الفصل الثاني عشر
فيما كان السر وليم واقفًا بجانب العلم الإنكليزي، والبدر في كبد السماء كدرهم ملقى على ديباجة زرقاء، وأفكاره تتيه في فيافي الأماني قال في نفسه: «قد وجدت نعمة في عيني الملك ريكارد حتى استأمنني على عَلَمه وفوض إلي حراسته، فقد زال البعد الذي بيني وبين الأميرة جوليا، فإن عشت عشت ملحوظًا من الملك ومن بنت عمه، وإن مت وأنا في هذا الموقف الخطر طالب الملك بثأري وبَكَتْني الأميرة جوليا، ولم تخش لومة لائم وهذا غاية مناي.»
ومرت الساعات عليه وهو يهدس في مثل ذلك ولا رفيق له ولا أنيس إلا كلبه الكبير الذي سبق الكلام عليه، وكأنه كان عارفًا بغرض سيده من الإقامة هناك، فكان كلما سمع أصوات الحراس بين هزيع وهزيع يجيبهم بالنباح كأنه يقول إنه مستيقظ هو وصاحبه، ونحو نصف الليل نهض وجعل ينبح نباحًا شديدًا ويحاول الهجوم على جهة من الأكمة ثم يتأخر كأنه ينتظر أمر مولاه، فنادى السر وليم بأعلى صوته وقال: «من هذا؟» فسمع واحدًا يقول له: «اربط كلبك وإلا امتنعت عن المجيء إليك.» فقال: «ومن تكون حتى تأتي إلي الآن؟» ثم أحدق بنظره فرأى شبحًا يدب على جانب الأكمة ويقول: «اربط كلبك وإلا رميته بسهم يخطف أنفاسه.»
فقال السر وليم: «اترك السهم وتعال إلى نور القمر وإلا طعنتك طعنة تقضي عليك.» قال ذلك وأشرع رمحه، فتقدم الشبح إلى نور القمر وإذا به القزم الذي رآه في كنيسة عين جدي فعرفه، وتذكر تلك الليلة وما رآه فيها، فأشار إلى كلبه أن يصمت فصمت، وربض بجانب العلم وهو يهر. أما القزم فصعد على الأكمة وهو يلهث من شدة التعب ودنا من السر وليم وقال له: «أنسيتَ الأمير نكتبانس؟! فعلامَ لا تدنو لتحيتي؟»
فقال السر وليم: «كلا، ولكنني في موقف يمنعني من الترحب بك.» فقال القزم: «إننا نسامحك بشرط أن تأتي معنا حالًا إلى الذين ينتظرونك.»
فقال السر وليم: «هذا لا أستطيعه؛ إذ لا بد من الإقامة ههنا حتى الصباح.» قال ذلك وجعل يمشي بجانب العلم. فاعترضه القزم وقال له: «اتبعني وإلا أمرتك أن تتبعني باسم التي لو أمرتْ الكواكب لخرت من السماء لها سجدًا.» فانشغل بال السر وليم وقال في نفسه: «لا يمكن أن تكون الأميرة جوليا هي التي بعثت هذا الأحمق إلي!» ثم التفت إليه وقال له: «أظنك تعني تلك الظبية الهيفاء التي رأيتها معك في الكنيسة.» فقال له القزم: «أتظن أيها المتطاول أن زوجتنا وشريكتنا في الملك؛ الملكة كوانفرا تتنازل لكي تدعوك إلى حضرتها؟! معاذ الله، ولكن انظر هذه العلامة فإن كنت تعرفها فأنت في الخيار بين أن تطيع أمر صاحبتها أو تعصاه.» قال ذلك وأعطاه خاتم الياقوت الذي رآه في يده الأميرة جوليا، فبهت من رؤيته ووقف صامتًا برهة من الزمان، ثم التفت إلى القزم وقال له: «أقسم عليك بأعظم الأقسام أن تخبرني ممن أخذت هذا الخاتم، ولماذا أتيت به إلى هنا، واحذر كيف تتكلم؛ لأن المقام ليس مقام هزل ومجون.»
فقال القزم: «لا يهمك أن تعرف أكثر من أن أميرة تأمرك لتأتي إليها فليس لنا إلا أن نأمرك باسم صاحبة هذا الخاتم أن تأتي معنا إليها، وكل تأخر منك يعد عليك ذنبًا.»
فقال السر وليم: «اصدقني الخبر أيها العزيز، هل تعلم الأميرة بالمركز الذي أنا فيه، والأمر المناط بي؟ وهل تعلم أن حياتي، بل شرفي متعلقان بحراستي هذا العلم حتى الصباح؟ فهل تعلم ذلك وتدعوني لأمضي إليها؟ فلا بد من أنها أرادت أن تمزح معنا، ولا سيما لأنها اختارتك رسولًا لها.»
فقال القزم: «ابق على ظنك.» ودار ظهره وهمَّ بالانصراف وهو يقول: «سيان عندي أخلصت الحب لهذه الأميرة أم لم تخلصه.» فقال السر وليم: «اصبر قليلًا وأجبني على هذا السؤال فقط، وهو هل الأميرة صاحبة هذا الخاتم قريبة منا؟»
فقال القزم: «ما الفرق بين كونها قريبة أو بعيدة؟ وهل الأمانة والإخلاص يتوقفان على المسافة؟ ولكنني أقول لك إن صاحبة الخاتم على رمية سهم منا.»
فنظر السر وليم في الخاتم طويلًا ثم قال للقزم: «هل يطلب مني أن أبقى عندها وقتًا طويلًا؟» فقال القزم: «ما هو الوقت؟! فإني لا أراه ولا ألمسه ولا أسمعه، فما هو إلا وهم، أوَلا تعلم أن وقت الفارس الأمين هو الواجبات التي يعملها لأجل إلهه وحبيبته؟»
فقال السر وليم: «أصبت وأحسنت، فهل تدعوني الأميرة لعمل شيء من الواجبات؟ أوَلا يمكن تأخير ذلك إلى الصباح؟»
فقال القزم: «كلا، بل لا بد من مجيئك إليها حالًا وسريعًا، وهذه هي عبارتها: «قل له إن اليد التي ترمي الورد تقدر أن تلبس الإكليل».»
فاحتار السر وليم في أمره واضطرب وزاد اضطرابه بقول القزم له: «اذهب معي حالًا أو أعطني الخاتم.» فقال له: «اصبر علي دقيقة.» ثم قال: «الظاهر أني مستعبد للملك ريكارد أكثر مما يجب علي؛ لأنني أتيت إلى هذه البلاد وقد عاهدت نفسي على أن أحارب في سبيل الله ولأجل التي أحبها.» فقال له القزم: «الخاتمَ الخاتمَ، رد علي الخاتم الذي لا تستحق أن تلمسه بيدك ولا أن تراه بعينك.»
فقال له الفارس: «اصبر هنيهة ولا تعترض مجرى أفكاري.» ثم قال: «لو هجم العدو الآن على المكان المعد لنزولي أكنت أبقى بجانب هذا العلم لكي لا يمس شرف إنكلترا أم أهجم على العدو وأجاهد في سبيل الله؟! الجهاد في سبيل الله مقدم على كل شيء، وبعده الجهاد من أجل التي وقفت لها نفسي، ولكن أين وعدي للملك؟! بالله عليك يا نكتبانس هل المكان بعيد؟» فقال: «رمية سهم في تلك الخيمة التي عليها كرة ذهبية تلمع في ضوء القمر.»
فقال الفارس: «أوَيمكنني أن أعود من هناك في لحظة، وأن أسمع نباح الكلب من هناك؟! فلماذا لا أمضي وأطلب من مالكة فؤادي أن تسمح لي بالرجوع حالًا؟» قال ذلك وطرح رداءه بجانب الراية وأشار إلى كلبه أن يبقى هناك. فربض الكلب بجانب الرداء وصر أذنيه كأنه فهم مراد سيده، ثم قال الفارس للقزم: «هلم يا صاح، ودعنا نسرع ما أمكننا.»
فقال القزم: «أنت لم تسرع إلى إجابة طلبي فلا أسرع أنا إلى إجابة طلبك، ولا أقدر أن أجاريك لو أردتُ؛ لأنك لا تمشي كما يمشي البشر بل تزف كما يزف النعام.» قال ذلك وجعل يتأخر في مشيه عمدًا، فلم ير السر وليم واسطة إلا أن يحمله ويعدو به، فحمله بين يديه كما يحمل الباشق العصفور وأسرع في عدوه حتى بلغ الخيمة المشار إليها، وهي خيمة الملكة، فوجد أمامها نفرًا من الحرس، فخاف أن يوقظهم بمشيه أو بحركة سلاحه، فوضع القزم من يده، وقال له: «خذنا في طريق آخر حتى لا ينتبه إلينا الحراس.» فجعل القزم يدور بين الخيام والسر وليم يتبعه حتى بلغ الخيمة، فرفع سجفها ودخل من تحته وقال له: «اتبعني.» فتردد السر وليم أولًا عن الدخول وراءه على تلك الصورة، ثم رأى أن لا سبيل لدخول الخيمة إلا إذا دخل من حيث دخل القزم، فأحنى رأسه ودخل من تحت السجف دبًّا على يديه، فقال له القزم: «انتظرني هنا.» واختفى من أمام عينيه.