الفصل الرابع
وفيما كان الفارس مستغرقًا في نومه شعر بثقل على صدره كأن عدوًّا قويًّا يشد خناقه، ففتح عينيه فوجد الناسك جالسًا أمامه وقد وضع يده على صدره. فخاطبه الناسك باللغة الإفرنسية وقال له: «لي كلام أقوله لك ولا أريد أن يستمعه صاحبك، فقم والبس رداءك واتبعني.» فقام وأخذ سيفه، فقال له الناسك: «لا حاجة بنا إليه لأننا ماضون إلى حيث لا ينفعنا إلا الأسلحة الروحية.» فترك السيف ووضع خنجره في منطقته، وسار وراء الناسك وهو يظن أنه يرى رؤيا حتى بلغا مدخل الغار، فقال له الناسك: «بم أتيتني من ملك إنكلترا؟» فقال الفارس: «لم أره لأنه مريض، ولكن مجمع الملوك أرسلني إليك.» ففتح الناسك بابًا في جدار الكهف وقال: «اعصب عيني بهذا المنديل واتبعني في هذا الطريق.»
وكان داخل الباب درج منحوتة في الصخر، فعصب عينيه وتبعه، فصعدا من درج إلى درج إلى أن بلغا بابًا من الحديد، فانفتح لهما، وإذا داخله كنيسة صغيرة بديعة النقش والإتقان، فيها مصابيح من الفضة يوقد فيها الزيت المطيَّب. فركع الفارس على ركبتيه ساجدًا، ثم التفت إلى الناسك فوجده خارج الباب لا يستطيع الدخول فرجع ليكلمه، فأغلق الباب في وجهه ولم يهتد إليه، فأمسى وحده وليس معه من السلاح إلا خنجره. فاحتار في أمره وجعل يمشي في الكنيسة ذهابًا وإيابًا إلى أن قرب الفجر، فانفتح باب ودخل منه ست راهبات لابسات ثيابًا بيضاء ومبرقعات ببراقع سوداء، ووراءهن ست نسوة مبرقعات ببراقع بيضاء وحاملات طاقات من الورد الأحمر والأبيض. فطفن حول المذبح وهن يرتلن بأصوات رخيمة فركع الفارس على الأرض وقد ظنهن ملائكة من السماء. ولما طفن الطوفة الثانية وهن يمررن بجانبه وقعت وردة من إحداهن بين يديه فأجفل منها كأنها صاعقة وقعت عليه، ثم عاد إلى نفسه فقال: «قد كان ذلك اتفاقًا عن غير قصد.» ولكنه شعر بجاذب يجذبه نحو الفتاة التي وقعت الوردة منها ولم يكن في لباسها ولا في قامتها شيء يميزها عن رفيقاتها إلا أن قلبه كان دليله عليها، فميزها من بينهن وكان يخفق لرؤيتها حتى كاد يشق صدره ويقع على قدميها كلفًا بها، وكذا تكون مصارع العشاق، ثم مرت بجانبه في الطوفة الثالثة وهو لا يصدق ما يرى، ولما دنت منه أخرجت يدها فظهرت من خلال ردائها كالقمر من خلال الغيوم ورمت له وردة ثانية، فخفق فؤاده حتى كاد ينصدع، وتيقن أنها رمت الوردة بالقصد لا بالاتفاق، ورأى في يدها خاتمًا من الياقوت ولما وقع نظره عليه علم أنها هي اليد التي رآها غير مرة وقبلها، ولم تبق عنده ريبة في أنها هي الفتاة التي تعلق بهواها ووقف لها نفسه، ولكنه لم يعرف كيف وصلت إلى هناك، ولا ما هي الغاية التي جاءت لأجلها إلى مكان لا يدخله إلا الحبساء المتوحدون، فحسب أنه يرى كل ذلك في حلم.
وفيما هو غائص في بحار الأفكار انفتح الباب الذي دخلت منه العذارى فخرجن واحدة وراء الأخرى، وكانت عينه لم تزل محدقة بتلك الفتاة فرآها تدير رأسها نحوه وهي خارجة، ثم احتجبن عن عينيه وأغلق الباب وراءهن وانطفأت مصابيح الكنيسة وسدلت الظلمة ستارها على نفسه، ولكنه لم يعبأ بالظلمة ولا بقيامه في مكان لا يعلم أين بابه، بل أخذ يتلمس على الأرض حتى وجد الوردتين فجعل يقبلهما ويقبل الأرض التي داست حبيبته عليها، وما هو أول محب فعل ذلك، ولا سيما في العصر الذي كان فيه، ثم زفر زفرة طويلة وتأوه من كبد حرَّى.
هذه هي الفتاة التي أحبها وحارب باسمها ولأجلها ولم يكن قد سمع صوتها في حياته، مع أنه رأى وجهها الصبوح مرارًا، أما هي فكانت قد رأته في ميدان الصراع وسمعت الشعراء يتغنون بمدحه ويصفون بسالته. وكان أمراء المملكة ورؤساؤها يفتخرون إذا نظرت إليهم، ولكنها لم تحفل بأحد منهم، بل انقادت عن غير إرادتها إلى هذا الفارس، وكانت كلما رأته أو سمعت عنه يزداد اعتباره في عينيها، وكان الجميع يلهجون بمدحه حتى أن الشعراء الذين لا يمدحون إلا من يصلهم بالصلات السنية كانوا يتغنون بشجاعته وهم لا ينتظرون منه شيئًا، فلم يعد يهنأ لها عيش إلا إذا سمعت الناس يتحدثون عنه ويتباهون بشجاعته على حد قول القائل:
ولكنها لم تطمع بحديثِه؛ لأن بينها وبينه درجات لا يمكنه أن يتخطاها فهي من بنات الملوك وهو من آحاد الفرسان الذين لا ناصر لهم إلا سيفهم. ولما زاد هيامها به شعرت من نفسها أنه هو هائم بها أيضًا، وأنه هو الرجل المعين بالقدر المحتوم ليقاسمها نعيم الحياة وبؤسها، ولكنها لم تر وجهًا لذلك لما بينهما من بعد المنزلة.
ولا يخفى على القارئ أن هذه الأميرة، واسمها الأميرة جوليا، لما شعرت أن هذا الفارس واقع في هواها ومتدرع به على اقتحام الأهوال اعتزت وافتخرت، ولكنها كانت تتذمر بعض الأحيان من البعد الشاسع الذي بينها وبينه، وكأنها تلومه لاتضاعه وعدم توخيه الترفع إلى مقامها، مع أن هذا الترفع كان ضربًا من المحال على من في منزلته. وكان يخطر لها أحيانًا أنه يجب عليها هي أن تخاطر بنفسها وتمد يدها له لترفعه إلى منزلتها، ثم يتراءى لها علو حسبها ونسبها فتطأطئ محبتها لكبريائها حاسبة أن كل تنازل تتنازله يحط قدرها في عينيه، ومع كل تحفظها وتوقيها لم تقدر أن تخفي عنه ما بها من الغرام، وإلا فكيف قدر أن يميز يدها في الكنيسة وهو لم ير منها إلا أصبعين؟! وكيف علم أن الوردتين رمتهما له عن قصد منها؟
ولكنه لم يزل مرتابًا في أمرها، وكان كلما رأى علامةً تدل على محبتها له يقوم في نفسه ألف شكٍّ على أنها ربما فعلت ذلك عن غير قصد، أو ربما خدعته عيناه أو أرته المخيلة ما لا حقيقة له، ولا سيما لأن دلائل المحبة لم تكن متواصلة، بل كان بينها فترات طويلة، كأن هذه الأميرة كانت تخاف أن يعرف أحد حبها له فيحسده ويسعى في هلاكه، أو أنه هو يظن بها التعرض له فيحتقرها على حد قول القائل: