الفصل الخامس والعشرون
وبعد يومين اجتمع الملك فيليب بالملك ريكارد وأثنى على همته وإقدامه، ثم أخبره أنه عازم على الرجوع إلى بلاده، وأراه لائحة من دوق النمسا وغيره من الأمراء يعلنون فيها عزمهم على ترك الجهاد، وينسبون ذلك إلى ما رأوه في الملك ريكارد من الاستبداد والحدة، فحزن ريكارد حزنًا شديدًا ولم يتمالك عن البكاء، ولكن سبق السيف العذل. ولما عاد إلى خيامه وجد أن السلطان صلاح الدين قد بعث إليه رسولًا يخبره أنه عين مكان المبارزة في غور الأردن بقرب درة القفر، وأنه ينتظر قدوم ريكارد وخصمه إلى هناك، وجرى الاتفاق على أن يركب الملك ريكارد وأخوه أرل سلسبري الملقب بالسيف الطويل ومعهم مائة فارس، ويركب المركيز ودوق النمسا ورئيس الهيكليين ومعهم مائة فارس إلى غور الأردن، ويسير كل فريق في طريق ويلاقيهم الملك صلاح الدين بخمسمائة فارس فيتبارز المركيز والفارس الذي يعينه الملك ريكارد.
فركب الملك ريكارد بفرسانه وأخذ معه زوجته وابنة عمه الأميرة جوليا، وجدوا المسير إلى أن صاروا على مقربة من درة القفر، وقبل أن ينكشف لهم المكان رأوا فارسًا على أكمة من الآكام يترصد قدومهم، فلما رآهم أطلق العنان لجواده فعدا به كالبرق، وكان البارون ده فو راكبًا بجانب الملك فقال له: «ألا تسمح لي يا مولاي أن أتقدم وأرى ما وراء هذه الآكام؟ لأن أمر هذا الفارس قد رابني وما أدرانا أن صلاح الدين لا يغدر بنا في هذا القفر.» فقال: «كلا، وتقدمك لا يدفع مكروهًا ولا يغني فتيلًا.» وبعد قليل أشرفوا على المكان المعد لنزولهم، فرأوا فيه خيامًا مضروبة وفرسانًا واقفين بجانب خيولهم، ثم رأوهم اجتمعوا وركبوا وأطلقوا الأعنة، فارتفع العِثْيَر حتى حجبهم عن الأبصار.
ولم يكن إلا القليل حتى رأوهم حولهم يلعبون برماحهم ألعابًا تحير العقول، ويرمونهم بالسهام، فوقع سهم على هودج الملكة فصرخت صرخة عظيمة، وسمع الملك صراخها ونادى برجاله: «كونوا على حذر.» وكان هودج الأميرة جوليا بالقرب منه، فقبضت على سهم من السهام وقالت له: «انظر أيها الملك إن سهامهم لا رءوس لها!» فأقسم وقال: «لقد غلبتِنا كلنا. فانظروا يا رجالي، إن السهام بلا رءوس والرماح بلا سنان فسيروا الهوينا لئلا يروا اضطرابنا فيضحكوا بنا.»
ولما اقتربوا من المحلة اجتمع هؤلاء الفرسان في صف واحد وساروا وراء فرسان الملك ريكارد، ثم خرج للقائهم كتيبة أخرى من الفرسان بالأسلحة المذهبة والخيول المطهمة، وكلهم في عنفوان الشباب، فلما التقوا بفرسان الملك ريكارد اصطفوا صفين، فاجتاز بينهم هو وفرسانه، وكان قد سار في مقدمتهم؛ لأنه علم أن السلطان قد خرج لاستقباله، ولم يكن إلا القليل حتى التقى هذان الملكان العظيمان، فترجلا وتصافحا، وكان السلطان لابسًا أثوابًا عاطلة من الزينة والزخرفة، وإنما كان في عمامته ريشة فيها الجوهرة الشهيرة المسماة بحر النور، وفي يده خاتم يساوي كل جواهر ريكارد وفي قبضة خنجره جوهرة نادرة المثال، ولما ترجلا ترجلت كل الفرسان ومشوا في خدمتهما.
وترحب السلطان بالملك ريكارد وعين خيامًا مخصوصة لنزول الملكة برنغاريا ورفيقاتها، وأرسل الخصيان لحراستهن، ثم التفت فرأى سيف الملك ريكارد طويلًا عريضًا، فقال له: «لو لم أر لمعان هذا السيف في ميدان القتال ما صدقت أنه يمكن لإنسان أن يرفعه بيديه، فهل لك أن تريني فعلك به؟» فقال: «حبًّا وكرامة.» ثم تناول لتًّا من الحديد من أحد الحضور ووضعه على خشبة فقال له البارون ده فو بالإنكليزية: «انتبه يا مولاي إلى ما أنت فاعل، فإنك لم تسترد عافيتك بعد المرض، فلا تحاول ضرب هذا اللت؛ لئلا تشمت العدو بنا.» فانتهره ريكارد، ثم استل سيفه وضرب اللت فبراه بري القلم. فتعوذ السلطان من هول تلك الضربة، ونظر إلى يد الملك الضخمة وقابلها بيده النحيفة، فقال ده فو بالإنكليزية: «ألا تخجل أن تقابل يدك بيد الأسد؟!» فقال له الملك: «اخرس، فلعله يفهم ما تقول.» فقال السلطان: «إنني لا أستطيع أن أضرب بسيفك، ولكن أستطيع شيئًا آخر ربما تحب أن تراه.» وأمر فأتي بوسادة محشوة بريش النعام. فقال للملك: «أتقدر أن تقطع هذه الوسادة قطعتين بسيفك؟» فقال الملك: «كلا، وأي سيف يقطع ما لا مقاومة له؟!» فقال: «انظر.» ثم استل سيفه وضرب الوسادة فقطعها شطرين، فتقدم البارون ده فو وأمسك الشطرين بيده وقال: «هذا هو السحر بعينه!» وكأن السلطان فهم مقاله فأخذ منديلًا دقيق النسج جدًّا وبسطه على حد السيف، ثم رفع السيف وجره فقص المنديل قطعتين، فتعجب الملك من مهارته، وقال: «وجب علينا أن نخاف من مهارتكم كما تخافون من قوتنا.» ثم سأله عن الحكيم، وقال: «إني أحب أن أراه.» فأمر السلطان فأتوه بقلنسوة فوضعها على رأسه، فاندهش الملك لما رأى أن الحكيم الذي شفاه من مرضه هو السلطان صلاح الدين نفسه، ووقف البارون ده فو مبهوتًا وقد جحظت عيناه وانفتح فمه فقال الملك: «إن هذا لمن أعجب ما رأته عيني وسمعت به أذني.» فقال السلطان: «وهذا شأن الدنيا والمرء بأصغريه.» فقال الملك: «أأنت الذي نجى ذلك الفارس وصبغه بالصبغ الأسود، وأرسله لكشف العلم؟! جازاك الله عني خيرًا.» فقال السلطان: «نعم، والفارس مستعد ليمحو عار تهامله.» فقال الملك: «وهل أخبرته بنفسك؟ وهل علمت أن أنظاره طامحة إلى من أنت راغب فيها؟» فقال: «نعم، ولكن محبته هي السابقة وأظنها الثابتة، فلا يليق بي أن أنتقم منه على خيبة آمالي؛ إذ لا ناقة له في ذلك ولا جمل. وما من عاقل يلوم تلك الفتاة إذا أحبت بطلًا من قومها واستخارته عليَّ.» فشمخ الملك ريكارد بأنفه، وقال: «إن دمه لأحقر من أن يمتزج بدم بلنتجنت.» فقال السلطان: «هذا عندكم وأما نحن فنقول:
والآن علي أن أستقبل دوق النمسا ومن معه لا إكرامًا لهم، بل قيامًا بحقوق الضيافة.» قال ذلك وقام لمقابلة ضيوفه وإنزالهم في المكان المعد لهم، أما الملك ريكارد فجلس ينظم شروط المبارزة، وقضى عليها وقتًا طويلًا يشاور فيه دوق النمسا والسلطان صلاح الدين مرارًا، ولما تمت الشروط كتبت بالعربية والفرنسوية، وأمضاها السلطان صلاح الدين والملك ريكارد والدوق ليوبولد، والأول بمقام فيصل في هذه المبارزة، والأخيران بمقام حاميين للمتبارزين على ما اقتضته المبارزة حينئذ، ثم دخل البارون ده فو على الملك ريكارد وقال: «إن الفارس المستعد للمبارزة منتظر أمر مولاه.» فقال له الملك: «أرأيته وهل هو في العدة الكاملة؟» فقال البارون: «نعم، وعليه الدرع البندقية التي عُرضت على جلالتك للمبيع.» فقال الملك: «الظاهر أن هؤلاء البنادقة البخلاء باعوها لصلاح الدين.» فقال البارون: «يا حبذا لو كان مولاي يجتنب هذا الكلام، فإن الجميع قد صاروا أعداءنا بسببه، فإذا عادانا البنادقة أيضًا فمن يساعدنا على الرجوع بحرًا؟!» فقال الملك: «أصبت، ولكن لا تكثر اللوم والتعنيف. والآن أخبرني هل أتيت الفارس بمعرف؟» فقال: «نعم، أتيته بالناسك الكرملي الذي عرَّفه قبلًا لما كان مستعدًا للموت.» فقال الملك: «قل للفارس إنني لا أقابله إلا بعد أن يمحو وصمة ذنبه في ميدان النزال، واذهب إلى خيمة الملكة وقل لها أن تستعد لقدومي.» وبعد ساعة من الزمان ذهب الملك إلى خيمة الملكة فوجد أمام بابها واحدًا من أشهر المغنين، فقال له: «علامَ لا تدخل؟» فقال: «لأن هؤلاء الخصيان يقطعونني إربًا إربًا إذا حاولت الدخول.» فقال له: «هلم معي.» فلما وقع نظر الخصيان على الملك أحنوا رءوسهم ووقفوا كالأصنام، فدخل هو والمغني والتقى هناك بالأميرة جوليا، فقال لها: «ألم تزالي حاقدة علينا يابنة العم؟» فقالت: «ومن يحقد على الملك ريكارد إذا ظهر بمظهره الطبيعي مظهر البسالة والنبالة والكرم.» قالت ذلك ومدت له يدها فقبلها علامة على المصالحة، وقال لها: «لا تظني يا عزيزتي أنني أظهرت ما لا يجب من الصرامة، فإن هذا الفارس قد تعدى واجباته، فهو مذنب شرعًا، مهما كان السبب الذي دعاه إلى ذلك، وقد حانت له والحمد لله فرصة يخلع بها ثوب العار عنه ويلبسه للص الحقيقي، وهذا يسرُّني كما يسرك، ومهما لامني الناس على حدة طبعي، فلا حق لهم أن يلوموني على صرامتي؛ لأنني أقضي بالعدل حينما يجب العدل، وبالرحمة حينما تجوز الرحمة.»
فقالت له: «دع مدحك لغيرك، فقد يعدُّ الناس عدلك جورًا ورحمتك هوى.» فقال لها: «وأنت لا تفتخري علينا كأن فارسك خرج من الميدان منصورًا؛ لأن كنراد منسرَّات (هو المركيز) بطل صنديد وقرم عنيد، فما يصيبك إذا قهر هذا الاسكتسي؟» فقالت: «إن ذلك ضرب من المحال؛ لأنني أنا رأيت كنراد يرتجف كالقصبة، فهو مجرم، والمبارزة ليست إلا بقضاء الله، والله يسكب كأس غضبه على رءوس المجرمين. ولو دعيت أنا لمبارزته لما تأخرت.» فقال: «هذا لا ريب فيه؛ لأنني لم أر أعرق منك في نسب بلتنجنت، ولكنني آمل أنك لا تنسين بعد منزلتك عن منزلة هذا الفارس.» فقالت: «ما معنى هذه النصيحة في مثل هذا الوقت؟ فهل تعدني من خفيفات العقول اللواتي يتقلبن مع الأهواء؟!» فقال: «كلا، ولكن أريد منك أن تقولي لي ماذا تكون منزلة هذا الفارس عندك إذا خرج من الميدان منصورًا.» فاحمرت خجلًا وقالت: «لا تكون منزلته عندي أكثر مما تكون عند الملكة برنغاريا لو حارب باسمها عوضًا عن أن يحارب باسم فتاة حقيرة مثلي، وأنت تعلم أن أحقر الفرسان يمكنه أن يحارب باسم أعظم الملكات.» فقال: «ولكن هذا الفارس قد تحمل مشقات كثيرة من أجلك.» فقالت: «وأنا جازيته على قدر طاقتي؛ فكنت أفرح لسرائه وأحزن لضرائه، وهذا كل ما يناله مني.» فقال الملك: «كذا تقول البنات، ولكن إذا أتاهن طالب راغب ولجَّ الطلب قلن: «هذا نصيبنا».» فقالت: «كن مطمئن البال يابن العم، فأنا ليس من نصيبي أن أتزوج بأحد إلا من ملتي ومن منزلتي، والآن أرجوك أن تدعني أسمع صوت المغني، فإنه أطرب لأذني من صوت توبيخك.»