الفصل الخامس عشر
لما أناط الملك ريكارد حراسة علمه بالسر وليم عاد إلى خيامه طيب النفس قرير العين بما أظهره من البسالة والإقدام أمام رؤساء النصارى وقواد جنودهم، ولا سيما لأنه قهر واحدًا منهم فقهر بقهره كثيرين من أعدائه. ولو حدث ما حدث لملك آخر غير الملك ريكارد لضاعف حرسه وأبقى فريقًا من جنوده تحت السلاح، ولكن ريكارد صرف حرسه العادي وفرق الخمر على جنوده ليشربوا فرحًا بسلامته وسلامة العلم الإنكليزي. ولولا البارون ده فو وأرل سلسبري لسكروا كلهم وعبثوا بكل نظام وترتيب.
وأقام الحكيم مع الملك ريكارد إلى ما بعد نصف الليل بثلاث ساعات، وجرَّعه الدواء مرتين ثم خرج قاصدًا خيمته ومر في طريقه على خيمة السر وليم يفتقد خادمه، وسأل عنه فأُخبر أنه يحرس العلم على الأكمة، فأتى إليه ووجده في حالة اليأس والقنوط، وجرى بينهما الحديث الذي مر ذكره في الفصل الماضي.
وقبل شروق الشمس بساعة من الزمان دخل السر وليم خيمة الملك ريكارد بدون أن يستأذن عليه، فنهض البارون ده فو واعترضه قائلًا: «ما هذه الجسارة؟» فناداه الملك ريكارد وقال له: «إليك عنه يا ده فو، فقد أقبل علينا ليخبرنا بما كان من حراسته.» ثم اتكأ على يده ونظر إلى السر وليم وقال له: «قد حرستَ العلم نعم الحراسة، وعَلَم إنكلترا يحرس نفسه، فكيف وقد سُلمتْ حراسته لفارس مجرب كما يقول الناس فيك؟!»
فقال السر وليم: «قد أخطأ قول الناس في؛ لأن العلم قد أخذ!»
فقال الملك: «أَأُخذَ وأنت حيٌّ ترزق؟! هذا ضرب من المحال، فإني لا أرى فيك جرحًا ولا خمشًا! فلماذا لا تتكلم؟ قل الحق، فلا يليق بأحد أن يمزح مع الملوك، ولكنني أسامحك ولو كذبت.»
فقال السر وليم: «أتنسبني إلى الكذب أيها الملك؟! ولكن صبرًا على مجامر الكرام.» فأقسم الملك بالله ثم راجع نفسه، وقال: «اذهب يا ده فو فإن هذه الحمَّى قد ضعضعت أفكاري، اذهب وائتني بجليَّة الخبر، اذهب وإن كنت لا تذهب فأرسل أحدًا يأتينا بالخبر …» وقبل أن يتم كلامه دخل أحد القواد واسمه السر هنري نفيل، وقال: «إن العلم مفقود والفارس الذي كان يحرسه قد قتل؛ لأن رمح العلم مكسر وبجانبه بركة من الدم.» ثم التفت فرأى السر وليم واقفًا أمام الملك، فقال: «ولكن من هذا الذي أراه هنا؟» فنهض الملك على قدميه وقبض على فأسه الشهيرة، وكانت بجانب سريره وقال: «هذا خائن وستراه يموت موت الخائنين.» وهم بضرب السر وليم على رأسه، ولكن السر وليم وقف أمامه حاسر الرأس كأنه صنم من الأصنام، لم يفه بكلمة ولم يبد حركة. فنظر الملك إليه والفأس فوق رأسه ثم خفض الفأس كأنه راجع فكره وقال: «أتقول يا نفيل إن هناك بركة دم؟! اسمع أيها السر الاسكتسي، أنا قد رأيتك تحارب حرب الأبطال، فقل لي هل قتلت اثنين من اللصوص الذين سرقوا العلم؟ هل قتلت واحدًا منهم؟ هل ضربت ضربة واحدة من أجلنا؟ قل واخرج من هنا بحياتك، يكفيك ما غشيك من العار.»
فأجابه السر وليم: «قد دعوتني يا مولاي كاذبًا فلم تنصفي فليكن معلومًا عندك أنه لم يهرق في حراسة علمك إلا دم كلب حرس العلم، حينما تغاضى سيده عن حراسته.» ولما قال ذلك رفع الملك فأسه وهم بضرب هامته، فدخل البارون ده فو بينهما وقال للملك: «لا يليق يا مولاي أن تقتله بيدك ولا في خيمتك، فحسبنا من الخطأ أنك سلمت حراسة علمك لواحد من الاسكتلنديين، أوَلم أقل لك مرارًا إنهم لا عهد عندهم ولا ذمام؟»
فأجابه الملك: «أصبت، وطالما قلتَ لي ذلك، وكان يجب أن لا أنسى كيف خدعني ملكهم في هذه الحرب.» فقال السر وليم: «إن ملكنا لم يخدعك ولكن الأحوال قضت بما قضت.» فقال له الملك: «اخرس ولا تذكر اسم الملوك بفمك.» ثم التفت إلى ده فو وقال له: «ولكن في الأمر عجبًا، فإن هذا الخائن وقف أمامنا وفأسنا فوق رأسه كأنه وقف لنقلده رتبة الفروسية! فلو بدت منه علامة من علامات الخوف لطيرت دماغه تطييرًا، ولكنني لا أستطيع أن أضرب حيث لا خوف ولا مقاومة.»
فقال السر وليم: «يا مولاي.» فقال الملك: «أعادت إليك قوة النطق؟ اطلب الرحمة من الله، ولكن لا تطلبها مني؛ لأن شرف إنكلترا قد أهين بسببك، ولو كنت أخي الوحيد ما أمكنني أن أعفو عنك.»
فقال السر وليم: «إنني أطلب الرحمة من الخالق لا من المخلوق، ولكنني أطلب منك أن تسمح لي بأحد خدمة الدين لإتمام فريضتي الدينية الأخيرة، فإن سمحت لي بذلك فكرم منك، وإلا فالله غفار الذنوب. وسواء مت الآن أو بعد ساعة فلي كلام إن تأذن لي أقوله لك فهو عندك ذو بال.» فقال له الملك: «قل ما بدا لك.» وكان يأمل أنه سيخبره شيئًا عن العلم. فقال: «إن كلامي يتعلق بملك إنكلترا فلا يحسن أن يسمعه أحد غيره.» فالتفت الملك إلى نفيل وده فو وقال لهما: «اخرجا قليلًا لنسمع ما يقول.» فخرج نفيل، وأما ده فو فقال: «أنا لا أخرج ولا أتركك مع هذا الاسكتسي الخائن.» فصرخ الملك قائلًا: «أتخاف علينا يا ده فو من رجل واحد؟!» فقال ده فو: «لا تصرخ ولا تغتظ يا مولاي؛ فإني لا أترك رجلًا مريضًا عاريًا مع رجل قوي مدجج بالسلاح.» فالتفت إليه السر وليم وقال: «لا بأس ببقائك هنا أيها البارون؛ فإنك رجل صادق أمين.» فقال له ده فو: «كان يمكنني أن أقول ذلك فيك قبل الآن بهنيهة من الزمان.» فلم يلتفت إليه السر وليم، بل التفت إلى الملك وقال له: «إن الملأ يأتمرون عليك أيها الملك وفي نيتهم أن …»
ثم تلعثم لسانه فبلع ريقه وقال بصوت منخفض: «إن الأميرة جوليا …» فصرخ الملك قائلًا: «ما علاقة الأميرة جوليا بما نحن فيه؟!» فقال الفارس: «إن حلفاءك عازمون أن يشتروا هذا الصلح بخرق ناموس ملوك إنكلترا وتزويج الأميرة جوليا للسلطان صلاح الدين.»
وكان الملك ريكارد من الناس الذين ينظرون إلى من قال لا إلى ما قيل؛ فلا يعبد الله إذا أمره بذلك الشيطان، ولا يعد النصيحة نصيحة إذا سمعها من شخص لا ينظر منه النصح، فلما سمع اسم نسيبته من فم هذا الفارس وكان قد عرف طموح نفسه إليها وهو في مقدمة الفرسان، واستكبر ذلك منه ووجد عليه؛ حسب أن ذكره لها الآن ذنب لا يغتفر، وكان يتميز غيظًا فقال له: «اخرس أيها اللعين، فوالله لأنزعن لسانك من فمك على ذكر هذا الاسم. واعلم أيها الخائن أنني رأيت طموح أبصارك ولم أعاملك على حسب ما تستحقه وقاحتك؛ لأنك خدعتنا يا معدن الخداع بأنك من قوم لهم حسب ونسب. والآن تجسر أن تتلفظ باسم ابنة عمنا بهاتين الشفتين المدنستين بذكر خيانتك! فماذا يعنيك إذا تزوجت بواحد من النصارى أو من المسلمين؟! ماذا يعنيك إذا صاهرت الأمانة والبسالة في شخص صلاح الدين وأنا بين قوم ملوكهم أرانب في النهار وثعالب في الليل وفرسانهم اتخذوا الخيانة مذهبًا؟!»
فقال السر وليم: «لا يعنيني شيئًا وقد دنا الأجل المحتوم، ولكن لو كنت الآن راكعًا على النطع ما تأخرت عن إطلاعك على هذا الأمر الذي يمس شرفك وشرف الأميرة جوليا.»
فرفع الملك الفأس بيديه وصرخ قائلًا: «لا تذكر اسمها بفمك.» فقال السر وليم: «أتمنعني من ذكر اسمها؟! لا وحق من بيده نفسي، لأذكرن اسمها حتى آخر نسمة من حياتي، هاك رأسي فجرب به قوتك وانظر إن كنت تقدر أن تمنعني من ذكر اسمها.» وقبل أن يتم كلامه دنا البارون ده فو من الملك وقال: «قد حضرت الملكة وتريد المثول بين يديك.» فقال الملك لنفيل: «قل لها أن تنتظر قليلًا.» ثم قال: «امض بهذا الخائن يا ده فو واخرج به من الباب الخلفي وكبله بالحديد تكبيلًا، وأنت المطالب به فلا بد من قتله حالًا، ولكن جئه بأحد القسوس قبل قتله؛ لأننا لا نريد أن نقتل جسده ونفسه، ولا تُعرِّهِ من علامات الشرف بل اقتله كما يقتل الفرسان؛ لأنه مهما كان ذنبه فجرأته هذه تشفع به.»
ففرح ده فو لأن الملك لم يتنازل إلى قتله بيده فمضى به سريعًا، وأمر بعض الشرطة فنزعوا سلاحه وكبلوه بالحديد ثم قال له: «قد سمح الملك أن يُقطع رأسك قطعًا بالسيف بدون تعذيبك.» فقال الفارس: «أشكر فضله فإن هذا يخفف المصيبة على والديَّ.» ثم قال: «يا أبي. يا أبي.» فحزن البارون من هذا الكلام رغمًا عن قساوة طبعه وقال له: «قد سمح الملك أيضًا أن ترى أحد القسوس قبل موتك، وأنا قد رأيت هنا أحد الرهبان الكرمليين وهو في انتظارك.» فقال: «علي به حالًا؛ لأنني قد ودعت الحياة الدنيا وأنا الآن في انتظار الأخرى.» فقال البارون: «قد أمر الملك أيضًا أن تستعد للموت حالًا.» فقال الفارس: «ليكن ما أمر، أما أنا فلا أسترحم أحدًا من البشر ولا أطلب تأخير الحكم.»
وحينئذ هم البارون بالخروج، ولما بلغ باب الخيمة التفت إلى السر وليم فرآه شاخصًا نحو السماء، ولم يكن هذا البارون من الذين تؤثر فيهم المناظر المحزنة، ولكنه تأثر من رؤيته فعاد إليه وقبض على يده والقيد فيها وقال له: «إنك لم تزل في عنفوان الشباب، ولم يزل أبوك حيًّا، وأنا تركت ابني في بلادي وكنت أمْسِ أود أن يشب فارسًا مثلك. أفلا يمكن أن أفعل شيئًا من أجلك؟» فقال الفارس: «كلا، لأنني أهملت واجباتي ولا أنتظر الآن إلا السياف.» فقال البارون: «ليتني حرست العلم بنفسي، ولكن ما هذا السر الخفي؟! فما أنت بجبان؛ لأنني لم أر أحدًا يحمل حملاتك في حومة القتال. وما أنت بخائن؛ لأن الخائن لا يقابل الموت بهذه السكينة! فلا بد من أنك أغريت إغراء بصوت فتاة مستغيثة أو حبيبة عشيقة.
وكلنا سرنا في هذه الطريق قبلك، فأخبرني بجلية الأمر ولا تقنط من العفو؛ لأن الملك سريع الغضب قريب الرضى، أفلا تخبرني شيئًا؟» فأدار الفارس وجهه عنه وقال: «كلا.» فقام ده فو وخرج وكأنه اغتاظ من نفسه لما بدا منه دلائل الشفقة.