السرايا١ والمناوشات الأولى
(تفكير محمد في أمر قريش – إيفاد السرايا لتخويف قوافلهم – غزوة عبد الله بن جحش في الشهر الحرام – الإسلام والقتال)
***
استقر للمسلمين المقام بالمدينة بعد أشهر من الهجرة، فبدأ تَحنان المهاجرين إلى مكة يزداد، وبدءوا يفكرون فيمن تركوا وما تركوا بها، وما أنزلت قريش بهم من الأذى، فماذا عساهم يصنعون؟ تذهب الكثرة من المؤرخين إلى أنهم فكروا وفكَّر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم، وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب، بل إن بعضهم ليذهب إلى أنهم فكروا في هذه الحرب منذ مقدَمهم إلى المدينة، وإنما منعهم من إشعال نارها أنهم كانوا في شغل بإعداد مساكنهم وتنظيم وسائل معاشهم، ويستدل هذا البعض بأن محمدًا إنما عقد بيعة العقبة الكبرى لحرب الأحمر والأسود من الناس، وطبيعي أن تكون قريش أول من يتجه إليها نظره ونظر أصحابه، مما فطنت له قريش بُكْرَةَ العقبة، فخرجت في فزع تسأل الأوس والخزرج عنه.
ويؤيد هذا البعض قوله بما وقع بعد ثمانية أشهر من مُقام الرسول والمهاجرين بالمدينة؛ إذ بعث محمد عمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبًا من المهاجرين دون الأنصار إلى شاطئ البحر من ناحية العِيصِ حيث لقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة؛ وبأن حمزة كان على أهبة مقاتلة قريش إلا أن حجز بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني، وكان موادعًا الفريقين جميعًا، فانصرف بعض القوم عن بعض دون قتال؛ وإذ بعث محمد عبيدة بن الحارث في ستين راكبًا من المهاجرين دون الأنصار، فساروا إلى ماء بالحجاز بوادي رابغ، فلقيهم به جمع من قريش يزيد على مائتين على رأسهم أبو سفيان، فانسحبوا من غير قتال، إلا ما روي من أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ بسهم «فكان أول سهم رُميَ به في الإسلام»؛ وإذ بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين على رواية، وفي عشرين منهم على رواية أخرى؛ فخرجوا إلى أرض الحجاز ثم عادوا بعد أن لم يصيبوا ما أُرْسِلُوا فيه.
ويزيد هذا البعض دليله تأييدًا بأن النبي خرج بنفسه على رأس اثني عشر شهرًا من مقدمه إلى المدينة، واستعمل عليها سعد بن عبادة، وسار إلى الأبواء حتى بلغ ودَّان يريد قريشًا وبني ضَمرة؛ فلم يلق قريشًا وحالفته بنو ضمرة، وأنه بعد شهر من ذلك خرج على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط يريد قافلة يقودها أمية بن خلف عدتها ألفان وخمسمائة بعير يحميها مائة محارب فلم يدركها، أن اتخذت طريقًا غير طريق القوافل المعبَّد. وأنه بعد شهرين أو ثلاثة من عودته من بواط من ناحية رضوى استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وخرج في أكثر من مائتين من المسلمين حتى نزل العُشيرة من بطن ينبُع فأقام بها جُمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة (أكتوبر سنة ٦٢٣م) ينتظر مرور قافلة من قريش على رأسها أبو سفيان ففاتته. وكسب من رحلته هذه أن وادع بني مُدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، وأنه ما كاد يرجع إلى المدينة ليقيم بها عشر ليالٍ حتى أغار كُرز بن جابر الفهري، من المتصلين بمكة وبقريش، على إبل المدينة وأغنامها، فخرج النبي في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وتابع مسيره حتى بلغ واديًا يقال له سَفَوَان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه. وهذه هي التي يطلق عليها كتَّاب السيرة اسم غزة بدر الأولى.
أفلا يقوم هذا كله دليلًا على أن المهاجرين فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب؟ وهو على أقل تقدير — في رأي هؤلاء المؤرخين — يشهد بأنهم قصدوا من إرسال سراياهم وغزواتهم المبدئية هذه إلى غايتين؛ الأولى: الوقوع على قوافل قريش في ذهابها إلى الشام أو عودتها منها حين رحلة الصيف، واحتمال ما يمكن احتماله من الأموال التي تذهب هذه القوافل وتعود بالتجارة فيها. والثانية: أخذ الطرق على قوافل قريش في رحلتها إلى الشام بعقد الموادعات والأحلاف مع القبائل المتصلة ما بين المدينة وشاطئ البحر الأحمر، بما يسهِّل على المهاجرين مهاجمة هذه القوافل دون أن تلقى في جوار هاته القبائل وما يحميها من محمد وأصحابه، حماية تمنع أخذ المسلمين رجالها ومالها أخذ عزيز مقتدر. وهذه السرايا التي عقد النبي — عليه السلام — ألويتها لحمزة ولعبيدة بن الحارث ولسعد بن أبي وقاص، وهذه المحالفات التي عقدها بنو ضمرة وبنو مدلج وغيرهم، تؤيد الغاية الثانية وتشهد بأن أخذ طريق الشام على أهل مكة كان بعض ما قصد إليه المسلمون.
أما أنهم بهذه السرايا، التي بدأت بعد ستة أشهر من مقامهم بالمدينة والتي اشترك فيها المهاجرون وحدهم، كانوا يقصدون حرب قريش وغزو قوافلها، فذلك ما يقف الإنسان منه موقف التردد والتفكير. فلم تكن سرية حمزة لتزيد على ثلاثين رجلًا من المهاجرين، ولم تزد سرية عبيدة على ستين، وكانت سرية سعد لا تتجاوز ثمانية نفر على قول، وعشرين على قول آخر. وكان الموكلون بحماية قوافل قريش عادةً أضعاف هذه الأعداد، وقد زادتهم قريش عددًا وعدةً منذ أقام محمد بالمدينة وبدأ يحالف القبائل التي بها والقريبة منها. ومهما يكن من بأس حمزة وعبيدة وسعد ممن كانوا يرأسون سرايا المهاجرين، فإن عدة من معهم لم تكن لتشجعهم على الحرب، مما جعلهم يكتفون يكتفون منها جميعًا بتهديد قريش دون قتالها إلا ما قيل عن السهم الذي رَمى به سعد.
ثم إن قوافل قريش كان يحميها من أهل مكة من تصلهم بالكثيرين من المهاجرين أواصر القربى وصلات الدم؛ فلم يكن من اليسير عليهم أن يقتل بعضهم بعضًا وأن يتعرض هؤلاء وأولئك لطلب الثأر، وأن يعرِّضوا مكة والمدينة جميعًا لحرب أهلية استطاع المسلمون والوثنيون اتقاءها بمكة ثلاث عشرة سنة متتابعة من يوم بَعْثِ محمد إلى يوم هجرته. والمسلمون كانوا يعلمون أن بيعة العقبة كانت بيعة دفاعية تعهد فيها الأوس والخزرج بحماية محمد، ولم يعاهدوه ولا عاهدوا أحدًا ممن معه على العدوان. فليس من اليسير مع هذا كله التسليم مع المؤرخين، الذين لم يبدءوا بكتابة تاريخ النبي إلا بعد قرابة قرنين من وفاته، بأن هذه السرايا والرحلات الأولى كان يقصد بها القتال بالفعل. فلا بد لها إذن من تأويل أقرب إلى العقل وأكثر اتفاقًا مع سياسة المسلمين في هذه الفترة الأولى من مقامهم بالمدينة، وأدق تمشيًا مع سياسة الرسول التي كانت قائمة يومئذ على قواعد التفاهم والاتفاق مع مختلف القبائل، لكفالة حرية الدعوة الدينية من ناحية، وكفالة حسن المعاملة والجوار من ناحية أخرى.
والراجح عندي أن هذه السرايا الأولى إنما قصد بها إلى إفهام قريش أن مصلحتهم تقتضيهم التفاهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطروا إلى الجلاء عن مكة بسبب ما عانوا من الاضطهاد تفاهمًا يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى الدين، ولأهل مكة سلامة تجارتهم في طريقها إلى الشام. وقد كانت هذه التجارة التي تبعث بها مكة والطائف جميعًا، والتي كانت تجيء إلى مكة من بلاد الجنوب، تجارة واسعة النطاق، حتى لقد كانت بعض القوافل تسير في ألفي بعير، حمولتها تزيد على خمسين ألف دينار. كانت صادرات مكة السنوية، على ما قدَّرها المستشرق «سبرنجر» توازي مائتين وخمسين ألفًا من الدنانير؛ أي نحو مائة وستين ألف جنيه ذهبًا.
فإذا أيقنت قريش تعرُّض هذه التجارة للخطر آتيًا من أبنائها من الذين هاجروا إلى المدينة دعاها ذلك إلى التفكير في التفاهم معهم تفاهمًا طمع المسلمون في أن يكفل لهم ما كانوا يطمحون إليه من حرية الدعوة إلى دينهم، ومن حرية الدخول إلى مكة والطواف ببيتها العتيق. ولم يكن مثل هذا التفاهم ممكنًا ما لم تقدِّر قريش قوة المهاجرين من أبنائها على الإيقاع بها وإيصاد طريق التجارة في وجهها. وهذا هو ما يفسر عندي رجوع حمزة ومن معه من المهاجرين الذين لقوا أبا جهل بن هشام عند ساحل الجزيرة لأول ما حجز مجديُّ بن عمرو الجهني بينهما، كما يفسر كثرة اتجاه المسلمين بسراياهم إلى طريق تجارة مكة في عدد لا يسهل معه تصورهم مقدمين على الحرب، وهذا كذلك هو الذي يفسر حرص النبي، بعد ما بدا من صلف قريش وعدم اعتدادها بقوة المهاجرين، على موادعة القبائل المقيمة على طريق هذه التجارة، والتحالف معها تحالفًا نمى خبره إلى قريش لعلها ترعوي وتعود إلى التفكير في التفاهم والاتفاق.
يدعم هذا الرأي بأقوى سند أن النبي — عليه السلام — لما خرج إلى بواط وإلى العُشيرة كان من بين الذين صحبوه عدد غير قليل من الأنصار أهل المدينة. والأنصار إنما بايعوه ليدفعوا عنه لا ليهاجموا معه. وسنرى ذلك صريحًا حين غزوة بدر الكبرى؛ إذ يتردد محمد دون القتال حتى يوافق أهل المدينة عليه. وإذا كان الأنصار لا يرون مخالفة لبيعتهم في أن يعاهد محمد غيرهم من الناس، فليس معنى هذا أن يخرجوا معه لحرب أهل مكة وليس بين الفريقين من أسباب الحرب ما تجيزه أخلاق العرب، أو يجيزه نظام صِلاتهم بعضهم ببعض. ومهما يكن في هذه الموادعات التي يعقدها محمد من تقوية المدينة ومن توهين ما تطمع تجارة قريش فيه من أسباب الحماية؛ فشتان ما بين ذلك وبين إعلان الحرب أو السعي إليها. فالقول إذن بأن حمزة أو عبيدة بن الحارث أو سعد بن أبي وقاص إنما خرجوا لحرب قريش، وتسمية سرياتهم غزوات مرجوح عندنا فلا نكاد نسيغه. والقول كذلك بأن محمدًا إنما خرج إلى الأبواء وبواط والعُشيرة غازيًا، فيه تجوُّز كبير وترد عليه الاعتراضات التي قدمنا. ولا يفسر أخذُ مؤرخي محمد به إلا أنهم لم يترجموا لمحمد إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة، وأنهم كانوا متأثرين بالمغازي التي حدثت بعد ذلك منذ بدر الكبرى، فاعتبروا ما سبقها من مناوشات يقصد بها إلى غير الحرب مغازي تضاف إلى حروب المسلمين أيام النبي.
والظاهر أن كثيرين من المستشرقين قد فطنوا لهذا الاعتراض وإن لم يشيروا في كتبهم إليه. وإنما يدعونا إلى الظن بفطنتهم له أنهم — مع مجاراتهم مؤرخي المسلمين في قصد المهاجرين ومحمد على رأسهم إلى حرب أهل مكة منذ الساعة الأولى من مقامهم بالمدينة — قد أشاروا إلى أن هذه السرايا الأولى إنما كان يقصد بها إلى نهب تجارة القوافل، فإن النهب كان بعض طباع أهل البادية، وإن أهل المدينة إنما أغرتهم الغنيمة والسلب باتباع محمد على خلاف عهدهم في العقبة، وهذا كلام مردود؛ لأن أهل المدينة كأهل مكة لم يكونوا أهل بادية يعيشون على السلب والنهب، وأنهم فوق ذلك كان في طبعهم ما في طبع من يعيشون على الزراعة من حب الاستقرار مما يجعلهم لا يتحركون إلى قتال إلا لدافع قويٍّ. أما المهاجرون فكان من حقهم أن يستخلصوا من أيدي قريش ما أخذت من أموالهم، لكنهم لم يستعجلوا ذلك قبل بدر، فلم يكن هو الدافع لإرسال السرايا والغزوات الأولى.
ثم إن القتال لم يُشرَع في الإسلام ولم يقم به محمد وأصحابه لهذه الغاية البدوية التي يتوهم المستشرقون، وإنما شُرِع وقام به محمد وأصحابه حتى لا يفتنهم عن دينهم أحد، وحتى يكون لهم من حرية الدعوة ما يشاءون. وسنرى من بعدُ تفصيل هذا والدليل عليه. وعندئذ يزداد أمامنا وضوحًا أن محمدًا إنما كان يرمي من المعاهدات التي عقد إلى تعزيز المدينة، حتى لا يتطرق إلى قريش فيها مطمع، فلا يحاولوا إعنات المسلمين فيها كما حاولوا من قبل إعادتهم من بلاد الحبشة؛ وأنه كان لا يأبى في الوقت نفسه أن يعاهد قريشًا على أن تترك حرية الدعوة لدين الله طليقة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
ولعل محمدًا رمى من وراء هذه السرايا والرحلات المسلحة إلى غرض آخر. لعله رمى إلى إرهاب اليهود المقيمين في المدينة وعلى مقربة منها. فقد رأيت أن هؤلاء اليهود بعد أن طمعوا أول وصول محمد إلى المدينة في ضمه إليهم، وبعد أن وادعوه وعاهدوه على حرية الدعوة للدين، وعلى إقامة شعائره وفرائضه، لم يلبثوا — حين رأوا أمر محمد يستقر ولواء الإسلام يسمو ويرتفع — أن بدءوا يقلبون للنبي ظهر المِجَنِّ ويعملون للوقيعة به. ولئن قعدوا عن مصارحته بالعداوة خشية أن تتعرض مصالحهم التجارية للارتباك إذا نشبت بين أهل المدينة حرب أهلية، أو محافظة على عهد موادعتهم، لقد لجئوا إلى كل وسيلة للدس بين المسلمين، ولإثارة البغضاء بين المهاجرين والأنصار، ولإيقاظ الأحقاد الماضية بين الأوس والخزرج بذكر يوم بُعاث ورواية ما قيل من الشعر فيه.
وقد فطن المسلمون لدسهم ولمبالغتهم فيه، وبلغوا من ذلك أن حشروهم في زمرة المنافقين، بل اعتبروهم شرًّا منهم، فأخرجوهم من المسجد إخراجًا عنيفًا، وأبوا عليهم أن يجلسوا إليهم أو أن يتحدثوا معهم؛ وانتهى النبي — عليه السلام — إلى الإعراض عنهم بعد إذ حاول إقناعهم بالحجة والدليل، وطبيعي لو ترك حبل يهود المدينة هؤلاء على غاربهم، أن يستفحل أمرهم ويثيروا الفتنة التي يسعون لإثارتها. وليس يكفي في عرف الدقة السياسية التحذير منهم والتنبيه إلى كيدهم، بل لا بد من إشعارهم أن للمسلمين من القوة ما يمكنهم من إخماد أية فتنة تقوم، ومن القضاء على أسبابها واجتثاث أصولها. وخير وسيلة لهذا الإشعار إرسال السرايا والقيام بالمناوشات الحربية في مختلف الأنحاء على ألا تتعرض قوات المسلمين لهزيمة تطمع اليهود كما تطمع قريشًا فيهم. وهذه المداورة هي ما وقع؛ ووقع من رجال كحمزة سريعين إلى الغضب لا تكفي لصدهم عن القتال واسطة موادع يدعو إلى السلم ما لم تكن المناوشة الحربية ثم الإمساك عن القتال في عزَّة وكرامة، سياسة مرسومة، وخطة مبيتة يقصد بها إلى درك غايات معينة، هي ما ذكرنا من تخويف اليهود من ناحية، والسعي من ناحية أخرى للاتفاق مع قريش على ترك الدعوة للدين وإقامة شعائره حرة مطلقة من غير حاجة إلى حرب أو قتال.
والحجة على ذلك ما نزل من الآيات في سرية عبد الله بن جحش الأسدي؛ فقد بعثه رسول الله في رجب من تلك السنة الثانية للهجرة ومعه جماعة من المهاجرين، ودفع إليه كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدًا. وفتح عبد الله الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة (بين مكة والطائف) فترصَّد بها قريشًا وتعلَّم لنا من أخبارهم.» وعلم أصحابه بالأمر وبأنه لا يستكره أحدًا منهم، فمضوا معه جميعًا خلا سعد بن أبي وقاص الزُّهري وعُتبة بن غزوان اللذين ذهبا يطلبان بعيرًا لهما ضل فأسرتهما قريش. وسار عبد الله ومن معه حتى نزلوا نخلة. هناك مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي؛ وكان يومئذ آخر شهر رجب. وذكر عبد الله بن جحش ومن معه من المهاجرين ما صنعت قريش بهم وما حجزت من أموالهم، وتشاوروا وقال بعضهم لبعض: «والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنَّ الحرم فليمتنِعُنَّ منكم به. ولئن قتلتموهم لتقتلُنَّهم في الشهر الحرام.» وترددوا وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم. ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأسر المسلمون رجلين من قريش.
جديرٌ بنا أن نقف عند سرية عبد الله بن جحش هذه والآية الكريمة التي نزلت فيها؛ فهي في رأينا مفترق طرق في سياسة الإسلام. هي حادث جديد في نوعه يدل على روح قويٍّ في سموِّه، إنساني في قوَّته، ينتظم نواحي الحياة المادية والمعنوية والروحية كأشد ما يكون النظام قوَّة ورفعةً وتوجهًا إلى الكمال. فالقرآن يجيب المشركين عن سؤالهم عن القتال في الشهر الحرام أهو من الكبائر، ويقرُّهم على أنه كذلك أمر كبير. لكن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر. فالصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام والقتل فيه. وفتنة الرجل عن دينه بالوعد والوعيد والإغراء والتعذيب أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي غير الشهر الحرام. وقريش والمشركون الذين ينعون على المسلمين ما قتلوا في الشهر الحرام لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردُّوهم عن دينهم إن استطاعوا. فإذا كانت قريش وكان المشركون يرتكبون هذه الكبائر جميعًا، فيصدون عن سبيل الله ويكفرون به ويُخرجون أهل المسجد الحرام منه ويفتنونهم عن دينهم، فلا جناح على من تقع عليه أوزارهم وكبائرهم هذه إن هو قاتلهم في الشهر الحرام، وإنما الكبيرة أن يقاتَل في الشهر الحرام من لا يجترح من هذه الأوزار وزرًا.
والجهاد في سبيل الله معناه الصريح، على نحو ما ورد في الآيات التي ذكرناها والتي نزلت في سرية عبد الله بن جحش، قتال الذين يفتنون المسلم عن دينه ويصدون عن سبيل الله، وهذا هو القتال في سبيل حرية الدعوة إلى الله وإلى دينه. وبعبارة تتمشى مع أسلوب عصرنا الحاضر: الدفاع عن الرأي بالوسائل التي يقاتل بها أصحاب الرأي. فإذا أراد أحد أن يفتن رجلًا عن رأيه بالدعاية وبالمنطق دون أن يحمله على ترك هذا الرأي بالقوة وبغير القوة من وسائل الرشوة والتعذيب، لم يكن لأحد أن يدفع هذا الرجل إلا بإدحاض حجته وتفنيد منطقه، لكنه إذا حاول بالقوة المسلحة أن يصد صاحب رأي عن رأيه، وجب دفع القوة المسلحة بالقوة المسلحة متى استطاع الإنسان إليها سبيلًا. ذلك بأن كرامة الإنسان تتلخص في كلمة واحدة: عقيدته. فالعقيدة أثمن — عند من يقدر معنى الإنسانية — من المال ومن الجاه ومن السلطان ومن الحياة نفسها؛ من هذه الحياة المادية التي يشترك الإنسان والحيوان فيها، يأكلون ويشربون، وتنمو أجسامهم وتقوى عضلاتهم. والعقيدة هي هذه الصلة المعنوية بين الإنسان والإنسان، والصلة الروحية بين المرء وربه. وهي هذا الخط الذي يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان مما في الحياة، والذي يجعله يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثر البائس والفقير والمسكين على أهله ولو كان به وبهم خصاصة، ويتصل بالكون كله ليعمل دائبًا كي يبلغ الكون ما قدَّر الله له من الكمال.
إذا ملكت هذه العقيدة إنسانًا فحاول غيره فتنته عنها ولم يستطع دفاعًا عن نفسه، فعل ما فعل المسلمون قبل هجرتهم إلى المدينة، فاحتمل المساءة والأذى وصبر على الهوان والضيم، ولم يصده جوع ولا حرمان أيًّا كان نوعه عن التمسك بعقيدته. وهذا الذي فعل المسلمون الأولون هو الذي فعل المسيحيون الأولون. لكن الصابرين لعقيدتهم ليسوا هم سواد الناس ولا جماعتهم، وإنما هم الصفوة والمختارون ومن حباهم الله من قوة الإيمان ما يصغر معه كل أذى وكل ضيم؛ وما يدك الرواسي، وما تقول معه للجبل انتقل من مكانك ينتقل، على حدِّ تعبير الإنجيل. لكنك إذا استطعت أن تدفع الفتنة بسلاح من يحاول الفتنة، وأن تقف في وجه من يصدُّ عن سبيل الله بوسائله، وجب عليك أن تفعل، وإلا كنت مزعزع العقيدة ضعيف الإيمان. وهذا ما فعل محمد وأصحابه بعد أن استقر لهم الأمر بالمدينة، وهذا ما فعل المسيحيون بعد أن استقر لهم السلطان في رومية وفي بزنطية وبعد أن لان قلب بعض عواهل الروم لدين المسيح.
ويقول المبشرون: لكن روح المسيحية تنكر القتال على إطلاقه. ولست أقف لأبحث عن صحة هذا القول. لكن تاريخ المسيحية أمامنا شاهد عدل، وتاريخ الإسلام أمامنا شاهد عدل. فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا خُضِّبت أقطار الأرض جميعًا بالدماء باسم السيد المسيح؛ خضبها الروم وخضبتها أمم أوروبا كلها. والحروب الصليبية إنما أذكى لهيبها المسيحيون لا المسلمون. ولقد ظلت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل وتحارب وتُريق الدماء، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس وعلى الأماكن المقدسة. أفكان هؤلاء البابوات جميعًا هراطقة وكانت مسيحيتهم زائفة؟ أم كانوا أدعياء جُهالًا لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟ أم يقولون: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام فلا يحتج على المسيحية بها؟ إن يكن ذلك بعض ما قد يقولون، فإن هذا القرن المتم للعشرين الذي نعيش فيه والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية العليا، قد رأى ما رأت تلك العصور الوسطى المظلمة. فقد وقف اللورد اللنبي ممثل الحلفاء: إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأمريكا، يقول في بيت المقدس في سنة ١٩١٨ حين استيلائه عليه في أخريات الحرب العالمية الأولى: «اليوم انتهت الحروب الصليبية.»
إذا كان من بين المسحيين قدِّيسون أنكروا القتال في مختلف العصور وسموا بذواتهم إلى الذروة من معنى الإخاء الإنساني، بل من معنى الإخاء بين عناصر الكون كله، فمن بين المسلمين كذلك قديسون سمت نفوسهم هذا السمو واتصلوا بكل الوجود اتصال إخاء ومحبة وإشراق ملأ منهم النفوس بوحدة الوجود. لكن هؤلاء القديسين، من النصارى والمسلمين، وإن صوَّروا المثل الأعلى، لا يمثلون حياة الإنسانية أثناء تطورها الدائم وفي دأب جهادها إلى الكمال، إلى هذا الكمال الذي نحاول تصوُّره ثم يقعد بنا العقل ويقعد بنا الخيال دون شيء من الدقة في إدراكه، وإن نحن جازفنا بتصويره تمهيدًا لما نحاول من جهود في سبيله. وهذه سبع وخمسون وثلاثمائة وألف سنة قد انقضت منذ هجرة النبي العربي من مكة إلى يثرب والناس في مختلف العصور يزدادون في القتال افتنانًا وفي صنع آلاته الجهنمية المدمِّرة دقةً وإتقانًا. وما تزال كلمات نبذ الحرب وإلغاء التسلح والتحكيم لا تزيد على أنها كلمات تقال في أعقاب كل حرب تُنهِك الأمم، أو على أنها دعايات تُلقى في جو الحياة من أناس لم يستطيعوا حتى اليوم — ممن يدري؟! فلعلهم لا يستطيعون يومًا — أن يحققوا منها شيئًا، وأن يحلوا السلام الصحيح؛ سلام الإخاء والعدل، محل السلام المسلح نذير الحرب وطليعة ويلاتها.
والإسلام ليس دين وهم وخيال، ولا هو دين يقف عند دعوة الفرد وحده إلى الكمال، إنما الإسلام دين الفطرة التي فُطِرَ الناس جميعًا عليها أفرادًا وجماعات، وهو دين الحق والحرية والنظام. وما دامت الحرب في فطرة الناس، فتهذيب فكرتها في النفوس وحصرها في أدقِّ الحدود الإنسانية هو غاية ما تحتمل فطرة البشر، وما يحقق للإنسانية اتصال تطورها في سبيل الخير والكمال. وخير تهذيب لفكرة الحرب ألا تكون إلا للدفاع عن النفس وعن العقيدة وعن حرية الرأي والدعوة إليه، وأن تُرعَى فيها الحُرمات الإنسانية تمام الرعاية. وهذا ما قرر الإسلام على ما رأينا وما سنرى من بعدُ. وهذا ما نزل به القرآن، وضعناه وسنضعه تحت نظر القارئ في الأحوال والمناسبات التي نزل فيها.