الفصل الحادي والعشرون
تقدم أن الملك ريكارد كان جالسًا في خيمته عند بابها، يقرأ المكاتيب التي وردت عليه من بلاده، والعبد النوبي جالسًا وراءه يجلو الترس الكبير، والمشعوذ نائمًا أو متناومًا أمام باب الخيمة، والحرس والجند لاهين بألعابهم التي كانوا يلعبون بها صامتين؛ لئلا يسمعهم الملك، فرأى العبد في الترس الذي صار صقيلًا كالمرآة صورة المشعوذ يرفع رأسه ويتلصص، ثم يزحف نحو خيمة الملك زحفًا بطيئًا لا يُنتبه إليه، ثم يسكن ويرفع رأسه ويتلصص ويزحف قليلًا، فرابه ذلك وقال في نفسه: «لا بد من غرض قبيح لهذا الرجل!» فاستعد له.
ولما صار المشعوذ على نحو عشر خطوات من باب الخيمة نهض على رجليه ووثب على الملك، كأنه الأسد الضاري، وأخرج خنجرًا من كمه وهمَّ بطعنه، فرآه العبد حينما وثب فوثب أيضًا وقبض على يده التي فيها الخنجر، فحول المشعوذ يده وطعن العبد به في ذراعه، فقبض العبد عليه وجلد به الأرض، فالتفت الملك ورأى ما حدث فنهض قائمًا ورفع الكرسي الذي كان جالسًا عليه، وضرب به رأس المشعوذ ففقصه فقصًا، ثم نادى بالحراس فركضوا حالًا إلى الخيمة، فقال لهم: «أهذا شأن حراس الملك؟» فجعلوا يتعوذون بالله، فقال لهم: «اخرسوا وسدوا أفواهكم، ألم تروا قتيلًا قبل الآن؟! أخرجوا هذه الجثة من هنا واقطعوا رأسها وارفعوه على رمح، وأما أنت يا صديقي الأسود … ما هذا؟! أجرحت بهذا الخنجر المسموم؟ فلا بد أن يكون هذا الخنجر مسمومًا وإلا ما هجم به هذا الكلب على الأسد.» ثم التفت إلى من حوله وقال: «مصوا له السم من الجرح؛ فإن السم لا يفعل بالفم.» فنظر الحراس بعضهم إلى بعض مندهشين فقال الملك: «ما لكم؟ أتخافون من الموت؟!» فقال له أحدهم: «إني لا أخاف من الموت، ولكنني لا أريد أن أموت مسمومًا من أجل عبد أسود يباع في السوق كما يباع رأس البقر.» وقال آخران: «جلالته يأمرنا بمص السم كأنه أكلة طيبة!» فقال الملك: «إني لا أطلب من أحد أن يفعل ما لا أفعله أنا.» قال ذلك وقبض على ذراع العبد غصبًا عنه وعن ممانعة الحاضرين، وجعل يمص الدم بفمه، ولكنه لم يشرع بمصه حتى تملص العبد منه ولف يده بطرف وشاحه وأشار برأسه ويديه وعينيه إشارات كثيرة تدل على الممانعة، وتقدم أحد الحراس أيضًا وقال إنه مستعد أن يمص كل نقطة من دم العبد، بل أن يأكله أكلًا ولا يدع الملك يمص نقطة أخرى من دمه.
وحينئذ دخل السر هنري نفيل وشدد اللوم على الملك، فانتهره الملك وقال له: «إن الجرح طفيف وما هو إلا خمش صغير فلا خطر منه.» وكأنه خجل من تنازله إلى هذا الحد، فقال لنفيل: «أنا لم أفعل ذلك إلا لأقنع هؤلاء الجهال الجبناء أن مص السم من الجراح لا يضر، وأنه إذا أصيب أحدهم بسهم مسموم فعليهم أن يمصوا السم بفمهم من جرحه فيشفى. والآن خذ هذا العبد وأبقه عندك واحرص عليه، فقد تغير فكري في شأنه، واعتن به ولا تضيِّق عليه، بل أطلق له الحرية في خيامك، ولكن لا تدعه يخرج منها. وأنتم أيها الحراس النهماء ارجعوا إلى أماكنكم ولا تحسبوا أنفسكم في بلادكم حيث لا يؤخذ أحد بالغدر، بل تمشي العداوة في نور النهار كما تمشي الصداقة. اذهبوا وافتحوا عيونكم وآذانكم وإلا قطعت جرايتكم وأَمَتُّكم جوعًا.» فخرج الحراس وجعل نفيل يلوم الملك لأنه لم يعاقبهم على تغاضيهم، فانتهره الملك وقال له: «أتريد أن أهتم بأمر جرى ضد شخصي أكثر مما اهتممت بأمر جرى ضد علم إنكلترا وشرفها؟! فقد سرق علم إنكلترا وأهين شرفها وحتى الآن لم نفعل شيئًا، وهؤلاء العرب يقولون:
ثم التفت إلى العبد وقال له: «إن السلطان يقول إنك خبير بكشف الغوامض والأسرار، فإن كنت تكشف السارق أعطيك ثقلك ذهبًا، فما قولك؟»
إلى ريكارد ملك إنكلترا الذي لا يقهر
الخفايا ضمن صناديق مقفلة، ولكن الحكمة تجد مفاتيحها، فلو وقف هذا العبد ومر أمامه جميع جنود الصليبيين بالترتيب وكان السارق معهم لعرفه ولو كان متبرقعًا بسبعة براقع!
فلما قرأ الملك الكتابة قال لنفيل: «قد أسأتَ الظن في هذا الرجل، والآن أنت تعلم أن جميع الصليبيين سيمرون غدًا ويحيون العلم الجديد، ولا بد من أن يكون السارق معهم، وإلا فغيابه عنهم كاف لإشهاره، فإذا عرفه هذا العبد من بينهم فالله ينصف بيني وبينه.»
فقال نفيل: «انتبه يا مولاي إلى ما تفعل، فقد اجتمعت كلمتنا مرة أخرى على غير انتظارنا، فهل تفتح بإشارة من هذا العبد الأسود جراحًا لم تندمل حتى الآن؟ أوَتستخدم اجتماع أحلافنا ومرورهم أمام علمنا لكي يعوضوا عما لحق بنا من الإهانة واسطة لتفريق كلمتنا وإحياء أسباب الخلاف القديمة؟ وأنا لم أجسر على هذا القول إلا لأن محاولة إيجاد السارق تخالف العهد الذي تعهدت به أمام مجمع الأمراء.» فاعترضه الملك وقال له: «أخطأتَ يا نفيل، فإنني لم أعد أحدًا بالكف عن السعي في إيجاد من أهان شرفي. والأولى بي أن أتخلى عن مملكتي، بل عن حياتي، من أن أعد هذا الوعد، وكل ما قلته يعود إلى هذا القول، وهو إذا كان دوق النمسا يقوم ويعترف بأنه سرق العلم أو له دخل في سرقته، فأنا أسامحه من أجل هذا الجهاد.» فقال نفيل: «وما أدرانا أن هذا العبد لا يخدعنا؟» فقال الملك: «أنت تظن نفسك أحكم الحكماء، والحال أنك من أجهل الجهال! خذ هذا العبد كما قلت لك واحترس عليه فإنه فوق ما تظن.» ثم التفت إلى العبد وقال له: «كن مستعدًّا لتتميم ما وعدتَ به وتمنَّ علينا بعد ذلك ما شئت.» فأخذ العبد ورقة وكتب فيها: «ليس للعبد أن يتمنى إذا فعل ما أمره به مولاه؛ إذ لا ثواب على الواجب.» فأخذ الملك الورقة وقرأها ووقف على قوله: «لا ثواب.» وقال: «هذا من اصطلاحات الفرسان الخصوصية، فحقًّا إن هؤلاء المشارقة أمهر الناس في تعلم اللغات!»