الفصل السابع
لما خرج ريكارد ملك الإنكليز من بلاده قاصدًا الأرض المقدسة تبعه جمهور من الأمراء الاسكتلنديين هم ورجالهم، وكانوا يركبون لركوبه وينزلون لنزوله ويحاربون تحت لوائه، ولكنهم كانوا ينصبون خيامهم وحدهم مستقلين بأنفسهم كأنهم من أمة أخرى وشعب آخر. وكذا كان الفرنسيون والإيطاليون والجرمانيون والدانماركيون والأسوجيون. بل كثيرًا ما كان هؤلاء الشعوب يعاملون بعضهم بعضًا بالجفاء والقسوة في غير وقت الحرب. وكان البارون ده فو أشد الناس كرهًا للاسكتلنديين، ولكن ارتباطه معهم في الجهاد ألجأه إلى كتم ما في صدره من الكره، بل كثيرًا ما كان يبعث لهم بالطعام والدواء من عنده سرًّا لا علنًا؛ عملًا بوصية الكتاب القائل: «أحسنوا إلى مبغضيكم.» وقد تقدَّم في الفصل السابق أن الملك ريكارد أمره أن يخرج ويرى ما سبب صوت البوق والتهليل، فلم يبعد عن خيمة الملك حتى رأى جمهورًا من العرب بجِمالهم وخيولهم واقفين في قلب المعسكر وهم يضربون الأبواق والطبول، والجنود الإنكليزية متجمعة عليهم. وأول شخص التقى به كان السر وليم الفارس المتقدم ذكره في الفصول السابقة فتأفف من رؤيته، وكان قاصدًا أن يمرَّ به ولا يسأله عن سبب هذه الجلَبة، لكنَّ الفارس دنا منه وقال له: «لي معك كلام يا مولاي.» فقال البارون: «اختصر ما أمكنك؛ لأنني ذاهب بأمر الملك.» فقال الفارس: «أنا غرضي الملك؛ لأنني أتيته بالشفاء.»
فنظر إليه البارون ده فو من رأسه إلى قدمه كأنه يقيس طوله وعرضه، ثم قال له: «كان الأجدر بك أن تأتي الملك بالغنائم.» فاغتاظ الفارس من هذا الجواب ولكنه كظم الغيظ، وقال: «إن شفاء ريكارد هو الغنيمة الكبرى لنا ولكل النصارى، فهل لك أن تسمح لي بالدخول عليه؟»
فقال: «كلا، ما لم تخبرني بغرضك أولًا؛ لأن خيام الملوك ليست مباحة لجميع الناس.»
فقال الفارس: «إن أمر الجهاد الذي يجمعني معك يضطرني أن أغضي الطرف عما تقول، وجلية الأمر أنني أتيت بطبيب من أطباء العرب، وهو قادر أن يشفي الملك.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا أن هذا الطبيب لا يدس السم للملك مع الدواء؟»
فأجابه الفارس: «إن حياته الكفالة.» فقال البارون: «إن كثيرين من هؤلاء الحمقى لا قيمة عندهم لحياتهم، فيسرعون إلى الموت كما يسرعون إلى الوليمة.»
فقال الفارس: «نعم، ولكن صلاح الدين المعروف عندنا بالشهامة وكرم الأخلاق قد بعث بهذا الحكيم، وبعث معه موكبًا كبيرًا يليق بشأنه، وهدايا للملك، وبعث إليه برسالة يرجوه فيها أن يستعمل علاج الحكيم لكي يشفى سريعًا ويستعد لزيارته، فهل لك أن تأمر برفع الأحمال عن هذه الجمال واستقبال الحكيم بما يليق بمقامه.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا صدق صلاح الدين في هذا الأمر وموت ملكنا كاف وحده لتخليصه من مشقة الحرب كلها؟» فقال الفارس: «أنا أكفل أمانة صلاح الدين، أنا أكفلها بشرفي ودمي.»
فقال البارون: «وهذا أغرب من ذاك، ابن الشمال يكفل ابن الجنوب! الغربي يكفل الشرقي! ألا تخبرني يا مولاي كيف اتصلت إلى صلاح الدين والحكيم؟»
فقال الفارس: «كنت مرسلًا إلى ناسك عين جدي برسالة سرية …» فقاطعه البارون عن الكلام، وقال له: «أما تطلعني على الرسالة وجواب الناسك؟» فقال: «كلا، لا أستطيع ذلك.» فقال البارون: «أما تعلم أني من مشيري ملك الإنكليز وأهل سره؟»
فقال: «بلى، ولكن أنا لست من رعايا ملك الإنكليز، وقد أرسلني مجمع الملوك والأمراء والقواد العظام، ولهم وحدهم أرد الجواب.»
فقال البارون: «كن رسول من شئتَ، أما أنا فلا أَدَعُ أحدًا يدنو من خيمة الملك ريكارد إلا برضاي.» قال ذلك ودار وجهه وهم بالانصراف، فوقف الفارس في طريقه وقال له: «ألا تعلم أنني فارس مجرب ومن بيت شريف؟» فقال البارون: «كل الاسكتلنديين يدَّعون بالشرف من طفوليتهم. أما من جهة كونك فارسًا مجربًا، فهذا لا أنكره عليك.»
فقال الفارس: «قد اعترفتَ أنني فارس مجرب، فأنا أقسم لك بتربة أجدادي وبالجهاد المقدس الذي أتينا لأجله لننال الفخر في هذه الحياة وغفران الخطايا في الأخرى؛ أنه لا غرض لي إلا شفاء ريكارد قلب الأسد.»
فتخشع البارون ده فو من هذا القسم، وقال له بلطف: «هب يا مولاي أنك مقتنع بصدق هذا الحكيم وأمانته، فهل يجب عليَّ أن أقتنع نفس هذا الاقتناع وأسلِّم ملكنا لهذا الحكيم في بلادٍ صناعةُ التسميم فيها رائجة؟»
فقال الفارس: «يا مولاي، لا دليل عندي على أمانة هذا الحكيم إلا هذا، وهو أن خادمي الذي أبقته لي الحروب من كل رجالي مريض بالحمى المصاب بها الملك، وهذا الحكيم أعطاه دواء منذ ساعتين والآن قد خفت الحمى كثيرًا. فلا ريب عندي أنه قادر على شفاء الملك، ولا ريب عندي أيضًا بسلامة نيته؛ لأنه مرسل من قبل صلاح الدين الذي لا يرتاب أحد منا في صدق طويته، هذا والحكيم في أيدينا، فلا يعقل أنه يلقي بنفسه في التهلكة وهو قادر أن يخرج من عندنا بأوفر الصلات.»
فأطرق البارون إلى الأرض مترددًا بين الشك واليقين، ثم رفع رأسه وقال: «ألا تسمح لي برؤية خادمك؟» فاحمر وجه الفارس خجلًا ثم قال: «الأمر إليك يا مولاي، ولكن لا تنس حينما ترى خادمي أن أشراف اسكتلندا وأمراءها لا يعيشون عيشة الترفُّه مثلكم معاشر الإنكليز.» قال ذلك ومشى أمام البارون كأنه عن غير رضاه.
فلم يُرِدْ البارون أن يظهر ما يدل على شماتته بفقر الاسكتلنديين بل قال: «لا كان من يهمه الترفه في هذا الجهاد، ومهما تكن حالنا فنحن أصلح حالًا من الشهداء والأبرار الذين داسوا هذه الأرض قبلنا.» وحينئذ بلغ مخيم الفارس فوجده بقعة من الأرض تسع ثلاثين خيمة على عدد رفاقه الذين كانوا معه، وفيها أكواخ حقيرة من أغصان الأشجار، وفي وسطها كوخ أرفع من غيره قليلًا، وعليه العلم الاسكتسي. ودخل الفارس هذا الكوخ وتبعه البارون فوجد في الكوخ سريرين: أحدهما سرير الفارس، كما يظهر من الأسلحة الملقاة بجانبه، والآخر سرير خادمه المريض وهو مغطى بثياب الفارس وأرديته. وأمام الباب خادم آخر يضرم النار ويصلح الطعام وبجانبه قطعة كبيرة من لحم الغزال، وهناك كلب من كلاب الصيد رابض على الأرض، وهو أكبر من كلاب الملك ريكارد وأجمل منها منظرًا وأجود أصلًا. فلما رأى البارون هر عليه بصوت جهير كأنه صوت الأسد، ثم رأى سيده فكف عن الهرير.
فقال الفارس: «وأنا أجيبك بصفة كوني فارسًا اسكتلنديًّا أني لم أبايع ملك الإنكليز المُلْك علي ولا أقسمت له يمين الطاعة. نعم، إنني في الوقت الحاضر إذا بوَّق بُوق الحرب أكون أول من ركب وآخر من نزل، ولكن في غير ساعة الحرب لا سلطة لملككم علي.»
فقال البارون: «ومع هذا لا يليق بك أن تخالف أمر الملك، فاسمح لي أن أرسل لك حماية لهذا البطل.» قال ذلك مشيرًا إلى الكلب.
فقال الفارس: «هو يعرف حمايَ ولا يخرج منه، وفي حماي أنا أحميه بنفسي.» وكأنه ندم على هذا الكلام فاستتلاه قائلًا: «لا يحسن بي أن أجيبك بمثل هذا الجواب، فقد يرى أحد رجالكم رُزول (وهو اسم الكلب)، ويسيء إليه فيتصل الأمر بنا إلى ما لا نحب. ولا أخفي عليك أن رزول معتمدنا في هذه البلاد، وما كان الملك ليحرمَنا مما لا نذوق طعم اللحم بدونه.»
فقال البارون: «أحسنت، فإنه أكرم من أن يفعل ذلك، والآن لا بد لي من الانصراف وسأرجع نحو المساء.» ثم ودعه وخرج.