الفصل الرابع والعشرون
قد علم القارئ مما تقدم من هو هذا العبد الأسود، وما غرضه من الوقوف بجانب قلب الأسد على الأكمة التي سرق عنها العلم الإنكليزي. فإن الملك ريكارد نصب خدرًا لزوجته وابنة عمه وجواريهما على الأكمة، ووقف هو وأمراء مملكته في عرضها وبجانبه أخوه وليم أرل سلسبري الملقب بالسيف الطويل، وهو رافع العلم الجديد وأمامهم الجيوش الصليبية تتموج في عرض ذلك البر كأنها البحر العجاج، وفي صدر كل جيش رئيسه والأعلام والبنود تخفق فوق رأسه وهم يسيرون الهوينا أمام تلك الأكمة، وكلما دنا منها رئيس من الرؤساء يتقدم نحو الملك ريكارد ويحييه ويحيي العلم الإنكليزي الجديد ثم يسير مع جيشه ولسان الحال يقول:
وكان الغرض من عرض الجيوش على هذه الصورة إرضاء الملك ريكارد، والتعويض عن الإهانة التي لحقت بشرف إنكلترا، وهذا ارتآه الأمراء من تلقاء أنفسهم ورضي به الملك ريكارد، فلم تكن ترى إلا خيولًا صاهلة ورماحًا بارقة، وأعلامًا خافقة وفرسانًا غائصين في الزرد والحديد.
فيناديهم لسان الحال ويقول:
فيجيبه لسان حالهم قائلًا:
قلب الأسد المفدى، ذلك هو قائدنا وإمامنا إذا التطم القنا بالقنا، وفيما سوى ذلك فلكل فريق ملك أو أمير له يخضع وبأمره يصدع.
وكان الملك ريكارد راكبًا على جواد مطهم وعلى رأسه تاج مرصع بالدر والجوهر وهو يرد التحية للقواد على حسب رتبهم، ويلتفت إلى العلم الخافق فوق رأسه كأنه يقول: «إن هذه التحية لك وأنا أردها عنك.» وكلما مر قائد من القواد الذين يظن فيهم السوء يلتفت إلى العبد والكلب. ولما مر ملك فرنسا ووقف مقابل الأكمة وهمَّ بصعودها لاقاه ريكارد فالتقيا في منتصف الطريق التي بينهما وتصافحها، فضجت العساكر كلها بأصوات الفرح والحبور، ثم مر فرسان الهيكليين وتحتهم الخيول العربية تخطر كالعرائس، وفي مقدمتهم رئيسهم العظيم، فنظر إلى الملك ريكارد ورفع يده وباركه؛ لأنه من رؤساء الدين، ثم مر دوق النمسا فالتفت الملك إلى العبد، وقال له: «كن على حذر ودع الكلب يراه جيدًا.» فلم يبد الكلب حراكًا، ثم تقدم مركيز منسرَّات، وكان قد قسم جنوده إلى ثلاث فرق وركب في فرقة منها وعليه حلل مزخرفة بالذهب والفضة ومرصعة بالحجارة الكريمة، وبجانبه رجل شيخ محلوق اللحية والشاربين، لا أثر للعظمة عليه مع أن مقامه رفيع جدًّا، فقد كان مرسلًا من قبل البنادقة لمراقبة أحوال المركيز، فلما دنا المركيز من الملك ريكارد مشى الملك نحوه خطوتين أو ثلاثًا ليلاقيه وقال له: «أرى خيالك يتبعك حيثما ذهبت.» فتبسم وفتح فاه ليجاوب الملك، ولكن قبل أن ينطق بكلمة هجم الكلب عليه كالأسد الضاري وأمسك بخناقه ورماه على الأرض. فالتفت الملك إلى العبد وقال: «قد أصاب كلبك المحزَّ، فأبعدْه عن هذا الخائن لئلا يقتله.» فبذل العبد كل قوته حتى أبعد الكلب عنه، فأسرع كثيرون من قادة الجيش إلى المركيز ورفعوه عن التراب وهم يقولون: «قطِّعوا العبد والكلب تقطيعًا.» فنادى الملك ريكارد بأعلى صوته وقال: «كل من يلمس العبد أو الكلب يموت موتًا. وأنت يا مركيز منسرَّات رجل خائن فاستعد للمحاكمة.» فقال المركيز: «ما هذا الصنيع؟ وما هذا الاحتقار؟ أهذه هي العهود التي عاهدتنا بها بالأمس؟!» ثم تقدم رئيس الهيكليين وقال: «هل صار ملوك الصليبيين أرانب حتى يصطادهم ملك الإنكليز بالكلاب؟» وتقدم ملك فرنسا وقال: «لا بد من خطأ فيما حدث.» فقال رئيس أساقفة صور: «أرى أن هذه مكيدة من العدو، فيجب أن نقتل الكلب ونعذِّب العبد.» فقال ريكارد: «كل من يمسهما موتًا يموت. وأنت يا مركيز، قِفْ وأنكر إن استطعت ما يدعي عليك به هذا الحيوان الأبكم، وهو أنك أهنت شرف إنكلترا وحاولت قتل هذا الحيوان.» فقال المركيز: «إني لم ألمس عَلَم إنكلترا بيدي.» فقال الملك: «وما أدراك أني أردت علَم إنكلترا؟! ولكن أنت تعرف جريمتك وهي التي قادتك إلى القول بما قلت.» وكان الشغب قد اشتد، فنادى ملك فرنسا وقال: «أيها الأمراء والأشراف، احقنوا دماء عباد الله واصرفوا جنودكم إلى أماكنها، ونحن نجتمع في نادينا ونتذاكر في هذا الأمر.» فقال ريكارد: «كنت أحب أن نستنطق هذا الخائن وهو معفر بالتراب، ولكن ليكن كما قلت أيها الملك.» وحينئذ ضربت الأبواق واجتمع كل فريق حول قائده وانصرفوا إلى أماكنهم، وهم نادمون على ما اعتقدوه في ريكارد من الشهامة ومضمرون له السوء.
وانعقد نادي الأمراء ودخل المركيز بعد أن غير أثوابه التي كانت عليه، ودخل معه دوق النمسا ورئيس الاسبتارية وغيرهم من الرؤساء كأنهم منتصرون له، ثم دخل ريكارد وهو بالثياب التي كان راكبًا بها ونظر إلى الرؤساء المحيطين بالمركيز نظر الازدراء وادعى عليه بأنه سرق علم إنكلترا، وجرح الكلب الذي كان يحميه. فقام المركيز وأنكر هذه التهمة، وكان ملك فرنسا جالسًا في مجلس القضاء، فقال مخاطبًا ملك إنكلترا: «أيها الأخ، إن هذه الدعوى غريبة لم يُسمع بمثلها، وأنت قد بنيت حكمك على الظن وعلى هجوم الكلب على المركيز، فلا يليق بنا أن نكذب قول أمير ونصدق هذا الحيوان الأعجم!» فأجابه الملك ريكارد قائلًا: «لا يغرب عن فطنتك أيها الأخ أن الله القدير قد منح الكلب طبيعة لا تعرف الخداع، فهو يذكر العدو والصديق والسيئة والإحسان، ويماثل الإنسان في الفطنة ولا يماثله في الخداع. فقد يمكنك أن ترشي الإنسان حتى يقتل سيده والقاضي حتى يعوِّج قضاءه، ولكن لا يمكنك أن ترشي الكلب حتى يسيء إلى من أحسن إليه. أَلْبس هذا المركيز ما شئت من الحلل، وادهن وجهه بما شئت من الأدهان، وأخفِهِ بين مئات من الناس، وأنا أراهنك على تاجي وصولجاني أن الكلب يعرفه من بينهم ويعامله كما عامله على الأكمة، وهذه الحادثة ليست نادرة على غرابتها، فقد اتُّخذت شهادة الكلب دليلًا كافيًا على إثبات التهمة على القتلة واللصوص، وحدث شيء من ذلك في بلادك أيها الملك، وتبارز الناس مع الكلب، وإني أؤكد لك أن الجماد نفسه قد يكون كافيًا لكشف الجرائم وإثباتها.»
فلما رأى ملك فرنسا أن الأمر تم على هذه الصورة قال: «إذن أنا أحكم أن تفصل هذه الدعوة بالمبارزة بين هذا المركيز والفارس الذي يعينه الملك ريكارد، وأعين اليوم الخامس من هذا اليوم لهذه المبارزة، ولكن لا أعلم أين نعين مكان ميدان المبارزة؛ لأنني لا أريد أن يكون بقرب المعسكر خوفًا من أمر يحدث.» فقال ريكارد: «أنا أرى أن نطلب من السلطان صلاح الدين أن يعين لنا مكانًا عنده، ولا أظنه إلا مجيبًا طلبنا.» فقال الملك فيليب: «ليكن كما قلت، وسنرسل ونخبر صلاح الدين بذلك، ولو لم يحسن بنا أن نطلع أعداءنا على ما بيننا من الاختلاف. والآن أفض هذا المحفل وأطلب منكم جميعًا أن لا تَقلقوا لهذا الأمر، ولا تُقلقوا به أفكار جنودكم، بل تطلبوا من الله تعالى أن يقضي بين المتخاصمين بما يشاء.» فصرخ الجميع: «آمين.» وحينئذ أسرَّ رئيس الهيكليين إلى المركيز قائلًا: «أمستعد أنت للمبارزة؟» فقال: «نعم، ولا أخاف أحدًا إلا ريكارد وحده.» فقال الرئيس: «إن هذا الكلب قد نفعنا في تفريق كلمة هؤلاء الناس أكثر من كل دسائسك ومن خنجر الخارجي، فإني أرى فيليب مسرورًا والدوق يكاد يطير فرحًا وهو يدنو منا.» ولما اقترب منهما قال له الرئيس: «قد ثغرنا أسوار أورشليم.» فضحك وقال: «نعم، وعما قليل يعود كل منا إلى بلاده إن شاء الله، ولكن ليبق ذلك سرًّا بيننا. وأنت أيها المركيز كان الأجدر بك أن تنازل ريكارد؛ لأنك أمهر منه بالرمح، وأنا لم أتأخر عن منازلته إلا لأن مصلحة الجهاد تمنع من منازلة أميرين مالكين.»