخذت تلك الجريدة تتناول شئون العمال بأقلام المحامين الوفديين،
وتعنى بصفة خاصة بنشر أخبار النقابات والتركيز على ما آلت إليه
أحوالها من السوء والإشارة إلى حاجة العمال إلى تنظيم صفوفهم على
أساس سليم، وضربت الجريدة الأمثال بأحوال العمال في أوروبا، وبينت
البَون الشاسع بين ما كانت عليه أحوال العمال المصريين، وبين أحوال
زملائهم في أوروبا، ودعت إلى إصلاح أحوالهم.
وفي ٤ أبريل عام ١٩٣٠م، طرح عزيز ميرهم — عضو مجلس الشيوخ الوفدي
— اقتراحات
٢٤ على العمال لتنظيم الحركة العمالية نشرت على صفحات
«العامل المصري»، نصَّت على توجيه الدعوة لتأسيس «كتلة برلمانية
للعمال تتكون من عدد ليس من الضروري أن يكون كبيرًا من شيوخ ونواب
يقبلون أن يأخذوا على عاتقهم الدفاع — من الناحية البرلمانية — عن
حقوق العمال والفلاحين، ودرس النظم الاجتماعية التي تعود على
الطبقة البائسة بالرقي والتقدم، وتتمتع هذه الكتلة البرلمانية
الصغيرة بكيان ذاتي مستقل عن لجنتي العمال بالمجلسين، تجاهد للعمال
وتحال عليها نتائج أعمال المجلس الاستشاري».
وتضمنت الاقتراحات تأسيس مجلس استشاري للعمال يتكون من جميع
الذين يهتمون بشئون العمال ويكون من اختصاصه:
- (١)
وضع الأسس التي تتكوَّن النقابات عليها.
- (٢)
تكوين النقابات وتعهُّدها بالتنظيم إلى أن تصبح وحدات
عاملة.
- (٣)
درس حقوق العمال من الناحية العامة مسترشدًا في ذلك
بالحقوق التي كسبها العمال في مصر وفي البلاد
الأجنبية.
- (٤)
درس مطالب العمال في كل نقابة ولكل طائفة وإرشاد
النقابات إلى خير الطرق التي يسلكونها لتحقيقها.
- (٥)
تعيين مستشار لكل نقابة يتخصص لها.
- (٦)
الاتصال الدائم بالكتلة البرلمانية يبلغ إليها قراراته
ورغباته.
وطالب عزيز ميرهم الحكومة بالاشتراك في أعمال المجلس الاستشاري
المقترح إقامته بمندوب أو أكثر، وأكد أن هذا المجلس من الممكن أن
يصبح له شأن رسمي ويتطور إلى أن يصبح أداة حكومية كما حدث في
سويسرا لمجلس شبيه له.
ورد حسن نافع — رئيس لجنة العمال البرلمانية — على هذه الاقتراحات
٢٥ موضحًا ضرورة إصدار تشريع للعمل والعمال وإقامة مكتب
للعمل يحل محل لجان التوفيق، وذلك قبل التفكير في تنظيم الحركة
العمالية، ودعا إلى تأسيس اتحاد للعمال «يكون تكوينه من بين
أنصارهم ومستشاريهم ويكون نافذ الكلمة في الجماعات المنضمة إليه»
حتى يكفل النجاح للمجلس الاستشاري المقترح إنشاؤه.
وتدارست النقابات هذه الاقتراحات، وعقدت اجتماعات تمهيدية لمؤتمر
العمال الذي كان من المقرر دعوته لبحث الاقتراحات بدار نقابة عمال
ترام القاهرة، وحضر هذه الاجتماعات مندوبون عن نقابات العمال
الموالية للوفد وهي نقابات: ورش ترام مصر الجديدة وعمال المطابع
المصرية، وجمعية رقي العمال، وخريجي المدارس الصناعية، وعمال ورش
النجارة الميكانيكية، وعمال السيارات، وعمال القُطر المصري،
والطهاة، والأحذية، والنقابة العامة للعمال، وعمال الدخان، وعمال
ترام القاهرة، والحوذية وعمال النقل.
وتشاور المجتمعون في أحوال العمال وقرروا مطالبة الحكومة بسرعة
إصدار تشريع العمل ووافقوا على إيجاد مكتب ينظم حركة النقابات
ويوحد جهودها، ثم ما لبثوا أن قرروا تحويل هذا المكتب إلى «اتحاد
عام النقابات» الذي أسندت رياسته إلى أحمد محمد أغا المحامي،
واختير حسني الشنتناوي مستشارًا عامًّا للنقابات، وأصبحت جريدة
«العامل المصري» تنطق بلسان الاتحاد.
٢٦
وبذلك أوشكت جهود الحزب للسيطرة على النقابات أن تؤتي أكلها،
ولكن أتت الرياح بما لم تكن تشتهي السفن، فاضطرت حكومة الوفد إلى
الاستقالة بعد فشل المفاوضات مع الإنجليز (مفاوضات النحاس –
هندرسون). ولم تؤثر استقالة وزارة الحزب على كيان الاتحاد، ولكنها
حدَّت من نموه. وسرعان ما شجب النزاع بين رئيس الاتحاد وبين الحزب
فأُقصِي عن منصبه وتولى عزيز ميرهم رياسة الاتحاد.
وتلا ذلك ما أقدمت عليه حكومة صدقي من إلغاء الدستور عام ١٩٢٣م،
وما ترتب عليه من قيام حركة مقاومة عنيفة تزعمها الوفد وأيدها بعض
أمراء البيت المالك، ومن بينهم عباس حليم الذي أكسبه هذا الموقف
صداقة الوفد وجلب إليه زعامة «الاتحاد العام لنقابات عمال القُطر
المصري» — كما قدمنا — فقام نوع من التحالف بين الوفد وعباس حليم،
ورأى الوفد أن يعمل بين صفوف العمال بواسطة النبيل الشاب فأعلن
إدماج اتحاد عام النقابات (الوفد) في الاتحاد الذي كان يتزعمه عباس
حليم.
المجلس الأعلى للعمال (١٩٣٥-١٩٣٦م)
بقيت علاقة الوفد بعباس حليم وطيدة شهورًا معدودة، ثم ما لبث
الوفد أن تبين أن طموحه أكبر من أن يجعله يقبل القيام بدور العميل
الذي يدبر أمور الاتحاد لحساب الوفد فقد رفض عباس حليم أن يسمح
بتعيين أعضاء وفديين في مجلس إدارة الاتحاد وبلغ سلوكه حدًّا
كبيرًا من الخطورة على الوفد حين أعلن تأسيس حزب العمال المصري في
(١٠ يونيو عام ١٩٣١م)، فشنَّ الوفد عليه حملة شعواء أدت إلى إيقاف
نشاط الحزب وهو لم يزل في المهد.
ثم عاد الوفد إلى سياسة الوفاق مع عباس حليم حتى تسنح الفرصة
التي يقوم فيها الحزب بالسيطرة على الاتحاد العام، وزاد الحزب
تطلعًا إلى هذه الرغبة ما بلغه الاتحاد من القوة والنفوذ في أوساط
العمال عامي ١٩٣٤-١٩٣٥م.
وكان الجو السياسي في عام ١٩٣٥م يبشر بقرب وصول الوفد إلى الحكم،
فقد تولى نسيم باشا الحكم عقب استقالة وزارة عبد الفتاح يحيى،
ونظرًا لما عُرف عن نسيم من معارضته لدستور ١٩٣٠م، فقد كان من
المنتظر حدوث تغييرات دستورية لصالح الأمة؛ ولذلك اعتقد الوفد أن
الوزارة النسيمية وزارة انتقال لا وزارة استقرار.
لهذا كان لزامًا على الوفد أن يُعِد خطة للعمل الوطني، فعقد
«المؤتمر الوطني العام» للوفد المصري في (٨ و٩ يناير عام ١٩٣٥م)
وقسم العمل بين لجان المؤتمر لبحث الأحوال العامة للبلاد من
اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وألقيت أمام المؤتمر عدة
تقارير تناولت هذه الجوانب؛ فعرضت لمشاكلها ووضعت الاقتراحات
اللازمة لحلها، وكان من بين هذه اللجان لجنة العمال التي قدم عزيز
ميرهم تقريرها إلى المؤتمر، وقد ذهب فيه إلى ضرورة إنشاء مصلحة
خاصة للعمل والعمال لا تكون تابعة لوزارة الداخلية، على أن ترتكز
على هيئتين رئيسيتين هما، المجلس الاستشاري للعمل والعمال، ومكتب
العمل، وتكون أغراضهما دراسة الشئون الاقتصادية بالبلاد، وشئون
العمال وإعداد مشروعات القوانين واللوائح الداخلية والإشراف على
تنفيذها، وأنه يجب على الدولة أن تسن القوانين اللازمة للنقابات،
وتقيم بورصة للعمل لحل مشكلة العمال العاطلين، وتحارب الأمية بين
صفوف العمال، وتعمل على استكمال التعليم الفني والصناعي، وتضع الحدَّ
الأدنى للأجور على أن يفي بما يضمن للعامل عيشه وأسرته، وتعمل على
توفير الشروط الصحية في مجال العمل، وتنظيم العلاقة بين العامل ورب
العمل، وإيجاد نظام للتأمين ضد المرض والعجز.
٢٧
وراعَ الوفد ما بلغه الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري من
القوة، وخاصة حين دعا الاتحاد ممثلي الصحافة العربية والإفرنجية
لتفقُّد أحواله بمناسبة زيارة وفد الاتحاد النسائي العالمي لدار
الاتحاد العام في (٣ فبراير عام ١٩٣٥م)، وأخذت الصحف تكتب عن نشاط
الاتحاد وتُبين مدى ما بلغه من قوة، بينما أشارت جريدة «الجهاد»
٢٨ في الافتتاحية التي كتبها توفيق دياب إلى خطورة بقاء
حركة العمال تسير على هذا النحو، وخاصة أن نظام الاتحاد أصبحت تفوح
منه رائحة الفاشية، فكان أعضاؤه يرتدون زيًّا موحدًا ويحيون
الصحفيين تحية خاصة برفع اليد، ودعا الوفد إلى تنظيم الحركة قبل
فوات الأوان.
وفي ١١ فبراير صدر قرار الوفد بتأسيس «المجلس الأعلى للعمال»
برياسة عباس حليم، وعضوية مجموعة من رجالات الوفد الذين اشتغلوا
بتنظيم النقابات، وكان لصدور هذا القرار دَويٌّ كبير في الداخل
والخارج، فقد نشر إسماعيل صدقي — في اليوم التالي لإعلان قرار
الوفد — بجريدة الأهرام خطابًا مفتوحًا إلى رئيس الوزراء استرعى
فيه نظره إلى خطورة قرار الوفد «لأن القرار هو تحدِّ للمبدأ الأساسي
الذي رُوعي في وضع تشريع العمال، وهو جعل النقابات تحت إشراف
الهيئات الممثلة للعمال أنفسهم وهيمنة الحكومة»، ونوَّه إلى أن تغلغل
النفوذ الحزبي بين العمال من شأنه أن يفسد على العمال أمرهم، ويلحق
الضرر بمركز مصر الصناعي. وعدت (الديلي تلجراف) قرار الوفد أهم
تطور سياسي في مصر منذ تصريح فبراير عام ١٩٢٢م.
٢٩
ويبدو أن عباس حليم أيد مشروع المجلس الأعلى في البداية على أساس
أنه سيكون معضدًا للاتحاد في المطالبة بالتشريع دون التدخل في أمور
النقابات، ولكن حين أيقن أن الغرض من المجلس الأعلى الهيمنة على
أمور الاتحاد، رفض أن يكون تابعًا للوفد منفِّذًا لتعليماته، وأعلن
تخليه عن رياسة المجلس الأعلى ورمى الوفد بأنه يريد إقحام الاتحاد
في السياسة على حساب مصلحة العمال.
٣٠
فأصدر الوفد بيانًا زعم فيه أن عباس حليم كان يعمل بين صفوف
العمال باسم الوفد وتحت لوائه، ولما كان قد خرج على الوفد فقد قرر
الوفد فصله من رياسة المجلس وعضوية المجلس الأعلى للاتحاد، ودعوة
العمال إلى أن تكون علاقاتهم بالمجلس دون سواه في جميع شئونهم
العمالية والنقابية. وعين أحمد حمدي سيف النصر — عضو الوفد —
رئيسًا للمجلس الأعلى لاتحاد العمال بالقطر المصري، وكلف بإعادة
تنظيم اتحاد العمال ووضع قانون للاتحاد ينظم شئون العمال، ويجمع
شملهم، ويحفظ أموالهم.
٣١ ومن الغريب أن الوفد لم يُعنَ بإشراك أحد من العمال في
مجلس إدارة المجلس الأعلى.
وقد أدى تأسيس المجلس الأعلى إلى انقسام الحركة العمالية في وقت
كانت قد بلغت فيه حدًّا كبيرًا من القوة والتنظيم، فناصرت بعض
النقابات المجلس الأعلى، وشايع بعضها الآخر الاتحاد العام، وأيدت
بعض نقابات الإسكندرية الاتحاد المسمى ﺑ «تضامن العمال» الذي كان
يرتكز إلى حماية البوليس ويعمل لحسابه بين صفوف العمال.
٣٢
وليس لدينا إلا النزر اليسير عن أعمال المجلس الأعلى، فهو لم يكن
إلا أداة سياسية حزبية لتوجيه النقابات، فاشترك في تنظيم نضال
العمال من أجل الدستور، وفي المطالبة بإصدار تشريع العمل.
وبوصول الوفد إلى الحكم في عام ١٩٣٦م تبين العمال أن الآمال التي
علقوها على تأييده لم تتعدَّ حدود الأماني، فلم تتمكن حكومة الوفد من
إصدار التشريع، كما واجهت بالعنف موجة الإضرابات التي حدثت في عام
١٩٣٦م نتيجة سوء أحوال العمال وتناقص الأجور وتفاقم مشكلة البطالة
مع الارتفاع المطرد لتكاليف المعيشة. فأخذت النقابات تنسلخ من
اتحاد المجلس الأعلى ولم يبق منها إلا ثلاث نقابات في أواخر عام
١٩٣٦م. وقضى المجلس الأعلى نحبه في أوائل عام ١٩٣٧م.
٣٣
رابطة نقابات عمال مدينة القاهرة وضواحيها (١٩٤٣-١٩٤٤م)
عادت جهود الوفد لتقتصر على نشاط مستشاري النقابات الوفديين إلى
أن أعطى الوفد الحكم في ٤ فبراير عام ١٩٤٢م بعد الحادث المشهور الذي
أرغم فيه الإنجليز الملك — بعد أن حاصرت دباباتهم قصر عابدين — على
أن يكلف النحاس باشا بتشكيل الوزارة.
وفي مواجهة السخط الذي اعتمل في نفوس الشعب على الطريقة التي قبل
بها الوفد الحكم، شرعت حكومة الوفد تنفذ بعض الإصلاحات الضرورية
الهامة لتهدئة الخواطر، وكان من بين هذه الإصلاحات إصدار يعضُّ
قوانين العمل كقوانين التأمين الإجباري ضد حوادث العمل، وتحديد
ساعات العمل، وعلاوة غلاء المعيشة، وتحديد الحد الأدنى للأجور،
وكان أبرز هذه القوانين قانون الاعتراف بنقابات العمال.
اعترف القانون بحق العمال في تكوين النقابات، ولكن قيد هذا الحق
بقيود عدَّة، فأخضع النقابة للرقابة البوليسية، وجعلها معرضة للتفتيش
وحل الإداريين، وحظر إقامة اتحاد عام لنقابات العمال.
وجريًا على سياسة الوفد، أخذ يعمل على إيجاد جبهة عمالية تناصر
حكمه، فاحتال على القانون، وجمع عددًا من نقابات القاهرة في
«اتحاد» تحت اسم «رابطة النقابات»، وأسندت رياستها إلى محمد حسنين
عضو الوفد.
تكونت لجنة من العمال لتشكيل الرابطة والدعاية لها، ووضع لائحة
نظامها الأساسي، فوضعت مشروعًا للائحةٍ نُصَّ فيه على أن أغراض الرابطة
تنحصر في توجيه النقابات التوجيه الصحيح حتى تنمو الحركة العمالية
وتنهض، وإيجاد صلة تعاون بين النقابات بعضها مع بعض، والدفاع عن
المصالح المشتركة للنقابات بجميع الطرق المشروعة، وتنشيط الروح
الرياضية والثقافية للنقابات، والقيام ببحث شكاوى النقابات ورفعها
إلى الجهات المختصة.
٣٤
وقامت الرابطة بعقد عدة اجتماعات عامة للعمال لتدارس شئونهم
ولتدعيم الرابطة، واقترح في أحد هذه الاجتماعات انتخاب فؤاد سراج
الدين — سكرتير الوفد — زعيمًا للعمال لمدى الحياة، وأدَّى تقديم هذا
الاقتراح إلى نشوب معركة بين مؤيدي الاقتراح ومعارضيه، فلم يصل
المجتمعون إلى قرار.
٣٥
وما لبثت وزارة الوفد أن أقيلت، وحلت الرابطة، وبذلك أسدل الستار
على آخر محاولات الوفد للسيطرة على الحركة العمالية.
لقد بدأ اهتمام الوفد بتنظيم العمال كضرورة لتدعيم النضال الوطني
في عام ١٩١٩م، ثم لجأ إلى إقامة اتحاد ينأى بهم عن التيارات
اليسارية التي تفشَّت في أوساط العمال في عام ١٩٢٤م. وتحول اهتمامه
بالعمال بعد ذلك إلى محاولة الحفاظ على أكبر نسبة ممكنة من أصواته،
ولجمع الأنصار حوله.
وقد أدَّى تسلط البرجوازية الوطنية على الحركة العمالية وسيطرتها
على النقابات إلى إضعاف الحركة العمالية، وتبديد الجهود التي بذلها
بعض العمال البعيدين عن النشاط الحزبي لإقامة اتحاد عام في أواخر
الثلاثينيات. ونتج عن ضمِّ النقابات إلى الهيئات العمالية الحزبية،
تعرضها لاضطهاد البوليس بل وللحل أحيانًا.
محاولة الأحرار الدستوريين للسيطرة على الحركة العمالية
تأسس حزب الأحرار الدستوريين في أكتوبر عام ١٩٢٢م بجهود بعض
الأعيان والمثقفين الليبراليين وهو يُعدُّ امتدادًا لحزب الأمة. وقد
جمع الحزب في قيادته الخارجين على الوفد، كما عرف بين الناس
بالاستهانة بالدستور، فقد اشترك في الوزارة التي عطلت البرلمان عام
١٩٢٥م، وألغى الحياة النيابية وحكم البلاد حكمًا دكتاتوريًّا في عام
١٩٢٨م فأعاد العمل بقانون المطبوعات وعطل الكثير من الصحف وأنذر بعضها،
٣٦ وكانت وزارات الحزب مرتبطة بالقصر الملكي ومصالحه، ومن
ثَم كان الحزب مجرد قيادة بلا قاعدة، فلم تكن له شعبية تتيح له
الوقوف على أقدامه في مواجهة الوفد.
لم يكُن من بين أهداف الحزب العمل على تنظيم العمال، وإن كان قد
نصَّ في مبادئه
٣٧ على أنه يعمل على «السعي في تنظيم العلاقات بين العمال
وأرباب الأعمال على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة
من تحكم أحد الفريقين»، ولكن حين تعرض الحزب لحملة المعارضة التي
نظمها الوفد ضد حكمه في أواخر العشرينيات أخذ يسعى لكسب ودِّ
الفلاحين والعمال وضمهم إلى صفه، فأعلن محمد محمود باشا في أوائل
عهد وزارته عام ١٩٢٨م أن الوزارة تفكر جديًّا في مشروع يقضي بتوزيع
الجزء الأكبر من أراضي الدومين على صغار الفلاحين بأثمان متهاودة
تدفع على أقساط طويلة الأجل، كما أعلن في زيارته لمدينة طنطا أن
حكومته ستشرع في حماية سكان القرى بردم البرك والمستنقعات وتعميم
المياه الصالحة للشرب في القرى وإنشاء المستشفيات القروية التي
ستوزع على الوجهين القبلي والبحري بالتساوي، ووصف الفلاحين بأنهم
«سواد الأمة الذين على سواعدهم القوية ترتكز قوة البلاد»، ثم أعلن
عن عزم الحكومة على إقامة مساكن صحية للعمال بأجور زهيدة في أحياء
القاهرة،
٣٨ وقد تم بالفعل وضع الحجر الأساسي لإنشاء ١٥٠ مسكنًا
للعمال في تلِّ البارود بحي السيدة زينب.
٣٩
وحاول الحزب في تلك الآونة اقتناص «نقابة العمال المتحدين» التي
كانت تضمُّ عمالًا من مختلف المهن، ويتزعمها الدكتور محجوب ثابت، فقد
استدعاه محمد محمود لمقابلته، وطلب منه أن يزوده باقتراحات لإصلاح
أحوال العمال، فطالب فيما طالب بسن قانون لحماية العمال من الشركات
وأصحاب رءوس الأموال، وإصدار تشريع لتقاعد العمال الذين يعجزون عن
مواصلة العمل لكسب أقواتهم حين تتقدم بهم السن، وتشريع لتعويض
العمال الذين يصابون بعاهات في أثناء العمل. وعرض عليه محمد محمود
الانضمام إلى الحزب فرفض مكتفيًا بتأييد كل وزارة إصلاحية.
٤٠
ويبدو أن محمد محمود قد عرض أيضًا على الدكتور محجوب ثابت العمل
بين صفوف العمال لحساب الحزب، فقد جمع محجوب ثابت ممثلي العمال بعد
تلك المقابلة، وأفضى إليهم بما دار بينه وبين رئيس الوزراء، وقال
لهم: «أيها العمال جانبوا الأحزاب لمصلحتكم ومصلحة وطنكم، ولا
تكونوا مطايا للأشخاص.» وأوصاهم بأن يقفوا من الأحزاب موقفًا
سلبيًّا؛ فلا يؤيدون إلا الحزب الذي يعمل لمصلحتهم ومصلحة الوطن.
٤١
ولما لم يجد الحزب في نقابة العمال المتحدين ومحجوب ثابت ضالته
المنشودة، عمل على إقامة تنظيم عمالي جديد يتبع الحزب، فاستغل نشاط
بعض المنظمين النقابيين لإعادة «الاتحاد العام لنقابات عمال القُطر
المصري»، ودسَّ رجُله داود بك راتب ليتزعم تلك الحركة ويمولها، فتم
إعادة نشاط الاتحاد بزعامته في أبريل عام ١٩٣٠م.
٤٢
اقتصر نشاط الاتحاد على بثِّ الدعاية بين أوساط العمال بالمنشورات
والدعوات المطبوعة لعقد اجتماعات لكل طائفة لتكوين نقابة لها تحت
رعاية الاتحاد، وكان قوام الاتحاد ثلاث نقابات هي: النقل
الميكانيكي، وعمال التنظيم، وعمال العنابر، وبعض العناصر الأخرى
التي لم تكن تمَّت للعمال بصلة. وانضمت نقابة الحلاقين إلى الاتحاد
في نوفمبر.
ولم تلقَ دعوة الاتحاد رواجًا بين العمال، وانقسم أعضاء الاتحاد
على أنفسهم وتراشقوا بالتهم، فقد كان داود راتب يصرف على الاتحاد
بسخاء أتاح للبعض فرصة العمل على ابتزاز أكبر قدر ممكن من أمواله،
ولم يكن للاتحاد أمين للصندوق، فكانت ماليته مبعثرة بين سكرتيره
العام وعضو آخر كان عاملًا بالترسانة وثالث من ذوي الأموال
الموقوفة لا يمتُّ للعمال بصلة، لذلك عمل بعض أعضاء الاتحاد على
تجنبيه ما يعاني من أزمات، فطالبوا داود راتب أن يكفَّ عن العمل على
ربط الاتحاد بحزب الأحرار الدستوريين، وأن يعلن استقالته من الحزب
حتى يُقبِل العمال على الانضمام إلى الاتحاد، وأن يختار أمينًا
للصندوق يكون مسئولًا عن مالية الاتحاد.
وأُجيبَ الطلب الثاني، فانتُخب كامل عز الدين أمينًا للصندوق، أما
الطلب الأول فلم يلقَ استجابة من زعيم الاتحاد؛ فاضطر ذلك الفريق من
أعضاء المجلس الذي تزعم حركة المطالبة بتطهير صفوفه إلى الاتصال
بالنبيل عباس حليم — الذي كانت أسهم شعبيته في صعود — وعرضوا عليه
زعامة الاتحاد فقبلها. وفي جلسة ١٧ من ديسمبر قام أحد هؤلاء
الأعضاء واقترح عزل داود راتب وتنصيب عباس حليم زعيمًا للاتحاد،
وقامت مشادة بين مؤيدي الاقتراح ومعارضيه، فاستولى المؤيدون على
سجلات الاتحاد وأختامه، وغادروا مقرَّ الاتحاد قاصدين دار عباس حليم،
وهناك استكملوا محضر الجلسة، وخرجت الصحف في اليوم التالي تحمل نبأ
التغييرات التي طرأت على مجلس الاتحاد.
٤٣
وبذلك أُسدِل الستار على أول وآخر محاولات الأحرار الدستوريين
للسيطرة على الحركة العمالية، ونعتقد أن سبب فشل تلك المحاولة يرجع
إلى ما كان يتمتع به الوفد من شعبية بين صفوف العمال، في وقت كان
يُعَد فيه من يَخرج على الوفد خارجًا على الأمة، ومن ثَم كان نفور
العمال من حزب الأحرار الدستوريين والاتحاد الذي كان يتبناه. كما
أن طبيعة تكوين الحزب من قيادة تجمع أعيان البلاد كانت كفيلة بأن
تباعد بينه وبين العمال الذين لا يمكن أن تتفق مصالحهم مع مصالح
قادته.
محاولة القصر الملكي للسيطرة على الحركة العمالية
امتاز مطلع الثلاثينيات بوجود (وعي) نقابي — إلى حدٍّ ما — فلقيَت
دعوة الاتحاد العام لنقابات عمال القُطر المصري إلى تأسيس النقابات
رواجًا بين العمال، وزاد من نجاحه ما استقر في الأذهان من أنه جناح
عمالي للوفد بحكم صلة التحالف التي كانت تربط زعيمه عباس حليم
بالوفد.
ورأى القصر أن يعمل على إحباط نشاط الاتحاد وشلِّ حركته بخلق اتحاد
جديد يشمله برعايته، ويروج له أعوانه، ليحقق — على الأقل — انقسام
النقابات بين مؤيد لاتحاد عباس حليم ومُشايع لاتحاد القصر الملكي.
وتولى الدعاية للاتحاد الجديد إدجار جلاد الذي كان رئيسًا لتحرير
جريدة اللبرتيه، فحاول إغراء بعض المنظمين النقابيين على ترك اتحاد
عباس حليم والتعاون معه. وتأسس الاتحاد الجديد في منتصف عام ١٩٣١م،
وأطلق عليه اسم «اتحاد النقابات بالقاهرة»، وتولى إدجار جلاد
رياسته، ونودي بالأمير فاروق زعيمًا وراعيًا للاتحاد.
٤٤
وليس لدينا عن نشاط هذا الاتحاد إلا النزر اليسير، فقد انقطعت
أخباره بعد شهور من تأسيسه. وكان ينظم في المناسبات الملكية
مظاهرات تقصد القصر لتقديم الولاء لصاحب العرش، ففي عيد الجلوس
الملكي عام ١٩٣١م نظم الاتحاد مسيرة من نقاباته الثمانية قصدت قصر
عابدين، وسمح لها بدخول فناء القصر حيث حياهم الملك فؤاد واجتمع
بإدجار جلاد ورؤساء نقابات الاتحاد بعض الوقت، وطلب منهم أن
يساندوا الاتحاد «لصالح البلاد وسعادتها».
٤٥
وكانت نهاية ذلك الاتحاد غامضة، فلم يصدُر بيان بحله، ويبدو أن
فشله في جمع أكثر من ثماني نقابات حوله دفع القصر إلى نفض يديه من
تلك المحاولة الفريدة في نوعها.
محاولة الإخوان المسلمين للسيطرة على الحركة
تأسست جماعة الإخوان المسلمين في يونيو عام ١٩٣٤م بمدينة
الإسماعيلية، وانتشرت دعوتها في الدلتا ومدن القناة، ثم نقلت
الجماعة مركزها العام بعد ذلك إلى القاهرة، وأصدرت جريدة «الإخوان
المسلمون» لبثِّ الدعوة التي كانت تنحصر في إقامة الشعائر والالتزام
بمبادئ الإسلام.
٤٦
ولم تشِر مبادئ الجماعة من قريب أو بعيد إلى العمال، ولم تُبدِ
اهتمامًا بتنظيمهم إلا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية
الثانية، فألفت «اللجنة القومية للطلبة والعمال» التي وقع أفرادها
في اشتباكات مع أعضاء اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وعملوا على
محاربتها ومقاومة نشاطها. وأفردت جريدة الجماعة جانبًا من صفحاتها
لمناقشة مسائل العمل والعمال، واتخذت موقفًا معاديًا لعمال شبرا
الخيمة الذين نظموا حركة احتجاج على إغلاق بعض مصانع النسيج
واتهمتهم باعتناق المبادئ الهدامة.
وسعت الجماعة في تلك الحقبة إلى تكوين شعبة عمالية تتولى تشكيل
جبهة من نقابات العمال بمعاونة رؤساء النقابات من أعضائها، ولكن
الحملة التي شنَّها «الوفد المصري» — التي كانت تنطق بلسان الجناح
اليساري للوفد — في صيف عام ١٩٤٦م أدت إلى إحباط مساعي الجماعة
لتكوين جبهة عمالية، ثم قضي نهائيًّا على المشروع بحل الجماعة على
يد حكومة النقراشي عام ١٩٤٨م.
ونصَّت بعض الهيئات السياسية الأخرى في برامجها على أمور تتعلق
بالعمال، ولكنها لم تتجاوز حدود المبادئ، فلم تتخذ مظهرًا من مظاهر
العمل التنظيمي، وكان أبرزها ما جاء بمبادئ حزب «مصر الفتاة» التي
نصَّت على «ضرورة حماية العمال ورعايتهم والنهوض بهم»، وذلك بتحديد
الحد الأدنى للأجور بخمسين قرشًا يوميًّا، وتحديد ساعات العمل
بثماني ساعات، والتأمين ضد البطالة والمرض والشيخوخة والعجز،
وإيجاد المسكن الصحي المناسب للعامل وأسرته.
٤٧
وثَمة محاولة أخيرة وقعت في عام ١٩٥١م قامت بها جماعة أنصار السلام
— التي كان يتزعمها البنداري باشا — لضمِّ النقابات لها، واستخدَمت
الجماعة لهذا الغرض نقابيين من عمال النقل قاما ببثِّ الدعوة بين
نقابات منطقة القناة،
٤٨ ولكن هذه المحاولة لم يقدَّر لها النجاح.