الفصل الثالث عشر
وقف السر وليم بضع دقائق في الخيمة ولم يكن فيها نور، فندم على ما فعل ولات ساعة مندم؛ لأنه تعدى وصية الملك وخالف واجباته العسكرية، فأراد أن يتربص ليعلم نهاية الأمر، ثم خطر له أن الأميرة جوليا ساكنة مع الملكة، فإذا عُرف أنه دخل خيمة الملكة لم ينج من العقاب، فعزم أن يرجع على عقبه، وفيما كانت هذه الأفكار تتردد في باله سمع أصوات نساء يضحكن ويتكلمن في الخيمة المحاذية للخيمة التي كان فيها، وما بينه وبينهن إلا ستار، وكان في خيمتهن شموع موقدة فكان يرى أشباحهن خيالات وسمع واحدة منهن تقول: «ناديها ناديها، أحسنت يانكتبانس مثلك من يؤتمن في الحاجات.» ثم قالت أخرى: «ولكن كيف نتخلص من هذا الرجل الذي أتانا به نكتبانس؟» فقالت ثالثة: «اسمعي يا مولاتي الملكة، إذا لم تكن غيرة نكتبانس شديدة على زوجته الأميرة كوانفرا، فهي تمضي وتصرف هذا الفارس وتعلمه قدر نفسه.» فقالت لها: «أحسنت أحسنت، فإن زوجها أتى به فعليها أن تصرفه.»
فلما سمع السر وليم هذا الكلام كاد يتميز غيظًا وهم بالانصراف، وإذا بالتي تكلمت أولًا تقول: «لا لا، نادوا ابنة عمنا جوليا أولًا لكي تنظر هذا الفارس بعينها فترى تقصيره في إتمام واجباته، فإنها قد اهتمت بأمره أكثر مما تقتضيه الحكمة.» ثم سمع واحدة تتكلم عن حكمة الأميرة جوليا، ولكنه لم يسمع كلامها جيدًا، بل سمع الجواب الذي أجيبت به وهو: «ما هذه حكمة؟! هذه كبرياء، فلا أريد أن أضيع هذه الفرصة، أنتن تعلمن أنه إذا هفت واحدة منا هفوة صغيرة لا تنجو من ملامها، ها هي.»
وحينئذٍ دخل الخيمة فتاة طويلة القامة وامتزجت مع اللائي فيها، فشعر السر وليم براحة في نفسه رغمًا عن الاضطراب الذي أصابه وعن الخطر المحدق به من دخوله خيام الملكة في جنح الليل وسماعه حديثها؛ لأن التي كانت تتكلم وتلح بحضور الأميرة جوليا هي الملكة. فقال في نفسه: «الحمد لله، فإن الأميرة جوليا لا دخل لها بإغرائي إلى الدخول في هذا المكان، فهي بريئة من ذنبي.» وكان يجب عليه أن ينصرف حالًا ويعود إلى حراسة الراية، ولكن النفس أمارة بالسوء؛ فلبث في مكانه يسمع ما يدور بينهن من الحديث عساه أن يسمع صوت حبيبته، وقال في نفسه: «إذا كانت الملكة استباحت حياتي وشرفي بإغرائي بالمجيء إلى هذا المكان، فلا يحق لها أن تلومني إذا وقفت فيه قليلًا لأتمتع بسمع من بخل علي الزمان بسمعها قَبْلًا.» وظهر له كأن الأميرة جوليا كانت منتظرة أمر الملكة، والملكة تريد أن تتكلم ويمنعها الضحك من الكلام، وبعد قليل قالت الأميرة جوليا: «يظهر لي أيتها الملكة أنكن في مجلس أنس وطرب، أما أنا فقد حان وقت نومي، ولما بلغني أمرك كنت قد خلعت ثيابي لأنام.»
فقالت الملكة: «لا أؤخرك طويلًا عن النوم يا بنت العم، ولكنني أخاف أن أخبرك بفقد الرهن فتقلقي الليل كله.»
فقالت الأميرة: «ألم ننس هذه القصة؟ أنا لم أراهن ولكن جلالتك ارتأيت هذا الرأي.»
فقالت الملكة: «يا للعجب! أتنكرين أنك راهنت بخاتمك على إسواري أن ذلك الفارس صاحب النمر لا يمكن أن يغرى بترك حراسة العلم؟»
فقالت الأميرة: «أنت أعظم من أن أخالفك، ولكن أظن أن هؤلاء السيدات يشهدن أن جلالتك ارتأيت وضع هذا الرهن وأخذت الخاتم من أصبعي غصبًا عني.»
فقالت إحدى الحاضرات: «أتنكرين أيتها الأميرة أنك مدحت شجاعة هذا الفارس وبينت ثقتك فيه؟»
فقالت الأميرة: «وإن كنت مدحت شجاعته، فهل تتخذن ذلك سببًا للاشتراك مع جلالتها ومدح ما فعلَتْه؟ أما أنا فلم أمدح هذا الفارس إلا كما مدحه كل الذين شاهدوا أفعاله في ميدان القتال. وعن أي شيء يتكلم النساء وهن في دار الحرب إلا عن الجنود وأفعالهم؟!»
فقالت إحدى الحاضرات: «إن الأميرة جوليا لم تزل غاضبة علينا من حين أخبرنا جلالتكِ أنها رمت له وردتين في الكنيسة.»
فقالت الأميرة للملكة: «إذا كنت جلالتك أتيت بي لتسمعي ما يقوله جواريك، وليس لك شيء آخر تأمرينني به فاسمحي لي بالانصراف.»
فقالت الملكة: «اصمتي يا فلوريسا، ولا تنسي أنك تتكلمين عن ابنة عم الملك. وأنت يا بنت العم العزيزة، أيصح في شرعك أن تحرمينا من ساعة أنس، وقد مضى علينا أيام كثيرة في البكاء والنوح؟»
فقالت الأميرة: «لتكن كل أيامك أيام أنس يا مولاتي، أما أنا فالأجدر بي أن لا أضحك كل حياتي ما إن …» قالت ذلك وأمسكت عن الكلام لشدة انفعالها.
فقالت الملكة: «سامحيني يا حبيبتي، ولكن ما هو ذنبنا العظيم؟! شابٌّ أغري باسم فتاة جميلة، لأن نكتبانس لم يقدر أن يغريه إلا باسمك.» فلما سمعت الأميرة جوليا هذا الكلام صرخت قائلة: «يا إلهي! ماذا تقولين أيتها الملكة؟! أتتكلمين بالجد أم أنت تمزحين؟ أعرضت شرفك وشرف نسيبتك ابنة عم زوجك للعار والازدراء؟! أنت تمزحين ولا بد.»
فقالت الملكة: «يظهر أن الأميرة جوليا غاضبة علينا لأنَّا ربحنا الخاتم، فسنرده لك يا عزيزة، ولكن لا تعنفينا لأننا فزنا هذه المرة بالغلبة على حكمتك.»
فقالت الأميرة: «الغلبة ليست لك أيتها الملكة، بل للعدو الذي يسمع أن ملكة إنكلترا جعلت اسم نسيبتها موضوعًا للضحك والمزح.»
فقالت الملكة: «أنت مغتاظة يا عزيزتي لأننا ربحنا خاتمك البديع، فنحن نتنازل عن حقنا، ولا نخفي عليك أن خاتمك واسمك أغريا هذا الفارس حتى أتى إلى هنا، ونحن قد مسكنا السمكة فلا حاجة لنا بالطعم.»
فقالت الأميرة: «أنت تعلمين يا مولاتي أنك مهما طلبت مني فهو لك، وأنا أفضِّل أن أخسر كل ما عندي من الجواهر على أن يُستعمل اسمي أو خاتمي لإغراء هذا الفارس وتعريضه للإهانة والعقاب.»
فقالت الملكة: «قولي لي إنك تخافين عليه من الإهانة والعقاب، والظاهر أنك لا تحسبين لي حسابًا ولا تظنين أنني أقدر أن أسترضي الملك وأستمد له العفو منه. لا أيتها الأميرة، فغيرك له سلطة على قلوب الأبطال مثلك، وقلب الأسد ليس حجرًا بل لحم ودم مثل قلوبنا، ولي عليه شيء من السلطان حتى أقدر أن أسترضيه وأجعله يعفو عن هذا الفارس إذا كنت تهتمين بأمره بهذا المقدار.»
فانطرحت الأميرة جوليا على قدميها وقالت لها: «أحلفك بحق كل الأوليات والقديسين أن تحترسي مما تفعلين، فإنك لا تعرفين الملك ريكارد إلا من عهد قريب، أما أنا فأعلم يقينًا أن تسكين البحر عن هياجه أسهل عليك من تسكين غضبه إذا غضب، بالله عليك اصرفي هذا الفارس إن كنت قد أغريته ليأتي إلى هنا، وأنا أرضى بالعار الذي لحقني من استخدام اسمي لإغرائه إذا كنتُ أعلم أنه رجع إلى مكانه.»
فقالت لها الملكة: «انهضي يا بنت العم وثقي بكلامي أنه لا يحدث شيء مما تخافين، انهضي يا حبيبتي جوليا وأنا آسفة جدًّا لأنني أغريت فارسًا يهمك أمره، انهضي ولا تفركي يديك قد سَلَّمْتُ أنك لا تهتمين بأمره، بل أنا مستعدة أن أسلم بكل شيء ولا أراك حزينة، وأؤكد لك أنني أتوسط أمره عند الملك وألقي اللوم كله عليَّ، وها إني أرسل الآن نكتبانس ليصرفه وأعتذر إليه في وقت آخر عما جرى، وأظنه الآن منتظرًا أمرنا في إحدى الخيام القريبة.»
فقال القزم: «كلا يا مولاتي، بل هو في خيمتك وبيننا وبينه هذا الستار.» فاضطربت الملكة وقالت: «أهو قريب منا وسامع كل ما دار بيننا من الحديث؟! يا للعار!» ولما قالت ذلك صرخ القزم وهرب من الخيمة والظاهر أنها ضربته حتى هرب صارخًا، ثم قالت: «والآن ما العمل؟»
فأجابتها الأميرة جوليا: «يجب أن نراه ونستميح منه.» قالت ذلك وجعلت تفك عرى الستار، فنادتها الملكة وقالت لها: «بالله عليك أن تنتبهي إلى لبسنا ومجلسنا والساعة التي نحن فيها …» ولكن قبل أن تتم كلامها سقط الستار الذي بينهن وبين السر وليم، فهربت الملكة وجواريها إلى خيمة أخرى، وأما الأميرة جوليا فأخذت مصباحًا بيدها ودنت من السر وليم، وكانت لابسة ثوبًا رقيقًا ورديَّ اللون ومتوشحة بوشاح يغطي كتفيها وصدرها، وشعرها الذهبي مسدول عليه وقصائبه محيطة بوجه اجتمع فيه الورد والياسمين. وكانت تعلم هول الموقف الذي وقفت فيه، ولكنها لم تدع خجلها وحياءها يمنعانها عن الكلام مع من خاطر بحياته وشرفه لأجلها، فوضعتْ المصباح من يدها وضمت أطراف الوشاح حتى غطى صدرها، وقالت: «عد أيها الفارس إلى مكانك فإنك قد أغريت إلى هذا المكان إغراءً.»
فركع أمامها على ركبتيه كأنه راكع أمام ملاك هبط عليه من السماء، فقالت: «ما يوقفك هنا وقد سمعتَ كل ما دار بيننا، وكل دقيقة تقفها مجبولة بالعار والهوان؟»
فقال لها: «قد حل بي العار والهوان كما تقولين، ولكنني سألقي نفسي على سيوف العدو لعل الدماء تزيل العار والهوان.»
فقالت له: «لا تفعل ذلك ولا تخاطر بنفسك، بل كن حكيمًا وأسرع من هنا فقد تصطلح الأمور، ولكن اذهب سريعًا.»
فقال لها: «ولكنني أطلب منك أولًا أن تسامحيني على اغتراري بنفسي الذي حملني على التصديق بأنك تطلبين خدمة مني.»
فقالت: «إني أسامحك، ولكن على أي شيء أسامحك وأنا كنت السبب في مضرتك؟ اذهب سريعًا وأنا أسامحك وأعرف قدرك كما أعرف قدر كل فارس شجاع. اذهب ولا تتأخر.»
فقدم لها الخاتم الذي أعطاه إياه القزم وقال لها: «خذي أولًا هذا الرهن الذي جلبني إلى هذا المكان.»
فقالت له: «كلا لا آخذه، أبقه معك علامةً لاعتباري لك، بل لأسفي عليك، ولكن اذهب سريعًا، وإن لم يكن من أجل نفسك فمن أجلي.»
فلما قالت ذلك ورأى اهتمامها بحياته وسلامته قال في نفسه: «هذا يساوي كل ما خسرته من الشرف والكرامة.» فنهض وهم بالانصراف ولكنه التفت إليها قبل أن ينصرف ليتزود منها بنظرة، وكانت تغالب الحياء الخاص ببنات نوعها حتى غلبها الحياء فدخلتْ من حيث خرجت، وأطفأت المصباح، فقال في نفسه: «يجب أن أطيع أمرها.» فخرج من حيث دخل وهو لا يعي على شيء، وكان عليه أن يدور في الطريق الذي جاء فيه؛ لكي لا يمر على الحراس، وأن يسير متمهلًا لكي لا ينتبه إليه أحد ولا يعثر بالأطناب والأوتاد. وفيما هو في هذه الحال سمع صوتًا أرجعه إلى عقله ونبَّه كل قواه؛ وهو نباح كلبه، فإنه سمعه نبح أولًا نباحًا شديدًا، ثم سمعه يعوي عواء الألم، فنفر نفور الظليم وأخذ ينتهب الأرض انتهابًا رغمًا عن ثقل أسلحته وعلو الأكمة، وما زال يعدو حتى صار على قنتها، وكان القمر محتجبًا بالغيوم، فلما بلغ قنة الأكمة ظهر بنوره الساطع، وأراه ما طير صوابه؛ أراه العلم مفقودًا ورمحه مكسورًا والكلب في حالة النزع.