الفصل الخامس
وأقام الفارس ساعة من الزمان في الظلام الدامس، لا يرى إلا صورة حبيبته ولا يسمع إلا صوتها، ولم يخطر بباله أنه في بلاد كثيرة المخاطر، ولا كان يحسب لشيء حسابًا ما دامت حبيبته على مقربة منه. وفيما هو غائص في بحار الأفكار سمع صفيرًا خارجًا من تحت الأرض، فنهض على قدميه ووضع يده على خنجره فانفتح باب من الأرض، وخرج منه رجل قصير القامة كبير الرأس دميم المنظر، لابسًا ثوبًا أحمر وفي منطقته خنجر مذهَّب، وعلى ذراعيه أساور من الذهب وفي يمينه مصباح وفي يساره مكنسة. فلما رآه قال في نفسه: «ما هذا القزم إلا جنيٌّ من الجان التي تسكن المغائر والكهوف في هذه البلاد!» فوقف مندهشًا لا خوفًا منه، بل هيبة لظنه أنه فوق البشر مقدرةً.
ثم إن القزم صفر فأجيب صدى صفيره بصفير آخر من تحت الأرض، وصعد من الباب امرأة قزمة حاملة بيدها مصباحًا آخر ولابسة ثوبًا أحمر، وهي تفوق الرجل في قبح الصورة. فلما صارت بجانبه مشيا معًا وجعلا يكنسان الكنيسة، وكان يُبديان من الحركات والإشارات ما يضحك الثكلى. ولما قربا من الفارس أخذا يتفرسان فيه ويرددان المصباحين حولهما كأنهما يقولان له: «تفرس فينا جيدًا.» ثم قهقها قهقهة أدوت لها الكنيسة. فذعر الفارس وأقسم عليهما أن يخبراه من هما. فقال الرجل بصوت كنعيق الغراب: «أنا القزم نكتبانس.» وقالت القزمة بصوت بين النعيق والصفير: «وأنا زوجته كوانفرا.» فقال الفارس: «وما قصتكما؟ وكيف أتيتما إلى هذا المكان؟» فقال القزم: «أنا سلطان جوج وماجوج، وقد أتيت لأتجسس هذه الأرض قبل الإغارة عليها.» فقالت له القزمة: «كذبت يا خبيث، أنت ملك بريتني الذي سرقته الجان، وأنا السيدة كوانفرا المشهورة بجمالها!»
فالتفت القزم إلى الفارس وقال له: «إن أردت الحق فنحن كلانا من الأمراء، وكنا عائشين في كنف الملك غالي ملك القدس.» ولم يتم هذا الكلام حتى سمعوا واحدًا يقول من خارج الكنيسة: «اصمتا أيها الأحمقان واخرجا من هذا المكان.» فلما سمعا هذا الكلام جعلا يتسارَّان فيما بينهما، ثم أطفأ كل منهما مصباحه ونزلا من حيث صعدا وتركا الفارس في الظلام الدامس. ولكنه تيقن من كلامهما أنهما من الأقزام الذين يعيشون في دور الملوك والعظماء. ولو جرى مجرى أهل عصره لسر برؤيتهما وطرب من حركاتهما، ولكنهما دخلا عليه حينما كان يتأمل في أسمى المواضيع وأحبها لديه، فاغتاظ من رؤيتهما وسر بانصرافهما.
وبعد أن انصرف القزمان بقليل انفتح الباب الذي دخل الفارس منه، فرأى وراءه مصباحًا صغيرًا وبجانب المصباح شبحًا أسود، فدنا منه وتوسمه، فإذا به الناسك وهو راكع على ركبتيه. فقال الناسك: «خذ المصباح وانزل أمامي؛ لأني لا أقدر أن أرفع المنديل عن عيني ما دمت في هذا المكان الطاهر.» فنزل الفارس وهو لا يفوه ببنت شفة؛ لأن المرائي التي رآها أدهشت عقله، وما زال سائرًا حتى وجد نفسه في الغار الذي صعد منه. فقال الناسك: «قد عدتُ إلى هذا السجن وسأبقى فيه أتقلب على جمر الغضا إلى أن يقضي علي الديانُ العادل.» قال ذلك ونزع المنديل عن عينيه وتفرس فيه طويلًا ثم رده إلى مكانه، وقال للفارس: «امض إلى فراشك ونم، أما أنا فقد حرمت النوم.»
فدخل الفارس إلى المخدع والتفت إلى الخارج قبل أن ينام، فرأى الناسك قد عرى كتفيه وجعل يجلدهما بالمجاليد! فقال في نفسه: «لا بد من أن هذا الرجل قد ارتكب جريمة فظيعة وهو يقمع جسده ويعذبه لكي يتطهر من وصمة ذنبه.» ولما نهض في الصباح تكلم معه في الأمر الذي جاء لأجله، واضطر أن يقيم عنده يومين آخرين.