تمثَّلت التيارات اليسارية العمالية في النشاط الاشتراكي الذي بدأ في
أوائل القرن العشرين على يد العناصر الأجنبية التي وفدت من بلاد احتدم
فيها الصراع بين العمل ورأس المال، ووجدت فيها المبادئ الاشتراكية
البيئة الملائمة للنمو، فحملت تلك العناصر معها براعم العمل النقابي
وشاركت — كما رأينا — في تأسيس النقابات العمالية الأولى في مصر، كما
حملت في نفس الوقت براعم العمل الاشتراكي التي لم يقدَّر لعودها أن
يخضرَّ إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وظل النشاط الاشتراكي في
بدايته مقصورًا على العناصر الأجنبية؛ لأن المستوى المادي والفكري
للعامل المصري لم يبلغ من النضج حدًّا يسمح له بتفهم المبادئ
الاشتراكية الوافدة.
لذلك قامت أول محاولة لتأليف حزب اشتراكي مصري على يد بعض المثقفين
الوطنيين في أواخر شتاء عام ١٩١٨-١٩١٩م، وقد تزعم الدكتور منصور فهمي
هذه المحاولة، وبث الدعوة لها بين لفيف من أصدقائه، فلقيت تأييد البعض
ممن امتازوا بحماسهم للاشتراكية، ولقيت معارضة البعض الآخر ممن رأوا
عدم ملاءمة الظروف المصرية الاجتماعية والاقتصادية للدعوة للمبادئ
الاشتراكية وأخيرًا استقر الرأي على أن يكون اسم الحزب «الحزب
الديمقراطي»، على أن يدعم نضال الوفد من أجل القضية المصرية، وتألف
الحزب في سبتمبر عام ١٩١٩م، وكان من أبرز رجاله منصور فهمي، ومحمود
عزمي، وعزيز ميرهم، ونشر برنامجه في جريدة النظام في (٨ من سبتمبر عام
١٩١٩م)، ونصَّ فيه على أن الحزب يعمل على ترقية الطبقات العاملة أدبيًّا
وماديًّا، وإعانة من لا يستطيع العمل، وإنماء ثروة البلاد بحيث ينتفع
بها السكان جميعًا بقدر الإمكان.
ومهما يكن الأمر، فإن العناصر الوطنية لم تدخل ميدان العمل الاشتراكي
بصورة فعالة إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبرغم أن الطليعة
الاشتراكية تلقت ضربة شديدة وهي لا تزال في مهدها، فإن فلولها استطاعت
أن تمارس نشاطها — بصورة أو بأخرى — في الحقبة الممتدة من عام ١٩٢٤م حتى
١٩٥٢م.
اليسار العمالي في أعقاب الحرب العالمية الأولى (١٩٢١–١٩٣٩م)
رأينا كيف تطورت الحركة العمالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى
تطورًا سريعًا نتيجة لازدياد النشاط النقابي في تلك الفترة والتحامه
بالعمل الوطني في ثورة ١٩١٩م، فكانت فترة الازدهار النقابي التي أعقبت
الحرب مناخًا ملائمًا يمكن أن تتنفس فيه المبادئ الاشتراكية لو قيض لها
أمران: أولهما، وجود طبقة عاملة على درجة من النضج الفكري تسمح لها
بإدراك التناقض بين رأس المال والعمل وتنشد الخلاص من الظلم الاجتماعي
الذي يلحق بها في ظل المجتمع الرأسمالي. وثانيهما، وجود قيادة وطنية
تستطيع توجيه هذا النشاط العمالي المتأجج إلى العمل الاشتراكي.
وهو ما لم يتحقق للعمال المصريين في تلك الحقبة، ومن ثَم وقعت قيادة
النشاط الاشتراكي في يد الأجانب.
فقد أدى وقوع ثورة أكتوبر عام ١٩١٧م في روسيا، وتردد أصداء النداءات
الدولية التي وجهتها إلى «العمال والفلاحين في الشرق الأدنى»، وإلى
«مسلمي العالم ضحايا الرأسمالية»، إلى قيام الخلايا الشيوعية في
القاهرة والإسكندرية بصفة خاصة حيث قام الدعاة الشيوعيون ببث الدعوة
بين العمال الفنيين من الأجانب، وبين بعض المثقفين المصريين ممن أتيحت
لهم فرصة الدراسة في جامعات أوروبا.
٣
ويُعَد جوزيف روزنتال أول مؤسس للحزب الاشتراكي المصري، فقد عمل على
تأسيس النقابات منذ بزوغ فجر الحركة النقابية، واشترك في تأسيس نقابات
عمال السجاير والخياطين وعمال المعادن وعمال المطابع التي كانت تضمُّ —
في معظمها — عمالًا من الأجانب. وحين نهضت النقابات الوطنية في أعقاب
الحرب العالمية الأولى، لم يشترك في إدارتها، وكان يرى أن تقوم
النقابات بإنشاء «مركز للدفاع الاقتصادي والتربية الفكرية» ولذلك نشر
في غضون عام ١٩٢٠م نداء إلى النقابات يدعوها إلى تأسيس اتحاد يضم شملها
جميعًا، فاستجابت لندائه وأوفدت إلى الإسكندرية مندوبين يمثلون ٣٥
ألفًا من العمال لبحث المشروع، غير أن رؤساء النقابات المتشبعين
بالفكرة السياسية شعروا إذ ذاك أن إنشاء النقابات الحقيقية بطريقة
تراعى فيها حالة العمال يؤدي إلى نزع كل ما لهم من السلطة عليها، ويحول
بينهم وبين تحقيق أغراضهم السياسية، فسعوا لحمل نقاباتهم على عدم
الاشتراك في الاتحاد، وظلوا يماطلون في تنفيذ الإجراءات المبدئية
للاتحاد سنة كاملة. وفي بدء عام ١٩٢١م، تأسس اتحاد النقابات بعدد محدود
لا يتجاوز ثلاثة آلاف من العمال.
ولما كانت النقابات لا تستطيع أن تتدخل تدخلًا فعليًّا في الأمور
السياسية لكونها مؤلفة من عمال تختلف مشاربهم السياسية، فكر روزنتال في
تأسيس حزب سياسي يكون بمثابة لسان حال لنقابات العمال ويكون في
استطاعته أن يدافع عن مصالحهم في المجلس النيابي وغيره، ويسعى لحمل
الحكومة على إصدار قانون اجتماعي لحماية العمال المتروكين تحت رحمة
الرأسمالية وظلمها.
٤ فقام بتأليف الحزب من بين أفراد الجاليات الأجنبية في
الإسكندرية، وبذلك تمكن الحزب من مزاولة نشاطه في حماية الامتيازات
الأجنبية دون أن تجرؤ السلطات على التدخل في شئونه.
٥
وكانت هناك في — نفس الوقت — جماعة من الشباب المثقف تسعى لتأليف
«جمعية اشتراكية» لدراسة مذاهب الاشتراكية المتعددة، فكتبوا إلى
روزنتال يطلبون الاطلاع على برنامج حزبه، حتى إذا صادف هواهم انضموا
إليه، وإذا لم يرُق لهم أسسوا «جمعية» غايتها الدرس أكثر من السياسة،
يضع أعضاؤها مصلحة مصر نصب أعينهم، ويكون غرضها نصرة المبادئ
الاشتراكية المعتدلة، وتبصير العمال بحقوقهم.
٦ فاتفق هؤلاء مع روزنتال على توحيد الجهود وإقامة «الحزب
الاشتراكي المصري»، ونشر برنامج الحزب موقعًا عليه من سلامة موسى وعلي
العنان ومحمد عبد الله عنان ومحمود حسني العرابي، أما روزنتال فلم
يشترك معهم في التوقيع على البيان خشية أن يعد ظهور اسمه الأجنبي —
برغم كونه مصري الجنسية — تدخلًا أجنبيًّا في مسألة مصرية، واتخذ للحزب
مركزًا بالقاهرة، وأنشئت له فروع بالأقاليم.
٧
وقد أشار بيان الحزب
٨ في مقدمته إلى ما تقوم به المبادئ والنظم الاشتراكية من
«تأييد عواطف التآخي والسلام في المجتمع الإنساني»، وندد بالاستعمار
والاستغلال الذي استلب حرية مصر، «سعيًا إلى استثمار أرزاقها، واستغلال
جهود بنيها»، مما أسفر عن خلق الغنى الفاحش، والبأساء البالغة، جنبًا
إلى جنب وأدى إلى اتساع الهوة بين الرفاهية والفاقة. وانقسمت مبادئ
الحزب إلى ثلاثة أقسام، تناول أولها النواحي السياسية، وعرض ثانيها
للمبادئ الاقتصادية، وتناول ثالثها النواحي الاجتماعية.
فمن الناحية السياسية، نصت مبادئ الحزب على أنه سيعمل
على:
- (١)
تحرير مصر من نير الاستعمار الأجنبي، وإقصاء ذلك
الاستعمار عن وادي النيل بأسره.
- (٢)
تأييد حرية الشعوب، واختيار المصير، والتآخي مع جميع
الأمم على قاعدة المساواة والمنفعة المتبادلة.
- (٣)
محاربة الاستعمار ومقاومته أينما وجد.
- (٤)
مقاومة العسكرية والدكتاتورية وأنظمة التسليح في البر
والبحر والهواء.
- (٥)
مقاومة الاعتداء والحرب الهجومية.
- (٦)
إلغاء المعاهدات السرية.
أما عن المبادئ الاقتصادية، فهي العمل على إلغاء استغلال جماعة
لأخرى، ومحو التفريق بين طبقات المجتمع في الحقوق الطبيعية، وإخماد
استبداد المستغلين والمضاربين، والسعي إلى إنشاء مجتمع اقتصادي
يقوم على دعائم المبادئ الاشتراكية الآتية:
- (١)
توجيه الثروة الطبيعية ومصادر الإنتاج العامة لمجموع
الأمة.
- (٢)
التوزيع العادل للثمرات على العاملين طبقًا لقانون
الإنتاج والكفاية الشخصية.
- (٣)
إخماد المزاحمة الرأسمالية.
أما المبادئ الاجتماعية فهي:
- (١)
اعتبار التعليم حقًّا شائعًا لجميع أفراد الأمة نساء
ورجالًا بجعله مجانيًّا ملزمًا، والعمل على نشر التعاليم
الديمقراطية الصحيحة بين جميع طبقات الأمة.
- (٢)
العمل على تحسين حال العمال بتحسين الأجور، وتقرير
المكافآت والمعاشات حين العجز والعطلة القهرية.
- (٣)
العمل على تحرير المرأة الشرقية وتربيتها تربية سليمة
منتجة.
ونصَّ البيان على أن الحزب سيعمل على تحقيق مبادئه بالصراع الحزبي
والدعوة السلمية مستعينًا على تحقيق ذلك بإنشاء النقابات الزراعية
والصناعية الحرة، ونقابات الإنتاج والاستهلاك، وإعداد نواب اشتراكيين
للبرلمان والمجالس النيابية المحلية وغيرها، وتحرير حقوق النيابة
والانتخاب من القيود المالية وغيرها وتعميمها بالنسبة للرجل والمرأة
على قدر المستطاع، وبثِّ الدعوة بطريق النشر والخطابة.
وقد اكتسى البرنامج الاقتصادي للحزب مسحة من الغموض، ففيما خلا نصه
على أن «التوزيع العادل للثمرات سيكون طبقًا لقانون الإنتاج والكفاية
الشخصية» وهو النص الذي خرج على برنامج الشيوعية الذي يقضي بأن يكون
التوزيع وفقًا للحاجة البشرية، فحسم بذلك الصبغة الاشتراكية للحزب فإنه
لم يحدد طريقة «توجيه الثروة الطبيعية ومصادر الإنتاج لجموع الأمة»،
وهل يكون ذلك بطريق إلغاء الملكية أو التأميم، أو تحديد الملكية أو
غيرها من الوسائل. وقد جرد الحزب نفسه من الصفة الثورية المقترنة
بالأحزاب الشيوعية حين نص على أنه يعمل على تحقيق مبادئه بالصراع الحزبي.
٩
وما كاد الحزب الاشتراكي يعلن عن مولده حتى شنَّ البعض هجومًا عليه على
صفحات الأهرام، فذكر الشيخ مصطفى الغنيمي التفتازاني
١٠ أن مبادئ الحزب تتنافى مع الإسلام. مستندًا إلى الآية
الكريمة
وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، واستعدى أحمد حلمي في مقالته
١١ الحكومة على الحزب مؤكِّدًا أن تغاضيها عنه سيؤدى إلى خراب
البلاد واضطراب الأمن. وتشكَّك محمد حسين هيكل في صلاحية البيئة المصرية
للاشتراكية؛ إذ إنها لا يمكن أن تقوم — في رأيه — في بلد عماله يشتغلون
بالزراعة، حيث يكون الناس مبعثرين لا رابطة بينهم كعمال المصانع.
١٢
وتصدَّى رجال الحزب للذود عن مبادئهم، فأكد سلامة موسى أنه دون إلغاء
الملكية الفردية مراحل أهمها نشر التعليم بين العمال لتوعيتهم
اقتصاديًّا، وإقناع أولي الأمر بسن القوانين اللازمة لتحسين أحوالهم،
وأشار إلى أن علاقة الأجير الزراعي مع صاحب الأرض المصري علاقة إنسانية
أكثر منها اقتصادية، ولذلك فالحزب صديق الملاك «يدلهم على مصلحتهم، كما
يدل العمال على مصلحتهم أيضًا، لأن مصلحة الاثنين واحدة».
١٣ وأكد في مقال آخر أن الحزب ينكر البلشفية بلا قيد ولا شرط،
وأن غاية الحزب ووسائله هي غاية الجمعية الفابية الإنجليزية، وأن
شعارهم سيكون «التطور والنشوء لا الثورة والانقلاب».
١٤ ونفى محمد عبد الله عنان تهمة الفوضوية والثورة عن
الحزب.
وبرغم ما وجه إلى الحزب من قدح، فقد أقبل الشباب على الانضمام إليه،
وانتظم في عضويته بعض المحامين والأطباء والمعلمين، وكذلك بعض
الأغنياء. وبلغ عدد المنضمين إلى شعبة الإسكندرية وحدها نحوًا من
أربعمائة عضو، بينما كان عدد أعضاء الحزب في القُطر نحوًا من ١٥٠٠ عضو.
وبلغ عدد المنضمين إلى اتحاد النقابات الذي كان يدور في فلك الحزب ما
بين ١٥ و٢٠ ألفًا في سائر أنحاء القُطر، وعمل الحزب على ضم العمال
المستنيرين من خريجي المدارس الصناعية إلى صفوفه ليتولوا قيادة العمال
البسطاء وتوجيههم، وكان للحزب بعض الأثر في حوادث الاعتصام التي قام
بها عمال المصانع بالقاهرة والإسكندرية التي وقعت في ذلك الحين.
١٥
وحاول الحزب أن يسير على نفس الدرب الذي سار عليه الحزب الوطني، فقام
بتأسيس مدارس ليلية مجانية لتعليم العمال وتنويرهم ومدارس نهارية
لتعليم أبناء العمال بالمجان أيضًا، واحتفل في أغسطس عام ١٩٢٢م بافتتاح
أولى هذه المدارس بحي كرموز بالإسكندرية وحذا فرع المنصورة حذو فرع
الإسكندرية فأسس مدرسة على نفس النظام لتثقيف عمال المدينة.
١٦
ونستخلص من البيان الذي أصدره الحزب في ١٤ من ديسمبر عام ١٩٢١م
١٧ موقفه من القضية الوطنية فقد أعلن البيان اغتباط الحزب
لانقطاع المفاوضات، وناشد الأعيان وأصحاب المصانع أن يترفعوا عن وضع
أنفسهم ستارًا للإجرام الوزاري وحماية ما يرتكبه الوزراء من إهمال في
حقوق الأمة.
وحدد البيان العمل الوطني بوسائل ثلاث هي:
- (١)
تضامن الصحافة على ترك وسائل الشقاق والاقتصار على ما
فيه خير للبلاد.
- (٢)
توحيد السياسة الوطنية بألا يقبل مصري تأليف الوزارة
لتعمل بأي شكل من الأشكال تحت هيمنة مشروع كيرزون.
- (٣)
الاتفاق على تعيين خطة الجهاد الوطني المشروع تحت لواء
وكيل الأمة وزعيمها المخلص الأمين سعد باشا زغلول.
لقد كان الحزب — إذَن — يتفق مع الوفد في خطة النضال من أجل القضية
المصرية، ويؤيد جهوده في هذا السبيل.
وسرعان ما نشب نزاع أيديولوجي بين مركز الحزب بالقاهرة وشعبة
الإسكندرية، أو بمعنى أصح بين المعتدلين من البرجوازيين الذين ملكوا
زمام أمور مركز الحزب، وبين المتطرفين من أعضاء فرع الإسكندرية، أسفر
عن عقد مؤتمر في الإسكندرية في (٣٠ من يوليو عام ١٩٢٢م) حضره مندوبون من
جميع فروع الحزب في أنحاء القُطر، بينهم وفد من أعضاء لجنة القاهرة،
وتقرر بالإجماع جعل فرع الإسكندرية مركزًا إداريًّا للحزب، واعتناق
المذهب الشيوعي، كما تم انتخاب اللجنة الإدارية المركزية.
١٨ وغير الحزب شعاراته بما يتلاءم مع التغيير الجديد، فطبع
على أوراقه اسم «الحزب الاشتراكي المصري-الشعبة المصرية الدولية
الثالثة». ونشر بيانًا باسم الجمعية العمومية للحزب أورد فيه قراراته
وفيها أن ينضم الحزب إلى الدولية الثالثة، وتضمن برنامج أعماله قرارات
الدولية الثالثة في موسكو، وأسند أمانة الصندوق إلى روزنتال.
١٩
وقام الحزب بعد هذا التعديل بنشاط كبير لاجتذاب العمال وعشاق
الاشتراكية إليه، فأقبل الناس على اجتماعات الحزب إقبالًا شديدًا،
واحتفل الحزب بذكرى إعلان الثورة الروسية، فافتتح الحفل بالنشيد
الدولي، وتعاقب الخطباء الذين تحدثوا عن الثورة الروسية، وعن علاقتها
بالشرق والشرقيين، وعلاقتها بالقضية التركية، واختتم الحفل كما بدأ
بالنشيد الدولي.
٢٠
وأوفد الحزب محمود حسني العرابي لتمثيله في المؤتمر الشيوعي الرابع
بموسكو، ولاتخاذ إجراءات انضمام الحزب الاشتراكي المصري إلى الدولية
الثالثة، وحين عاد محمود حسني العرابي من روسيا أبلغ الحزب أن اللجنة
المركزية للدولية الشيوعية الثالثة اشترطت لقبول الحزب فرعًا لها ثلاثة
شروط أولها، فصل روزنتال، وثانيها، تغيير اسم الحزب من اشتراكي إلى
شيوعي، وثالثها، إعداد برنامج للفلاحين.
٢١ ولعل ما جاء به محمود حسني العرابي من ضرورة إقصاء روزنتال
يرجع إلى ما تردد في المؤتمر الرابع للكومنترن من أن «تأسيس منظمات
شيوعية أوروبية منفصلة في المستعمرات مثل مصر والجزائر يُعتبر شكلًا
خفيًّا من أشكال الاستعمار ويساعد فقط على تدعيم المصالح الاستعمارية
٢٢ ومن ثم كان من الطبيعي أن يكون تخليص الحزب من العناصر
الأجنبية شرطًا لقبوله فرعًا للدولية الثالثة».
ومهما يكن من الأمر فإن فكرة السوفييت عن مصر والبروليتاريا المصرية
— في تلك الحقبة — تتضح فيما ذكره والتر لاكور
٢٣ من أن المراقبين السوفييت كانوا يشكون في أن إعلان مصر
مملكة مستقلة ينطوي على أي تغيير حقيقي سياسي في وضعها، بل كانوا
يعتقدون أن مصر ظلت «مستعمرة غير رسمية»، وأن ما جرى لم يكن أكثر من
شكل حلَّ محل شكلٍ آخر من أشكال الحكم الاستعماري، كما أنهم لم يكونوا
متفائلين بحركة الوفد، وكان تريانوفسكي (كبير الخبراء السوفييت في
الشئون المصرية) ينادي بوجوب تأميم الأرض الزراعية في مصر، على أن تقوم
البروليتاريا الحضرية (ساكنة المدن) بالنضال الثوري لأن الفلاحين
المصريين لم يكونوا منظمين أو على درجة من القوة تؤهلهم لخوض غمار
النضال الثوري، وكان يرى أن البروليتاريا المصرية يجب أن تنادى بإقامة
نظام سوفييتي في مصر، بينما تريد البرجوازية إقامة حكم ديمقراطي — من
الوجهة الرسمية — ولكن لما كانت البرجوازية ضعيفة في مصر، فإن الشعارات
الديمقراطية أقل خطرًا في مصر عنها في غيرها من الأقطار، وكان من رأيه
أيضًا أن تدويل قناة السويس أجدى نفعًا للعالم وللبروليتاريا المصرية
«ولكن المطالبة بتأميم القناة هي — في الظروف الراهنة — الشعار
الصحيح».
قرر الحزب عقد مؤتمر لبحث تحويله إلى حزب شيوعي، ووضع برنامج جديد
له. وحتى يتجنب ما قد تقدم عليه السلطات من حظر عقد المؤتمر اتخذ الحزب
قرارا باعتبار المؤتمر قانونيا مهما بلغ عدد الحاضرين، وقد صدق حدس
الحزب فتلقى إخطارًا من الحكومة بمنع الاجتماع واحتج الحزب على قرار
الحكومة لدى الأحزاب الشيوعية في الخارج، وأصر على عقد الاجتماع
استنادًا إلى الحماية التي كفلتها الامتيازات الأجنبية لأعضائه الأجانب
إذا ما عقد الاجتماع بمنزل مستأجر باسم أحدهم، ولكن البوليس صمم على
منع عقد المؤتمر الذي حدد له يوما ٦، ٧ من يناير عام ١٩٢٣م.
٢٤ ولكن تمكن بعض أعضاء الحزب من الاجتماع بعد أيام قلائل،
ووافقوا على القرارات التنفيذية للجنة المركزية للحزب.
٢٥
واتجه الحزب إلى العمل على خلق (كوادر) من الشباب تضطلع بمهمة بث
الدعوة الشيوعية في مصر، فقرر إيفاد عشرة شبان إلى موسكو لدراسة
الشيوعية، وأرسل بالفعل أربعة من الشبان المصريين، كان أحدهم من
القاهرة، وثانيهم من الزقازيق، وثالثهم من الإسكندرية، ورابعهم من
العطف، لدراسة المبادئ الشيوعية «بجامعة كادحي الشرق» بموسكو …
٢٦ وكان من المقرر أن تلحق بهم فتاتان إحداهما من الزقازيق
والأخرى من سمنود، الأمر الذي أثار «الأهرام» التي اعتبرت أن «إرسال
البنات إلى روسيا الحمراء تطرف غير حميد»، وطالبت الحكومة بأن تحول بين
الطالبتين وبين السفر إلى موسكو.
٢٧ كما كان الحزب ينوي إقامة مدرسة بالإسكندرية لتلقين
الأعضاء مبادئ الشيوعية.
٢٨
وقام الحزب بتوزيع برنامج مطبوع على أعضائه، تضمن الواحد والعشرين
شرطا التي وضعتها الدولية الثالثة، وبرنامج الحزب الشيوعي المصري،
وبرنامج الفلاحين، وقد ورد ذكر هذا البرنامج بالتفصيل ضمن حيثيات حكم
محكمة جنايات الإسكندرية في قضية الحزب الشيوعي المصري التي نشرت
بالأهرام في ١٩ من ديسمبر عام ١٩٢٤م.
أما عن شروط الدولية الثالثة فهي: التزام كل شيوعي ببث الدعوة
الشيوعية بجميع الوسائل الممكنة ومقاطعة الاشتراكيين المعتدلين
واعتبارهم أعداء للثورة ومحاربتهم بشتى السبل، وصبغ الدعوة والإثارة
بصبغة شيوعية، والرقابة العامة على الصحف المتخذة لنشر الدعوة، ووجوب
إقامة نظام سرى شيوعي بجانب النظام العلني يكون قادرًا في الساعة
الحاسمة على أن يقوم بواجبه نحو الثورة، وبث روح التمرد بين الجيوش،
لأن هذا التمرد ضروري لنشر الدعوة. ولا بدَّ من استمالة الأجراء والفلاحين
المعدمين إلى الدعوة والاستعانة بهم، ولا بدَّ من القيام بعمل حاسم نهائي
ضد الأحزاب المعتدلة. وكل حزب يريد الانضمام إلى الدولية الشيوعية يجب
عليه أن يواصل إذاعة دعوتها بين النقابات وهيئات التعاون وطبقات
العمال، وأن ينشئ نواة شيوعية ليكون عملها مؤثرًا في انضمام النقابات
إلى الشيوعية، ويجب على الأحزاب التي تريد الالتحاق بالدولية الشيوعية
أن تقوم بعملية تطهير بين نوابها البرلمانيين، وأن تطالب كل نائب شيوعي
أن يضع جميع مجهوداته في مصلحة الدعوة الثورية، وعلى هذه الأحزاب أن
تدعم مبدأ «المركزية الديمقراطية» حتى إذا اشتعلت حرب أهلية استطاع
الحزب الشيوعي أن يقوم بواجبه إذا نظم تنظيمًا جديًّا شبيهًا بالنظام
العسكري، وزود بقوات واسعة يتمكن بها من بسط نفوذه من غير مقاومة، ولا
يكون ذلك إلا إذا تمتع بثقة المحاربين الإجماعية. ومن واجب الأحزاب
التي تريد الانضمام إلى هذه الدولية أن تؤيد الجمهوريات السوفيتية في
قيامها بحرب ضد القوى الرجعية بلا قيد ولا شرط، وأن يُفهموا العمال
باستمرار وجوب رفض نقل الذخائر والمعدات لأعداء السوفييت. ويجب على
الأحزاب التي تحتفظ ببرامج الاشتراكيين الديمقراطيين القديمة أن تنقحها
وتضع لكل منها برنامجًا شيوعيًّا جديدًا موافقًا لأحوال بلده الخاصة،
على أن تكون جميع برامج الأحزاب مطابقة لبرامج الدولية الشيوعية، وتكون
جميع القرارات التي تصدرها مؤتمرات الدولية الشيوعية ملزمة لجميع
الأحزاب المنضمة إليها، على أن يقوم كل حزب بتغيير اسمه فيجعله «الحزب
الشيوعي لجهة كذا»، ويجب طرد أعضاء الحزب الذين يرفضون الشروط
والموضوعات التي قررتها الدولية الشيوعية.
ونصَّ برنامج الحزب الشيوعي المصري على تحرير مصر والسودان تحريرًا
تامًّا خاليًا من كل شائبة، وربط الشعبين أحدهما بالآخر لينتفعا معًا
ويتمكنا من استثمار ثروتهما الطبيعية وتعميم نفعها في البلدين،
ويتعاونا على شن الغارة على مهتضميهما سواء أكانوا وطنيين أم أجانب،
وذلك بوساطة الصراع الدائم، وتنظيم جبهة متحدة من العناصر الأشد تطرفًا
والموثوق بها في الحركة الوطنية، مع احتفاظ الحزب الشيوعي بشعاره
ومبادئه، والعمل على تأميم قناة السويس، وإلغاء الدين العمومي الذي
تستعمله القوى الأجنبية لاستعباد الشعب المصري استعبادًا اقتصاديًّا،
وإلغاء الامتيازات الأجنبية، والمطالبة بحرية الاجتماعات والمطبوعات
والخطابة، والإفراج عن المسجونين السياسيين، والعمل بين نقابات العمال
وهيئاتهم غير المنظمة، والسعي للاعتراف بها رسميًّا وبهيئات العمال
السياسية، والعمل على ألا تزيد ساعات العمل على ثماني ساعات يوميًّا،
ومساواة أجور العمال المصريين بأجور زملائهم الأجانب، وإقامة تعاونيات
للإنتاج والتوزيع، ونص البرنامج كذلك على ضرورة الاعتراف بحكومة
الاتحاد السوفييتي.
٢٩
أما عن برنامج الفلاحين، فقد نصَّ على إلغاء ملكية «العزب» وإلغاء ديون
الفلاحين الذين يملكون أقل من ثلاثين فدانًا، وإعفاء من يملكون منهم
أقل من عشرة أفدنة من الضرائب الأميرية، ومصادرة جميع الأراضي المملوكة
للأفراد التي تزيد عن مائة فدان بدون تعويض وتوزيعها على الفلاحين
المعدمين أو استعمالها في إقامة مزارع الشعب، وتنظيم مجالس سوفيتية
للفلاحين حتى إذا ما سنحت الفرصة أمكن استنهاضهم أو حجز الأرض لمنفعتهم الخاصة.
٣٠
ويكشف برنامج الحزب عن استعداده لإقامة جبهة مع العناصر المتطرفة في
الحركة الوطنية — تمشيًا مع مبادئ الشيوعية الدولية — للنضال من أجل
تحرير البلاد، كما يتضح من البرنامج حرصه على القضاء على المصالح
الاستعمارية في مصر بتأميم قناة السويس وإلغاء الدين العام وإلغاء
الامتيازات الأجنبية، ولكن الحزب لم يحدد موقفه من ملكية أدوات الإنتاج
الصناعي بعكس ما فعل بالنسبة لأدوات الإنتاج الزراعي، فلم يحدد ما إذا
كان يرمي إلى تأميم المصانع أو تركها في أيدي الرأسماليين يديرونها
بمعرفتهم، كما لم يحدد البرنامج الوسائل التي قد يلجأ إليها لتحقيق
أغراضه تلك، ولكن حرصه على التمسك بشروط الدولية الثالثة واقتران
برنامجه بها يؤكد يساريته المتطرفة وسلوكه سبيل الثورة، ونميل إلى
الاعتقاد أن هذا الاتجاه لم يكن طارئًا على الحزب، ولكنه كان عقيدة
المتطرفين من قادته — على الأقل — منذ قيام الحزب الاشتراكي المصري،
ويؤيد هذا الرأي ما ذكره روزنتال
٣١ من أن «الحزب الاشتراكي المصري لم يتحول في الحقيقة إلى
حزب شيوعي؛ لأنه كان منذ تأسيسه شيوعيًّا يسمى بالاسم الاشتراكي، وقد
اعترف بمبادئ الشيوعية وتعاليمها، ووافق على خطط الدولية الشيوعية»،
كما ذكر جولدنبرج — سكرتير الحزب بالقاهرة — في اعترافاته أن الشيوعية
بمعناها الحقيقي موجودة في مصر منذ عام ١٩٢١م.
٣٢
علا مدُّ النشاط الشيوعي عقب إعلان الحزب تحوله رسميًّا إلى حزب شيوعي،
فطفق يحرض العمال على الإضراب وعلى «العمل المباشر»، وظهر أثر هذا
النداء في إضراب عمال إضاءة المصابيح العمومية بالإسكندرية عن العمل في
فبراير عام ١٩٢٣م بدون إنذار شركتهم، وقد اتخذ قرار الإضراب عقب خطبة
ألقاها حسني العرابي في دار النقابة العامة، وما لبث هذا الإضراب أن
اتخذ شكلًا خطيرًا حين قرر الاتحاد تنظيم مظاهرة لتعضيد عمال الإضاءة،
وقرر تعميمها في مدن القطر.
٣٣ ويُعَد ذلك الإضراب أول محاولة من جانب الحزب الشيوعي
لاعتبار أية قضية عمالية — مهما كانت صغيرة — قضية عمالية عامة تستحق
تأييد العمال جميعًا، وبذلك يستقر في أذهان العمال أن قضيتهم واحدة لا
تتجزأ في جميع أنحاء القُطر.
وشنَّ الحزب حملة على لجنة التوفيق والتحكيم التي لم تتمكن من حل معظم
المشاكل العمالية المعروضة عليها، وقلل من فاعليتها أن قراراتها لم تكن
ملزمة لأحد، فقرر الحزب إقامة مظاهرة كبرى تطوف ببيوت أعضاء اللجنة
احتجاجًا على فشلها في تحقيق الغرض الذي شُكلت من أجله فطلبت السلطات
من سكرتير الحزب أن يحول دون قيامها، ولكنه أكَّد أنه لا يستطيع الحيلولة
دون قيامها، كما أنها ستكون مظاهرة شكوى والتماس لا تهدف إلى الإخلال
بالأمن، واحتاطت السلطات للأمر، فمنعت العمال من الاجتماع أمام منازل
أعضاء اللجنة، ولكن عُقد اجتماع بدار اتحاد النقابات لتنفيذ قرار
التظاهر، فحاول البوليس منعه بالقوة، ووقع اشتباك بينه وبين اتحاد
العمال وأسفر عن اعتقال محمود حسني العرابي، وأنطون مارون، وعاملين من
أعضاء الاتحاد هما حسن حسني وأمين يحيى، وأغلق نادي الاتحاد، وأحيل
المقبوض عليهم إلى المحكمة العسكرية بتهمة مخالفة الأوامر العسكرية
التي تقضي بحظر إقامة المظاهرات.
٣٤
وعرضت القضية على المحكمة العسكرية البريطانية في (٥ من أبريل عام
١٩٢٣م) فقررت المحكمة أنه ليس هناك مسوغ قانوني لمحاكمة العاملين حسن
حسني وأمين يحيى عسكريًّا، وفوضت أمرهما إلى حكمدارية البوليس، فتم
الإفراج عنهما، أما حسني العرابي وأنطون مارون فقد ظلَّا في السجن،
واضطرا إلى الإضراب عن الطعام مدة ٤٣ ساعة لإرغام إدارة السجن على
معاملتهما بالحسنى.
٣٥ وقد أصدَر الحزب منشورًا وجهه إلى عمال القُطر المصري —
بهذه المناسبة — طالبَ «اتحادهم وتعاضدهم للدفاع عن مصالح أفرادهم
ومجموعهم»، كما كتب الحزب إلى جريدة «وركز ويكللي جورنال» — لسان حال
الشيوعين الإنجليز — يشكو من مقاومة السلطات له واعتقال بعض زعمائه،
فنشرت الجريدة رسالة الحزب ضمن مقال تحت عنوان «العمال المصريون
يحاكَمون أمام محكمة عسكرية»،
٣٦ ووجه المستر نيوبولد — النائب الشيوعي بمجلس العموم
البريطاني — سؤالًا إلى الحكومة عما لديها من معلومات عن إلقاء القبض
على أربعة من زعماء اتحاد نقابات العمال المصري، وعما إذا كان
لشيوعيتهم دخل في هذا التصرف، وبأية سلطة أغلقت مكاتب الاتحاد بعد أخذ
الأوراق منها، ولماذا يحاكَمون أمام محكمة عسكرية لا يدافع أمامها غير
المحامين الإنجليز دون المحامين المصريين؟ فرد المستر ماكنيل عليه بأن
المقبوض عليهم من زعماء الحزب الشيوعي المصري، وأنهم اعتقلوا بسبب
تنظيمهم مظاهرة عامة دون الاكتراث بإنذار رسمي وجهه البوليس المصري
إليهم، وأنكر معرفته بمحاكمتهم أمام محكمة عسكرية بريطانية.
٣٧
واتخذ الحزب جانب الاعتدال فهدأت حركته فعلًا بتعليمات الدولية
الشيوعية التي تقضي بتجنب مصادمة الأحكام العسكرية، واتخذ مقرًّا
جديدًا لدار اتحاد النقابات بالمنشية، وطالبت «الأهرام» الحكومة
بالإسراع في سن قانون للعمال ونقاباتهم
٣٨ حتى ترتاح من مشاكلهم التي لن تقف عند حدٍّ، وأبدت ثقتها في
أن الامتيازات الأجنبية لا تحُولُ دون سن هذا القانون، وأن الجمعية
العمومية للمحاكم المختلطة لن تعارض في إصداره.
٣٩ ولكن الحكومة لم تهتم أبدًا بهذا النداء بل عمدت إلى منع
اتحاد العمال من الاحتفال بعيد العمال الذي كان مقررًا إقامته بحديقة
محمد علي بالمنشية،
٤٠ كما تباطأت في تقديم محمود حسني العرابي وأنطون مارون إلى
المحاكمة، فظلَّا في سجن الأجانب ثلاثة شهور بدون تحقيق أو محاكمة، وفي
أواخر مايو عام ١٩٢٣م اجتمع اتحاد نقابات العمال بالإسكندرية، وبحث أمر
المعتقَلَين، وقرر إيفاد وفد إلى المحافظة للمطالبة بإطلاق سراحهما،
وأخيرا قدما إلى المحاكمة في ٢٠ من يونيو عام ١٩٢٣م بتهمة التحريض على
إقامة مظاهرة، ثم أطلق سراحهما عندما ألغيت الأحكام العرفية بعد ذلك
بعدة أسابيع.
٤١
وكان قد صدر في تلك الآونة دستور عام ١٩٢٣م، فاتخذ الحزب الشيوعي
المصري منه موقفًا معاديًا، وأصدر بيانًا في أول مايو عام ١٩٢٣م —
بتوقيع صفوان أبو الفتوح القائم بأعمال السكرتير العام — طعن في
الدستور طعنًا شديدًا بوجه عام دون أن يحدد النقاط أو المبادئ التي
يعترض عليها، ويراها تتعارض — من وجهة نظره — مع مصالح الجماهير العاملة.
٤٢ ولعل هذا الموقف المعارض للدستور كان سببًا في إحجام الحزب
عن الاشتراك في الانتخابات، واتجاهه إلى تنظيم نضال البروليتاريا من
أجل حقوقها دون انتظار لما يمكن أن تسفر عنه الحياة النيابية في ظل
(الاستقلال) وفي عهد حكومة الشعب، فكانت حركة الاعتصامات التي قادها
الحزب، وأدار دفتها في ربيع عام ١٩٢٤م.
وبدأ الحزب خطته بنشر خطاب مفتوح وجهه إلى سعد زغلول رئيس الحكومة،
طالب فيه بالاعتراف بنقابات العمال والفلاحين، وبحقها في الدفاع عن
حقوقهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وإنشاء مكاتب لإحصاء العمال
العاطلين، وتكليف لجان الوفد المركزية في كل أنحاء القُطر أن تقوم
بتنظيم الفلاحين المعدمين في نقابات ترفع مستواهم أسوة بإخوانهم في
أنحاء العالم، وإيجاد صلة بين هذه النقابات ونقابات العمال، حتى يمكن
حشد القوى المصرية كلما تطلبت الحاجة ذلك، وختم الحزب خطابه بضرورة
اعتراف مصر بحكومة السوفييت أسوة بالأمم المتمدينة.
٤٣
وساعد الحزب على تنفيذ خطته ما آلت إليه أحوال العمال من السوء بعد
الحرب الأولى نتيجة انخفاض الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة وتفشي
البطالة — كما سبق أن ذكرنا — فتفاقمت مشكلة العمال ووجد فيها الحزب
الشيوعي البيئة الصالحة للعمل، والمناخ الملائم الذي يمكن أن تتنفس فيه
مبادئه.
بدأت موجة إضرابات العمال بالإسكندرية في أواخر نوفمبر عام ١٩٢٣م، حين
أعلن عمال شركة الغزل إضرابهم عن العمل، لأن الشركة أرادت تخفيض أجورهم
بنسبة ١٠٪، وعرض أمر هذا النزاع على لجنة التوفيق والتحكيم، لكن الشركة
تمسكت برغبتها في تخفيض الأجور.
٤٤ وأخيرًا استسلم العمال لقرار تخفيض الأجور في مقابل التزام
الشركة بشروط تكفل راحتهم ومكافأتهم في حالتي العجز والمرض، وعادوا إلى
العمل بعد أن استمر إضرابهم ثلاثة شهور،
٤٥ ولكن سرعان ما دب النزاع بين العمال وشركتهم، فقد منعت
الشركة خمسة من زعماء العمال من العودة إلى العمل على الرغم من وعدها
بإرجاعهم، فبثَّ العمال شكواهم إلى المحافظة،
٤٦ وقاموا باحتلال المصنع ثلاثة أيام حتى تجاب
مطالبهم.
وتلا ذلك إضراب عمال مصنع «إيجولين» للزيت، الذين كانوا قد تقدَّموا
ببعض المطالب للشركة، فماطلت الشركة في إجابتها، وشرعت تستغني في كل
أسبوع عن خمسة أو عشرة من العمال، ثم أرادت الاستغناء عن مائة عامل
دفعة واحدة بحجة توفير النفقات، فعرض العمال على الشركة أن تعدل عن فصل
المائة عامل، على أن تصرف لجميع العمال أجر خمسة أيام بدلًا من سبعة
أيام كل أسبوع، وبذلك يتوافر للمصنع أداء عمله دون زيادة في النفقات،
ودون الاستغناء عن المائة عامل. ولكن الشركة أصرت على أن تقوم بفصل من
تشاء من العمال، فقام العمال باحتلال المصنع حتى قامت لجنة التوفيق
ببحث شكواهم، وتم الصلح بين الطرفين على أساس تأليف مجلس تأديب للبحث
في الخلافات التي قد تنشأ بين العمال وشركتهم، ومنح العامل مكافأة عند
انتهاء خدمته بزيادة ٥٠٪ عن الفئات القديمة، وتفضيل الشركة لمن فصلتهم
من العمال عن غيرهم عند الحاجة.
٤٧
وفي نفس الوقت قدم عمال شركة الملح والصودا مطالبهم إلى إدارة
الشركة، وكانت تلك المطالب تدور حول زيادة الأجور، وتحسين معاملة
الشركة فيهم، وإنقاص ساعات العمل، وحدد العمال عشرة أيام لإجابة
مطالبهم، ولكن الشركة لم تعرهم اهتمامًا فأضربوا عن العمل في مطلع مارس
عام ١٩٢٤م. وعرضت هذه المطالب على لجنة التوفيق والتحكيم، فتمكَّنت من
إقناع مدير الشركة بأن يزيد أجور العمال، ويحسن معاملتهم، ويخفض ساعات
العمل إلى ثماني ساعات يوميًّا.
٤٨ ولكن الشركة صممت على فصل أربعين من زعماء العمال بحجة عدم
احتمال طاقة العمل لهم. فاستمر العمال في إضرابهم واستخدمت الشركة
عمالًا غيرهم أغدقت عليهم الأجور، فثار العمال وحاولوا منع العمال
الجدد من مزاولة العمل واحتلال المصنع حتى تجاب مطالبهم، ويعود زملائهم
المفصولين إلى عملهم. وفي ٨ من أبريل توجهوا إلى مقر المصنع بالمكس
لتنفيذ ما عقدوا العزم عليه، فتصدَّت لهم قوة البوليس المنوط بها حراسة
المكان، وحالت بينهم وبين الوصول إلى المصنع، وتدخَّل محافظ الإسكندرية
في الأمر وتم التوفيق بين الطرفين المتنازعين على أساس عودة العمال
القدامى إلى عملهم، فانتهى الإضراب في ٩ من أبريل.
٤٩
كذلك أضرب عمال مصنع حلق الجمل التابع لشركة البحيرة لمدة ستة
أسابيع، وكانت مطالبهم تنحصر في تقدير أجورهم بحسب ما يُنتجِون من قطع،
واستطاعت لجنة التوفيق أن تعيدهم إلى العمل دون تحقيق مطالبهم، بعد أن
أغرتهم بموافقة الشركة على صرف أجر نصف شهر لكل منهم عن فترة الإضراب،
وصرف سلفة تعادل مرتب شهر تقسط على ستة شهور.
٥٠
على أن اعتصام عمال معمل الخواجات أبى شنب للزيوت والصابون
بالإسكندرية، كان أخطر هذه الحوادث جميعًا، فقد حفز الحكومة على ضرورة
إيجاد حل إيجابي لحركة الإضرابات والاعتصامات ومن ثم كانت تصفية اتحاد
النقابات والحزب الشيوعي المصري.
وترجع ظروف ذلك الاعتصام إلى تقدم عمال المصنع بمطالب تنحصر في تخفيض
ساعات العمل، وزيادة الأجور، ومكافأة العاجز منهم، وإعانة المريض. وحين
أهمل صاحب العمل مطالبهم ألَّفوا وفدًا منهم تزعَّمه أنطون مارون مستشار
نقابتهم توجه إلى المحافظة في (١٠ من مارس عام ١٩٢٤م) لعرض مظلمتهم على
السلطات، فأفهمهم وكيل المحافظ أن مشكلتهم معروضة أمام لجنة التوفيق؛
فلم يُطِق العمال صبرًا، وخاصة أن إجراءات اللجنة تقتضي وقتًا طويلًا،
فذهبوا إلى المصنع قاصدين احتلاله، وتمكنوا من دخوله عنوة بعد اشتباكهم
مع البوليس، ورفض أصحاب المصنع البحث في أمر عمالهم تحت تهديد احتلال
المصنع، وعبثًا حاول البوليس إخراجهم
٥١ فباتوا ليلتهم بالمصنع، وفي اليوم التالي ذهب إليهم بعض
رجال المحافظة وقرءوا على العمال نداء بعث به إليهم سعد زغلول رئيس
الحكومة قال لهم فيه «إنكم إن احترمتم ملكية الغير، وخرجتم من مكان
الشركة طوعًا فإنكم تعاملون معاملة المخلصين للقانون والوطن، وإن أبيتم
إلا احتلال ملك الغير اغتصابًا، فإنكم تعاملون معاملة الغاصبين
الخارجين على القانون»، فخرج العمال من المصنع، وانتدبوا من بينهم من
يمثلهم أمام لجنة التوفيق.
٥٢
وشهد شهر مارس عام ١٩٢٤م كذلك عددًا آخر من حوادث الإضراب بسبب
المطالب العمالية، حتى إنه لم يكن يمرُّ يوم دون أن يقع إضراب أو اعتصام؛
فرفع عمال شركة زيت فاوم مظلمة إلى الحكومة يطلبون فيها زيادة أجورهم
وجعل ساعات العمل ثماني ساعات يوميًّا، ومنح العمال إعانات في حالات
المرض والعجز عن العمل، وتقدَّم عمال شركة زيوت كفر الزيات بمطالب شبيهة
بذلك، وكان هناك فريقٌ آخر من العمال فصلتهم شركاتهم جملة، ولكنهم
تضامنوا فيما بينهم للمطالبة بالعودة إلى عملهم، وكان أبرزهم عمال شركة
ورميس، وعمال شركة النور،
٥٣ وعمال شركة مينو للإعلان، كذلك كانت هناك مطالب لعمال ترام
القاهرة وعمال شركة هليوبوليس وعمال التليفونات بالقاهرة.
لقد عَدت وزارة سعد باشا زغلول اعتصام العمال واحتلالهم المصانع
اغتصابًا لملكية الغير، واعتبرت حركتهم نقطة البدء لتنفيذ الخطة
الشيوعية، فكان لزامًا عليها أن تتحرك للقيام بعمل سريع يقضي على نشاط
الحزب الشيوعي واتحاد النقابات، فأسندت إلى وكيل الداخلية جمال الدين
باشا مَهمة وضع حد لحركة العمال بالإسكندرية، وأمدته بالجند، وعاد وكيل
الداخلية إلى القاهرة ليقررَ اتصال حركة العمال بالإسكندرية بنشاط الحزب
الشيوعي وخضوعها لتوجيهه، فلم تشأ الحكومة أن تترك الحبل على الغارب
وأمرت باتخاذ ما يلزم من الإجراءات لكبح جماح الحزب الشيوعي والقضاء
على حركته، فتلقت نيابة الإسكندرية أمرًا من النائب العام بمهاجمة
منازل أعضاء الحزب العاملين، ودار الحزب ونادى اتحاد النقابات، وضبط ما
يجدونه فيها من مراسلات ومنشورات وأنظمة شيوعية، وتم تنفيذ الأمر في ٤
من مارس، وصرح النائب العام بأن النية متجهة إلى معاقبة من تثبت إدانته
من أعضاء الحزب الشيوعي بمقتضى المادة (١٠٨) من قانون العقوبات الأهلي
التي تقضى بمعاقبة من يمتنع عن تأدية واجبات وظيفته بدون مسوغ شرعي
بالسجن مدةً لا تتجاوز ستة شهور أو بغرامة لا تزيد على مائة جنيه،
والمادة (١٥١) المجددة في قانون العقوبات التي تقضي بمعاقبة من يحرض
على كراهة نظام الحكومة أو ينشر الأفكار الثورية المغايرة لمبادئ
الدستور الأساسية، أو يحبذ تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية
بالقوة والإرهاب، بالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات.
٥٤
وقامت السلطات باعتقال البارزين من زعماء الحزب الشيوعي واتحاد
النقابات، وكان من بين المقبوض عليهم محمود حسني العرابي، وأنطون
مارون، والشيخ صفوان أبو الفتح، والشحات إبراهيم.
٥٥
وبادر بعض زعماء اتحاد النقابات — ممن لم تشملهم دائرة الاعتقال —
بإصدار بيان أعلنوا فيه أنه لا علاقة للاتحاد بالحزب الشيوعي، وأن
حركته ليست مصطبغة بصبغة سياسية وأن هدفه الوصول بالعمال — على اختلاف
مشاربهم السياسية — إلى مستوى إخوانهم في الممالك الأوربية، كما قامت
بعض النقابات بإصدار بيانات تنصلت فيها من الصلة بالحزب الشيوعي،
٥٦ وعقدت لجنة الطلبة بالإسكندرية اجتماعات للنظر في مساعدة
الحكومة على مواجهة حركة العمال «ببثِّ روح السكينة بينهم لكي يكفُّوا عن
الإضراب، ويُعوِّلوا على عطف الحكومة والبرلمان».
٥٧
وأثبت التحقيق وجود نشاط شيوعي بالقاهرة وطنطا وبورسعيد والزقازيق
والمحلة الكبرى وشبين الكوم، وامتد نشاط الحزب إلى الصعيد فقُبض على بعض
الأفراد الشيوعيين بناحية بالمنصورة من أعمال مركز أبى قرقاص، وضبطت
لديهم أوراق تتعلق بالدعاية للحزب الشيوعي.
٥٨
وقد استدعى النائب العام بعض أقارب الطلبة الذين أوفدهم الحزب إلى
جامعة كادحي الشرق بموسكو، وطلب منهم أن يأمروهم بالعودة إلى مصر في
أقرب وقت، وإلا فإن الحكومة ستمنعهم من دخول البلاد في المستقبل «لأن
البلاد لا تريد أن يكون أناس من أبنائها دعاة للشيوعية فيها».
٥٩
وفى ٢٨ من مايو قدمت النيابة إلى قاضى الإحالة أحد عشر متهمًا من
بينهم محمود حسني العرابي، وأنطون مارون، وصفوان أبو الفتح، والشحات
إبراهيم، وشعبان حافظ، وروسيان هما إبرام كاتس، وهليل زانبرج، واتهمتهم
بنشر الأفكار الثورية والتحريض على انتهاك حرمة ملك الغير، والسعي
علنًا في تكدير أصحاب العمل والملاك، وتحريض العمال على استعمال
الوسائل غير المشروعة في الاعتداء على حق أصحاب الأعمال في العمل، وفي
استخدام أو عدم استخدام العمال. واتهمتهم كذلك بتحريض عمال شركات زيت
«إيجولين» وكفر الزيات وأبو شنب، وشركة الغزل على ارتكاب جريمة استعمال
القوة والإرهاب والاعتداء على حق أصحاب العمل بإرغامهم على احتلال
المعامل التي يشتغلون فيها بالقوة. وطلبت النيابة إحالتهم إلى محكمة الجنايات.
٦٠
ونفي محمود حسني العرابي أمام قاضي الإحالة التهم المنسوبة إلى
الحزب، أن علاقة الحزب الشيوعي المصري بالدولية الثالثة كانت علاقة
أخوية محضة، لا تدخل فيها المبادئ الروسية، بمعنى أن الشيوعية المصرية
لم تكن لها أغراض شبيهة بأغراض الشيوعية الروسية لاختلاف ظروف البلدين.
وأن الشيوعية المصرية كانت ترمي إلى إنهاض العامل وإحداث تطور جديد في
حالته تناسب الزمن ولا ترمي إلى قلب نظام الحكومة ومناهضة الدستور.
٦١وهذا قول مردود لأن برنامج الحزب — كما قدمنا — كان يشتمل
على شروط الدولية الثالثة، ولأن النيابة عثرت لدى محمود حسني العرابي
على خطاب كان محررًا بالفرنسية ومُعدًّا لإرساله إلى المركز الرئيسي
للدولية الثالثة بموسكو جاء فيه «أيها الرفاق والقادة حراس الثورة
العالمية، إنكم تعلمون الدور الذي تقوم به مصر في هذه الثورة، وتعلمون
الحالة النفسية للشرقيين، وقد بيَّنا لكم حالة الحزب في مكتوباتنا
السابقة، كما وصفناها في هذا المكتوب، فأعينوه وأرسلوا إليه المال
والرفاق الأكفاء، فبذلك تؤدون خدمة كبرى إلى الثورة العالمية.»
٦٢ فما جاء بهذه الرسالة يؤكد أن الحزب كان على صلة وثيقة
بالدولية الثالثة في موسكو، وأنه كان منفذًا لتعليماتها، ويؤكد هذا
أيضًا ما ذكره مصطفى الطرابلسي محامي المتهمين من أن الحزب كان ينوي عقد
مؤتمر في ٢٣ و٢٤ من فبراير عام ١٩٢٤م لتعديل مواد برنامجه حتى يصبح
ملائمًا لحالة البلاد، وطلب من المحكمة عدم مؤاخذة المتهمين على مبادئ
الدولية الثالثة التي جاءت بالبرنامج المراد تغييره.
٦٣
ومهما كان الأمر فقد قضت محكمة جنايات الإسكندرية بمعاقبة كل من
محمود حسني العرابي وأنطون مارون بالسجن ثلاث سنوات، كما حكمت بنفس
العقوبة على صفوان أبو الفتح والشحات إبراهيم وأبرام كاتس وهليل
زانبرج، وحكمت على باقي المتهمين بالسجن لمدة ستة شهور.
٦٤
إن فشل الحزب الشيوعي المصري يرجع إلى عدم انسجام خطته مع حركة الوفد
الذي كان يقود الجماهير المصرية ضد الاحتلال والحماية، فقد كان الحزب
الشيوعي ينهج نهجًا يساريًّا لا يتفق مع الأوضاع الاقتصادية والسياسية
وتوزيع القوى الاجتماعية في المجتمع المصري في ذلك الوقت، فجعل قضية
الصراع الطبقي ترتفع على قضية التحرر الوطني، وبذلك باعد بينه وبين
الجماهير المصرية، وبينه وبين الوفد الذي كان يمسك زمام قيادة
الجماهير، وعندما حدث الصدام بين الوفد والحزب الشيوعي المصري تدعم
الاتجاه اليساري بالنسبة لمصر وللمستعمرات والبلاد غير المستقلة، واتخذ
ما حدث في مصر بالذات لتبرير هذه الإستراتيجية اليسارية في جميع
المستعمرات، ففي عام ١٩٢٥م وضع ستالين القاعدة التي أطلق عليها
«المسئولية العاجلة» للحركة الثورية في المستعمرات فقال: «ففي مثل هذه
البلاد كمصر حيث انقسمت البرجوازية الوطنية إلى حزب ثوري، وحزب مهادن
للاستعمار، ولكن حيث لا يستطيع القسم المهادن من البرجوازية أن يكون
صنيعة للاستعمار؛ فإن الشيوعيين لا يمكن أن يجعلوا هدفهم تكوين جبهة
وطنية موحدة، ويتبعوا سياسة إنشاء كتلة ثورية من العمال والبرجوازية
الصغيرة». وبسبب هذه الاستراتيجية الشيوعية كان التعاطف مفقودًا بين
قيادة الحركة الوطنية في مصر، والحركة الاشتراكية العالمية، فبدأ
التفكير من جانب الوفد للاتصال بحزب العمال البريطاني باعتباره قوة
تقدمية سياسية ناهضة وجديدة في السياسة البريطانية بعد الحرب العالمية
الأولى، وقد تصل إلى الحكم فتساهم بشكل أكثر إيجابية في حل القضية المصرية.
٦٥
وحرص الوفد على ألا يترك حركة العمال في فراغ فسعى — كما رأينا —
لإقامة الاتحاد العام لنقابات عمال وادي النيل بزعامة عبد الرحمن فهمي
أحد كبار رجاله، ولكن حكومة سعد زغلول لم تحاول إيجاد حل جذري لمشاكل
العمال بإصدار تشريعات تحدد العلاقة بين العامل وصاحب العمل.
لكن الضربة التي وجهتها حكومة الوفد إلى الحزب الشيوعي المصري لم
تستطع أن تجتث النشاط الشيوعي من جذوره، فقد تحول من النشاط العلني إلى
النشاط السري، وتألفت اللجنة المركزية الجديدة للحزب في ٦ من أكتوبر
عام ١٩٢٤م — أي في نفس اليوم الذي صدر فيه الحكم في قضية الشيوعية
الأولى — وقد تألفت هذه اللجنة على يد إفيجدور رجل الكومنثرن الخبير
بشئون مصر، الذي أوفدته موسكو عام ١٩٢٤م لهذا الغرض، فجاء إلى مصر
متنكرًا تحت اسم قسطنطين فايس
Costantin
Wiess وهو الاسم الذي عرف به في البوليس والنيابة
وأمام القضاء، وقد استمر نشاط هذه اللجنة إلى يوم ٣٠ من مايو عام ١٩٢٥م
حين ألقت حكومة زِيور باشا القبض على أفرادها جميعًا، وكان ذلك بعد أن
كثر لغط مراسلي الصحف الأجنبية في مصر حول وجود حركة شيوعية في البلاد،
وقد ثبت من الأوراق التي ضبطت في منازل المتهمين أن اللجنة الجديدة
كانت على صلة وثيقة بالدولية الثالثة بموسكو، وأن الدولية الثالثة كانت
تنفق على المتهمين في قضية الشيوعية الأولى كما كانت تنفق على
عائلاتهم، كما ثبت وجود صلة بين هذه الحركة والحركة الشيوعية في
فلسطين، فقد كان معظم أفراد اللجنة الجديدة من يهود فلسطين.
٦٦
واستصدرت وزارة زِيور قرارًا بقانون في (٢٥ من مايو عام ١٩٢٦م) يطلق
يدها في تعقب الشيوعيين، نص على «معاقبة كل من يزاول نشاطًا من شأنه
الإضرار بأمن البلاد الداخلي أو الخارجي أو بالنظام الاجتماعي».
٦٧ ومنعت الحكومة البواخر الروسية من دخول الموانئ المصرية.
٦٨واعتقلت السلطات الروس الذين اشتبهت في نشاطهم بالإسكندرية
والقاهرة وبورسعيد، وطردتهم من البلاد فغادروها على ظهر باخرة روسية
تسلَّمَتهم خارج ميناء الإسكندرية،
٦٩ كما حظرت الحكومة دخول جريدة «الأومانتية» الاشتراكية
الفرنسية، وجريدة «الإنسانية» التي كانت تصدر في بيروت، وحرمت محافظة
الإسكندرية المكتبات من استيراد الكتب الشيوعية أو الاشتراكية أو بيعها للجمهور.
٧٠
وجرت عدة محاولات بعد ذلك لإحياء النشاط الشيوعي، ولكنها كانت
محاولات أجنبية تقوم على عناصر يونانية وإيطالية تعاونت مع بعض الشبان
المصريين الذين تلقوا تعليمهم بموسكو، وعادوا إلى مصر ليبشِّروا بالدعوة
الشيوعية فيها، وقد بدأت هذه المحاولات في عام ١٩٢٧م على نطاق محدود، ثم
ازدادت في النصف الأول من عام ١٩٢٨م كجزء من حركة علمية كانت تشمل عددًا
من بلدان آسيا وأوروبا في ذلك الحين.
٧١
وفى مايو عام ١٩٢٨م ألقت وزارة النحاس القبض على واحد وعشرين
يونانيًّا وإيطاليًّا من محركي دفة النشاط الشيوعي في مصر، وتم ترحيلهم
من البلاد بوساطة قناصل بلادهم. وبوصول محمد محمود باشا إلى الحكم شددت
القبضة على عملاء البلشفية، ففي ديسمبر عام ١٩٢٨م ألقي القبض على أحد
كبار عملاء الشيوعية في الشرق الأوسط، وفى أبريل عام ١٩٢٩م أوقف نشاط
مكتب شراء القطن الذي أقامته الحكومة السوفيتية بالإسكندرية، وطرد خمسة
من أعضائه بعد أن وجهت إليهم تهمة ترويج الدعاية الشيوعية، ولم ينج
المسيو فاسلييف
Vaslief مدير المكتب
والسفير السابق في منغوليا من هذا الإجراء فطرد من البلاد في ٢٨ من أبريل.
٧٢
وأصبحت الحركة الشيوعية في مصر تسير وفقًا لقرارات المؤتمر السادس
للكومنترن عام ١٩٢٨م التي نصت على أنه في استطاعة الحزب الشيوعي المصري
أن يلعب دورًا هامًّا في النضال الوطني إذا ارتكز على البروليتاريا
المنظمة، فتنظيم النقابات بين العمال المصريين، وتقوية الصراع الطبقي،
وتوجيه هذا الصراع يجب أن يكون الواجب الأساسي للحزب الشيوعي، فالخطر
الأكبر على الحركة الشيوعية في مصر — في الوقت الحاضر — يكمن في سيطرة
البرجوازية الوطنية على النقابات، ولا يمكن إقامة منظمة فعالة للطبقة
العاملة دون مقاومة نفوذهم، كما ذهب المؤتمر السادس للكومنترن إلى أن
أكبر أخطاء الشيوعيين المصريين في الماضي أنهم قصروا نشاطهم على الطبقة
العاملة في المدن؛ لأن من أهم واجبات الحزب إيجاد حل لمشاكل الريف
والتغلغل التدريجي في الصراع الثوري للجماهير، ونادى بضرورة توجيه
عناية خاصة لبناء الحزب نفسه الذي يعاني من الضعف الشيءَ الكثير.
٧٣
وقد علل أفيجدور أسباب ضعف الشيوعية المصرية في الثلاثينيات عام ١٩٣٤م
فقال إن الشيوعيين أخفقوا لأن الجماهير كانت تؤمن بحزب الوفد، ولأن
معظم أعضاء الحزب كانوا من الأجانب، بينما لم تفصل العناصر البرجوازية
الصغيرة من الحزب، كما أن الشيوعيين المصريين خرجوا على تعليمات
الكومنترن التي تقضي بإنشاء جهاز شيوعي غير مشروع، وتمسَّكوا بأوهام وجوب
تأمين شكليات مشروعية نشاطهم، بينما شلت الاعتقالات المستمرة نشاط
الحزب فلم يستطع إنشاء منظمة شيوعية إلا بمساعدة الكومنترن.
٧٤
كما عزا السوفييت إلى «عملاء البوليس» الذين تسللوا إلى الحزب
الشيوعي المصري أنهم المسئولون عن الأخطاء الماضية التي تسبب فيها
العنصر اليهودي الذي استولى على قيادة الحزب في فلسطين، وقيل إن العنصر
اليهودي قد تسلل إلى الحزبين المصري والسوري لعرقلة أعمالهما خدمة
للمرتدين على الثورة الشيوعية.
٧٥
ومهما يكن الأمر فقد ظل النشاط الشيوعي في مصر خلال الثلاثينيات
هزيلًا فرديًّا يعتمد على جهود العناصر الأجنبية التي استطاعت تكوين
خلايا فردية لم تصل إلى مستوى التنظيم الحزبي الواسع، واستمرت كذلك حتى
أواخر الثلاثينيات حين أعلنت الحرب العالمية الثانية، ودخلت الشيوعية
المصرية في سنوات الحرب وما بعدها في طور جديد.
اليسار العمالي خلال الحرب الثانية وما بعدها ١٩٣٩–١٩٥٢م
اتسم النشاط اليساري في أواخر الثلاثينيات بظهور حلقات الدراسة
الماركسية التي نشطت بالقاهرة والإسكندرية، ولم يكن هناك اتصال بين
الجماعات الجديدة وبين الكومنترن، كما أن هذه الجماعات لم تقبل كل
ما كان يصدر عن موسكو.
٧٦ وقد وصلت تلك الجماعات في دراساتها إلى حد الوقوف أمام
النزاع الذي قام بين ستالين وليون تروتسكي داخل الحزب الشيوعي
الروسي، فانقسم الشيوعيون المصريون إلى فريقين، أيَّد فريق منهم نظرة
ليون تروتسكي إلى الثورة من ناحية التكتيك، وكان ينادي بالثورة
العالمية وبأنه يجب اتحاد عمال العالم في دولية منظمة تغذي الطبقة
العاملة في سائر أنحاء البلاد بالمنهج والبرنامج العملي حتى تثبَ
بالبرجوازية وتحطم النظام الاجتماعي الحالي وتستولي على مقاليد
الحكم، وحبَّذ الفريق الآخر خطة ستالين الذي كان يرى أنه يمكن قيام
الاشتراكية في بلد واحد.
٧٧
واتخذ التروتسكيون من دار مجلة «المجلة الجديدة» — التي كان
يُصدرها سلامة موسى — مقرًّا لجماعتهم، ولذلك عُرفت حركتهم باسم «١٠
شارع علوي» (مقر المجلة)، وكان من أبرز رجالها جورج حنين ولطف الله
سليمان ورمسيس يونان. بينما كان الشيوعيون الستالينيون هم الغالبية
وقد ضمتهم حلقات عدة حرصت كلٌّ منها على أن تكون دون غيرها نواة
لإقامة حزب شيوعي مصري، وهذه الحركات هي «حركة الأبحاث العلمية»
التي قامت على جهود بعض الشبان المثقفين وابتدأت بأبحاث علمية
بحتة، وكانت مقصورة على عدد قليل من الأعضاء كان من أبرزهم شهدي
عطية الشافعي وعبد المعبود الجبيلي، وقد وقعت تلك الحركة تحت تأثير
هليل شوارز
Hillel Schwarz وهو
شيوعي يهودي لقَّن أفراد الحركة المبادئ الماركسية، وكانت تقام في
دار الأبحاث محاضرات سياسية واجتماعية كلَّ يوم أحد، وتعليق على
الأنباء كلَّ يوم ثلاثاء، وكانت هناك حلقة دراسية شيوعية ستالينية
أخرى تُدعى «لجنة نشر الثقافة الحديثة» تكوَّنت من عشرين عضوًا،
واتَّخذت من شقة صغيرة بشارع قصر العيني مقرًّا لها، وتزعمها مصطفى
كامل منيب المحامي، وكان من بين أعضائها عبد الرحمن الشرقاوي، وعز
الدين فودة، ونعمان عاشور. وكانت هذه اللجنة أكثر يسارية من حركة
الأبحاث وكان زعيمها على اتصال بهنري كورييل
Henry
Curiel.
٧٨
وفي شتاء عام ١٩٤١-١٩٤٢م أصبحت حلقات الدراسة الماركسية بالقاهرة
والإسكندرية نواة لحركة شيوعية جديدة في مصر، وتاريخ هذه الجماعات
يكتنفه الغموض، فقد انقسمت إلى أكثر من عشرين جماعة مختلفة تسمَّت كل
منها باسم خاص، وتباينت أسماء الدوريات التي كانت تصدرها كل منها
تبعًا لذلك واحتدم الصراع بينها من أجل إقامة حزب شيوعي مصري
حقيقي.
وقد برز من بين حلقات الدراسة الماركسية جماعتان سياسيتان تكوَّنتا
في عام ١٩٤٢م هما، «الحركة المصرية للتحرر الوطني» (ح.م)، وكان على
رأسها هنري كورييل، وإسكرا
Iskra
(الشرارة) وتزعمها هليل شوارز، ولم يكن عدد أعضاء المنظمتين يزيد
على ثلاثين عضوًا، وكانت نقطة الخلاف بين المنظمتين تدور حول وسيلة
العمل في الحركة الشيوعية المصرية، وما إذا كان من الواجب أن تتحول
الحركة الشيوعية إلى حركة جماهيرية أو تكتفي «في تلك المرحلة»
بمحاولة تربية الكوادر؟ وهل تحاول تجنيد أكبر عدد من المصريين في
مختلِف مراتبها مع ما قد يترتب على ذلك من خفض مستوى النضج السياسي
في وقت كان فيه بعض الأجانب المقيمين بمصر شغوفين بالماركسية وبثِّ
الوعي بين الجماهير الكادحة واستمر الخلاف حول هذه الآراء عدة
سنوات، فقد كانت الحركة المصرية تَعُد خلية الحزب وحدةً نضالية، بينما
صرفت إسكرا اهتمامها إلى إعداد الكوادر، وفضَّلت أن تكون الخلية وحدةً
للدراسة وبينما وقفت الحركة المصرية في صف «التمصير
Egyptianization والتعميل
Proletarization»، رأت إسكرا أن
الظروف الحاضرة تُحتِّم عليها الاعتماد على المثقفين والأقليات
الوطنية، وأنه يجب بذل الجهود لضمِّ العناصر المالية للشيوعية. وفي
سبتمبر عام ١٩٤٣م انفصلت مجموعة من الحركة المصرية لتكون منظمة
جديدة تسمَّت باسم «تحرير الشعب» بزعامة بعض الشيوعيين المصريين،
فكانت تأكيدًا لضرورة تمصير الحزب.
٧٩
وتكوَّنت منظمات شيوعية أخرى فيما بين عام ١٩٤٣م وعام ١٩٤٥م في جو
مليء بالإعجاب بالسوفييت نتيجة الانتصارات العسكرية التي حققوها،
وكان من بين هذه المنظمات «الطليعة» وكانت تضمُّ جماعة من شباب الوفد
من الطلبة والمثقفين الذين تمركزوا في الإسكندرية وأخذوا يميلون
إلى السوفييت، كما ظهرت منظمة «عصبة القلعة الماركسية» خلال الحرب،
وكذلك «الفجر الجديد» التي أصدرت مجلة أسبوعية بنفس الاسم، ولم يزِد
عدد كل من هذه المنظمات عن ثلاثين أو أربعين عضوًا، وقد عَدَّت الفجر
الجديد الحركة المصرية خارجةً على الماركسية اللينينية؛ لأنها ألقت
بكل ثقلها على الفئات الأخرى أكثر من البروليتاريا، واتَّهمت في أحد
منشوراتها الحركة المصرية بأنها تتوقع أن تهبَّ الثورة بجهود الطبقة
المتوسطة الصغيرة، وأنها تعمل على إقامة جبهة شعبية في الوقت الذي
كانت تهمِل فيه تربية الكوادر السياسية.
وبرغم هذا الصراع الداخلي وعدم وجود قيادة على درجة من الكفاية،
فإن الحركة المصرية وغيرها من المنظمات أخذت في النمو نظرًا
لملاءمة المناخ المعبَّأ بكراهية الفاشية لها، وتفشِّي السخط على
الحكومة بين أوساط المثقفين. وعند انتهاء الحرب كان عدد الشيوعيين
النشيطين يبلغ ألفًا أو أكثر من ذلك قليلًا، وأخذ في الازدياد،
واشترك عضوان من أعضاء الحركة المصرية في تمثيل عمال مصر في
المؤتمر التأسيسي لاتِّحاد النقابات العالمي الذي عقد في باريس في
أواخر ١٩٤٥م، كما مثلت جميع المنظمات الشيوعية في اللجنة الوطنية
للعمال والطلبة، وحين سقطت تلك اللجنة أسست جمعيات الطلبة المصريين
التي لعبت فيها الحركة المصرية دورًا قياديًّا، كما حركت بعض
الإضرابات الكبرى بما فيها إضراب عمال النسيج بشبرا الخيمة في مايو
عام ١٩٤٧م، وبذلك كانت الحركة المصرية أكبر المنظمات الشيوعية في
ذلك الحين.
وحين بطشت حكومة صدقي بالشيوعية المصرية في يوليو ١٩٤٦م، لم
يتأثر بحركة الاعتقالات إلا المنظمات الشيوعية الصغيرة
واليساريون الوفديون، بينما لم تُضَر الحركة المصرية وإسكرا من
هذه الحركة كثيرًا. وإذا كانت ثَمة نتائج لهذه الحركة، فإنها
أدَّت إلى تقارب الحركة المصرية وإسكرا، فجرَت المفاوضات بينهما
في شتاء عام ١٩٤٦-١٩٤٧م، وأدَّت هذه المفاوضات إلى اندماج
المنظمتين في منظمة واحدة (مايو عام ١٩٤٧م) تسمَّت باسم «الحركة
الديمقراطية للتحرر الوطني» (حديتو) وانضمت غالبية «الطليعة»
إلى التنظيم الجديد، بينما اتحدت باقي المنظمات في تنظيم آخر
معارض تزعمته «الفجر الجديد» التي وصفَت حديتو بأنها «فاشية
استعمارية صهيونية».
٨٠ وحين دعت مجلة الجماهير التي كانت توجهها الحركة
المصرية إلى ضرورة قيام العمال المصريين بضم صفوفهم «تحت قيادة
حزب من نوع جديد، حزب يمثلهم أصدق تمثيل، ويلتف حوله ملايين
الفلاحين والطلبة والمثقفين، يقود الكفاح ويسير بالملايين
سيرًا لا هوادة فيه نحو الحرية والديمقراطية والاستقلال».
٨١ انبرى أحمد رشدي صالح — وكان من أقطاب الفجر
الجديد — يفند تلك الدعوة على صفحات مجلة «رابطة الشباب»، ووصف
هذا الاتجاه بأنه خاطئ وخطير لأنه لا يقوم على خطة سياسية
وطنية واضحة، كما لم تعد له عناصر قيادية واضحة «تمرست في
معارك كل يوم، ولمت حولها تأييدًا جماهيريًّا، والتي تستطيع أن
تنطق بوجدان الطبقات العمالية والشعبية المختلفة»، واتهم دعوة
الجماهير بعدم الوضوح والديماجوجية، وأنها قائمة على أسوأ
تقدير لقوة الحركة الاستقلالية النقابية.
٨٢ وبذلك بدأ صراع طويل بين «حديتو» و«الفجر الجديد»
والمنظمات الشيوعية التي دارت في فلكها، وأدَّى ذلك الصراع إلى
إضعاف الفريقين، ولكن ضرره على «الفجر الجديد» كان
أكبر.
وسرعان ما انفجر الصراع داخل حديتو نفسها بعد أربعة شهور من
تأسيسها، ففي سبتمبر عام ١٩٤٧م تجددت المنازعات بين الجماعات التي
ضمَّتها المنظمة، وترتب على هذه المنازعات حدوث تغيير في اللجنة
التنفيذية للمنظمة التي كانت تتكون من عشرة أعضاء (خمسة من كل
منظمة) وأصرت الحركة المصرية على اتباع «تكتيك» الجبهة الوطنية
الشعبية، بينما رأت إسكرا ضرورة إعداد الكوادر أولًا، باعتباره
العمل الأساسي للحزب. وطلب البعض أن يتخلى هليل شوارز وهنري كورييل
عن الزعامة لإعطاء الحزب صبغة مصرية، كما كان هناك اختلاف في الرأي
حول القضية الفلسطينية، فقد أيدت الحركة المصرية موقف الاتحاد
السوفييتي المؤيد للتقسيم، بينما أسست إسكرا في شتاء عام ١٩٤٧-١٩٤٨م
«العصبة اليهودية لمحاربة الصهيونية»، ولكنها لم تجِد إلا استجابة
ضئيلة، وحُلت بعد بضعة أسابيع من إنشائها.
وفي نوفمبر عام ١٩٤٧م قررت اللجنة التنفيذية للحزب إقامة لجنة
مركزية جديدة مُثلت فيها الحركة المصرية بستة مقاعد، والطليعة بمقعد
واحد، وإسكرا بخمسة مقاعد، وقد أدَّى هذا إلى علوِّ مدِّ منازعاتهم
القديمة، فأصرت إسكرا على ضرورة اتخاذ المزيد من الديمقراطية
الحزبية في الحركة، وانتقدت التصرفات الاستبدادية للجنة المركزية
الجديدة، ولكنها فشلت في خلق جبهة معارضة «داخل حديتو» في مواجهة
الحركة المصرية لأنها كانت أكثر اصطباغًا من الحركة المصرية
بالصبغة الأجنبية، ولكنها كانت تطالب — في نفس الوقت — بتمصير
قيادة الحزب لتنحية هنري كورييل من الزعامة، وأعلنت في منشوراتها
أن حديتو أصبحت في الحقيقة جبهة أكثر منها حزبًا شيوعيًّا، بينما
نادت الحركة المصرية بضرورة إقامة حزب على نمط ما صنعه لينين
وستالين، والالتحام بالمنظمات الجماهيرية الأخرى، ولكن البوليس وضع
حدًّا لهذه الخلافات بحركة الاعتقالات التي تمت في ربيع عام ١٩٤٨م،
مما أدَّى إلى ضعف حديتو. وفي أبريل من نفس العام تقرر إقامة مؤتمر
حزبي للنظر في مستقبل الحزب، فطلبت إسكرا تأكيدات بإتاحة الفرصة
لها للاشتراك الفعلي في المؤتمر، ولكن الحركة المصرية عارضت هذا
الاقتراح، وبإعلان حرب فلسطين في مايو عام ١٩٤٨م ألقت السلطات القبض
على مائة شيوعي فور إعلان الأحكام العرفية في ١٥ من مايو عام ١٩٤٨م.
وفي يوليو ١٩٤٨م كون الأعضاء الباقون هيئة تنفيذية أقرت أن يكون
مبدأ الديمقراطية المركزية دستورًا لجميع أعضاء الحزب، بمعنى أن
تكون تعليمات اللجنة المركزية (وكانت غالبيتها من الحركة المصرية)
مطاعة دون مناقشة.
ولكن إسكرا وبعض المنشقين من أعضاء اللجنة المركزية رفعوا لواء
المعارضة، وطالبوا بعقد مؤتمر الحزب وهو ما كان من الصعب تنفيذه في
ظلِّ الأحكام العرفية، وفي نفس الوقت أسس المنشقون من أعضاء اللجنة
المركزية منظمة جديدة تسمَّت باسم «العماليين الثوريين» (ع.ث)، وكون
البعض الآخر منظمة أخرى عرفت باسم «نحو الحزب الشيوعي المصري»
(نحشم)، وقد استمرت المنظمتان الجديدتان في العمل تحت أسماء مختلفة
لسنوات عدة.
٨٣
لم يكن لتلك المنازعات أهمية كبرى لأن الأحكام العرفية استمرت في
مصر من مايو عام ١٩٤٨م حتى فبراير عام ١٩٥٠م، فكان النشاط الشيوعي في
تلك الفترة محدودًا، وبلغ عدد المعتقلين في معسكرات هايكستب وأبي
قير حوالي ثلاثة آلاف شخص، كان قليل منهم من أعضاء الحزب الشيوعي
بينما كان الباقون من الإخوان المسلمين واليهود والوفديين، وفقدت
حديتو الصلة بينها وبين فروعها خارج القاهرة والإسكندرية، وبرغم
قيامها بطبع وتوزيع مجلتين سريتين (المقاومة، وكفاح العمال)، فإنها
لم تستطع أن توسع دائرة نفوذها، ولم تستفد المنظمات الشيوعية من
النشاط العام بقدر ما استفادت من النشاط الذي زاولَته بين صفوف
الأفراد الذين ضمتهم معسكرات الاعتقال بالدرجة التي أثرت تأثيرًا
ملحوظًا في مستقبل الحركة، فقد التقى كثير من الوفديين والإخوان
المسلمين والمستقلين بالشيوعيين للمرة الأولى، وأثمر هذا اللقاء
تحويل البعض إلى شيوعيين أو مناصرين للشيوعية، وكان هذا تمهيدًا
للجبهة الوطنية التي تألقت في عام ١٩٥١-١٩٥٢م، وحقق خلالها
الشيوعيون أكبر نجاح في تاريخ حركتهم.
أطلق سراح معظم الشيوعيين من معسكرات الاعتقال في نهاية عام ١٩٤٩م
وأوائل ١٩٥٠م، فجددت حديتو نشاطها بالقاهرة والإسكندرية وتغاضت
السلطات عنها، وكان تكوين الجبهة الوطنية هو الشغل الشاغل لها،
وأسس الدكتور فؤاد مرسي حداد الذي كان على صلة بدوائر الحزب
الشيوعي الإيطالي منظمة في عام ١٩٤٩م عُرفت باسم الحزب الشيوعي
المصري «الراية»، وكانت تلك المنظمة على علاقة بالحزب الشيوعي
الإيطالي.
ولكن الحبل لم يترَك للشيوعيين على غاربه، فوقعت حركة اعتقالات
جديدة، وكان من بين من اعتُقِلوا الدكتور شريف حتاتة وكامل عبد
الحليم من قادة حديتو، وفي صيف عام ١٩٥٠م أُلقيَ القبض على هنري
كورييل وهليل شوارز وآخرين، وصودرت الدوريات التي كانت تصدرها
الحركة، ونُفي هنري كورييل إلى إيطاليا في أغسطس عام ١٩٥٠م.
٨٤
وقد هيأت اضطرابات عام ١٩٥١-١٩٥٢م جوًّا مناسبًا لنمو الشيوعية،
فإن حديتو التي لم يكن يزيد عدد أعضائها على ١٠٠ أو ٢٠٠ عضو عندما
ألغِيَت الأحكام العرفية في فبراير عام ١٩٥٠م، أصبحت تضمُّ ما بين ألفين
وثلاثة آلاف عضو في نهاية عام ١٩٥٢م، ونمَت المنظمات الشيوعية الأخرى
على نفس النمط، واستعادت حديتو نفوذها في قيادة النقابات، وشرعَت في
إقامة خلايا لها بالقرى بلغ عددها ٣٠ خلية في عام ١٩٥١م، و١٠٠ في
عام ١٩٥٢م، كما كوَّنَت خلايا بالجيش المصري والطيران، وقوَّت قبضتها على
منظمات الطلبة.
وفرَّ عدد من أعضاء حديتو إلى الخارج نتيجة لحركة الاعتقالات،
وأسسوا فروعًا للمنظمة في أوروبا كان أحدها بلندن، حاول إقامة صلات
مع الشيوعيين البريطانيين للاعتراف بحديتو كحزب شيوعي رسمي في مصر.
وقد وافق الشيوعيون البريطانيون على هذا الطلب، ولكن حين تبينوا أن
معظم البيانات التي وصلتهم عن حديتو لم تكن صحيحة، عدلوا عن
تأييدها، وعلى أية حال لم تكن تلك المسألة بيد الشيوعيين
البريطانيين وحدهم، واشتغل أعضاء فرع المنظمة بفرنسا في التجارة
والصحافة، كما يوجد لها فروع أخرى بإيطاليا والنمسا. ومن الملاحظ
أن كثيرا من المنظمين الأجانب أجبروا بعد عام ١٩٥٠م على ترك البلاد
جملة، ووجدت حديتو كوادر وطنية كافية لمتابعة نشاطها، وكان من بين
هؤلاء سعد كامل المحامي الذي أصبح القوة المحركة لحركة السلام،
وسيد سليمان رفاعي الميكانيكي الذي أصبح سكرتيرًا للمنظمة، أما
باقي المنظمات الشيوعية فقد كان تطورها فيما بين ١٩٥٠–١٩٥٢م أكثر
غموضًا، فقد عادت «الفجر الجيد» إلى ميدان العمل، وحلت إسكرا بعد
إلقاء اثنين من قادتها في السجن، وانصرف بعض أعضائها إلى تدعيم
نشاط «الحزب المصري» أو منظمة «نحو الحزب الشيوعي المصري» التي جرت
بينها وبين حديتو مفاوضات في أوائل عام ١٩٥٢م لتوحيد الصفوف، ولكنها
منيت بالفشل، كما كانت توجد منظمات أخرى صغيرة لها نشاط محدود مثل
«النجم الأحمر» و«الديمقراطية الشعبية» و«نواة الحزب الشيوعي
المصري»، وكانت هناك مجموعة شيوعية معارضة تعمل بين النقابيين
(م.ش.م) تزعمها محمد يوسف المدرَّك رفعت شعار (١٠٠٪ عمال). ومعظم
هذه المنظمات فيما عدا القليل منها لم يستمر أكثر من شهور معدودة.
وكانت تعارض «جبهات حديتو وحلفائها الفاشيين»، وتهاجم في دورياتها
حركة السلام الشيوعية التي كانت تؤيدها حديتو.
٨٥
وضعت حديتو برنامجها السياسي في عام ١٩٥٠م أو عام ١٩٥١م، ونص فيه
على أن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني هي «المنظمة الثورية
للطبقة العاملة التي تدافع عن مصالح الطبقات والجماعات الوطنية في
الأمة، وتعد النظرية الماركسية-اللينينية-الستالينية هاديًا
لها في نضالها، وتهدف إلى تحقيق الاشتراكية ثم الشيوعية في مصر».
واستهل القسم الأول من البرنامج بعنوان «من أجل الاستقلال التام،
ومن أجل ديمقراطية شعبية»، ذكرت فيه أنها تعمل على محاربة جميع قوى
الاستعمار، وتأميم الاحتكارات الرئيسية، والتحكم في رءوس الأموال
الوطنية التي تملكها الفئات المتوسطة والدنيا، وتوجيهها إلى تدعيم
النضال الشعبي في مواجهة الاستعمار ويجب إخضاعها للرقابة الشعبية
حتى تعطى العمال الضمانات الفردية، وخاصة رفع الأجور، ولتحقيق
أرباح للرأسمالية الوطنية، كما نص على تحديد الملكيات، وإلغاء
الإقطاع، ومجانية التعليم والعلاج، ووضع نظام للتأمينات
الاجتماعية. ولتحقيق هذا البرنامج تجب إقامة الحزب الشيوعي المصري
الذي «سيكون له نفس كفاية وأغراض وأهداف الحركة (حديتو)»، وتجب
إقامة جبهة شعبية في نفس الوقت على شكل تحالف بين العمال والفلاحين
والفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة، والمثقفين الديمقراطيين، على
أن تتولى الطبقة العاملة توجيه الجبهة للدخول في نضال شعبي مسلح
باعتباره الوسيلة السياسية الوحيدة لتحقيق مطالب الجماهير، وإقامة
حكومة ديمقراطية تتشكل من فئات الجبهة الشعبية تحت قيادة الطبقة
العاملة، وبذلك تكون «هذه هي ديكتاتورية الشعب في مواجهة الاستعمار
وحلفائه وخططه، كما أن هذه الحكومة ستمنح الشعب الحريات
الديمقراطية الكاملة»، وعرضت بقية فقرات البرنامج للعلاقات بين مصر
والبلاد العربية وكفاح الشعب السوداني «وتدعيم المعسكر الديمقراطي
الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي».
وتناول القسم الثاني من البرنامج الأهداف الرئيسية للحزب، فنصَّ
على رفض مصر لكل الحلول التي يقترحها مجلس الأمن لوضع حد للصراع
المصري البريطاني، وبالنسبة لفلسطين نادى الحزب بإقامة دولة عربية
ديمقراطية مستقلة فيها، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة
بفلسطين والصادرة في نوفمبر عام ١٩٤٧م. ونصَّ أيضًا على أن المنظمة
تعمل على المطالبة بتوسيع نطاق الحريات الديمقراطية، والفصل بين
الدين والدولة، وإلغاء القوانين التي تكبل الحريات العامة، وإطلاق
سراح المسجونين السياسيين، وإلغاء البوليس السياسي، وتناول باقي
البرنامج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي لم تكن على درجة من
الأهمية؛ لأنها لم تكن على مستوى تلك التي عرضت لها البرامج التي
وضعتها الأحزاب الشيوعية في البلاد الرأسمالية فيما بين عام ١٩٥٠م
وعام ١٩٥٢م.
٨٦
لقد تباين موقف الشيوعية المصرية من المنظمات السياسية الأخرى
بتباين الظروف، فحتى عام ١٩٤٩م اعتبرت حديتو كلًّا من حزب مصر
الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين تنظيمين فاشلين، وأن هدفهما
الأساسي تحطيم وحدة النضال في سبيل الحرية، واعتبر أحمد حسين
«عميلًا بريطانيًّا». وبعد إلغاء الأحكام العرفية في عام ١٩٥٠م
واتجاه حديتو إلى إتباع سياسية «الجبهة الوطنية»، بدأ الشيوعيون
أكثر اقترابًا من حزب مصر الفتاة والإخوان المسلمين، ولكن المنظمات
الشيوعية الأخرى رفضت أن تسير على نفس الدرب الذي سلكته حديتو، مما
أدَّى إلى وقوع الصدام بين الفريقين، ذلك الصدام الذي كان عائقًا في
سبيل توحيد الحركة الشيوعية المصرية.
ومن الصعب أن نقرر ما إذا كان تغيير حديتو لموقفها من «الجماعات
الفاشية» قد تم بناءً على تعليمات وردَت من الخارج، أو أنه كانت
تكتيكيًّا محليًّا أملته ضرورة مرحلية. فمن المعروف أن أعضاء تلك
المنظمة أيقنوا أن تكوين جبهة معادية للاستعمار أمر تفرضه ظروف تلك
المرحلة من تاريخ مصر، وأن الاعتبارات الأخرى جميعًا لا بدَّ أن تخضع
للحاجة المحلية، وبررت هذه السياسة بأن حزب مصر الفتاة تحوَّل إلى
حزب اشتراكي بعد عام ١٩٥٠م، وأن جناح الحزب الوطني الذي تزعَّمه فتحي
رضوان ونور الدين طراف أصبح بطل النضال ضدَّ عقد تحالف بين مصر
والغرب، ويطالب بعدم إقامة أحلاف عدائية ضدَّ الاتحاد السوفييتي، كما
أن الجناح التقدُّمي للإخوان المسلمين رأى ضرورة تعضيد الشيوعيين
لمواجهة الاستعمار، وأن من الصعب الكلام عن الفاشية الحقيقية في
البلاد المستعمرة. ومن ثَم قام وفاق بين حديتو والإخوان المسلمين
حتى انفرط عقد الجماعة الأخيرة، ولكن الشيوعيين لم يهتموا بالجناح
اليميني الذي تزعمه حسن الهضيبي في مواجهة الجناح التقدُّمي الذي
تزعمه صالح عشماوي؛ لأن الهضيبي عارض ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م منذ
قيامها، بينما رأى معارضوه ضرورة التعاون مع الضباط الأحرار (وهو
نفس الموقف الذي وقفَته حديتو في بداية الثورة)، وزادت إمكانيات
التعاون بين الشيوعيين والوطنيين بعد حريق القاهرة في ٦ من يناير
عام ١٩٥٢م. وكانت علاقة الشيوعيين بالوفد أوثق ما تكون عندما يكون
خارج مقاعد الحكم.
٨٧
ويتضح اتجاه الجبهة الوطنية التي تشكَّلت من الشيوعيين والمنظمات
الشيوعية الأخرى من البيانات التي أصدرتها، فقد ذكرت فيها أن هدفها
«تنظيم المقاومة الشعبية للقضاء على الاستعمار بطرد قوَّاته، وتأميم
شركاته، والقضاء على كل نفوذ سياسي له في مصر والسودان»، وأن
الجبهة تضمُّ «الوطنيين المخلصين من مختلف الهيئات والأحزاب والطوائف
الشعبية الراغبين في محاربة الاستعمار»، ونادت بضرورة العمل من أجل
الحرية السياسية للشعب، وقطع كل صلة بين مصر «ومعسكر المستعمرين
الأنجلو أمريكيين أعداء الشعب المصري وجميع الشعوب المُحبة للسلام
والحرية». وطالبت اللجنة بمنع أية محاولة لإقحام مصر في الحروب
الاستعمارية أو إدخالها في اتفاقيات أو معاهدات أو أحلاف
استعمارية، وتوثيق الروابط بين شعب مصر والشعوب المناضلة من أجل
الحرية، وأكدت ضرورة عقد معاهدات تجارية مع الاتحاد السوفييتي
والجمهوريات الشعبية.
٨٨
اليسار العمالي والحركة الوطنية في أعقاب الحرب العالمية
الثانية
ارتفع مدُّ الحركة الوطنية في أعقاب الحرب العالمية الثانية،
وانحصرت مطالب الجماهير في تحقيق الاستقلال التام وجلاء القوات
البريطانية عن وادي النيل، وتحقيق وحدة مصر والسودان وطفِق الشعب
ينشُد سبيلًا للعمل الوطني بعد أن فشل الوفد في تحقيق المطالب
الوطنية خلال الحرب حين كانت بريطانيا وحلفاؤها في موقف لا يحسدون
عليه، فكان الجو ملائمًا لظهور هيئة يسارية علنية تستر الوجه
الحقيقي للمنظمة الشيوعية التي كانت تُوجِّهها، وتحاول خلق قيادة
سياسية جديدة تُوجِّه نضال الجماهير وجهةً يسارية. فكانت لجنة العمال
للتحرير القومي التي تأسست في ٨ من أكتوبر عام ١٩٤٥م.
ألَّف تلك اللجنة جماعة من النقابيين الشيوعيين الخارجين على
المنظمات الشيوعية التي كانت موجودة في ذلك الحين، وكان أبرزهم
محمد يوسف المدرَّك ومحمود محمد العسكري وطه سعد عثمان، وبلغ عدد
أعضائها نحو ثمانين عضوًا كان يؤيدهم حوالي أربعة آلاف عامل معظمهم
من عمال النسيج بشبرا الخيمة.
٨٩
ونصَّ برنامج لجنة العمال للتحرير القومي في مقدِّمته على أن هدف
اللجنة «تحرير الطبقات الشعبية وهي الغالبية الكبرى من سكان مصر من
نير الاستعمار، ومن طغيان الاستغلال الداخلي»، وأن برنامجها
«سيحققه الشعب المصري نفسه وعلى رأسه الطبقة العاملة مؤيَّدًا من
الشعوب الأخرى». وحدد وظيفة اللجنة بالعمل على «فتح الطريق أمام
الطبقة العاملة المصرية حتى ترجح بقوتها الهائلة كلها في ميزان
السياسية المصرية كفة الشعب المصري على كفة مستغليه».
٩٠
ونصَّ البرنامج على أن اللجنة تعمل على التحرر من الاستعمار وتحقيق
الاستقلال الكامل لوادي النيل بجلاء الجيوش الأجنبية عن مصر
والسودان، وإلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية، ووضع قناة السويس
في يد مصر، وتخليص الجيش والبوليس والإدارة من الموظفين الأجانب
وخاصة الإنجليز، والاتحاد مع السودان بشرط أن يتمتع الشعب السوداني
بجميع الحقوق والحريات الديمقراطية، وتقوية الجيش المصري وجعل
الخدمة العسكرية إجبارية لمدة سنة لجميع المصريين. وفي مجال علاقات
مصر الدولية نصَّ على اشتراك البلاد في الجهود الدولية التي تبذل
لمحاربة الفاشية، وعقد معاهدات صداقة واتفاقيات اقتصادية مع الدول
الديمقراطية، وتحويل جامعة الدول العربية إلى أداة ديمقراطية ضدَّ
الاستعمار، ومكافحة الصهيونية وتأييد شعب فلسطين في نضاله الوطني،
وتمثيل الشعب المصري في المؤتمرات الشعبية العالمية (النقابات،
الشباب، الطلبة، النساء) دون تدخل السلطات أو إشرافها.
وتعرض البرنامج للناحية الاقتصادية فذكر أن «الشعب المصري وعلى
رأسه الطبقة العاملة يريد أن يكون هو الذي يستفيد من كدِّه وعمله،
ولا يريد أن يعمل لزيادة غنى الأقلية الرأسمالية، ويريد أن ينهض
بموارد البلاد إلى أقصاها ليرفع مستوى أفراد الشعب إلى المستوى
الإنساني الحقيقي»، وذلك بالتحرر من الاستغلال الأجنبي، واستقلال
العملة المصرية، وإنشاء بنك مركزي وطني، ونقل ملكية المرافق العامة
إلى الدولة وإحلال المصريين محل الفنيين الأجانب في الصناعة. ونصَّ
على أن اللجنة تعمل على رفع مستوى العمال المادي والفني والثقافي
بإطلاق الحرية النقابية والاعتراف بالاتحاد العام، وتوطيد حق
الإضراب، وتحديد ساعات العمل مع تحديد الأجور بالنسبة لحاجات
المعيشة مع مساواة العاملات بالعمل، والتأمين ضدَّ العجز والشيخوخة
وتقرير حق العمل للجميع، والإكثار من المدارس الصناعية لرفع
المستوى الفني للعمال، كما أنها تعمل على رفع مستوى الفلاحين بوضع
حدٍّ أقصى للملكية ونزع الملكيات الكبرى وتوزيعها على صغار الفلاحين،
وحل الأوقاف الأهلية، وتطبيق جميع قوانين العمل على العمال
الزراعيين والاعتراف لهم بحقِّ تكوين النقابات وتنمية الجمعيات
التعاونية الاستهلاكية والإنتاجية (المزارع التعاونية)، وطالب
البرنامج بمجانية التعليم الابتدائي والثانوي وزيادة نسبة المجانية
في التعليم الجامعي، والنهوض بالمستوى الصحي.
وانتقل البرنامج إلى الكلام عن التحرر من الرجعية السياسية
والفكرية؛ فذكر أن «على الشعب المصري وعلى رأسه الطبقة العاملة أن
يعبد طريق الاستقلال السياسي والاقتصادي والتحرر من الجوع والحرمان
وأن يحكم نفسه بنفسه وأن يوسع الديمقراطية السياسية والاجتماعية
حتى يتمتع بها جميع المصريين». وطالب بتعديل نظام الانتخاب وإشراك
المنظمات الشعبية (النقابات والتعاونيات) بممثليها في عملية
الانتخاب، والاعتراف بحق المرأة في الانتخاب، وتوسيع مجلس النواب،
وتحويل اختصاصات مجلس الشيوخ إليه، وجعل إقالة الوزارة وتأجيل
دورات البرلمان من حق مجلس النواب وحده. ونادى بإصلاح الأداة
الحكومية وضمان الحريات الفردية وإطلاق حرية الرأي.
٩١
لقد وضع برنامج لجنة العمال للتحرير القومي ونشد له واضعوه
البقاء وسط الظروف السياسية في ذلك الحين حتى يتمكنوا من إيجاد
جبهة سياسية تجمع فئات الشعب المختلفة تحت لواء الطبقة العاملة،
ولذلك حرص البرنامج على إرضاء المعتدلين فلم يكشف عن الوسيلة التي
سيتخذها لتحقيق ما جاء به، وهل ستسلك اللجنة في سبيل تحقيقه
الثورة، أو تجنح إلى تحقيقه عن طريق الإصلاحات البرلمانية، وجاءت
البنود المتعلقة بالناحية الاقتصادية غير محددة الاتجاه، فهو لم
ينصَّ صراحة على الأخذ بمبدأ التأميم إلا للمرافق العامة، واكتفى
بالمطالبة بتمصير المؤسسات الكبرى دون تحديد. ولم يضع تعريفًا
محددًا للملكيات الكبرى التي نادى بتوزيعها على صغار الفلاحين،
وهل يعني ذلك القضاء على الإقطاع بتقليم أظافره أو يعني تأميم
الأرض.
ومهما يكُن الأمر فقد قدمت اللجنة برنامجًا تقدميًّا شاملًا
استفادت فيه — إلى حدٍّ ما — ببرنامج حزب العمال المصري مع التوسع في
إدخال التعديلات عليه بما يتلاءم مع الاتجاه السياسي لمؤسسي
اللجنة.
وتمكنت اللجنة من اتخاذ مجلة «الضمير» منبرًا تنادى من فوقه
بمبادئها، فأخذت تنشر أجزاءً من برنامجها، ودعت العمال إلى الاتحاد
وتنظيم صفوفهم «حتى لا يجد الرأسماليون منفذًا لهم للعبث بأجور
العمال أو ساعات عملهم أو تضييع حق من حقوقهم»، وطالبت بأن يتساوى
الفلاح مع العامل في حق تكوين النقابات، ودعت العمال والمثقفين إلى
توجيه الفلاح إلى سبيل النضال من أجل حقوقه، ونادت بضرورة تأسيس
الاتحاد العام لنقابات العمال من أجل توحيد النضال الاقتصادي
والسياسي، لكى يتحرر العمال من الاستعمار والاستغلال والحرمان والجوع.
٩٢
لم تكَد اللجنة تعلن برنامجها حتى استدعى النقراشي باشا — رئيس
الوزراء — بعض زعمائها لمقابلته كان على رأسهم محمود العسكري وطه
سعد عثمان، وتمَّت المقابلة في ٢١ من أكتوبر عام ١٩٤٥م، وناقشهم في
برنامج اللجنة وخاصة ما كان يتعلق بالأهداف القومية والمسائل
العمالية، وطلب منهم المحافظة على وحدة الشعب المصري حتى ينال
حقوقه كاملة، فأصروا على التمسك ببرنامج لجنة العمال للتحرير
القومي باعتباره «السند المتين» لتحقيق وحدة الشعب المصري.
٩٣
وحرصت اللجنة على المشاركة في المطالبة بتحقيق الاستقلال التام
وجلاء القوات الإنجليزية عن أرض مصر وإلغاء معاهدة عام ١٩٣٦م، فقدمت
عريضة بهذا المعنى إلى أعضاء مجلس الأمن في (١٣ نوفمبر عام ١٩٤٥م)
ناشدتهم فيها تنبيه مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة
إلى ما وصلت إليه أحوال مصر التي قد ينشأ عنها خطر على الأمن الدولي.
٩٤ كما أبرقت إلى هنري سباك رئيس الجمعية العمومية للأمم
المتحدة في (١٧ يناير عام ١٩٤٥م) تطالب «بالاستقلال الحقيقي لمصر
وجلاء الجيوش الأجنبية فورًا عن وادي النيل»، وناشدته عرض مطالب
مصر على الأمم المتحدة، وبذلك كانت لجنة العمال للتحرير القومي
تساير الاتجاه السائد بين المنظمات السياسية في أعقاب الحرب من
ضرورة اللجوء إلى الأمم المتحدة للمطالبة باستقلال مصر.
وسرعان ما دبرت الحكومة أمر القضاء على اللجنة؛ فانتهزت فرصة
التحركات العمالية التي قامت إثر عودة مندوبي عمال مصر من باريس
بعد حضور المؤتمر التأسيسي لاتحاد النقابات العالمي؛ فألقت القبض
على البارزين من القادة النقابيين، واعتقلت محمد يوسف المدرَّك فيمن
اعتقلتهم، وكان سكرتير لجنة العمال للتحرير القومي، وكذلك محمود
العسكري رئيس النقابة العامة للنسيج الميكانيكي في (٢ يناير عام
١٩٤٦م).
وحاول من بقي من أفراد اللجنة بمنأى عن الاعتقال متابعة نشاطها،
ولكن لم تمضِ أيام حتى تفرقوا عندما تعقبهم البوليس السياسي، وصادرت
الحكومة مجلة الضمير.
لكن العمل الوطني لم يَعدم وجود منظمة يسارية تحل محل لجنة العمال
للتحرير القومي، فقد امتاز مطلع عام ١٩٤٦م بانتشار فكرة الجلاء بين
الجماهير التي تحددت أهدافها القومية بالجلاء ووحدة وادي النيل،
وإزاء هذا الشعور العام بعثت حكومة النقراشي بمذكرة في (٢٠ ديسمبر
عام ١٩٤٥م) إلى الحكومة البريطانية تطلب فيها بدء المفاوضات من أجل
إعادة النظر في معاهدة عام ١٩٣٦م، وجاء رد الأخيرة مؤكدًا تمسكها
بالقواعد الجوهرية التي قامت عليها المعاهدة، مما أدى إلى إثارة
الرأي العام في مصر، فخرجت مظاهرة كبرى من طلبة الجامعة في (٩
فبراير) اصطدمت بالبوليس عند كوبري عباس؛ فأصيب عدد كبير من الطلبة
بجراح، وقامت مظاهرات مماثلة بالإسكندرية والزقازيق والمنصورة
وأسيوط واجهتها السلطات بالعنف، فزاد السخط على الحكومة، واضطر
النقراشي إلى تقديم استقالته في ١٥ فبراير وعهد إلى إسماعيل بتأليف
الوزارة.
ولكن استمرت المظاهرات، وأصدرت لجنة مشتركة من الطلبة — كانت
قيادتها بيد بعض أعضاء المنظمات الشيوعية — ميثاقًا وطنيًّا في (١٧
من فبراير) نادت فيه بتحقيق الجلاء التام برًّا وبحرًا وجوًّا عن
كل شبر من أراضي وادي النيل، ودولية القضية المصرية، والتحرر من
العبودية الاقتصادية، ورأى الطلبة ضرورة الاتصال بالعمال لتوحيد
النضال؛ فتألفت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة في أحد مدرجات كلية
الطب، وأصدرت بيانًا أعلنت فيه أن نقابات العمال بالقُطر المصري
وطلبة الجامعات والأزهر والعاهد العليا والمدارس الخاصة والثانوية،
قرروا اعتبار يوم ٢١ من فبراير عام ١٩٤٦م «يوم الجلاء» يوم إضراب
عام لجميع هيئات الشعب وطوائفه «لإشعار المستعمر البريطاني والعالم
الخارجي أجمع، أن الشعب المصري أعد عدته للكفاح الإيجابي، حتى
ينجلي كابوس الاستعمار».
٩٥
وفي اليوم المحدد أضربت جميع الطوائف بالقاهرة، وقامت مظاهرة
عامة انتظمت جموع الشباب والطلبة والعمال وأخذت تطوف بأهم شوارع
العاصمة هاتفة بالجلاء، ومرَّت بتمثال مصطفى كامل تحييه باعتباره
زعيم الجلاء، وبدا الطابع القومي على تلك الحركة فأعادت إلى
الأذهان ذكرى مظاهرات ١٩١٩م وعام ١٩٣٥م، ولم تكَد المظاهرة تصل إلى
ميدان الإسماعيلية حتى تصدَّت لها سيارات بريطانية مسلحة، اقتحمت
جموع المتظاهرين في غير مبالاة، مما أدَّى إلى استشهاد عدد كبير من
المتظاهرين، وإصابة الكثيرين منهم بجروح بالغة.
٩٦
وألقى صدقي بيانًا على الشعب أعلن فيه أنه قد اندسَّت «عناصر من
الدهماء في صفوف الطلبة الأبرياء»، وأن «كل هذا حول المظاهرات
السلمية إلى مظاهرات ظهر عليها طابع الشر». فردت اللجنة التنفيذية
للطلبة ببيان قررت فيه إعلان الحداد العام والموافقة على قرار
اللجنة الوطنية للعمال والطلبة بإصدار ميثاق وطني يوقع عليه جميع
الزعماء ويلزمهم بعدم قبول الحكم إلا على أساس تصريح بريطاني يعترف
بالجلاء التام عن وادي النيل كأساس للمفاوضة، وسحب الموظفين
البريطانيين من البوليس المصري، واستنكرت اللجنة بيان رئيس الوزراء
ومحاولته التفرقة بين طبقات الشعب بوصفه المواطنين الأحرار
بالدهماء. كما قررت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة إقامة صلاة
الغائب يوم الحداد العام، ومطالبة الحكومة بالعمل على تنفيذ الجلاء
فورًا عن المدن الكبرى، واستنكرت اللجنة الحظر الذي أقامته الحكومة
على الصحافة بعدم نشر أنباء الحركة الوطنية.
٩٧
وفى ٤ من مارس أعلنت اللجنة الحداد العام على شهداء ٢١ من
فبراير، فأقفلت المدارس والمتاجر واحتجبت الصحف، ووقعت في
الإسكندرية حوادث دامية نتجت عن احتكاك البوليس بالمتظاهرين وتحرش
الجنود البريطانيين بهم.
٩٨
ولجأت حكومة صدقي إلى محاولة القضاء على القيادات الجديدة للحركة
الوطنية بتحطيم «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، فدفعت بعض
صنائعها إلى تكوين «اللجنة القومية» وفتحت لها أبواب النشر المختلفة،
٩٩ وتحالف الإخوان المسلمون وحزب مصر الفتاة مع الحكومة
فألفوا لجنة للعمال والطلبة، أخذت تنشر البيانات ضد اللجنة
الوطنية، وسلك أعضاء الجماعة سبيل العنف واستخدموا العصي في صراعهم
مع اللجنة التنفيذية العامة للطلبة.
١٠٠
وكان قد تألف وفد رسمي في (٧ مارس عام ١٩٤٦م) للتفاوض مع
الإنجليز، ولكن المفاوضات أخذت تتعثر وزاد لهيب المقاومة الشعبية،
وأصدرت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة نداء في ٨ من يوليو طالبت
فيه بقطع المفاوضات واعتبار قضية وادي النيل قضية دولية واجبة
العرض على مجلس الأمن، واعتبار يوم ١١ من يوليو (ذكرى ضرب
الإسكندرية) يوم تجديد الجهاد الوطني، فرأى صدقي أن يقدم على حل
حاسم لمشكلة المقاومة الشعبية قبل أن يفلت الزمام من يده، فاعتقل
في ليلة ١٠ / ١١ يوليو المئات من الصحفيين والكتاب والمثقفين
وزعماء النقابات، وصادر عددًا من الجرائد، وأغلق عددًا من النوادي،
١٠١ فقضى بذلك على نشاط «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»،
وفتت الجبهة التي قادت النضال الشعبي في مطلع عام ١٩٤٦م بنجاح
كبير.
وفي ١٥ من يوليو أعلن صدقي أمام مجلس الشيوخ أن المنظمات التي
حلت كانت منظمات ثورية تهدف إلى إثارة الاضطرابات وتعمل على تغيير
نظام الهيئة الاجتماعية، وتروج للشيوعية وراء ستار النضال الوطني،
وفي نفس الوقت قدمت الحكومة إلى مجلس النواب مشروع قانون بتعديل
قانون العقوبات نص فيه على معاقبة كل من يقيم منظمة ثورية أو يحرض
طبقة ضد أخرى بقصد تغيير النظام الاجتماعي في البلاد.
١٠٢
لقد كانت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة جبهة وطنية سياسية، ضمت
بين صفوفها ممثلين لمختلف الهيئات والمنظمات السياسية، ولكن
العناصر اليسارية كانت تدير دفتها، وتمسك بزمام القيادة فيها،
ودليلنا على هذا ما حفلت به بياناتها من التنديد بأصحاب الأعمال
والمستعمرين «الذين تنتفخ جيوبهم بالأرباح الطائلة من دماء
الملايين وقوت أبنائهم». والمطالبة بإيجاد حل لمشكلة البطالة،
وتطبيق كادر عمال الحكومة على عمال الشركات وإطلاق الحرية
النقابية، فلم يقتصر عمل اللجنة على تبني قضية الكفاح الوطني، بل
عرَّجت على الأوضاع الاجتماعية ناشدة إصلاحها.
ولم تعمِّر اللجنة إلا بضع شهور بسبب الأخطاء التي تردت فيها، فقد
استمر نشاطها مقصورًا على المدن بين صفوف الطلبة والعمال الحرفيين،
ولم يمتد نشاطها إلى الفلاحين، كما أنها لم تحسن تنظيم صفوفها، فلم
تهتم بخلق لجان في كل مصنع وشارع وحي ومدرسة وكلية، كما كان عدم
توحيد قياداتها وانقسامهم مصدرًا من مصادر ضعفها.
١٠٣ هذا بالإضافة إلى الحملات التي شنتها الحكومة
عليها.
لقد فشلت العناصر اليسارية في إيجاد ركيزة شعبية عريضة لأن الوفد
كان يستحوذ على تأييد الجماهير وإيمانها لارتباطه في الأذهان
بالعمل الوطني. وأخطأت العناصر اليسارية حين اصطدمت بالوفد في عام
١٩٢٤م، فهيأت الفرصة لضرب الحزب الشيوعي الأول دون أن يحرك هذا
المشهد عواطف الجماهير الكادحة التي كان إيمانها بالوفد أعمق من
فهمها لرسالة الحزب الشيوعي، كما أن الجهل الذي خيم على
البروليتاريا المصرية لم يهيئ لها فرصة تفهم الشيوعية فضلًا عن
اعتناقها، وكان الريف — ولا يزال — يتمتع بحصانة طبيعية ضد تغلغل
الدعاية الشيوعية لما اتَّسم به من تأخر ومحافظة وتواكل وتمسك بالدين
الذي كان ورقة رابحة في يد أعداء الشيوعية.
كما كانت المنظمات الشيوعية التي تكونت في خلال الحرب الثانية
وما بعدها محدودة الأثر لانقضاض السلطات عليها بين وقت وآخر، ولم
تتمكن من زيادة عدد أفرادها الذين كانوا أفرادًا محدودين في عام
١٩٤٢م إلى أكثر من سبعة آلاف عضو بعد ثلاثة عشر عامًا، وإذا كانت قد
ملكت زمام المبادرة في الحياة السياسية المصرية بين منظمات الطلبة
على وجه الخصوص؛ فإنها لم تتمكن من إيجاد قاعدة قوية لها بين
العمال، فلم يتعدَ نفوذها في النقابات حدود بعض رؤساء النقابات
وأعضاء مجالس إداراتها، ولم يكن هؤلاء — في معظم الأحيان — يمثِّلون
عمال نقاباتهم تمثيلًا حقيقيًّا، وحتى أولئك الذين تمكَّنت المنظمات
الشيوعية من تجنيدهم لخدمة أغراضها عزلوا عن القاعدة التي كانت تضمُّ
أعضاء النقابة جميعًا، فقد زودَتهم الشيوعية بشعارات لم تكن تعِيها
عقلية العمال التي خيم عليها الجهل وكان مجال عملهم الوحيد تحريك
العمال وتوجيههم إلى القيام بمظاهرة أو اعتصام من أجل تحقيق
مطالبهم، ولم يكن باستطاعتهم تحويل أعضاء النقابات إلى جنود مخلصين
للشيوعية مناضلين من أجلها.
كما أن اعتماد الشيوعية المصرية على قيادات أجنبية عزلها عن
الشعب الذي كان من الصعب عليه أن يفرق بين أجنبي محتل مغتصب وآخر
يدعو إلى نصرة الطبقة الكادحة، في وقت ارتفع فيه مدُّ النضال الوطني
ضد الاستعمار الأجنبي، وبرغم أن تكتيك الجبهة الوطنية كان — في بعض
الأحيان — ذا فائدة من وجهة النظر الشيوعية فإنه كان من مصادر ضعف
تلك المنظمات؛ لأنها لم تكن قادرة على قيادة الجبهة في معظم الأحيان
في الوقت الذي كانت تقدم فيه (لأي سبب) على اتباع سياسة لا تتفق مع
الخط العام للجبهة فتجد نفسها معزولة ويتخلى عنها حلفاء
الأمس.
وأخيرًا فإن الشيوعية المصرية حملت في داخلها جراثيم ضعفها؛ فقد
انتشرت الخلافات والإحَن بين المنظمات بعضها مع بعض، وراحت كل واحدة
منها تصِم معارضيها بالخروج على الشيوعية واعتناق الفاشية، كما قويت
الخلافات داخل المنظمة الشيوعية الرئيسية (حديتو) وتحولت إلى فرَقٍ
تربصت كل واحدة منها بصاحبتها، وحطمت الانسلاخات التي تمَّت فيها
جهود الجميع، وكانت هذه الظروف كفيلة بتنفير الجماهير من الدخول في
خضم تلك المنازعات.