بين بدر وأُحد
(المسلمون واليهود – غزوة بني قينقاع – جلاء اليهود عن المدينة – قريش تتحرك – غزوة السويق – القبائل تتحرك فتفر – هزيمة صفوان بن أمية)
***
تركت بدر بمكة من عميق الأثر ما رأيت. تركت الحرص على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ فرصة الثأر. لكن أثرها بالمدينة كان أوضح وأكثر اتصالًا بحياة محمد والمسلمين معه. فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوة المسلمين؛ ورأوا هذا الرجل الأجنبي الذي وفد عليهم منذ أقل من عامين فارًّا مهاجرًا من مكة، يزداد سلطانًا وبأسًا، ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعًا لا في أصحابه وحدهم. وكان اليهود، على ما رأيت؛ قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشاتهم المسلمين، حتى لكأن ما بين الفريقين من عهد الموادعة هو الذي حال في أكثر من حادث دون الانفجار. لذلك ما كاد المسلمون يعودون من بدر معتزين بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة الأخرى تتغامز وتأتمر، وحتى بدأت تُغري بهم وترسل الأشعار في التحريض عليهم.
بذلك انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة. وانتقل من الدين إلى السياسة. فلم تبق دعوة محمد إلى الله هي وحدها التي تُحارَب، بل كان كذلك سلطانه ونفوذ أمره موضع الرهبة والخوف، وكان لذلك سبب الائتمار به والتفكير في اغتياله. ولم يكن محمد لتخفى عليه من ذلك كله خافية؛ بل كان يقع على أخباره جميعًا ويتصل بعلمه كل ما يدبَّر ضده، وجعلت النفوس من جانبي المسلمين واليهود تمتلئ بالغِل والضغينة شيئًا فشيئًا، رويدًا رويدًا، وجعل كل فريق يتربص بصاحبه الدوائر.
وكان المسلمون إلى حين نصرهم الله ببدر يخشون مواطنيهم من أهل المدينة، فلا تبلغ منهم الجرأة إلى الاعتداء على من يعتدي على مسلم منهم. فلما عادوا منتصرين أخذ سالم بن عمير نفسه بالقضاء على أبي عفك (أحد بني عمرو بن عوف)؛ لأنه كان يُرسل الأشعار يطعن بها على محمد وعلى المسلمين، ويحرِّض بها قومه على الخروج عليهم؛ وظل كذلك بعد بدر يُغري بهم الناس. فذهب إلى سالم في ليلة صائفة كان أبو عفك نائمًا فيها بفناء داره، فوضع سالم السيف على كبده حتى خش في الفراش. وكانت عصماء بنت مروان (من بني أمية بن زيد) تعيب الإسلام وتؤذي النبي وتحرض عليه، وظلت كذلك إلى ما بعد بدر فجاءها يومًا عمير بن عوف في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ومنهم من ترضعه؛ وكان عمير ضعيف البصر، فجسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنحَّاه عنها، ثم وضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها. ورجع عمير من عند النبي بعد أن أخبره الخبر، فوجد بنيها في جماعة يدفنونها، فأقبلوا عليه فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال: «نعم! فكيدوني جميعًا ثم لا تُنظرون. فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم.» وقد كان من أثر جرأة عمير هذه أن ظهر الإسلام في بني خطمة، وكانت عصماء زوجة رجل منهم، فأظهر منهم من كان يُخفي إسلامه وانضم إلى صف المسلمين وسار معهم.
ويكفي أن نضيف إلى هذين المثلين مصرع كعب بن الأشرف، وهو الذي قال حين علم بمقتل سادات مكة: «هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.» وهو الذي ذهب إلى مكة لما تيقن الخبر يحرِّض على محمد وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب؛ وهو الذي رجع بعد ذلك إلى المدينة فجعل يشبِّب بنساء المسلمين. وأنت تعرف طبائع العرب وأخلاقها، وتعرف مبلغ تقديرهم للعِرض وثورتهم من أجله. وقد بلغ غيظ المسلمين أنهم أجمعوا على قتل كعب، واجتمع في ذلك عدة منهم؛ وذهب إليه أحدهم يستدرجه بالطعن على محمد إذ يقول له: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً من البلاء؛ عادتنا العرب ورمونا على قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجُهدت الأنفس. ولما أنس إلى كعب وأنس إليه كعب طلب إليه مالًا لنفسه ولجماعة من أصحابه على أن يرهنوه دروعهم؛ ورضي كعب على أن يجيئوه من بعدُ.
وإنه لفي داره على بعد من المدينة إذ ناداه صدر الليل أبو نائلة (أحد المؤتمرين به) فنزل إليه على رغم تحذير عروسه إياه النزول في مثل هذه الساعة من الليل. وسار الرجلان حتى التقيا بأصحاب أبي نائلة وكعب آمن لا يخافهم. وخرج القوم يتماشون حتى مشوا ساعة بعدوا بها عن دار كعب وهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويذكرون من حالهم وما وصلوا إليه من شدة ما يزيد في طمأنينة كعب. وفيما هم يسيرون كان أبو نائلة يضع يده في رأس كعب ويشمها ويقول: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط. ولما لم تبق لدى كعب شبهة فيهم، عاد أبو نائلة فوضع يده على شعر كعب ثم أخذ بفوديه وقال: اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم حتى مات.
زاد هذا الحادث في مخاوف اليهود، فلم يبق منهم إلا من يخاف على نفسه. مع ذلك لم يسكتوا عن محمد ولا عن المسلمين حتى فاضت النفوس أي فيض. قدمت امرأة من العرب إلى سوق اليهود من بني قينقاع ومعها حلية جلست إلى صائغ منهم بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فجاء يهودي من خلفها في سر منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت؛ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ — وكان يهوديًّا — فقتله، وشددت اليهود على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وطلب محمد إلى هؤلاء أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ينزل بهم ما نزل بقريش. فاستخفوا بوعيده وأجابوه: «لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمنَّ أنَّا نحن الناس.» لم يبق بعد ذلك إلا مقاتلتهم أو يتعرض المسلمون ويتعرض سلطانهم بالمدينة للتداعي، ثم يصبحوا أحدوثة قريش وقد جعلوا قريشًا بالأمس أحدوثة العرب.
وخرج المسلمون فحاصروا بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يومًا متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم بطعام أحد، حتى لم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه. وسلموا؛ فقرر محمد بعد مشورة كبار المسلمين، قتلهم جميعًا، فقام إليه عبد الله بن أبيِّ بن سلول، وكان لليهود كما كان للمسلمين حليفًا، فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ.
فأبطأ عليه النبي فكرر الطلب، فأعرض النبي عنه فأدخل يده في جيب درع محمد فتغير محمد وقال له: أرسلني؛ وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللًا، ثم أعاد وأثر الغضب في نبرات صوته: «أرسلني ويحك!» قال ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ! أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصُدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وكان عبد الله لا يزال ذا سلطان في المشركين من الأوس والخزرج، وإن كان هذا السلطان ضعف بقوة المسلمين. فرأى النبي في إلحاحه ما جعله يعود إلى سكينته، وخاصةً بعد إذ جاء عبادة بن الصامت يحدِّثه بحديث ابن أبيٍّ؛ إذ ذاك رأى أن يُسدي هذه اليد إلى عبد الله وإلى المشركين موالي يهود جميعًا حتى يصبحوا مدينين لإحسانه ورحمته؛ على أن يجلو بنو قينقاع عن المدينة جزاءً لهم على صنيعهم.
وقد حاول ابن أبي أن يتحدث مرة أخرى إلى محمد في بقائهم ومُقامهم. لكن أحد المسلمين حال دون ابن أبي ولقاء محمد واشتجر حتى شج عبد الله. فقالت بنو قينقاع: والله لا نقيم ببلد تشج فيه يا ابن أبيٍّ ولا نستطيع عنك دفاعًا. وعلى ذلك سار بهم عُبادة بعد الذي كان من تسليمهم وإذعانهم تاركين المدينة، تاركين وراءهم السلاح وأدوات الذهب الذي كانوا يصوغون، حتى بلغوا وادي القرى. هناك أقاموا زمنًا، ومن هناك احتملوا ما معهم، وساروا صوب الشمال حتى بلغوا أذرِعات على حدود الشام، وبها أقاموا. ولعلهم إنما استهوتهم إلى الشمال أرض المعاد التي كانت وما تزال تهوي إليها أفئدة اليهود.
ضعفت بالمدينة شوكة اليهود بعد جلاء بني قينقاع عنها. فقد كان أكثر اليهود المنتسبين إلى المدينة يقيمون بعيدًا عنها بخيبر وبأم القُرى. ولهذه النتيجة كان يقصد محمد من إجلائهم. وهذا تصرف سياسي آية في الدلالة على الحكمة وبُعد النظر. وهو مقدمة لم يكن منها بدٌّ للآثار السياسية التي ترتبت بعد ذلك على خطة محمد؛ فليس شيء أضر على وحدة مدينة من المدن من تنازع الطوائف فيها. وإذا كان نضال هذه الطوائف لا بد منه فهو لا بد منتهٍ إلى تغلب طائفة على سائرها غلبة تنتهي إلى سيادتها. وقد تحدَّث بعض المؤرخين منتقدًا تصرُّف المسلمين إزاء اليهود، زاعمًا أن حكاية المسلمة التي ذهبت إلى الصائغ كان من اليسير إنهاؤها ما دام قد قُتل من المسلمين رجل ومن اليهود رجل، وقد نستطيع دفع هذا القول بأن مقتل اليهودي والمسلم لم يمح ما لحق من إهانة في شخص المرأة التي عبث اليهودي بها، وأن مثل هذه المسألة عند العرب، أكثر منها عند غيرهم من الأمم، جديرة أن تثور لها الثائرات، وأن يقوم من أجلها القتال بين قبيلتين أو طائفتين سنوات متتابعة. وفي تاريخ العرب من ذلك أمثال يعرفها المطلعون على هذا التاريخ.
ولكن هنالك إلى جانب هذا الاعتبار اعتبارًا آخر أقوى منه. فحادث المرأة كان من حصار بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة ما كان مقتل ولي عهد النمسا بسيراجيفو سنة ١٩١٤ من الحرب الكبرى التي اشتركت فيها أوروبا جميعًا. هو إنما كان الشرارة التي ألهبت ما تؤجج به نفوس المسلمين واليهود جميعًا لهبًا أدى إلى انفجارها وإلى كل ما يُحدث الانفجار من آثار. والحق أن وجود اليهود والمشركين والمنافقين إلى جانب المسلمين بالمدينة وما أذكى ذلك من أسباب الفرقة، قد جعل المدينة — من الناحية السياسية — على بركان لا مفرَّ له من أن ينفجر؛ وقد كان حصار بني قينقاع وإجلاؤهم عن المدينة أول مظاهر هذا الانفجار.
كان طبيعيًّا أن ينكمش غير المسلمين من أهل المدينة بعد إجلاء بني قينقاع عنها، وأن تبدو من الهدوء والسكينة في المظهر الذي يعقب كل عاصفة وكل إعصار. وعلى هذا الهدوء ظل الناس شهرًا كاملًا كان جديرًا أن تتلوه أشهر لولا أن أبا سفيان لم يُطق البقاء بمكة، قابعًا تحت خزي هزيمة بدر، دون أن يعيد إلى أذهان العرب بشبه الجزيرة أن قريشًا ما تزال لها قوتها وعصبيتها ومقدرتها على الغزو والقتال. لذلك جمع مائتين — وقيل أربعين — من رجال مكة وخرج فيهم مستخْفين؛ حتى إذا كانوا على مقربة من المدينة خرجوا سَحَرًا فأتوا ناحية يقال لها العُريض، فوجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما فقتلوهما، وحرَّقوا بيتين بالعريض ونخيلًا. ثم رأى أبو سفيان أن يمينه بغزو محمد برَّت، فانكفأ هاربًا خائفًا أن يطلبه النبي وأصحابه. وندب محمد أصحابه فخرجوا في إثره وهو على رأسهم حتى بلغوا قرقرة الكُدر، وأبو سفيان ومن معه جادُّون في الفرار يتزايد خوفهم فيلقون ما يحملون من زادهم من السويق، فإذا مر المسلمون به أخذوه. ولما رأى محمد أن القوم أمعنوا في الفرار عاد وأصحابه إلى المدينة. وقد انقلب فرار أبي سفيان عليه بعد أن كان يحسب الغزوة ترفع رأس قريش من مصاب بدر. وبسبب السويق الذي ألقت قريش سميت هذه الغزوة من غزوات محمد غزوة السويق.
استفاضت أنباء محمد هذه بين العرب جميعًا. أما القبائل البعيدة عنه فظلت في مأمنها لا تُعنى إلا قليلًا بأمر هؤلاء المسلمين الذين كانوا إلى يوم بدر — أي إلى أشهر قليلة خلت — أذلة يلتمسون بالمدينة ملجأً، والذين أصبحوا اليوم يقفون في وجه قريش، ويجلون بني قينقاع، ويرسلون الرعب إلى روع عبد الله بن أبي، ويطاردون أبا سفيان، ويظهرون مظهرًا لم يكن من قبل مألوفًا. فأما القبائل القريبة من المدينة فقد بدأت ترى ما يتهدد مصيرها من قوة محمد وأصحابه، ومن تعادل هذه القوة وقوة قريش بمكة تعادلًا تخشى نتائجه. ذلك بأن طريق الشاطئ إلى الشام هي الطريق المعبدة المعروفة. وتجارة مكة في مرورها بها تفيد هذه القبائل فائدة اقتصادية تذكر. وقد عاهد محمد كثيرًا من القبائل التي تتاخم الشاطئ، فهدد هذا الطريق وعرَّض رحلة الصيف لمخاطر قد تضطر معها قريش إلى العدول عن متاخمة الشاطئ. فما عسى أن يصيب هذه القبائل إذا انقطعت تجارة قريش؟ وكيف تراهم يحتملون شظف الحياة في هذه البقاع الشديدة الشظف بطبعها؟ فمن حقها إذن أن تفكر في مصيرها وفيما عسى أن يصيبها من أثر هذا الموقف الجديد الذي لم يُعرف قبل هجرة محمد وأصحابه إلى يثرب، والذي لم يصل إلى ما وصل إليه من تهديد حياة هذه القبائل قبل بدر وانتصار المسلمين فيها.
لكن بدرًا أدخلت الرعب في قلوب هذه القبائل. أفتراها تُغير على المدينة وتحارب المسلمين، أم ماذا تراها تصنع؟ بلغ محمدًا أن جمعًا من غطفان وسُليم اعتزم الاعتداء على المسلمين؛ فخرج إلى قرقرة الكُدر ليأخذ عليهم الطريق. فلما وصل إلى ذلك المكان رأى آثار النعم ولم يجد في المجال أحدًا، فأرسل نفرًا من أصحابه في أعلى الوادي وانتظر هو في بطنه. فلقي غلامًا اسمه يسار، فسأله فعلم منه أن الجمع ارتفع إلى الماء؛ فجمع المسلمون ما وجدوا من نعم فاقتسموه بعد أن أخذ محمد الخمس، كنص القرآن. قيل: وكان ما غنموا خمسمائة بعير أخرج النبي خمسها وقسم الباقي، فأصاب كل رجل بعيران. وبلغ محمدًا أن جمعًا من بني ثعلبة ومُحارب بذي أمرَّ قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطرافه. فخرج عليه السلام في أربعمائة وخمسين من المسلمين، فلقي رجلًا من ثعلبة فسأله عن القوم، فدله الرجل على مكانهم وقال له: إنهم يا محمد إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائر معك ودالُّك على عورتهم. فما لبث المغيرون حين سمعوا باقتراب محمد منهم أن فروا فوق الجبال. وبلغه أن جمعًا كبيرًا من بني سُليم ببحران تهيئوا لقتاله؛ فخرج في ثلاثمائة رجل فأغذوا السير، حتى إذا كانوا دون بحران بليلة لقيهم رجل من بني سُليم؛ فسأله محمد عنهم فأخبره أنهم تفرقوا وعادوا أدراجهم. وكذلك كان هؤلاء الأعراب في فزع من محمد وفي قلق على مصيرهم، ما يكادون يفكرون في الكيد لمحمد وفي السير لملاقاته حتى تنخلع قلوبهم لمجرد سماعهم بسيره لملاقاتهم.
وفي هذه الأثناء وقع مقتل كعب بن الأشرف على نحو ما قدَّمنا. فأصاب اليهود كذلك من الفزع ما جعلهم يلزمون دورهم لا يخرج أحد منهم مخافة أن يصيبه ما أصاب كعبًا. وزاد في فزعهم أن أهدر محمد دماءهم بعد الذي كان من أمر بني قينقاع مما أدى إلى حصارهم. فجاءوا إلى محمد يشكون إليه أمرهم ويذكرون له مقتل كعب غيلةً بلا جُرم ولا حدث علموه. فكان جوابه لهم: إنه آذانا وهجانا بالشعر ولو قرَّ كما قرَّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما أصابه شر. وبعد حديث طال بينهم دعاهم إلى أن يكتب معهم كتابًا يحترمونه. وخافت اليهود وذلَّت وإن بقي في نفسها من محمد ما بدا من بعدُ أثره.
ماذا تصنع قريش بتجارتها إلى الشام وقد أخذ محمد عليها طريقها؟ إن مكة تعيش من التجارة، فإذا لم تجد الوسيلة إليها تعرَّضت لشر ما تتعرَّض له مدينة مثلها. وهذا محمد أراد حصارها والقضاء في نفس العرب على مكانتها. وقف صفوان بن أمية يومًا في قريش وقال لهم: «إن محمدًا وأصحابه قد عوَّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن. وإن قمنا في دارنا هذا أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء.» قال له الأسود بن عبد المطلب: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق. ودله على فرات بن حيَّان من بني بكر بن وائل يدلهم على الطريق. وقال لهم فُرات: طريق العراق ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد، فإنما هي أرضٌ نجدٌ وفياف. لم يخف صفوان الفيافي أن كان الفصل شتاءً وحاجتهم إلى الماء قليلة، وتجهَّز صفوان من الفضة والبضائع بما قيمته مائة ألف درهم. وكان بمكة حين تدبير قريش خروج تجارتها يثربي (هو نعيم بن مسعود الأشجعي) عاد إلى المدينة وجرى على لسانه ذكر حديث قريش وما صنعت لأحد المسلمين. فأسرع هذا فنقل الخبر إلى محمد. وما لبث النبي أن بعث زيد بن حارثة في مائة راكب اعترضوا التجارة عند القردة (ماء من مياه نجد) ففر الرجال وأصاب المسلمون العير؛ فكانت أول غنيمة ذات قيمة غنمها المسلمون، وعاد زيد ومن معه؛ فخمَّسها محمد وقسم ما بقي على رجاله. وجيء بفرات بن حيان فعرض عليه أن يسلم لينجو، فأسلم ونجا.
هل اطمأن محمد بعد هذا كله إلى أن الأمر قد استقر له؟ هل خدعه يومه عن غده؟ وهل خيَّل له فزع القبائل منه وما غنم من قريش أن كلمة الله وكلمة رسوله قد اطمأنت ولم يبق للخوف عليها محل؟ وهل جعله إيمانه بنصر الله إياه يُلقي حبال الأمور على غواربها علمًا منه بأن الأمر كله لله؟ كلا؟ فالأمر كله حقًّا لله، لكنك لن تجد لسنة الله تبديلًا. وما ركَّب الله في النفوس من سلائق لا سبيل إلى إنكاره وقريش لها سيادة العرب، وهي لا يمكن أن تني عن الأخذ بثأرها. وما أصاب قافلة صفوان بن أمية لن يزيدها على الثأر إلا حرصًا، وفي التهيؤ للأخذ به إلا شدة. وما كان شيء من هذا ليغيب عن محمد وبعد نظره وسلامة سياسته، فلا بد له إذن من أن يزيد المسلمين به تعلقًا وارتباطًا، ومهما يكن الإسلام قد شد من عزائمهم وجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، فإن حسن رعايتهم تزيد عزائمهم شدة وتضامنهم قوة. ومن حسن رعايتهم أن يزيد محمد رابطته بهم.
لهذا تزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما تزوج من عائشة بنت أبي بكر من قبل، وكانت حفصة من قبله زوج خُنيس أحد السابقين إلى الإسلام، وقد مات عنها قبل زواج محمد بسبعة أشهر. وكما تزوج من حفصة فزاد عمر بن الخطاب به تعلقًا، زوَّج ابنته فاطمة من ابن عمه عليٍّ أشد الناس محبة للنبي وإخلاصًا له منذ طفولته. ولما كانت رُقَيَّة ابنته قد اختارها الله إلى جواره، فقد زوَّج عثمان بن عفان بعدها ابنته أم كلثوم. وكذلك جمع حوله برابطة المصاهرة أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، وجمع بذلك أربعة من أقوى المسلمين الذين كانوا معه، بل أقواهم إن شئت. بهذا كفل للمسلمين مزيدًا من القوة، كما كفل لهم بما غنموا في مغازيهم إقدامًا على الحرب يجمع فيها الرجل بين الجهاد في سبيل الله والغنم من المشركين. وهو في هذه الأثناء يتتبع بدقة كل الدقة أخبار قريش وما تُعدُّ. فقد كانت قريش تعدُّ للثأر ولتفتح لنفسها طريق التجارة إلى الشام، حتى لا تهوي مكانة مكة التجارية ومكانتها الدينية إلى حيث لا تقوم لها من بعد ذلك قائمة.