الفصل الأول
زحف الإفرنج منذ سبعمائة سنة زحفة ثالثة على بلاد الشام لاستخلاصها من قبضة المسلمين. وحدث أن فارسًا من فرسانهم ذهب إلى غور الأردن لمهمة لهم، فلما دنا من البحر الميت خطر له ما فعل الله بسدوم وعمورة والمدن المجاورة لها حين عصته قديمًا؛ فأمطر عليها نارًا وكبريتًا من السماء وشق الأرض ودحرها فيها، ثم أجرى على آثارها مياه البحر الميت فلم يزل آية من آيات الله في مرارة مياهه وخلوها من الأحياء. ولما تذكر ذلك كله اقشعر بدنه وارتعدت فرائصه. وكانت الشمس قد تكبدت السماء أو كادت وأرسلت أشعتها كالسهام المحرقة.
فخيل له أن الجحيم فتح فاه فاستعرت الأرض بلظاه، ولولا رداءٌ رثٌّ كان ملتحفًا به فوق أسلحته لأعياه حر الهواء، وأضناه وهج الصحراء، وكان على الرداء صورة نمر رابض وهي شعار عائلته، وكانت مرسومة أيضًا على ترسه وأسلحته، ولكنها تثلمت من ضرب السيوف ووقع السهام، وكأن الطبيعة التي أفرغت أعضاء هذا الفارس في قالب القوة والبأس منحته بنية لا يضنيها التعب ولا يتغلب عليها تقلب الأقاليم. وكانت أخلاقه نظير بنيته، فجعل الحزم له شأنًا والثبات ديدنًا وهذا الذي ميز أهل الشمال على غيرهم من الشعوب وبوأهم أرائك الملك في أوروبا كلها.
ولم يأت هذا الفارس من بلاده بمال كثير، ولذلك نفد ماله سريعًا ولم تسمح له نفسه الأبية أن يغتصب أموال السكان ولا أن يفدي أسراه الذين كان يأسرهم بالمال كما فعل غيره من الفرسان؛ ولذلك هجره رفاقه ولم يبق معه إلا رجل واحد وهو الذي كان يحمل له سلاحه، وكان مريضًا في ذلك الوقت، فاضطر الفارس أن يسير وحده في تلك القفار ولسان حاله يقول:
وكان يعلم أن في طريقه نبع ماء وبجانبه أشجارًا من النخيل، فلما صار بمرأى منها حباها تحية العطاش للماء الزلال منتظرًا دنو وقت الراحة، وكأن جواده علم ذلك فصرَّ أذنيه وحمحم وأسرع في عدوه. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؛ لأن هذا الفارس لم يلبث أن رأى النخلات حتى رأى بجانبها شبحًا يتحرك، ثم رآه يقترب نحوه ولم يكن إلا هنيهة من الزمان حتى انجلى عن أمير من أمراء المسلمين راكب فرسًا عربيًّا يسابق الرياح وبيده رمح قد سدده نحو الفارس يريد أن يختطف به روحه، فتربص في مكانه لأن التجارب علمته أن مطاردة الخيول العربية ضرب من الحماقة، وكأن الأمير لحظ ذلك ورأى خصمه راغبًا عن الكر والفر، فدنا منه حتى صار على قيد رمحين، ثم دار حوله دورتين لكي يجد منه مقتلًا غير حريز فيطعنه فيه، فكان الفارس يدور معه كيفما دار حتى أعيت الأميرَ الحيلُ، فأبعد عنه رمية سهم ثم انقض عليه كالعقاب، فرآه مستعدًّا له متأهبًا لملاقاته.
فأوسع في عرض البيداء ثم انقض عليه ثالثة كصاعقة منقضة من السماء، فابتدره الفارس برمح قناته كالسارية رشقه به رشقًا قاصدًا رأسه، فاستلقى الأمير الرمح بترس له من جلد الكركدن فرجع الرمح عنه خائبًا، ولكنه لم يستطع الثبات على ظهر جواده من عنف الضربة وثقل الرمح فوقع على الأرض، ولم يصل إليها حتى وثب إلى ظهر جواده وأبعد عن خصمه متعوذًا من شره، ثم أوتر قوسه وجعل يرميه بالنبال حتى رماه بستٍّ أصابته كلها، ولكنها لم تأته بمكروه؛ لأنه كان غائصًا هو وجواده في الحديد والزرد النضيد، ثم رماه بسهم سابع أصاب منه مكانًا غير حريز، فسقط على الأرض مجندلًا. فأسرع الأمير وترجل ليرى ما حل بخصمه، فلم يشعر إلا وهو قابض على نجاد سيفه وسير جعبته يحاول أن يصرعه بقوة ذراعه، فقطع الأمير بنود السيف وسير الجعبة وتملص منه واستوى على ظهر جواده، والتفت إليه قائلًا: «نحن وإياكم في هدنة، وقد خبرتَ قوتي وخبرتُ قوتك، فهلم نتصالح ونتصاف.» فقال الفارس: «لا أكره الصلح إذا كان لي منك ما آمن به غدرك.» فقال الأمير: «ليس الغدر من شيمنا؛ لأن الشجاعة والغدر لا يجتمعان في إنسان.» فندم الفارس على ما فرط منه وقال له: حسبي. وأقسم أنه لا يغدر به ما دام في رفقته، فأقسم الأمير له كذلك، ثم جريا معًا نحو الينبوع ليبردا غليلهما ويستظلا من حر الظهيرة.