الفصل السادس عشر
لم يكن بين نساء العصر أجمل من برنغاريا ابنة ملك نافار وزوجة الملك ريكارد قلب الأسد، فكانت ممشوقة القد مهضومة الكشح، بيضاء الوجه حمراء الوجنتين كما قيل:
ولما اقترن بها قلب الأسد كان لها من العمر إحدى وعشرون سنة، ولكن الذي يراها يظنها في الخامسة عشرة لكثرة غنجها ودلالها وولعها بالزهو والزينة، وكانت تحب زوجها حبًّا شديدًا وتعجب ببسالته، ولكنها تخاف بطشه وتهاب صولته. وكان هو كلفًا بها ومعجبًا بجمالها، ولكنه كان يفضل الحديث مع الأميرة جوليا على الحديث معها؛ لأن الأميرة جوليا كانت أعقل منها وأحكم. وما كان ذلك ليضرم نار الغيرة في قلبها لأنها كانت حميدة الأخلاق نبيلة الطباع، وأما جواريها فكن ينتهزن الفرص ليجدن سبيلًا ينتقدن به أعمال الأميرة جوليا أخذًا بثأر سيدتهن. ومع كل حرصهن لم يقدرن أن يعبنها في شيء إلا في عدم اهتمامها الزائد بحللها وحلاها، وكن قد لاحظن ميل الفارس الاسكتسي إليها ولم يغضضن عن ذلك طرفًا بل كن يذكرنه في معارض الهزل.
ولما ذهبت الملكة وجواريها لزيارة دير الراهبات الكرمليات في عين جدي بإيعاز رئيس أساقفة صور، ذهبت الأميرة جوليا معها ونزلتا معًا لزيارة الكنيسة الصغيرة التي رآهن فيها السر وليم على ما تقدم. وكانت هذه الكنيسة متصلة بدير الكرمليات من جهة وبغار الناسك من أخرى. واتفق أن الملكة وجواريها نزلن إلى هذه الكنيسة لما كان السر وليم فيها وهن لا يعلمن شيئًا من أمره ولا هو من أمرهن، فرأته الأميرة جوليا وعرفته ورمت له الوردتين، ورأت ذلك إحدى الجواري وأخبرت به مولاتها، فبعثت إليه بالقزمين المتقدم ذكرهما لتخويفه، وكانت ملكة القدس قد أهدتهما لها. فسمع الناسك صوتهما وانتهرهما على ما تقدم. ثم عادت الملكة من زيارتها وبلغها ما حدث في المحلة، وأن السر وليم هو الموكل بحراسة العلم، فبعثت إليه بهذا القزم نكتبانس وأعطته خاتم الأميرة جوليا لإغرائه ولم يكن غرضها سوى الضحك والمزاح، فكان من الأمر ما كان.
ولما خرج السر وليم من الخيمة على ما تقدم عادت الملكة إلى ما كانت عليه من الهزل، فرجعت الأميرة جوليا إلى خيمتها وبها من الاضطراب وصغر النفس ما لا يوصف، فلم تصدق أن طلع الفجر حتى أرسلت إحدى جواريها لترى ما جرى بالعلم، فعادت وأخبرتها أنها لم تر علمًا ولا فارسًا. فهرعت إلى خيمة الملكة وجعلت تتضرع إليها لتبادر إلى خيمة زوجها وتبذل جهدها في منع نتيجة هزلها. فخافت الملكة من ذلك وجعلت تلوم جواريها على جاري عادتها، وحاولت أن تسكن روع الأميرة جوليا، وكانت تقول لها: «أظن أن الفارس نائم الآن بعد سهر الليل، أو أنه خاف من غضب الملك فهرب بالعلم، أو أن الملك غضب عليه وسجنه، وبعد قليل يسكن غضبه فأمضي إليه وأستعطفه.» وكانت الأميرة جوليا تبيِّن لها فساد هذه الأقوال وعاقبة التهامل. وفيما هي تلح عليها لتذهب دخلت إحدى الجواري وعلامات الخوف الشديد على وجهها، فلما رأتها الأميرة جوليا غابت عن الصواب وصرخت قائلة: «بالله عليك أيتها الملكة أسرعي حالًا، ونجي هذا الفارس من الموت إذا كان باقيًا في قيد الحياة.» فقالت الجارية: «إنه لم يزل حيًّا ولكن سيقضى عليه حالًا، وهذا هو أمر الملك.» قالت ذلك وخنقتها العبرات فجعلت تبكي وتتحسر.
فصرخت الملكة بالويل والحرب وجعلت تنذر النذور للقديسين والأولياء وقالت: «علي برئيس الأساقفة ليمضي ويتشفع به عند الملك.» وكانت الأميرة جوليا تتضرع إليها لتذهب بنفسها إلى الملك، ووافقها الجواري على ذلك. ولما لم تر لها من الذهاب مناصًا أمرتهن أن يلبسنها ثيابها، فألبسنها ثوبًا أخضر فلما رأت نفسها في المرآة انتهرتهن وقالت: «أتلبسنني هذا الثوب الذي يكرهه الملك؟! ألبسنني الثوب الأزرق وضعن عقد الياقوت في عنقي.» ففرغ صبر الأميرة جوليا فصرخت قائلة: «أتفكرين بهذه الأمور والفارس تحت سيف الجلاد؟! أنا أمضي إلى الملك بنفسي، أنا أمضي لأرى هل يجوز في شرعه أن يتخذ اسم نسيبته للهزء والازدراء ويجعل وسيلة لقتل هذا الفارس والتحافه بالعار والاحتقار، وجعل شرف إنكلترا أضحوكة عند الكبار والصغار؟!» قالت ذلك، وخرجت من الخيمة، فنادت الملكة: «أوقفنها أوقفنها.» فركض الجواري وراءها وأوقفنها. فقالت لها الملكة: «أنا أذهب وأفعل لك كل ما تريدين.» ثم سارت هي وجواريها والأميرة جوليا معها، وسار حولهن فرقة من الحرس الملكي وأسرعن السير على قدر طاقتهن.