غزوة بدر الكبرى
(خروج أبي سفيان إلى الشام – محاولة المسلمين قطع الطريق عليه – نجاته في الذهاب – انتظارهم إياه في أوبته – علم قريش بتجهيز المسلمين – خروجهم إلى بدر – نجاة أبي سفيان بتجارته – تردد قريش والمسلمين في القتال – زوال التردد – موقف الفريقين في بدر – حماسة المسلمين وانتصارهم)
***
كان سرية عبد الله بن جحش مفترق طرق في سياسة الإسلام، فيها رمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أوَّل دم أراق المسلمون. وفيها نزلت الآية التي قدَّمنا؛ وعلى أثرها شُرِعَ قتال الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويصدون عن سبيل الله. وكانت هذه السرية مفترق طرق كذلك في سياسة المسلمين إزاء قريش، أن جعلت الفريقين يتناظران بأسًا وقوَّة. فقد جعل المسلمون يفكرون من بعدها تفكيرًا جديًّا في استخلاص أموالهم من قريش بغزوهم وقتالهم؛ ذلك بأن قريشًا حاولت إثارة شبه الجزيرة كلها على محمد وأصحابه أن قتلوا في الشهر الحرام؛ حتى لقد أيقن محمد أن لم يبق في مصانعتهم أو في الاتفاق معهم رجاء.
وقد خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة يقصد الشام، وهي التجارة التي أراد المسلمون اعتراضها حين خرج النبي — عليه الصلاة والسلام — إلى العُشَيرة. لكنهم إذ بلغوها كانت قافلة أبي سفيان قد مرَّت بها ليومين من قبل وصولهم إليها؛ إذ ذاك اعتزم المسلمون انتظارها في عودتها. ولما تحيَّن محمد انصرافها من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ينتظران خبرها، فسارا حتى نزلا على كشدٍ الجهني بالحوراء وأقاما عنده في خِباء حتى مرَّت العير، فأسرعا إلى محمد ليُفضيا إليه بأمرها وما رأيا منها.
على أن محمدًا لم ينتظر رسوليه إلى الحوراء وما يأتيان به من خبر العير؛ فقد ترامى إليه أنها عير عظيمة، وأن أهل مكة جميعًا اشتركوا فيها، لم يبق أحد منهم من الرجال والنساء استطاع أن يساهم فيها بحظ إلا فعل، حتى قُوِّم ما فيها بخمسين ألفًا من الدنانير. ولقد خشي إن هو انتظرها أن تفوته العير في عودتها إلى مكة كما فاتته في ذهابها إلى الشام. لذلك ندب المسلمين وقال لهم: هذه عير قريش؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. وخف بعض الناس وثقل بعض. وأراد جماعة لم يسلموا أن ينضموا طمعًا في الغنيمة، فأبى محمد عليهم الانضمام أو يؤمنوا بالله ورسوله.
وانطلقوا حتى أتوا واديًا يقال له ذَفِران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبر بأن قريشًا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغير وجه الأمر. لم يبق هؤلاء المسلمون مهاجروهم والأنصار أمام أبي سفيان وعيره والثلاثين أو الأربعين رجلًا معه، لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه؛ بل هذه مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها. فهَبِ المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله وأسروا منهم من أسروا واقتادوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم، يحفزها حرص على مالها والدفاع عنه وتؤازرها كثرة عديدها وعُددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة منهم أو تموت دونها. ولكن إذا عاد محمد من حيث أتى طمعت قريش وطمعت يهود المدينة فيه، واضطر إلى موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى أن يحتملوا من أذى يهود المدينة مثل ما احتملوا من أذى قريش بمكة. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الحق وأن ينصر الله دينه.
استشار الناس وأخبرهم بما بلغه من أمر قريش؛ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.» وسكت الناس. فقال الرسول: أشيروا عليَّ أيها الناس. وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ولم يبايعوه على اعتداء خارج مدينتهم. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايتهم التفت إلى محمد وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد: «لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا. إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء؛ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.»
ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجه محمد بالمسرة وبدا عليه كل النشاط وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وارتحلوا جميعًا، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر انطلق محمد على بعيره حتى وقف على شيخ من العرب وسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، ومنه عرف أن عير قريش منه قريب.
إذ ذاك عاد إلى قومه، فبعث عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتلمسون له الخبر عليه. وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان عرف محمد منهما أن قريشًا وراء الكثيب بالعدوة القصوى. ولما أن أجابا أنهما لا يعرفان عدَّة قريش، سألهما محمد كم ينحرون كل يوم؟ فأجابا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا. فاستنبط النبي من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف. وعرف من الغلامين كذلك أن أشراف قريش جميعًا خرجوا لمنعه؛ فقال لقومه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.» إذن فلا بد له ولهم أمام قوم يزيدون عليهم في العدد ثلاثة أضعاف أن يشحذوا عزائمهم، وأن يوطِّنوا على الشدة أفئدتهم ونفوسهم، وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه.
وكما عاد عليٌّ ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما ذهب اثنان من المسلمين حتى نزلا بدرًا، فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخذا وعاءً لهما يستقيان فيه. وإنهما لعلى الماء إذ سمعا جارية تطالب صاحبتها بدين عليها والثانية تجيبها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيه لك. وعاد الرجلان فأخبرا محمدًا بما سمعا. فأما أبو سفيان فسبق العير يتنطس الأخبار حذر أن يكون محمد قد سبقه إلى الطريق. فلما ورد الماء وجد عليه مجدي بن عمرو، فسأله: هل قد رأى أحدًا؟ وأجاب مجديٌّ بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التل، وأشار إلى حيث أناخ الرجلان من المسلمين. فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد في روث بعيريهما نوى عرفه من علائف يثرب، فأسرع عائدًا إلى أصحابه وعدل بالسير عن الطريق مساحلًا البحر مسرعًا في مسيره، حتى بعد ما بينه وبين محمد، ونجا.
وقريش هم أيضًا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرًا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفيْ حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجَّاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عددٌ غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها؛ ذلك أن بدرًا كانت موسمًا من مواسم العرب؛ فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدًا شوكةً ويزيد دعوته انتشارًا وقوة، وخاصةً بعد الذي كان من سرية عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرمي وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.
وتردد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زُهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريق، وكان فيهم مطاعًا. واتبعت سائرُ قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلًا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم؛ لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسَّر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاءوا أدنى ماء نزل محمد به.
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلًا: «نبي الله، نبني لك عريشًا تكون فيه وتعدُّ عندك ركائبك ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.»
وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبُني العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر في جانبه وجانب أصحابه لم يقع في يد عدوِّه واستطاع اللحاق بأصحابه في يثرب.
هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فها هم أولاء يعلمون أن قريشًا تفوقهم في العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف في وجهها وقتالها. وها هم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادي هو الذي يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبي يؤيدونه ويعززونه. وها هم أولاء تتردد نفوسهم بين الطمع في النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا في حماية النبيِّ وتوقيته أن يظفر به عدوُّه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأي موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأيُّ إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان؟!
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقص لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلًا مثله. ولما كانت صفوة قريش قد خرجوا في هذا الجيش، خشي بعض ذوي الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدة أبي جهل ورميه إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلًا: «يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» فلما بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظًا وبعث إلى عامر بن الحضرمي يقول له: «هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك.» وقام عامر فصرخ: وا عمراه! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفرٌّ. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دمًا، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظُبَا السيوف من منظر الدم؛ ولا شيء أشد إثارة لعواطف القتال والحرب في الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدوِّ وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة. وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعليُّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل عليٌّ الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.
وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم. فلما رأى كثرة قريش وقلة رجاله وضعف عدتهم إلى جانب عُدة المشركين عاد إلى العريش ومعه أبو بكر، وهو أشد ما يكون خوفًا من مصير ذلك اليوم، وأشد ما يكون إشفاقًا مما يصير إليه أمر الإسلام إذا لم يتم للمسلمين النصر. واستقبل محمد القبلة واتجه بكل نفسه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وبالغ في التوبة والدعاء والابتهال وجعل يقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تحاول أن تكذِّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد.» وما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلًا القبلة حتى سقط رداؤه؛ وجعل أبو بكر من ورائه يرد على منكبيه رداءه ويُهيب به: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك؛ فإن الله منجز لك ما وعدك. ولكن محمدًا ظل فيما هو فيه أشدَّ ما يكون توجهًا وأشد ما يكون تضرعًا وخشية واستعانة بربه على هذا الموقف الذي لم يتوقعه المسلمون ولم يتخذوا له عدته، حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشرًا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول له: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
وسرت من نفسه القوية — أمدها الله من لدنه بما سما بها فوق كل قوة — إلى نفوس هؤلاء المؤمنين برسالته قوة ضاعفت عزمهم، وجعلت كل رجل منهم يعدل رجلين بل يعدل عشرة رجال. ويسيرٌ عليك أن تقدر هذا إذا ذكرت ما لازدياد القوة المعنوية من أثر في النفس متى توافرت أسباب ازدياد هذه القوة المعنوية فيها. فدافع الوطنية يزيدها. وهذا الجندي الذي يقف مدافعًا عن وطنه المهدد بالخطر ممتلئ النفس بالعاطفة الوطنية، تتضاعف قوته المعنوية بمقدار حبه لوطنه وإيمانه به، وبمقدار تخوُّفه من الخطر الذي يتهدد العدو الوطن به. ولهذا تغرس الأمم في نفوس أبنائها منذ نعومة أظفارهم حب الوطن والاستهانة بالتضحية في سبيله. والإيمان بالحق وبالعدل وبالحرية وبالمعاني الإنسانية السامية يزيد القوة المعنوية في النفس بما يضاعف القوة المادية فيها. والذين يذكرون ما قام به الحلفاء في الحرب الكبرى من دعوة واسعة النطاق ضد الألمان، أساسها أنهم يدافعون عن قضية الحرية والحق ويحاربون في ألمانيا الجندية المسلحة ويمهدون لعهد سلام ونور، يدركون ما كانت تضاعف هذه الدعوة من قوة في نفوس جنود الحلفاء بمقدار ما كانت تحيطهم به من عطف في أكثر أمم العالم.
وما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب ما كان محمد يدعو إليه؟! إلى اتصال الإنسان بالوجود كله اتصالًا يندمج به فيه ويصبح قوة من قوى الكون الموجه له إلى سبيل الخير والنعمة والكمال! نعم ما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب الوقوف في جانب الله ودفع الذين يفتنون المؤمنين عنه، والذين يصدون عن سبيله، والذين ينزلون بالإنسان إلى دَرَك الوثنية والإشراك؟! إذا كانت النفس يزيدها حب الوطن قوة بمقدار ما في الوطن كله من قوة، ويزيدها حب السلام للإنسانية كلها قوة بمقدار ما في الإنسانية من قوة، فما أكثر ما يزيدها الإيمان بالوجود كله وبخالق الوجود كله من قوة! إنه ليجعلها قديرة أن تُسيِّر الجبال، وتحرِّك العوالم، وتهيمن بسلطانها المعنوي على كل من كان أقل منها في هذا الأمر إيمانًا.
ازداد المسلمون قوة بتحريض محمد إياهم ووقوفه بينهم ودفعهم لمقاتلة العدو والصيحة بهم أن الجنة لمن أحسن البلاء ومن غمس يده في العدو حاسرًا. ووجَّه المسلمون أكبر همهم إلى سادات قريش وزعمائها يريدون استئصالهم جزاءً وفاقًا لما عذَّبوهم بمكة، ولما صدُّوهم عن المسجد الحرام وعن سبيل الله. ورأى بلال أمية بن خلف وابنه، ورأى بعض المسلمين الذين عرفوه بمكة حوله. وكان أمية هو الذي عذَّب بلالًا إذ كان يُخرجه إلى رمضاء مكة فيُضجعه على ظهره ويأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ليفتنه عن الإسلام، فيقول بلال: أحدٌ أحدٌ — رأى بلالٌ أمية فصاح به: أمية رأس الكفر لا نجوت إن نجا! وحاول بعض المسلمين من حول أمية أن يحولوا دون قتله وأن يأخذوه أسيرًا. فصرخ بلال بأعلى صوته في الناس: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. واجتمع الناس ولم ينصرف بلال حتى قُتل أمية. وقتل معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام. وخاض حمزة وعليٌّ وأبطال المسلمين وطيس المعركة وقد نسي كل منهم نفسه ونسي قلة أصحابه وكثرة عدوه، فثار النقع وامتلأ الجو بالغبار، وجعلت هام قريش تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوة ويصيحون مهللين: أحدٌ أحدٌ، وقد كشفت أمامهم حجب الزمان والمكان وأمدهم الله بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتًا وإيمانًا، حتى لكأن الواحد منهم إذ يرفع سيفه ويهوي به على عنق عدوه إنما تحرك قوة الله يده.
لما آنس الرسول أن الله أنجزه وعده وأتم على المسلمين النصر عاد إلى العريش. وفرت قريش فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يُقتل ولم يساعفه حسن فراره بالنجاة.
هذه غزوة بدر التي استقر بها الأمر للمسلمين من بعدُ في بلاد العرب جميعًا، والتي كانت مقدمة وحدة شبه الجزيرة في ظلال الإسلام، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، والتي أقرت في العالم حضارة لا تزال ولن تزال ذات أثر عميق في حياته. ولقد تعجب إذ تعلم أن محمدًا، على ما كان من تحريضه أصحابه وما كان يرجو من استئصال عدو الله وعدوه، قد طلب إلى المسلمين منذ اللحظة الأولى من المعركة ألا يقتلوا بني هاشم وألا يقتلوا بعض رجال من سادات قريش، مع أنهم اشتركوا في قتال المسلمين، ومع أنهم سيقتلون من المسلمين من يستطيعون قتله. ولا تحسب أنه في ذلك أراد أن يحابي أهله أو أحدًا ممن يمتون إليه بآصرة القربى، فنفس محمد أسمى من أن تتأثر بمثل هذا، وإنما ذكر لبني هاشم منعهم إياه مدى ثلاثة عشر عامًا من يوم بعثه إلى يوم هجرته، حتى كان عمه العباس معه ليلة بيعة العقبة. وذكر لغير بني هاشم من قريش جميل من قاموا وهم على الكفر يطالبون بنقض الصحيفة، التي اضطرته بها قريش أن يلزم هو وأصحابه الشعب، بعد أن قطعت قريش بهم كل صلة وكل علاقة. فهذا المعروف الذي تقدم به هؤلاء وأولئك قد اعتبره محمد حسنة يُجزى من قدمها بمثلها، بل يجزى بعشر أمثالها؛ لذلك كان شفيعًا لهؤلاء عند المسلمين ساعة القتال، وإن أبى بعض هؤلاء القرشيين أن يستظلوا بهذا العفو على نحو ما فعل أبو البختري أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة، فقد أبى وقُتل.
ولما أصبح الصبح وآن للمسلمين أن يرتحلوا قافلين إلى المدينة، بدءوا يتساءلون في الغنيمة لمن تكون، قال الذين جمعوها: نحن جمعناها فهي لنا. وقال الذين كانوا يطاردون العدو حتى ساعة هزيمته: نحن والله أحق بها، فلولانا لما أصبتموها. وقال الذين يحرسون محمدًا مخافة أن يرتد إليه العدو: ما أنتم ولا هم أحق بها منا، وكان لنا أن نقتل العدو ونأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله كرَّة العدو فقمنا دونه. فأمر محمد الناس أن يردوا كل ما في أيديهم من الغنائم، وأمر بها أن تحمل حتى يرى فيها رأيه أو يقضي الله فيها بقضائه.
ويذهب الأكثرون من كتَّاب السيرة، والمتقدمون منهم خاصةً، أن هذه الآية نزلت بعد بدر وبعد قسم فيئها، وأن محمدًا جعل القسمة بين المسلمين على سواء، وأنه جعل للفرس مثل ما للفارس، وجعل للورثة حصة من استشهد ببدر، وجعل حصة لمن تخلف بالمدينة فلم يشهد بدرًا ما كان قائمًا فيها بعمل المسلمين، ومن حرَّضه حين الخروج إلى بدر وتخلف لعذر قبله الرسول. وكذلك قسم الفيء بالقسط. فلم يشترك المقاتل وحده في الحرب والنصر، بل اشترك في الحرب والنصر كل من كان لعمله في الفوز حظ أيًّا كان هذا العمل، وفي ميدان القتال كان أو بعيدًا عنه.
وبينما المسلمون في طريقهم إلى مكة قُتل من الأسرى رجلان: أحدهما النضر بن الحارث، والآخر عقبة بن أبي معيط. ولم يكن محمد ولا كان أصحابه إلى هاته اللحظة قد وضعوا للأسرى نظامًا يكون على مقتضاه قتلهم أو فداؤهم أو استرقاقهم. لكن النضر وعتبة كانا من المسلمين أيام مقامهم بمكة شرًّا مستطيرًا، وكانا لا ينفكان يوصلان لهم من الأذى كل ما يستطيعان. قُتل النضر حين عُرض الأسرى على النبي — عليه السلام — عند بلوغهم الأثْيَل، فقد نظر إلى النضر نظرة ارتعد لها الأسير وقال لرجل إلى جنبه: محمد والله قاتلي! فقد نظر إليَّ بعينين فيهما الموت. قال الذي إلى جنبه: ما هذا والله منك إلا رعب. وقال النضر لمصعب بن عمير، وكان أقرب من هناك به رحمًا: كلِّم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابه، فهو والله قاتلي إن لم تفعل. فكان جواب مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله وفي نبيه كذا وكذا، وكنت تعذِّب أصحابه. قال النضر: لو أسرتك قريش ما قتلتك أبدًا وأنا حيٌّ. قال مصعب: والله إني لا أراك صادقًا، ثم إني لست مثلك، فقد قطع الإسلام العهود، وكان النضر أسير المقداد، وكان يطمح أن ينال افتداء أهله إياه مالًا كثيرًا. فلما رأى الحديث حول قتله صاح: النضر أسيري. قال النبي عليه السلام: اضرب عنقه، واللهم أغن المقداد من فضلك. فقتله عليُّ بن أبي طالب ضربًا بالسيف.
ولما كانوا في طريقهم بعرق الظبية أمر النبي بقتل عقبة بن أبي معيط فصاح عقبة: فمن للصبية يا محمد؟! قال: النار. وقتله عليُّ بن أبي طالب أو قتله عاصم بن ثابت، على اختلاف في الرواية.
وقبل أن يصل النبي والمسلمون بيوم وصلها رسولاه زيد بن حارث وعبد الله بن رواحة، ودخل كل واحد من ناحية منها؛ فجعل عبد الله ينادي على راحلته يبشر الأنصار بنصر رسول الله وأصحابه، ويذكر لهم من قتل من المشركين. وجعل زيد بن حارثة يصنع صنيعه وهو ممتط القصواء ناقة النبي. وسر المسلمون واجتمعوا وخرج من كان منهم في داره وانطلقوا يهللون لهذا النصر العظيم.
أما الذين بقوا على الشرك، وأما اليهود، فقد كُبتوا لهذا النبأ، وحاولوا أن يقنعوا أنفسهم وأن يقنعوا الذين أقاموا في المدينة من المسلمين بعدم صحته، فصاحوا؛ إن محمدًا قُتل وأصحابه هُزموا، وهذه ناقته نعرفها جميعًا لو أنه انتصر لبقيت عنده، وإنما يقول زيد ما يقول هذيانًا من الفزع والرعب. لكن المسلمين ما لبثوا حيث تثبتوا من الرسولين واطمأنوا إلى صحة الخبر أن زاد بهم السرور لولا حادث طرأ خفف من سرورهم؛ ذلك الحادث هو موت رقية بن النبي، وكان تركها عند ذهابه إلى بدر مريضة، وترك معها زوجها عثمان بن عفان يمرِّضها. ولما أيقن المشركون والمنافقون بنصر محمد أسقط في أيديهم، ورأوا موقفهم من المسلمين قد أصبح موقف هوان ومذلة، حتى قال أحد زعماء اليهود: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها بعد أن أصيب أشراف الناس وسادتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن.
ودخل المسلمون المدينة قبل أن يدخلها الأسارى بيوم، فلما جيء بهم ورجعت سودة بنت زمعة زوج النبي من مناحة ابني عفراء وكانت بهم، رأت أبا يزيد سهيل بن عمرو أحد الأسرى مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلم تملك نفسها أن توجِّه إليه الكلام قائلة: أي أبا يزيد! أسلمتم أنفسكم وأعطيتم بأيديكم، ألا متم كرامًا؟! فناداها محمد من البيت: يا سودة! أعلى الله عز وجل وعلى رسوله تحرِّضين! فأجابت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت. وفرَّق محمد الأسارى بين أصحابه وقال لهم: استوصوا بهم خيرًا. وطفق من بعد ذلك يفكر فيما يصنع بهم: أفيقتلهم أم يأخذ منهم الفداء؟ إن منهم لأشداء في الحرب أقوياء في النضال، ومن امتلأت بالحقد والضغينة نفوسهم بعد الذي كان من هزيمتهم ببدر وما لحقهم من عار الأسر؛ فإن هو قبل الفداء كانوا عليه حربًا وألبًا، وإن هو قتلهم أثار في نفوس أهليهم من قريش ما ربما هدأ لو أنهم افتدوهم.
وجاء عمر فجلس مجلسه وقال: يا رسول الله، هم أعداء الله، كذَّبوك، وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، هم رءوس الكفر وأئمة الضلالة يوطئ الله بهم الإسلام ويذل بهم أهل الشرك. ولم يجب محمد. فعاد أبو بكر إلى مقعده الأول وجعل يتلطف ويستعطف، ويذكر القرابة والرحم، ويرجو لهؤلاء الأسرى الهدى إن هم أُبْقِي على حياتهم؛ وعاد عمر مثال العدل الصارم لا تأخذه فيه هوادة ولا رحمة.
يقف غير واحد من المستشرقين عند أسرى بدر هؤلاء وعند مقتل النضر وعقبة ويتساءلون: أليس في ذلك ما يدل على ظمأ هذا الدين الجديد إلى الدم ظمأً لولاه لما قُتل الرجلان، ولكان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا الموقعة أن يردُّوا الأسرى وأن يكتفوا بالفيء الذي غنموا؟ وذلك تساؤل الذي يريد أن يُثير في النفس عوامل إشفاق لم يكن له يومئذ موضع، ليكون له بعد ألف سنة من هذه الغزوة وما تلاها من غزوات وسيلة للنيل من الدين ومن صاحب الدين. على أن هذا التساؤل ما يلبث أن ينهار ويتداعى إذا نحن وازنَّا بين مقتل النضر وعقبة، وما يجري اليوم وما سيجري دائمًا ما دامت الحضارة الغربية، التي تتشح بوشاح المسيحية، متحكمة في الأرض. فهل تراه يوازي شيئًا إلى جنب ما يقع باسم قمح الثورات في بلاد يحكمها الاستعمار على كره من أهلها؟! وهل تراه يوازي شيئًا إلى جانب ما وقع من مجازر الحرب الكبرى؟! ثم هل هو يوازي شيئًا مما حدث أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، وأثناء الثورات المختلفة التي وقعت وتقع في أمم أوروبا المختلفة؟!
وليس ريب في أن الأمر بين محمد وأصحابه كان ثورة قوية من محمد بعثه الله ليقوم بها في وجه الوثنية والمشركين من عبَّادها. ثورة قامت أول أمرها بمكة، واحتمل محمد وأصحابه من أجلها ألوان العذاب ثلاثة عشر عامًا سويًّا. ثم انتقل المسلمون إلى المدينة وحشدوا جمعوهم وقواتهم بها، وما تزال مبادئ الثورة قائمة على أشدها في نفوسهم وفي نفوس قريش جميعًا. وانتقال المسلمين إلى المدينة، وموادعتهم اليهود من أهلها؛ وما قاموا به من مناوشات سبقت بدرًا، وغزوة بدر هذه — ذلك كله كان سياسية الثورة ولم يكن مبادئها؛ كان السياسة التي قرر القائم بهذه الثورة وأصحابه أن يتَّبعوا لإقرار أسمى المبادئ، التي جاء الرسول بها. وسياسة الثورة شيء ومبادئها شيء آخر. والخطة التي تتبع قد تختلف تمام الاختلاف عن الغاية المقصودة من هذه الخطة. أما وقد جعل الإسلام الأخوة أساس الحضارة الإسلامية، فيجب أن يسلك للنجاح سبله وإن اقتضى ذلك من العنف والشدة ما لا مفر منه.
بينما كان المسلمون في فرحهم بنصر الله وما أفاء عليهم من المغانم كان الحيسمان بن عبد الله الخزاعي يحثُّ الطريق إلى مكة، حتى كان أول من دخلها وأخبر أهلها بهزيمة قريش ومصابها في كبرائها وأشرافها وسادتها. وقد ذهلت مكة أول الأمر فلم تصدق الخبر. وكيف لا تذهل وهي تسمع أخبار هزيمتها ومقتل السادة الأشراف منها؟! لكن الحيسمان لم يكن يهذي وكان يؤكد ما يقول وهو أشد من قريش جزعًا لما أصابهم. فلما استوثقوا من روايته خرجوا صعقين، حتى لقد حم أبو لهب ومات بعد سبعة أيام.
وبعثت زينب ابنة النبي تفتدي زوجها أبا العاص بن الربيع، وكان فيما بعثت قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على العاص حين بنى بها. فلما رآها النبي رق لها رقة شديدة، فقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا. ثم إنه اتفق فيما بينه وبين أبي العاص على أن يفارق زينب وقد فرَّق الإسلام بينه وبينها. وبعث محمد زيد بن حارثة وصاحبا معه فجاء بها إلى المدينة. على أن أبا العاص ما لبث بعد مدة إساره أن خرج إلى الشام في مال قريش؛ حتى إذا كان على مقربة من المدينة لقيته سرية لمحمد فأصابوا ما معه. فانحدر تحت الليل إلى أن دخل على زينب واستجارها فأجارته، ورد المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمنًا إلى مكة، فلما رده لأصحابه من قريش قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا! جزاك الله خيرًا فقد وجدناك وفيًّا كريمًا. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا مخافة أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. وعاد إلى المدينة ورد عليه النبي زينب. واستمرت قريش تفتدي أسراها. وكان الفداء يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل إلى ألف، إلا من لا شيء عنده فقد منَّ عليه محمد بحريته.
لم يهوِّن ذلك على قريش مصابها، ولا هو دعاها إلى أن تهادن محمدًا أو أن تنسى هزيمتها؛ بل ناحت نساء قريش من بعد ذلك على قتلاها شهرًا كاملًا، فجززن شعر رءوسهن، وكان يؤتى براحلة الرجل أو بفرسه فينُحْنَ حولها؛ ولم يخالف في هذا إلا هند بنت عتبة زوج أبي سفيان. ولقد مشى نساء منهن يومًا إليها فقلن: ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟! فقالت: أنا أبكيهم فيبلغ محمدًا وأصحابه فيشمتوا بنا ويشمت بنا نساء الخزرج؟! لا والله حتى أثأر من محمد وأصحابه! والدهن عليَّ حرام حتى نغزو محمدًا! والله لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي لبكيت، ولكن لا يذهب إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة. ومكثت لا تقرب الدهن ولا تقرب فراش أبي سفيان وتحرض الناس حتى كانت وقعة أحُد. أما أبو سفيان فنذر بعد بدر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا.