الفصل العشرون
لما رأى ريكارد أنه نال بغيته وألف بين قلوب الصليبيين حتى وطدوا عزائمهم على مداومة القتال، عزم أن يصلح ما وقع في بيته من الخلل، ويستقصي أخبار علمه المفقود، فأرسل البارون ده فو ليحضر له السيدة كالستا، وهي الأولى بين نساء الملكة، فلما بلغ خيمة الملكة وأخبرها بأمر الملك اضطربت، وقالت للملكة: «ماذا أقول له يا مولاتي؟» فقال لها البارون: «لا تخافي أيتها السيدة؛ لأن الملك قد حجب دم الفارس ووهبه للحكيم، فلا يمكن أن يعامل السيدات بالقسوة.» وأما الملكة فقالت لها: «اخترعي له قصة من عند نفسك ولا تخبريه بشيء مما جرى.» فاعترضتها الأميرة جوليا وقالت: «قصي عليه القصة كما جرت تمامًا وإلا قصصتها أنا عليه.» فقال البارون: «العفو منك أيتها الملكة، أنا أرى أن الأميرة جوليا مصيبة فيما قالت؛ فإن الملك وإن صدق كل ما تقولينه أنت له لا يصدق كل ما يقوله غيرك.» فقالت السيدة كالستا: «قد أصاب البارون، فإني لو قدرت على تلفيق القصة، لما تجاسرت أن أقصها عليه.» ثم ذهبت مع البارون وأخبرت الملك بكل ما جرى، وألقت اللوم على الملكة. وكانت سؤرة الغضب قد زالت من رأس ريكارد كما تقدم، فقال لها: «اذهبي وقولي لمولاتك إنني سأزورها بعد قليل.» فعادت إلى الملكة وقالت لها: «إن الملك سيتظاهر بالغيظ في أول الأمر حتى يراك تخضعين بين يديه وتطلبين السماح، وحينئذ يسامحنا كلنا.» فقالت لها الملكة: «كم ظبيةٍ تنجو وصيادٍ يقع! فسيجد ريكارد غير ما ينتظر.» ثم لبست أفخر حللها وجلست تنتظره، فأتى وفي نيته أنه داخل على قوم مذنبين ليؤدبهم أو ليسمع استرحامهم، فإذا الملكة قد استقبلته باللوم والعتاب وقالت له إنها لم تأمر القزم ليأتي بالفارس إلى خيمتها، ولا حسبت أنه يحدث شيء مما حدث. ثم جعلت تعنفه لأنه بخل عليها بحياة إنسان واحد استحق العقاب بسببها، وكانت تبكي وتسكب العبرات وتقول له: «لو بقيت على عزمك وقتلت هذا الفارس لنغصت عيشي حياتي بطولها، وبقي خياله يترصدني في منامي وقيامي، فلا أفهم كيف تدعي بمحبتي ولا تعفو عن رجل واحد يورثني عقابه التعاسة والشقاء كل أيامي.» وكانت تتكلم وتبكي من كبد حرَّى، فاحتار الملك وحاول أن يقنعها بالأدلة فلم يجد منها إلا اللوم والتعنيف، فدارت الدائرة عليه واضطر أن يدافع عن نفسه ويطيب خاطرها بقوله إن الفارس لم يزل حيًّا وإنه وهبه للطبيب العربي فهو عنده بمأمن من المرض أيضًا، ولما قال لها ذلك زاد بكاؤها ونحيبها، وقالت له: «إنك أكرمت هذا الطبيب وهو من أعدائنا أكثر مما أكرمتني وأنا زوجتك!» فقال لها: «اسمعي يا برنغاريا، إن هذا الطبيب قد نجاني من الموت، فإن كان لحياتي قيمة عندكِ فلا تستعظمي عليه هذه الهبة التي لم يقبل سواها.» ولما قال ذلك وجدت أنها بلغت غايتها وأن الزيادة تفريط، فقالت: «أحسنت يا حبيبي.» فاصطلحا وألقيا اللوم كله على القزم فنفياه من بلاطهما، وأجمع رأيهما على إهدائه هو وزوجته إلى السلطان صلاح الدين مع الهدية التي كان ريكارد عازمًا على إرسالها له لنواله الشفاء عن يد طبيبه.
وبقي على ريكارد أن يقابل الأميرة جوليا في ذلك اليوم، فاستعد لتعنيفها الشديد، ولكنه لم يَخَفْهُ كما خاف تعنيف زوجته، فدخل خيمتها وكانت بجانب خيمة الملكة، وجلس بجانبها ثم قال: «إن ابنة عمنا جوليا غاضبة علينا ولا عجب، فنحن لا ننكر أننا انقدنا كرهًا عنا إلى اتهامها بأمر مخالف لما نعهده فيها، ولكننا ما دمنا في هذه الدنيا فنحن عرضة للخطأ، أفلا تسامحين نسيبك ريكارد على ما فرط منه في حدة غيظه؟» فقالت: «من لا يسامح ريكارد إذا كان الملك يسامحه؟!» فقال لها: «طيبي نفسًا وقري عينًا، وانزعي هذا البرقع الأسود، فقد بلغك أنه لا داعي لحزنك، فعلامَ تلبسين ثوب الحداد؟» قالت: «إني حزينة على شرف بلنتجنت الذي زال، وعلى المجد الذي زايل بيت أبي.» فعبس وجعل يردد هذه الكلمات، وهي: «الشرف الذي زال، المجد الذي زايل بيت أبي.» ثم قال: «أخبريني يابْنة العم بمَ أخطأتُ؟» فقالت: «إن ابن بلنتجنت إما أن يعاقب أو يسامح ولا يليق به أن يستعبد رجلًا مسيحيًّا حرًّا وفارسًا شجاعًا باسلًا، ويهبه لأعدائه عبدًا، فلو قتلته لكان قتله قساوة، ولكن عليه صورة العدل، أما استعباده على هذه الصورة فهو الظلم بعينه.»
فقال: «إذا كنت من اللواتي يعددن الحبيب المفارق كالميت، فإننا نرسل في طلبه فيحضر في أقل من لمحة عين، فنستقصي البحث لعلنا نجد سببًا يوجب موته لا نفيه.» فاحمر وجه الأميرة جوليا وقالت له: «إليك عن هذا المزاح المذموم، واعلم أنك حرمت معسكر الصليب فارسًا من فرسانه ومنحته لأعدائنا، وفتحت لأهل الظنون والأغراض بابًا ليقولوا: «إن ريكارد قلب الأسد قد نفى هذا الفارس من معسكره خوفًا من أن يقاسمه الشهرة!»» فصرخ ريكارد قائلًا: «ألي تقولين هذا القول؟! أأنا أغار من أحد؟! ليته كان هنا الآن حتى أطرح تاجي وصولجاني وألاقيه في ميدان النزال، وأريك أن ريكارد بلنتجنت لا يخاف مخلوقًا ولا يغار من إنسان، هذا ليس رأيك فيَّ فلا يكن غيظك أو حزنك أو فقد حبيبك سببًا لسوء ظنك في نسيبك.» فقالت له: «أتسميه حبيبي؟! نعم، إنه كان يحبني وقد ضحى حياته ليثبت حبه لي، وأنا على ضعفي كنت له نورًا يرشده في سبيل البسالة والمجد، على أن كل من يقول إني نسيت منزلتي أو أنه تعدى حدود منزلته فقوله باطل، ولو كان الملك نفسه.» فقال لها: «لا تنسبي إلي يا عزيزتي أقوالًا لم أقلها، فإني لم أقل إنك أكرمت هذا الفارس أكثر مما يستحقه هو أو غيره منك أو من أية أميرة كانت، ولكني أعلم كيف يبتدئ الحب، ولكن لا فائدة من الكلام مع فتاة تظن نفسها أحكم من كل الناس.» ثم استأذن منها وخرج.
بسم الله الرحمن الرحيم
من صلاح الدين ملك الملوك إلى ريكارد ملك الإنكتار، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فقد علمنا من كتابك أنك فضلت الحرب على السلم والعداوة على الصداقة، فسينصرنا الله ونبيه عليك ونريك بفساد رأيك. وفيما بقي فأنت مكرَّم عندنا معزز، وهداياك وقعت منا موقعًا حسنًا، ولا سيما القزمان اللذان بعثتهما إلينا، وقد بعثنا إليك الآن عبدًا نوبيًّا صادق الخدمة حسن الرأي يستطيع أن يعبِّر عما في ذهنه بالإشارة؛ لأن الله سبحانه قد أعدمه النطق، فاقبله منا واستعن به على أمرك، ونحن نسأله تعالى أن يهديك إلى السراط المستقيم أو يجمعنا بك في ميدان القتال.
فقرأ الملك ريكارد الرسالة، ثم التفت إلى العبد وتأمله فأعجبه منظره جدًّا، فقال له: «أوثني أنت؟» فرفع العبد رأسه ورسم رسم الصليب على وجهه، فقال الملك: «إذن أنت مسيحي، فهل تعرف أن تجلو السلاح؟» فأشار العبد بالإيجاب، وقام إلى سلاح الملك وأنزله عن عمود الخيمة وأشار إلى كيفية جلائه. فقال له الملك: «أحسنت، وستبقى في خيمتي إكرامًا لمن أرسلك لي.» فسجد العبد ثانية وعفر ثم نهض ووقف بعيدًا عن الملك، فقال له الملك: «اشرع من الآن في جلاء هذا الترس واصقله حتى يصير كالمرآة.» فأنزل الترس وجلس يجلوه، وحينئذ دخل السر هنري نفيل وقال: «أتت التحارير من إنكلترا يا مولاي.» فأخذ الملك رزمة التحارير وفتحها وقال: «أواه! هل يعلمون المخاطر المحيقة بملكهم؟!» ثم قال لنفيل: «اخرج الآن لأني أحب أن أقرأ هذه وحدي.» فخرج وجعل الملك يقرأ عن اختلاف أخويه يوحنا وجوفري، وشبوب الحروب الأهلية في البلاد، وكان يقابل الأخبار بعضها ببعض ليرى ما بينها من المطابقة والمخالفة وهو بقرب باب الخيمة، وقد أمر برفع السجف عنه ليتمتع بالنسيم، وكان العبد جالسًا وراءه يجلو السلاح ويصقله، وقد جلا ترسًا كبيرًا كان الملك يحمله عند الهجوم على الحصون، وليس عليه رنك ولا رسوم فلا يمتاز به الملك عن غيره من آحاد الجند، وأتقن العبد جلاءه حتى صار صقيلًا كالمرآة.
وفيما كان الملك يقرأ المكاتيب ويتأمل فيها وأفكاره مضطربة بالحوادث التي حدثت في مملكته، دخل المخيم أحد المشعوذين بثياب أخلاق فرآه الجنود ولم يستغربوا أمره؛ لأن كثيرين من اليهود والأقباط والأتراك والمغنين والمشعوذين كانوا يدخلون المعسكر كل يوم، فاجتمع حوله نفر من الحرس وطلبوا منه أن يرقص وتهددوه بالضرب إن لم يجب طلبهم، فجعل يطفِر على الأرض ويرقص وهو يتنقل من جهة إلى أخرى حتى دنا من خيمة الملك وصار على نحو أربعين خطوة منها، وحينئذ طفر طفرات شديدة ووقع على الأرض مغمى عليه، فاجتمع الجنود حوله وقال أحدهم: «اسقوه ماء وإلا مات.» فقال الآخر: «هاتوا النبيذ لنسقيه.» فقال الأول: «أنا أراهنك أنه لا يشرب النبيذ ولو مات.» فقال آخر: «هاتوا القرن فإننا نسقيه كما نسقي الخيل.» وفتحوا فمه برأس الخنجر وأدخلوا طرف القرن فيه وسقوه كوبة كبيرة دفعة واحدة، فشربها ثم تنهد طويلًا، وقال: «الله كريم.» فقهقهوا قهقهة نبهت الملك، فالتفت إليهم وانتهرهم فخافوا وجعلوا يختفون من وجهه، ولكنه عاد إلى قراءة المكاتيب فعادوا إلى المشعوذ وحاولوا إنهاضه عن الأرض فلم ينهض، فحاولوا جره فكان يمانعهم ويئن ويغط، ثم التفت الملك إليهم ثانية فتركوا المشعوذ واختفوا فبقي المشعوذ في مكانه.