الفصل العاشر
وقف مركيز منسرَّات ورئيس الهيكليين في باب خيمة الملك، فرأيا حولها حلقة من الحرس بالحراب والقسي، محيطة بها إحاطة الهالة بالقمر لكي لا يدنو منها أحد، والملك نائم وهم صامتون منكسون رءوسَهم كأنهم في جنازة. فقال الرئيس لرفيقه: «قد انقلب فرح هؤلاء الكلاب إلى نَوح، وجلبتُهم إلى سكينة، والدهر في الناس قُلَّب!»
فأجابه المركيز: «أصبتَ، والكلاب يضرب المثل بأمانتها لأسيادها، ولا سيما إذا كان أسيادها يجارونها في هرجها ومرجها كهذا الملك.»
فقال الرئيس: «صدقت، وهذا هو شأنه دائمًا.»
فقال المركيز: «لو كان صلاح الدين كغيره من ملوك المشرق لأراحنا منه بهذه الكأس، ولكنه أمين صادق منزَّه عن الغدر، وقد بلغني أنه طلب من ريكارد أن يقلده رتبة الفرسان.»
فقال الرئيس: «معاذ الله! لن نشرك أحدًا من أعدائنا في هذا الفخر.»
وكانا قد بلغا فرسيهما وخدمهما فارتأيا أن يذهبا ماشيين يستنشقان بنسيم العشاء، فصرفا الخدم والفرسين ورجعا يتهاديان في مشيهما في طريق غير مطروق، ويتكلمان عن الحصار ولكن لم يطيلا الكلام فيه؛ لأنهما لم يجدا ما يسرهما، ثم التفت المركيز إلى الرئيس وقال له: «علام لا تطرح عنك هذا البرقع الأسود، وتتكلم مع صديقك علانيةً؟» فتبسم الرئيس وقال: «إن البرقع الأبيض يغطي الوجه كما يغطيه البرقع الأسود.» فجر المركيز يده على وجهه وقال: «قد نزعت البرقع، فهات أخبرني بما تراه من أمر هذا الجهاد، وما ينالنا منه من النفع والضر.»
فقال الرئيس: «إن هذا يزيل البرقع عن وجهي لا عن وجهك، ولكني أجيبك بمَثَل مثَّله لي أحد الفهماء، وهو أن فلاحًا أصابه قيظ فطلب من الله أن يمطر أرضه، ولجَّ في الطلب كثيرًا، وتضجر من عدم إجابة طلبه، فأراد الله معاقبته على ضجره فأرسل عليه سيلًا جارفًا غرقه مع أرضه.»
فقال المركيز: «أصبت، وليت البحر غرق تسعة أعشار هذه الجيوش، فكان العشر الباقي يكفي لغرضنا. بل لو تركنا ملوك أوروبا وشأننا لاصطلحنا مع صلاح الدين وعشنا معه بالراحة والأمن، أما الآن وقد اشتدت وطأتنا على بلاده فلا يمكنه أن يسمح لنا بالإقامة فيها.»
فقال الرئيس: «ولكن قد ينجح هؤلاء الملوك ويستردون البلاد.»
فقال المركيز: «وإن فعلوا فما الفائدة لي ولك؟»
فقال الرئيس: «ما المانع من صيرورتك ملكًا على أورشليم؟»
فأجاب المركيز: «تحدثني النفس بذلك ولكن دونه خرط القتاد، ولا أخفي عليك أيها الرئيس الأعظم أنني أفضِّل إمارتي الصغيرة وأنا مستقل فيها كملوك المشرق على مملكة كبيرة لي فيها شركاء من الأمراء والفرسان، ثم إذا قام ريكارد من هذا المرض فلا بد من أن يسعى في تنصيب غاي لوزنيان على مملكة القدس.»
فقال الرئيس: «قد فهمت مرادك وعلمت أنك مخلص فيما قلت، فإنك تفضل أن تكون أميرًا مستقلًّا في عمل من البلاد على أن تكون ملكًا عليها كلها ويشاركك في ملكك كثيرون.»
قال: «نعم، ولكن أبْقِ هذا الأمر سرًّا، فإني لم أبح به إلى غيرك.»
فقال الرئيس: «لا تخف، فإني أقسم لك بالهيكل الذي عاهدنا أنفسنا على حمايته أني أكتم سرك ولا أبوح به.»
قال: «أبهيكل أورشليم أم بالهيكل الرمزي الذي تشيرون إليه في اجتماعاتكم السرية؟»
فقال الرئيس: «بأي هيكل شئت فقد أقسمت لك، فبم تقسم لي أنت؟»
قال: «إني أقسم بالتاج الذي آمل لبسه، ومهما يكن من الأمر فمصلحتنا واحدة، وأما إذا استولى هؤلاء الملوك على أورشليم فإنهم يردون فرقة الهيكليين إلى أعمالها القديمة، وهي تمريض المرضى ومداواة الجرحى، وينزعون من يدي البلاد التي أنا مستولٍ عليها.»
فقال الرئيس: «الأرجح ما تقول، ولكن أيليق بنا أن نترجَّى رجوع هؤلاء الملوك مدحورين، وترك البلاد في حوزة صلاح الدين؟»
قال المركيز: «نعم، وصلاح الدين لا يستغني عنا، فإذا أعطيناه يمين الطاعة وانضممنا إلى جنده وقت الحاجة قهر بنا كل أعدائه، وطاعتنا له لا يدوم أمرها؛ فإن الممالك أسرع زوالًا في بلاد المشرق من الظل الزائل، فغدًا يموت فنستقل نحن ونوسع نطاق ولاياتنا، ويأتينا المدد من أوروبا فنستولي على البلاد كلها ونستأثر بالملك فيها.»
فقال الرئيس: «هذا هو الصواب، ولكن يجب أن نكون على حذر؛ لأن فيليب ملك فرنسا من أحكم الملوك.»
قال المركيز: «ولهذا السبب أراه ينتهز الفرصة للرجوع إلى بلاده من هذا الجهاد الذي اقتيد إليه عن غير إرادته، لا سيما وأنه يغار من ملك الإنكليز ويود أن يعود إلى بلاده فينتقم منه هنالك.»
فقال الرئيس: «وما قولك في دوق النمسا؟»
قال: «إنه أشد غيرةً من ملك فرنسا. أما ملك فرنسا فحكيم مدبر، وأما هذا فجاهل غرير. وجملة القول: إننا نود خروجهم من هذه البلاد وهم أيضًا ميالون إلى ذلك كما ظهر لي من مجلسهم الأخير.»
فقال الرئيس: «إن ذلك كان ظاهرًا كالشمس في رائعة النهار، ولكن قل لي لماذا اجتهدت أن ترسل الرسالة إلى صلاح الدين مع ذلك الفارس الاسكتلندي؟»
قال: «لغرضين؛ الأول أنه يسهل عليه مقابلة صلاح الدين لأنه من جنود ريكارد، والثاني أنه لا يخشى من دخوله على ريكارد بعد رجوعه وإخباره بشيء مما جرى لأن ريكارد يكرهه.»
فقال الرئيس: «ولكن قد حبطَتْ مساعيك؛ لأن الفارس عاد ومعه هذا الطبيب الذي لا بد من أن يشفي ريكارد سريعًا، وإذا شفي فلا بد من أن يقود الجيش على القدس.»
قال المركيز: «اصبر تَرَ العجائب، فإنني عازم أن أوسع الخرق بين ريكارد وبين ملك فرنسا ودوق النمسا في الحال، حتى إذا شُفِيَ ريكارد لا يرى له أسلم من الرجوع بمن بقي من جنوده إلى بلاده.» ولما قال ذلك أخذه الرئيس بيده، وقال له بصوت خفي: «إن ريكارد لن يقوم من هذا المرض.»
فنفر المركيز منه وقال له: «من تعني؟ أتعني ريكارد قلب الأسد وبطل النصرانية؟!» قال ذلك، وقد امتقع وجهه واصطكَّت ركبتاه، فنظر إليه الرئيس وقال له: «أأنت مركيز منسرَّات؟! أأنت مشير الملوك ومدبر الممالك؟! ما عهدتك ترتاع من أمر كهذا.»
فقال المركيز: «أتريد أن تجعلنا مثلًا في الدنيا وعارًا ولعنةً في كل أوروبا؟»
فقال الرئيس: «إن كان هذا هو رأيك فلنقف عند هذا الحد ونتعاهد على عدم الإباحة بشيء مما دار بيننا، ولْنَنْسَهُ كأنه لم يكن.»
فقال المركيز: «لا يمكننا أن ننساه.»
فقال الرئيس: «صدقت، فإن الإحلام بالتيجان والممالك لا تنسى.»
فقال المركيز: «إذا كان الأمر كذلك فلنسعَ أولًا في إلقاء الشقاق بين النمسا وإنكلترا.» ثم افترقا فذهب الرئيس في طريقه ولبث المركيز في مكانه يعجب من إقدام الرئيس على ما لا يجسر هو أن يقدم عليه من أن الرئيس يسعى لخير غيره وهو يسعى لخير نفسه.
ولم يكن المركيز من الذين يحبون إيلام غيرهم وإيقاع الضرر بهم، ولم يكن فيه من عيب سوى أنه طماع، وفيما هو يتأمل فيما دار بينه وبين رئيس الهيكليين من الحديث ويقول في نفسه: «الأرجح أن الرئيس مصيب في رأيه ولا بد من التخلص من هذه الجيوش.» سمع الحراس ينادي بعضهم بعضًا قائلين: «تذكروا الكتاب الطاهر.» وهذا كان نداؤهم الذي ينادون به بعضهم بعضًا في الليل. وكان قد سمع هذا النداء مرارًا كثيرة، ولكنه لم يفقه معناه إلا الآن، فشعر كأنه صوت من السماء جاء لتنبيهه وردِّه إلى سواء السبيل، فنظر حواليه كما نظر إبراهيم الخليل كأنه ينتظر كبشًا للمحرقة بدل ملك الإنكليز الذي كان الرئيس عازمًا أن يضحيهُ على مذبح مطامعه، فوقع نظره على العَلَم الإنكليزي، وكان مرفوعًا على رابية صناعية في وسط المحلة، فخطر له خاطر سريع أراح أفكاره وهدأ روعه، فمضى إلى خيمته ونام تلك الليلة وهو يقول: «غدًا أمضي إلى دوق النمسا فأرى ماذا نصنع لنوال مأربنا قبل أن نعمل برأي رئيس الهيكليين.»