الفصل السادس
ولكن مهما اشتد بأس الإنسان لا يقوى على الأمراض الخبيثة، فقد أصابت ريكارد قلب الأسد حمى من الحميات الشديدة المضعفة طرحته في فراشه وجعلته كأضعف البشر، فمنعته من الحضور في المؤتمرات الحربية التي كان أمراء الصليبيين يعقدونها. وغلت أيدي الجنود كلهم فأبطلوا الحرب والصدام، وتهادنوا مع صلاح الدين ولم يستعدوا في هذه الهدنة للزحف على بيت المقدس، بل حصنوا معسكرهم كأنهم استبدلوا بالهجوم الدفاع. فلما بلغ ريكارد ذلك اسودت الدنيا في عينيه، وكان رجاله يخافون منه خوفًا شديدًا، حتى أطباؤه لم يكونوا يجسرون أن يخالفوا له أمرًا. ولم يكن بين حاشيته إلا رجل واحد قادر أن يقف أمامه إذا غضب وهو البارون توما ده فو، فإن هذا الرجل كان يحبه محبة شديدة ويفضل سلامته على كل ثمين، وينهاه عما به ضيره ولو خاطر بنفسه، وكان بطلًا محنكًا جبارًا في قوته، خشنًا في طباعه لا يعرف التمليق ولا التدليس، يخدم مولاه ويسهر عليه لا كما يخدم العبد سيده، بل كما يخدم الصديق صديقه، قيامًا بشروط الصداقة والمحبة.
وذات يوم كان الملك نائمًا في سريره يتقلب متأففًا من شدة الحمى، وقد نحل جسمه وطال شعره، والبارون ده فو واقف بجانبه وهو طويل القامة ضخم الأعضاء، كث الشعر، وجهه مغطى بآثار الجراح، وموقفه بجانب سرير الملك لا يتغير إلا حينما يجرعه الدواء. والخيمة التي فيها الملك أشبه بمعرض حربي منها بفسطاط ملك رفيع الشأن، فإنها كانت مفروشة بأنواع الأسلحة وغنائم الحروب وجلود الحيوانات، وفيها ثلاثة كلاب من كلاب الصيد الكبيرة وهي محدقة بسيدها كأنها تقول له: «متى تقوم وتمضي بنا إلى الصيد والقنص؟» وترسه المثلث على مائدة صغيرة بجانب السرير، وهو من الفولاذ الصقيل وعليه رسم ثلاثة أسود رابضة، وبجانب الترس فأسه المشهورة التي كان يضرب بها الفارس فيشطره شطرين، وعلى باب الخيمة ثلاثة من رؤساء الحرس تلوح عليهم أمارات القلق وانشغال البال خوفًا على مولاهم وعلى نفوسهم إذا طال مرضه. وخارج الخيمة كثيرون من الخدم والحشم، وكلهم كاسف البال مبلبل الأفكار. فقال الملك بعد أن سكت عن الكلام وقتًا طويلًا بسبب شدة الحمى: «هل صار فرساننا نساء ونساؤنا راهبات وانمحت الشجاعة من معسكر فيه نخبة فرسان أوروبا؟»
فقال له البارون ده فو: «الهدنة تمنعنا عن الحرب والجلاد يا مولاي، أما النساء فلا أعلم من أمرهن شيئًا إلا أن الجميلات منهن ذهبن برفقة الملكة والأميرة إلى دير عين جدي لإيفاء نذر نذرنه لأجل سلامتك.»
فقال الملك: «وكيف خاطرن بأنفسهن وذهبن إلى مكان لا مأمن للرجال فيه؟» فأجابه البارون: «هن في مأمن من كل خطر؛ لأنهن أخذن إجازة من صلاح الدين.» فقال الملك: «صدقت، ولهذا السلطان منة عليَّ ومَنْ لي بأن أفيه إياها في ميدان النزال.» ولما قال ذلك أخرج ذراعه من تحت الدثار وهزها كما يهزها وهو قابض على سيفه أو على فأسه، فقبض عليها البارون ده فو وردها إلى تحت الدثار، وقال له: «أفرغ صبرك من هذه الحمى؟»
فقال: «أنا مريض، ولكن ما مرض ملوك النصارى؟ ماذا أصاب ملك فرنسا ودوق النمسا؟ ماذا أصاب مركيز منسرَّات ورئيس الاسبيطارية والهيكلية؟ ما هذا الداء العياء؟ وما هذا الفالج الذي منعهم من الحركة والكلام؟ وما هذه الآكلة التي أكلت قلوبهم ونخرت عظامهم حتى نسوا إلههم وداسوا شرفهم؟!»
فقال البارون: «بالله عليك يا مولاي أقصر عن هذا الكلام؛ فقد تناقلته عنك الألسن وكاد شملنا يتمزق بسببه، أَوَلا تعلم أنهم بدونك لا يقدرون أن يفعلوا شيئًا؟»
فقال الملك: «دعنا من التمليق.» وألقى رأسه على وسادته وصمت طويلًا ثم قال: «يا للعار! أتتضعضع أحوال هؤلاء الملوك والرؤساء بمرض إنسان واحد؟! علام يكون مرض ريكارد، بل موت ريكارد، مانعًا يمنع ثلاثين ألفًا من الزحف على أورشليم، وكل منهم بطل مجرب مثله؟! إذا صرع قائد الوعول اختارت الوعول قائدًا آخر في الحال ليقوم مقامه، وإذا ضرب الشاهين قائد الكراكي قام منها قائدٌ آخر في الحال، فعلام لا ينتخب هؤلاء الرؤساء قائدًا آخر عوضًا عني؟»
فقال البارون: «العفو يا مولاي، فقد بلغني أنهم قد تآمروا في هذا الأمر وفي نيتهم أن ينتخبوا قائدًا.»
فاتقدت غيرة ريكارد وقال: «أنسيني حلفائي وحسبوني ميتًا وأنا حي أرزق؟ لقد أصابوا. ومن ينتخبونه عوضًا عني؟» فأجاب البارون: «ينتخبون ملك فرنسا؛ فإنه أحق بذلك من كل أحد.»
فقال ريكارد: «ملك فرنسا ونافار نخبة ملوك النصارى، ولكني أخاف أن يبدل كلمة التقدم بكلمة التأخر، ويرتد بنا إلى باريس بدلًا من الزحف على أورشليم.»
فقال البارون: «بل ربما ينتخبون دوق النمسا.»
فقال الملك: «لماذا؟ ألأنه ضخم الجسم مثلك؟ هذا لا يصلح لقيادة الجيوش، بل لأكل اللحوم وشرب الخمور.»
فقال البارون: «وما قول جلالتك في رئيس الهيكليين فإنه شجاع ماهر في فنون الحرب، صاحب حكمة ودهاء وله مأرب في تخليص الأرض المقدسة؟»
فقال الملك: «لا ريب في مهارته، ولكن ليس من العدل أن تؤخذ الأرض المقدسة من صلاح الدين الملك العادل الكثير الفضائل والفواضل، وتعطى لهذا الساحر الذي يعبد الشيطان ويرتكب المحارم في معابد الله.»
فقال البارون: «وما قول جلالتك في رئيس الاسبيطارية، فلا لوم في سيرته؟»
فقال الملك: «ولكنه بخيل منتن، يبيع بالمال كل ثمين. أَوَلَمْ يبع أعداءَنا بالمال ما لم يستطيعوا امتلاكه بالسيف؟»
فقال البارون: «عندي إنسان آخر وهو المركيز كنراد منسرَّات، فهو حكيم وشجاع معًا.»
فقال الملك: «هو حكيم داهية، ولكنه ذئب في جلد خروف. وأما من جهة كونه شجاعًا فلا يغرنك ركوبه جياد الخيل ولبسه دلاص الدروع، فما كل مصقول الحديد يمانيًا. أوَلا تذكر أني قلت له مرة: «لو كان أمامك ستون رجلًا من العدو ومعك اثنان من الفرسان، أما كنت تهجم بهما عليهم؟» فماذا كان جوابه لي؟»
فقال: «أجابك أن أعضاءه من لحم لا من حديد، وأنه يفضل أن يكون له قلب إنسان على أن يكون له قلب وحش، ولو كان ذلك الوحش أسدًا. وعليه فلا رجاء من أخذ بيت المقدس إلا إذا كنت قائدًا لنا.»
فقال الملك: «ليس الأمر كذلك يا ده فو، بل في معسكر النصارى كثيرون من الفرسان، وهم أفضل مني لقيادة الجيوش، ولكن كل فارس يرفع علمه على البيت المقدس، وأنا مريض ويحرمني من هذا الفخر الذي أتيت لأجله لا يسلم من يدي حينما أشفى، وأظنني أسمع صوت البوق، فانظر ما هذا الصوت.»
فقال البارون: «هذه أبواق ملك فرنسا.»
فقال الملك: «ألم تعد تسمع؟! هذا صوت العدو وهذا تهليله.» قال ذلك وحاول القيام من فراشه، فحاول البارون منعه بكل قوته ولم يستطع حتى استعان ببعض الخدم، فلما رأى الملك نفسه عاجزًا عن المقاومة قال: «أتمنعني عن النهوض أيها الخائن؟! لو كنتُ في صحتي لطيرت دماغك.»
فقال البارون: «يا حبذا لو كنتَ في صحتك ولو طيرت دماغي!»
فمد الملك يده له وقال: «يا خادمي الأمين، سامحني على ما فرط مني؛ فإن الحمى هي التي أنطقتني بما نطقت. والآن أطلب منك أن تمضي وترى ما سبب هذه الضوضاء.»
فخرج البارون من خيمة الملك بعد أن أوصى الخدم والحشم أن ينتبهوا أشد الانتباه إلى سيدهم، وهددهم بالعقاب الشديد إذا بدا منهم تقصير، وكانوا يخافون منه كما يخافون من الملك.