هجرة الرسول
(الأمر بالهجرة – عليٌّ في فراش النبيِّ – في غار ثور – الخروج إلى يثرب – قصة سراقة بن جعشم – مسلمو يثرب في انتظار الرسول – الإسلام بيثرب – دخول محمد المدينة)
***
اتصل بمحمد نبأ ما بيَّتت قريش لقتله مخافة هجرته إلى المدينة واعتزازه بها، وما قد يجر ذلك على مكة من أذى، وعلى تجارتها مع الشام من بوار، ولم يكن أحد يشك في أن محمدًا سينتهز الفرصة فيهاجر. على أن ما أحاط به نفسه من كتمان لم يجعل لأحد إلى سره سبيلًا، حتى أبو بكر، الذي أعد راحلتين منذ استأذن النبي في الهجرة فاستمهله، قد بقي لا يعرف من الأمر إلا قليلًا. ولقد ظل محمد بمكة حتى علم من أمر قريش ما علم، وحتى لم يبق من المسلمين بها إلا القليل. وإنه لينتظر أمر ربه إذ أوحى إليه أن يهاجر. هنالك ذهب إلى بيت أبي بكر وأخبره بأن الله أذن له في الهجرة. وطلب الصدِّيق أن يصحبه في هجرته فأجابه إلى ما طلب.
هنا تبدأ قصة من أجلِّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوةً وروعة. كان أبو بكر قد أعد راحلتيه ودفعهما إلى عبد الله بن أريقط يرعاهما لميعادهما. فلما اعتزم الرجلان مغادرة مكة لم يكن لديهما ظلٌّ من ريب في أن قريشًا ستتبعهما؛ لذلك اعتزم محمد أن يسلك طرقًا غير مألوفة، وأن يخرج إلى سفره في موعد كذلك غير مألوف. وكان هؤلاء الشبان الذين أعدت قريش لقتله يحاصرون داره في الليل مخافة أن يفر. ففي ليلة الهجرة أسرَّ محمد إلى عليِّ بن أبي طالب أن يتسجَّى برده الحضرميَّ الأخضر وأن ينام في فراشه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وجعل هؤلاء الفتية من قريش ينظرون من فرجة إلى مكان نوم النبيِّ، فيرون في الفراش رجلًا فتطمئن نفوسهم إلى أنه لم يفرَّ، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج محمد في غفلة منهم إلى دار أبي بكر وخرج الرجلان من خوخة في ظهرها، وانطلقا جنوبًا إلى غار ثور؛ فاتجاههما نحو اليمن لم يكن مما يرد بالبال.
لم يعلم بمخبئهما في الغار غير عبد الله بن أبي بكر وأختيه عائشة وأسماء ومولاهم عامر بن فهيرة. أما عبد الله فكان يقضي نهاره بين قريش يستمع ما يأتمرون بمحمد ليقصه ليلًا على النبيِّ وعلى أبيه. وأما عامر فكان يرعى غنم أبي بكر، وكان إذا أمسى أراح عليهما فاحتلبا وذبحا. وإذا عاد عبد الله بن أبي بكر من عندهما تبعه عامر بالغنم فعفَّى على أثره. وأقاما بالغار ثلاثة أيام كانت قريش أثناءها تجدُّ في طلبهما غير وانية. وكيف لا تفعل وهي ترى الخطر محدقًا بها إن هي لم تُدرك محمدًا ولم تحل بينه وبين يثرب؟! أما الرجلان فأقاما بالغار ومحمد لا يفتر عن ذكر الله، إليه أسلم أمره وإليه تصير الأمور، وأبو بكر يُرهف أذنه يريد أن يعرف هل الذين يقْفُون أثرهما قد أصابوا من ذلك نجاحًا.
وأقبل فتيان قريش، من كل بطن رجل، بأسيافهم وعصيهم وهراواتهم يدورون باحثين في كل اتجاه. ولقوا راعيًا على مقربة من غار ثور سألوه؛ فكان جوابه: قد يكونان بالغار، وإن كنت لم أر أحدًا أمَّه.
وتصبب أبو بكر عرقًا حين سمع جواب الراعي، وخاف أن يقتحم الباحثون عنهما الغار، فأمسك أنفاسه وبقي لا حراك به وأسلم لله أمره. وأقبل بعض القرشيين يتسلقون إلى الغار، ثم عاد أحدهم أدراجه، فسأله أصحابه: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: إن عليه العنكبوت من قبل ميلاد محمد، وقد رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس أحد فيه. ويزداد محمد إمعانًا في الصلاة ويزداد أبو بكر خوفًا، فيقترب من صاحبه ويُلصق نفسه به، فيهمس محمد في أذنه: لا تحزن! إن الله معنا.
وفي رواية كتب الحديث: أن أبا بكر لما شعر بدنوِّ الباحثين قال هامسًا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.
فأجابه النبي: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!
وزاد القرشيين اقتناعًا بأن الغار ليس به أحد أن رأوا الشجرة تدلت فروعها إلى فوهته، ولا سبيل إلى الدخول إليه من غير إزالة هذه الفروع. إذ ذاك انصرفوا وسمع اللاجئان تناديهم للأوبة من حيث أتَوْا؛ فازداد أبو بكر إيمانًا بالله ورسوله، ونادى محمد: الحمد لله، الله أكبر.
هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقص التاريخ الإسلامي الجد: نسيج عنكبوت، وهويُّ حمامة، ونماء شجيرة؛ وهي أعاجيب ثلاث لها كل يوم في أرض الله نظائر.
على أن هذه المعجزة لم ترد في سيرة ابن هشام، بل كل ما أورد هذا المؤرخ في سياق قصة الغار ما يأتي: عمدا إلى غار ثور — جبل أسفل مكة — فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما … فأقام رسول الله في الغار ثلاثًا. وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم. وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره ومعهم، يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله ﷺ وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا. فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفِّي عليه. حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس. أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيرهما وبعير له … إلخ هذا ما ذكر ابن هشام عن قصة الغار نقلناه إلى حين خروج محمد وصاحبه منه.
وفي اليوم الثالث حين عرفا أن قد سكن الناس عنهما أتاهما صاحبهما ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما. فلما ارتحلا لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في رحالهما، فشقت نطاقها وعلَّقت الطعام بنصفه وانتطقت بالنصف الآخر؛ فسميت لذلك «ذات النطاقين». وامتطى كل رجل بعيره ومعهما طعامهما ومع أبي بكر خمسة آلاف درهم هي كل ماله. وزادهما اختفاؤهما بالغار وعلمهما بإمعان قريش في تتبعهما حرصًا وحذرًا؛ فتخذا إلى يثرب طريقًا غير الطريق الذي ألف الناس. سلك بهما دليلهما عبد الله بن أريقط (أحد بني الدُّئل) ممعنًا إلى الجنوب بأسفل مكة ثم متجهًا إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر. فلما كانا في غير الطريق الذي ألف الناس اتجه بهما شمالًا محاذيًا الشاطئ مع الابتعاد عنه، متخذًا من السبل ما قل أن يطرقه أحد، وأمضى الرجلان ودليلهما طيلة الليل وصدر النهار على رواحلهم، لا يعبآن بمشقة ولا يضنيهما تعب. وأيَّة مشقة أخوف مما يخافان من قريش لصدهما عن الغاية التي يبتغيان بلوغها في سبيل الله والحق؟!
صحيح أن محمدًا لا تساوره ريبة في أن الله ناصره، ولكن لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة. والله في عون العبد ما دام العبد في عون نفسه، وفي عون أخيه. لقد تخطيا في أمان أيام الغار، ولكن ما جعلته قريش لمن يردُّهما أو يدلُّ عليهما جدير بأن يستهوي نفوسًا يغريها الكسب المادي ولو جاء عن طريق الجريمة. فما بالك وهؤلاء العرب من قريش يعتبرون محمدًا عدوًّا لهم؟! وفي نفوسهم من خُلُق الغِيلة ما لا يأنف من الفتك بالأعزل والاعتداء على من لا يستطيع عن نفسه دفاعًا. فليكونا إذن على أشد الحذر، وليكونا أعينًا ترى، وآذانًا تسمع، وقلوبًا تشعر وتعي.
ولم يخنهما حدسهما؛ فقد أقبل على قريش رجل أخبرها أنه رأى رَكَبَةً ثلاثة مروا عليه يعتقدهم محمدًا وبعض أصحابه، وكان سراقة بن مالك بن جُعشم حاضرًا فقال: إنما هم بنو فلان؛ ليضلل الرجل وليفوز بمغنم النوق المائة. ومكث مع القوم قليلًا ثم عاد إلى بيته فتدجج بسلاحه، وأمر بفرسه فأُرسل إلى بطن الوادي حتى لا يراه أحد ساعة خروجه، وامتطاه ودفعه إلى الناحية التي ذكر ذلك الرجل، وكان محمد وصاحباه قد أناخوا في ظل صخرة ليقيلوا وليرفهوا عن أنفسهم بعض ما أرهقها من وصب، ولينالوا من الطعام والشراب ما لعلهم يستعيدون به قوَّتهم وصبرهم.
وبدأت الشمس تنحدر، وبدأ محمد وأبو بكر يفكران في امتطاء جمالهما إذ كانا من سراقة قيد البصر. وكان جواد سراقة قد كبا به قبل ذلك مرتين لشدة ما جهده. فلما رأى الفارس أنه وشيك النجاح وأنه مُدرك الرجلين فرادُّهما إلى مكة أو قاتلهما إن حاولا عن نفسيهما دفاعًا، نسي كبوتي جواده ولزه ليمسك بيده ساعة الظفر. ولكن الجواد في قومته كبا كبوة عنيفة ألقى بها الفارس من فوق ظهره يتدحرج في سلاحه. وتطير سراقة وألقي في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالته، وأنه معرِّض نفسه لخطر داهم إذا همَّ مرة رابعة لإنفاذ محاولته. هنالك وقف ونادى القوم: أنا سراقة بن جُعشُم. انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فلما وقفا ينظرانه طلب إلى محمد أن يكتب له كتابًا يكون آية بينه وبينه. وكتب أبو بكر بأمر النبي كتابًا على عظم أو خزف ألقاه إلى سراقة؛ فأخذه وعاد أدراجه. وأخذ نفسه بتضليل من يطاردون المهاجر العظيم بعد أن كان هو يطارده.
وانطلق محمد وصاحبه يقطعان بطون تهامة في قيظ مُحرق تتلظى له رمال الصحراء، ويجتازان إكامًا ووهادًا، ولا يجدان أكثر الأمر ما يتقيان به شواظ الهاجرة، ولا يجدان ملجأً من قسوة ما يحيط بهما، وأمنًا مما يتخوفان أن يفجئهما، إلا في صبرهما وحسن ثقتهما بالله وعظيم إيمانهما بالحق الذي أنزل على رسوله. وظلا كذلك سبعة أيام متتالية يُنيخان في حَمَّارة القيظ ويسريان على سفينة الصحراء الليل كله يجدان في سكينته وفي ضوء النجوم اللامعة في ظلمته ما يطمئن له قلباهما وتستريح له نفساهما. فلما بلغا مقام قبيلة بني سَهْم وجاء إليهما شيخها بُريدة يحييهما زالت مخاوفهما واطمأنت لنصر الله قلوبهما وقد صارا من يثرب قاب قوسين أو أدنى.
وفي فترة رحلتهما هذه المضنية كانت الأخبار قد ترامت إلى يثرب بهجرة النبي وصاحبه ليلحقا أصحابهما فيها. وكانت قد عرفت ما لقيا من عنت قريش ومن تتبُّعها إياهما. لذلك ظل المسلمون جميعًا بها وهم ينتظرون مقدم صاحب الرسالة بنفوس ممتلئة شوقًا لرؤيته والاستماع له. وكان الكثيرون منهم لما يروه وإن كانوا قد سمعوا من أمره ومن سحر بيانه ومن قوة عزمه ما جعلهم للقياه أشد اشتياقًا، وإلى رؤيته أشد تطلعًا. وإنك لتقدر مبلغ ما كانت تجيش به هذه النفوس حين تعلم أن من سادة يثرب من لم يروا محمدًا من قبل، وإنما اتبعوه بعد أن سمعوا أصحابه الذين كانوا أشد المسلمين لدين الله دعوةً ولرسول الله حبًّا. جلس سعد بن زرارة ومصعب بن عمير في حائط من حوائط بني ظفر واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا؛ فبلغ نبؤهما سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير، وكانا يومئذ سيدي قومهما؛ فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفِّها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما، فإن سعد بن زرارة ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا. فذهب أسيد إليهما يزجرهما. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره؟
قال أسيد: أنصفت وركز حربته وجلس إليهما، وسمع إلى مصعب فقام مسلمًا، وعاد إلى سعد بوجه غير الوجه الذي تركه به. فغاظ ذلك سعدًا، وقام هو إلى الرجلين، فكان أمره كأمر صاحبه، وكان من أثر ذلك أن ذهب سعد إلى قومه فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبةً.
قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
فأسلم بنو عبد الأشهل جميعًا رجالًا ونساءً.
وبلغ من انتشار الإسلام بيثرب ومن بأس المسلمين فيها من قبل هجرة النبي إليها ما لم يحلم به مسلمو مكة، وما طوَّع لبعض الشبان من المسلمين أن يعبثوا بأصنام المشركين من أهلهم. كان لعمرو بن الجَمُوح صنم من خشب يدعوه مناة، قد اتخذه في داره كما كان الأشراف يصنعون. وكان عمرو سيدًا من سادات بني سلمة وشريفًا من أشرافهم. فلما أسلم فتيان قومه كانوا يريحون بالليل على صنمه فيحملونه فيكبونه على رأسه في إحدى الحُفر التي يخرج أهل يثرب لقضاء حاجاتهم بها. فإذا أصبح عمرو فلم يجد الصنم التمسه حتى يعثر به، ثم غسله وطهره ورده مكانه وهو يُبرق ويُرعد ويتهدد ويتوعد. وكرر فتيان بني سلمة عبثهم بمناة ابن الجموح، وهو كل يوم يغسله ويطهره. فلما ضاق بهم ذرعًا علَّق على الصنم سيفه وقال له: إن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك. وأصبح فالتمسه فوجده في بئر مقرونًا إلى كلب ميت وليس معه السيف، فلما كلمه رجال قومه أسلم بعد أن رأى بعينه ما في الشرك والوثنية من ضلال يهوي بنفس صاحبه إلى درك لا يجمُل بإنسان.
يسير عليك أن تقدر، مع ما بلغ الإسلام من علوِّ الشأن بيثرب، تحرُّق أهلها شوقًا إلى مقدم محمد عليهم بعد إذ علموا بهجرته من مكة. كانوا يخرجون كل يوم بعد صلاتهم الصبح إلى ظاهر المدينة يتلمسونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال في هذه الأيام الحارة من شهر يوليه. وبلغ هو قُباء — على فرسخين من المدينة — فأقام أربعة أيام بها ومعه أبو بكر. وفي هذه الأيام الأربعة أسس مسجدها. وبينما هم بها وصل إليها عليُّ بن أبي طالب الذي رد الودائع التي كانت عند محمد لأصحابها من أهل مكة ثم غادرها يقطع الطريق إلى يثرب على قدميه، يسير الليل ويستخفي بالنهار، ويحتمل هذا الجهد المضني أسبوعين كاملين ليلحق بإخوانه في الدين.
وإن مسلمي يثرب لينتظرون يومًا كعادتهم إذ صاح بهم يهودي كان قد رأى ما يصنعون: «يا بني قَيْلة، هذا صاحبكم قد جاء.» وكان هذا اليوم يوم جمعة، فصلاها محمد بالمدينة. وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانونا أقبل عليه مسلمو يثرب وكلٌّ يحاول أن يراه وأن يقترب منه، وأن يملأ عينيه من هذا الرجل الذي لم يره من قبل، والذي امتلأت مع ذلك نفسه بحبه وبالإيمان برسالته، والذي يذكره كل يوم أثناء صلاته مرات. وعرض عليه رجال من سادة المدينة أن يُقيم عندهم في العدد والعُدة والمنعة؛ فاعتذر لهم وامتطى ناقته وألقى لها خطامها، فانطلقت في طرق يثرب والمسلمون من حولها في حفل حافل يخلون لها طريقها، وسائر أهل يثرب من اليهود والمشركين ينظرون إلى هذه الحياة الجديدة التي دبت إلى مدينتهم، وإلى هذا القادم العظيم الذي اجتمع عليه من الأوس والخزرج من كانوا من قبل أعداءً متقاتلين، ولا يجول بخاطر أحدهم في هذه البرهة التي اعتدل فيها ميزان التاريخ إلى وجهته الجديدة، ما أعد القدر لمدينتهم من جلال وعظمة يبقيان على الزمن ما بقي الزمن، وجعلت الناقة تسير حتى كانت عند مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، هنالك بركت، ونزل الرسول عنها، وسأل: لمن المربد؟ فأجابه معاذ بن عفراء: إنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا محمدًا أن يتخذه مسجدًا. وقبل محمد، وأمر أن يُبنى في هذا المكان مسجده وأن تبنى داره.