الفصل السادس والعشرون
جرى الاتفاق على أن تكون المبارزة بعد شروق الشمس بساعة لشدة الحر في ذلك الغور. وكان طول ميدان المبارزة مائتي خطوة وعرضه سبعين خطوة، وهو ممتد شمالًا وجنوبًا لكي لا يتعرض أحد المبارزين لأشعة الشمس أكثر من رفيقه، ونصبوا شرقي الميدان عند منتصفه خدرًا للملكة والنساء اللواتي معها لكي يرين المتبارزَين والجموع المحتشدة، ولا يراهن أحد فلم ترض الملكة بذلك؛ لأن المرأة تحب أن تُرى كما تَرى، ولكنها سلمت به مراعاة لعوائد المشارقة. ونصبوا إلى غربيه عرشًا للسلطان صلاح الدين، وعلى جانبيه عرشين آخرين؛ الواحد للملك ريكارد والآخر لدوق النمسا.
ورأى الدوق أن عرشه أوطأ قليلًا من عرش الملك، فلم يرد أن يجلس عليه وعرف ذلك الملك فتجاهل وقال: «الأجدر بنا أن نبقى على فرسينا.» ولما أشرقت الشمس قام الملك ريكارد ومضى إلى حيث كان الفارس الاسكتسي، ورأى عدة حربه وجلاده، أما الدوق فلم يأت لرؤية المركيز؛ لأنه كان مترنحًا بخمر شيراز التي قدمها له السلطان، فأتى رئيس الهيكليين عوضًا عنه فمنعه الحرس من الدخول إلى خيمة المركيز وقالوا إن مولاهم قاصد أن يعترف أمام الناسك الكرملي.
فاضطرب الرئيس لما سمع ذلك. ودخل الخيمة غصبًا عنهم، فرأى المركيز راكعًا أمام الناسك، وقد هم أن يشرع في الاعتراف، فانتهره وقال له: «ما معنى هذا العمل؟! ألا تعلم أنني أنا هنا؟! فعلام لا تعترف لي؟! ثم أمر الناسك أن يخرج من هناك، فقال الناسك للمركيز: «إذا كنت لا تريد أن تعترف لي فأنا أخرج، ولكنني لا أخرج بأمر هذا الرئيس المتغطرس.» فقال المركيز: «كيف العمل؟ اخرج الآن وسنلتقي في وقت آخر.» فخرج الناسك بعد أن تهددهما بالعقاب. وجعل الرئيس يشجع المركيز ويشدد عزائمه، وسُرَّ بأنه منعه من الاعتراف عند غيره؛ لأن خفاياهما مشتركة.
ثم جاءت الساعة المعينة للمبارزة، وبوقت الأبواق واصطفت الفرسان حول الميدان، وركب الفارسان ورفعا المغافر عن وجهيهما، ودار كل واحد منهما ثلاث دورات، وكان الفارس الاسكتسي طلق الوجه باسمًا كأنه ذاهب إلى وليمة، وأما المركيز فكان عابسًا مُظهرًا العظمة والعنفوان، فلم يخفَ ذلك على الناظرين إليهما، وكان الناسك والكهنة الذين حضروا معه قد أقاموا مذبحًا بجانب خدر الملكة، فأتى الفارسان إلى هذا المذبح، وحلف كل منهما على الإنجيل الطاهر أنه محق في عمله وطلب من الله أن ينصر المحق منهما. وحلفا أيضًا على أنهما لا يستعملان إلا الأسلحة العادية ولا يستخدمان السحر ولا الطلاسم، ودنا رئيس الهيكليين من المركيز وقال: «تشجع وتشدد وإلا فإن قُهرت ونجوت من يد هذا الفارس فلا تنجو من يدي.» وصلى الكهنة وطلبوا من الله أن يقضي بالعدل بين المتبارزين، ثم بوقت الأبواق ونادى المنادي قائلًا: «قد أتى الفارس وليم الاسكتسي بالنيابة عن الملك ريكارد ملك إنكلترا الذي ادعى على كنراد مركيز منسرَّات أنه خانه وأهان شرفه.» ونادى المركيز مبررًا نفسه، وقال إنه راض بهذه المبارزة لتزكية قوله، وحينئذ تقدم حاملًا الأسلحة، وقدما للفارسين رمحيهما وترسيهما، وكان على ترس الفارس الاسكتسي صورة النمر وسلسلة مقطوعة إشارة إلى أَسْرِه، وعلى ترس المركيز صورة أرض كثيرة الأطناف والصخور.
ووقف الفارسان أحدهما قبالة الآخر، وأرخى كل منهما مغفره على وجهه فتغطيا بالحديد، وأحدقت بهما العيون وشخصت إليهما الأبصار، ثم أشار السلطان فبوقت الأبواق وانقض الفارسان أحدهما على الآخر فالتقيا في حومة الميدان، وطعن كلٌّ خصمه طعنة ترقص لها عجائز وائل، فاستلقى الفارس رمح خصمه بترسه فتشظى الرمح شظايا صغيرة من سنانه إلى رجه. وتقهقر جواد الفارس سبع خطوات ووقع على عجزه، ولكنه أنهضه حالًا فلم ينله مكروه. واستلقى المركيز رمح الفارس بترسه فخرق الترس والدرع والزردية وجرحه جرحًا بليغًا في صدره وألقاه عن ظهر جواده فوقع يتمرغ بالتراب، ثم استل الفارس سيفه ووقف فوق رأسه وقال له: «اعترف بذنبك!» وكان السلطان صلاح الدين والملك والدوق وغيرهم من الأمراء قد اجتمعوا حول المركيز، وكشفوا الخوذة عن رأسه فنظر إلى السر وليم وقال له: «قد قضى الله بالعدل وأنا المذنب، ولكن في مخيمنا من ذنبه أعظم من ذنبي، فارحموني وأتوني بأحد يعرفني.» فالتفت الملك ريكارد إلى السلطان صلاح الدين وقال له: «علينا بدوائك المشهور أيها السلطان لحفظ حياة هذا المركيز ولو ساعة من الزمان.» فقال السلطان: «إن هذا الرجل لا يستحق أن يحيا، ولكني إكرامًا لك أستعمل له الدواء.» ثم نادى خدمه وقال: «احملوه إلى خيامكم.» فتقدم الدوق والرئيس وقالا: «لا نريد أن تستعمل له أدوية مسحورة، ولا أن يحمل إلى غير خيامنا.» فالتفت إليهما الملك وقال: «ألا تريدان أن يعالج ويشفى؟» فقال الرئيس: «إذا أراد السلطان أن يعالجه فليكن في خيامنا.» فالتمس الملك من السلطان أن يتنازل إلى ذلك، ثم نادى رجاله وقال: «بوقوا بالأبواق.» ونادوا بشرف إنكلترا والتفت إلى السر وليم وقال له: «هلم أيها البطل إلى حضرة السيدات، فهن أعلم منا بمجازاة الأبطال.» ولما صارا في حضرة الملكة ناداها ونادى الأميرة جوليا، وطلب منهما أن تنزعا أسلحة الفارس بيديهما إكرامًا لما أظهره من القوة والبسالة، فركع أمامهما وجعلتا تنزعان أسلحته كما أمرهما الملك، ولما نزعتا الخوذة عن رأسه وبان وجهه الصبوح من تحتها قال الملك: «أهذا وجه العبد النوبي أم هو وجه فارس مجهول الحسب والنسب؟ لا وتربة أجدادي ههنا انتهت مدة تخفيك أيها الأمير العظيم، فقد ركعت أمامنا ولا يعرف من أمرك إلا ما اشتهرت به من البسالة والإقدام، فقم مكللًا بالمجد والشرف، قم أيها البرنس داود ابن ملك اسكتلندا وولي عهده!»
فاندهش جميع الذين سمعوا هذا الكلام، وكانت الخوذة بيد الأميرة جوليا فسقطت من يدها لشدة دهشتها، فقال الملك: «نعم أيها السادة، إن اسكتلندا وعدتنا أن تنجدنا بهذا الأمير الجليل وبكتيبة من نخبة رجالها، ثم عدلت عن عزمها، فلم يرتض هذا الأمير أن يغمد السيف الذي كان قد وطن نفسه على نجدتنا به، فجمع نفرًا من الفرسان وغير اسمه وانضم إلينا في جزيرة صقلية، ثم قُتل كل أتباعه ولم يبق معه إلا واحد منهم، وكاد هذا التخفي يجعلنا نقتل أشرف أمير من أمراء أوروبا. لماذا لم تعرفنا بنفسك أيها الأمير؟ أخفت من أننا نغتنم هذه الفرصة ونفتك بك لما بيننا وبين قومك من العدوان؟»
فقال الأمير: «كلا أيها الملك، فإن ذلك لم يخامر فكري قط، ولكن لم تسمح عزة نفسي أن أتخذ نسبي وسيلة للتكفير عن ذنبي، ولا سيما لأنني آليت على نفسي أن أبقى متخفيًا إلى أن تنقضي هذه الحرب، ولم أظهر من أنا إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك في سر الاعتراف لهذا الناسك.» فقال الملك: «قد فهمنا الآن لماذا كان الناسك يلح علينا أن نحجب دمك، ولماذا قال إننا سنندم ونود لو قطعت يدنا ولم نقتلك. نعم نود أن يقطع رأسنا ولا يقال: «إن ريكارد قتل ولي عهد اسكتلندا لما كان في قبضة يده».»
فقالت الملكة: «ألا يجوز لنا أن نعرف أيها الملك كيف اتصلت إلى معرفة أصل هذا الأمير الجليل؟»
فقال: «أتتنا رسائل من بلادنا تقول إن ملك اسكتلندا قبض على ثلاثة من أشرافنا وأخذهم رهنًا، مدعيًا أن ابنه الذي ظنه أولًا في جرمانيا هو معنا في هذه الحرب، ثم إن ده فو رأى خادم هذا الأمير في عسقلان، وكان قد ذهب إليها ليكشف لده فو هذا السر الذي كان يجب عليه أن يكشفه لنا ولا يتحمل مشقة السفر.»
فقال ده فو: «يجب أن تعذره؛ لأنه يعلم أنني ألين قلبًا من آل بلنتجنت.» فصرخ الملك: «أأنت ألين منا قلبًا؟ معاذ الله! فنحن في السلم إنس وفي يوم الوغى جان، نحن ألين الناس قلبًا، أليس الأمر كذلك يا جوليا؟» قال ذلك والتفت إليها وأخذ يدها ويد البرنس داود بيده فصبغ الخجل وجنتيها وكلل العرق جبينها.
وكان السلطان صلاح الدين قد أدب مأدبة للملك ريكارد ورجاله ودوق النمسا ورجاله، فأتى الضيوف إلى مكان الوليمة فوجدوه خيمة فسيحة الرحاب مفروشة بالبسط الفاخرة، وفيها سماط من الحرير الصيني الموشى بالذهب، وعليه صحاف الطعام وكئوس الشراب، وهي من الذهب الإبريز والخزف الصيني النادر المثال، والشراب مبرَّد بالثلج ومطيب بالطيوب الغالية الأثمان، وحول السماط وسادات من الحرير والكشمير ليجلس عليها الفرسان بدل الكراسي، وجدران الخيمة مغطاة بالأعلام والبيارق التي غنمها السلطان في حروبه وفتوحه.
وقبل أن يدخل الضيوف ركض نكتبانس القزم إلى السلطان وهو يقول باللاتينية: «خذها خذها.» ثم قص عليه قصة وهو يرتجف ويرتعد، وحينئذ بوقت الأبواق معلنة قدوم الضيوف، فقام صلاح الدين للقائهم وترحب بهم وهنأ البرنس داود (أي السر وليم) على الظفر. وقبل أن يشرعوا في الطعام التفت البرنس إلى الجلاب الذي أمامهم، وكان مبردًا بقطع الثلج وقال: «عجبًا ممن لا يعرف الجليد ويبرد شرابه بالثلج!» أشار بذلك إلى ما جرى بينهما من الحديث بقرب درة القفر. فأجابه السلطان: «الْبَسْ لكل حالة لبوسه، وأنا لم يحسن بي أن أكلمك حينئذ إلا بما كلمتك.» فلما سمع دوق النمسا ذكر الثلج التفت فرأى كئوس الجلاب مبردة به فتناول كأسًا كبيرة وجرع جرعة منها وناولها لرئيس الهيكليين فهم أن يشربها، وكان صلاح الدين واقفًا بجانبه فنادى القزم فأقبل وهو يقول باللاتينية: «خذها خذها.» فارتعدت فرائص المركيز وأدنى الكأس من فمه ليخفي اضطرابه، وقبل أن تمسها شفتاه استل صلاح الدين سيفه وضربه به فأطاح رأسه عن كتفيه وبقيت جثته لحظة قائمة وقابضة الكأس، فأجفل دوق النمسا حاسبًا أن رأسه يكون الثاني ووضع بقية الفرسان أيديهم على سيوفهم، فالتفت إليهم السلطان وقال: «لا تخف أيها الدوق، وأنت أيها الملك لا تغتظ مما جرى، فإنني لم أقتل هذا الخائن لأنه حاول قتلك غدرًا، ولا لأنه تبعني وتبع هذا الأمير (مشيرًا إلى البرنس) وحاول الإيقاع بنا، ولا لأنه جيش الموارنة علينا في هذا الوقت حتى اضطررت أن أضع جيوشي على مقربة منا خوفًا، بل لأنه منذ أقل من نصف ساعة طعن مركيز منسرَّات طعنة قضت عليه لكي لا يعترف بالمكايد الكثيرة التي كان مشتركًا معه فيها.»
فصرخ ريكارد: «أقُتل كنراد؟! أوَقتله هذا الرجل؟!» إنني لا أشك في قولك أيها السلطان المعظم، ولكن لا بد من إقامة البينة على ذلك وإلا اضطررتنا إلى ما لا نحب.»
فقال السلطان: «إن الله سبحانه وتعالى يكشف الخفيات، وما على الله أمر عسير، ثم قص عليهم ما أخبره به القزم وهو أنه دخل خيمة المركيز فوجده نائمًا بفعل الدواء، ولم يجد عنده أحدًا، ثم رأى رئيس الهيكليين مقبلًا فاختفى في زاوية من الخيمة بحيث يَرى ولا يُرى، فدنا الرئيس من المركيز ففتح المركيز عينيه وكأنه أوجس منه خيفة، فجعل يتوسل إليه أن يرفق به، فقال له الرئيس: «قد أتيت لأحلك.» ثم طعنه بخنجره في صدره وهو يقول: «خذها خذها.» فقتله، وإن كنتم في ريب من ذلك فانظروا في جثة المركيز.» فقال الملك ريكارد: «إننا متأكدون صدق مقالك، ولكن علامَ قتلته بيدك؟ وعلامَ قتلته هذه الساعة؟» فقال السلطان: «إنه لو أكل من طعامي وشرب من شرابي لَحُرِّم علي قتله ولزمتني حمايته، ولو كان قاتلا أبي.» ثم أمر فرفعوا الجثة وأزالوا البسط الملطخة بالدماء، وأقام لضيوفه بحقوق الضيافة، ولكن كانت أفكارهم مضطربة فلم يلتذوا بطعام ولا بشراب.
وفي اليوم التالي عقدت شروط الصلح بين السلطان صلاح الدين والملك ريكارد ومن معه من الأمراء الصليبيين، كما هي مقررة في كتب الأخبار، وعاد الصليبيون إلى أوطانهم واقترن البرنس داود بالأميرة جوليا، وأرسل إليهما السلطان صلاح الدين هدية نفيسة وفي جملتها الطلسم الذي شفى به الملك ريكارد، وهو حجر صغير مثلث الشكل أحمر اللون، ولم يزل هذا الحجر في اسكتلندا إلى يومنا هذا. ا.ﻫ.