الفصل الثامن
لما سمع الملك ما قصه عليه البارون قال له: «إن في الأمر عجبًا، أمتأكد أنت أن هذا الاسكتلندي حر صادق؟» فأجاب البارون: «لا يخفى على مولاي أن بلادي تجاور بلاد الاسكتلنديين، وقد خبرتُ هؤلاء الناس وعرفت مكرهم، ولكن يظهر لي أن هذا الرجل صادق، ولو كان شيطانًا.»
فقال الملك: «وهل هو فارس مشهود له؟» فقال البارون: «أنت أخبر مني بذلك.»
فقال الملك: «نعم، نحن رأيناه يثبت ثبوت الأبطال؛ لأننا نقف في مقدمة جيوشنا لا لنفتخر بشجاعتنا كما يزعم البعض، بل لنرى كيف يحارب رجالنا ونشجعهم على الثبات، وقد رأينا هذا الفارس وسرنا بأسه وإقدامه، ولكننا لم نغفل عن كبريائه واعتداده بنفسه.»
فقال البارون: «وأنا أرجو منك العفو؛ لأنني جاريته اليوم على كبريائه.» فعبس الملك وقال له: «وكيف ذلك؟»
فقال البارون: «يحق لي بمقتضى وظيفتي أن أسمح لمن كان شريف النسب أن يقتني كلبًا أو كلبين من كلاب الصيد، وعند هذا الرجل كلب لا يجوز التفريط فيه، ولم أر أحسن منه خلقًا، فإنه كبير الجسم أسود اللون مجدول العضل يسبق الظبي ويصرع الثور.»
فضحك الملك وقال له: «الظاهر أنك سمحت له باقتنائه، فحسنًا فعلتَ، ولكن لا تطلق يدك في السماح لغيره؛ لأن هؤلاء الأمراء كثار فلا يبقون لنا صيدًا. أما من جهة الحكيم فهل صادفه هذا الاسكتسي في القفر؟» فقال البارون: «كلا، بل إن الاسكتسي كان مرسلًا إلى ناسك عين جدي.»
فرفع الملك رأسه وقال: «من تجاسر أن يرسله إلى عين جدي، والملكة قد ذهبت إلى الدير الذي هناك؟!»
فقال البارون: «مجمع الملوك أرسله وهو لم يشأ أن يخبرني عن الغرض من ذهابه، أما ذهاب الملكة فالأرجح أن الملوك لا يعرفون شيئًا عنه.»
فقال الملك: «وأين التقى بهذا الحكيم؟»
فقال: «أخبرَني أنه التقى بأمير عربي في الطريق فتبارزا، ثم تصالحا وذهبا معًا إلى عين جدي، وهنالك علم الأمير بمرض الملك، فمضى إلى صلاح الدين وأخبره بالأمر، فبعث بهذا الحكيم وشيعه بموكب عظيم كأنه من الأمراء الكبار، وبعث معه رسالة ودية وقد ترجمها لنا الترجمان وها هي.»
فأخذها الملك وقرأها فإذا هو يقول فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من صلاح الدين ملك الملوك سلطان مصر والشام وعماد الدنيا والدين إلى الملك ريكار ملك الإنكتار. أما بعد، فقد بلغنا أن الله تعالى ابتلاك بمرض شديد، وأن الأطباء الذين عندك من النصارى واليهود عجزوا من شفائك؛ لأنهم لا يعتمدون على الله سبحانه وتعالى، ولذلك بعثنا إليك بطبيبنا الخاص. فنلتمس منك أن تكرم مثواه وتعتمد على علاجه لكي تنال الشفاء، فنستطيع أن ننهي هذه الحرب، إما بالصلح وإما بالاحتكام إلى السيف، وهو أعدل حاكم بيننا، فإني أضن ببطل كريم مثلك أن يموت حتف أنفه، وأسيافنا ظمآنة إلى دماء الأبطال، والسلام على من اتبع الهدى.
فلما أتم قراءة الرسالة قال: «علي بهذا الحكيم لعلي أشفى، فأقابل صلاح الدين في ميدان النزال وأنصفه بسيفي ورمحي.»
فقال البارون: «اذكر يا مولاي أن صلاح الدين عدو لنا.»
فقال الملك: «نعم، ولهذا السبب لا يريد أن أموت بالحمى، بل أن أقوم وأقابله في ميدان النزال، وأؤكد لك أنه يحبني كما أحبه وكما يحب الأبطال بعضهم بعضًا، فعار علي أن أرتاب في إخلاص نيته.»
فقال البارون: «مهما يكن من الأمر، فلا يحسن أن تسلم نفسك لهذا الحكيم قبل أن نرى فعل علاجه بالخادم الاسكتسي.»
فقال الملك: «ما أكثر ظنونك! اذهب وانظر فعل العلاج بالرجل، وأما أنا فقد سئمت الحياة فهي والموت عندي سيان.»
فخرج البارون وفي نيته أن يطلع أحد رؤساء الدين على ما في نفسه؛ لأنه كان مرتابًا من أمر هذا الطبيب، فمضى إلى رئيس أساقفة صور، وكان في المعسكر، وقص عليه الخبر فطيب هذا قلبه وأقنعه بجواز الاعتماد على الأطباء مهما كان مذهبهم. ثم قال: «أما هذا الطبيب ففي أمره ريب؛ لأن أهالي هذه البلاد ماهرون في دس السموم، فيدسها بعضهم لبعض في الطعام والشراب واللباس، بل في الرسائل التي يتراسلون بها، فلا يليق بنا أن نأتمنه على الملك قبلما نرى فعل دوائه بالخادم الاسكتسي، فقم بنا إلى خيمته، ولكن لا بد من استعمال شيء يقينا من العدوى، وأنا أشير عليك أن تستعمل حصى اللبنى منقوعة بالخل.» فقال البارون: «أشكر فضلك إلا أن الحمى لا تفعل بي، وإلا لسرت العدوى إلي من الملك.»
ثم سارا سوية، فلما بلغا خيمة الفارس الاسكتسي قال الأسقف: «هو ذا فارس شريف معدود من الأبطال، يأتمنه الملوك في أمور ذات بال، وهو يضع خادمه في مكان لا تبيت الكلاب فيه.» فقال البارون: «من ساواك بنفسه ما ظلمك؛ فإن هذه الخيمة يبيت فيها الفارس نفسه.»
وكان الأسقف شيخًا جليلًا أبيض الشعر جميل المنظر طويل القامة واللحية، لابسًا جبة من الحرير قد لُبِّست أهدابها بالفرو الثمين، وبجانبه خادمان: واحد رافع فوق رأسه مظلة من سعف النخل، والآخر يروِّح له بمروحة من ريش الطاووس. فدخل الكوخ وهو على تلك الحالة فوجد الطبيب جالسًا بجانب المريض حيث تركه البارون ده فو، فلم يحفل الطبيب بدخوله ولم يقم له، فاغتاظ من ذلك ولكنه كظم الغيظ وطارحه السلام باللغة العربية المتفرنجة، فرد له السلام ولم يزد. فقال الأسقف: «إذا كنتَ أنت الطبيب فلي مسائل أطرحها عليك لأنني أنا طبيب أيضًا.» فأجابه: «لو كان لك أدنى إلمام بالطب لعلمت أن الأطباء لا يتباحثون في غرف المرضى.» وحينئذ هر الكلب من داخل الكوخ، فقال الطبيب: «اسمع، حتى الكلاب تعلم بالغريزة أنه لا يجوز رفع الصوت بجانب المرضى، فإن كان لك شيء تسألني عنه فهلم بنا إلى خارج الخيمة.» قال ذلك ونهض وخرج أمامه، فتبعه الأسقف وتفرس في وجهه طويلًا، ثم سأله عن عمره. فقال: «سنو الجاهل تعد بأسرَّة جبهته، وسنو العالم بغزارة علمه، فأنا لم يكر علي أكثر من مائة عام.» ولما قال ذلك نظر البارون ده فو إلى وجه الأسقف مبهوتًا، وأنغض الأسقف رأسه كأنه لم يفهم معنى الطبيب. ثم قال له: «أين الشهادة التي تشهد أنك طبيب؟» فقال: «حسبك أن صلاح الدين الذي لا يرتاب صديق ولا عدو في صدق مقاله قد شهد أني طبيب، فماذا تطلب فوق ذلك؟» فقال البارون: «نطلب أن نرى شيئًا بأعيننا، وإلا فلا أدعك تدنو من سرير الملك.»
فقال الطبيب: «لا يليق بالإنسان أن يشهد لنفسه، ولكن هذا المريض قد أذابت الحمى لحمه وجففت ماء الحياة من عروقه، فلم يبق بينه وبين الموت إلا خطوة، وسترون كيف أنه يقوم معافًى بعد قليل. فهذه هي الشهادة التي تطلبان، وبذا يقضى الأمر الذي فيه تستفتيان.» ثم أخرج إسفنجة من إناء فضي ووضعها على أنف المريض فعطس، واستيقظ وجلس في فراشه هيكلًا من عظام. فقال له البارون: «أتعرف من نحن؟» فأجاب: «كلا يا مولاي، ولكن يظهر لي أنك أنت أمير من أمراء الإنكليز، وهذا من الأساقفة العظام.» وحينئذ قال الطبيب: «إن هذا أعدل شاهدي وقد صار نبضه منتظمًا مثل نبضكم.» وقرب يده إلى الأسقف ليجسها، فابتعد الأسقف عنها، وأما البارون فجسها وقال: «إن الرجل قد شفي من الحمى! فهلم أيها الطبيب إلى خيمة الملك.» ثم التفت إلى الأسقف وقال: «ما قول سيادتكم؟» فقال الطبيب: «أمهلوني ريثما أجرع هذا الرجل الجرعة الأخيرة من الدواء.» ثم أخرج كأسًا من الفضة وصب فيها قليلًا من الماء ووضع في الماء شيئًا موضوعًا في خرقة أبقاه فيه خمس دقائق، ثم أخرجه وسقى الماء للمريض وقال له: «نم الآن وقم معافًى بِإذن الله تعالى.»
فقال الأسقف: «أتشفي الملك بهذا العلاج البسيط؟» فقال الحكيم: «نعم، إن لم يكن ملوككم من طينة غير طينة بقية الناس.» فقال البارون: «قم بنا سريعًا إلى خيمة الملك فإن شفيته فبه، وإلا أصابك من يديَّ مرض لا يقبل الشفاء.» وقبل أن يخرجا رفع المريض رأسه، وقال: «بالله عليكما أخبراني أين سيدي.»
فقال الأسقف: «إن سيدك قد أُرسل بمهمة ولا يرجع قبل بضعة أيام.»
فقال البارون: «لماذا تخدع الرجل؟ يا صاح، إن سيدك قد رجع وستراه عن قريب.»
فألقى المريض رأسه على الوسادة ونام، وفيما هم خارجون، قال الأسقف للبارون: «أحسنت؛ فإن تطمين المريض لازم لشفائه.» فقال له البارون: «ما تعني يا مولاي؟ أتظن أنني أتكلم بالكذب ولو أحييت بكلامي عشرة مثل هذا الرجل؟!»
فقال الأسقف: «ألم تقل إن سيده؛ أي الفارس صاحب النمر الرابض، رجع من سفره؟»
فقال: «نعم، قلت ذلك، وقد رأيت هذا الفارس منذ بضع ساعات، وتكلمت معه، وهذا الطبيب أتى بصحبته.» فقال الأسقف: «ولماذا لم تخبرني قبل الآن برجوعه؟»
فقال البارون: «ألم أقل لك إن الطبيب جاء مع هذا الفارس؟! ولكن ما دخل رجوع الفارس بحذاقة الطبيب وشفاء الملك؟»
فرفس الأسقف الأرض برجله وقال: «له دخل كبير.» ثم قال: «ولكن أين ذهب، فلا بد من أن خطأ قد حدث؟»
فقال البارون: «هو ذا خادم آخر، فلنسأله عن سيده.» فنادياه ولما وقف بين أيديهما سألاه عن سيده، فقال: «إن قائدًا من القواد دعاه ليمضي إلى الملك قبل مجيئكما.» وحينئذ بلغت حيرة الأسقف أشدها فاستأذن من البارون بالانصراف، فتبعه البارون بنظره مستغربًا أمره إلى أن غاب عنه، ثم سار هو والطبيب نحو خيمة الملك.