آثار أحُد
(ائتمار القبائل المجاورة بالمسلمين – غزوة بني أسد – أمر الهذلي – مقتل خبيب وأصحابه بالرجيع – مقتل المسلمين ببئر معونة – إجلاء بني النضير عن المدينة – غزوة بدر الآخرة – غزوة دومة الجندل)
***
عاد أبو سفيان من أُحد إلى مكة، وقد سبقته إليها أخبار النصر، ممتلئ النفس غبطة وسرورًا بما زال عن قريش من عار بدر. ولم يلبث حين بلغها أن قصد الكعبة قبل أن يدخل إلى بيته، وبها رفع إلى كبير آلهتهم هبل آي الثناء والحمد؛ ثم حلق لمته ورجع إلى داره موفيًا نذره ألا يقرب زوجه حتى ينتصر على محمد. أما المسلمون فألفوا المدينة وقد تنكر لهم الكثير من أمرها، على رغم مطاردتهم عدوهم وثباتهم له ثلاثة أيام سويًّا من غير أن يجترئ على الرجعة إليهم وهو المنتصر قبل أربع وعشرين ساعة عليهم. ألفوا المدينة وقد تنكر لهم الكثير من أمرها وإن بقي سلطان محمد فيها السلطان الأعلى، وشعر عليه السلام بدقة الموقف وحرج المركز، لا في المدينة وحدها، بل كذلك عند قبائل العرب ممن كان الرعب منه قد داخل نفوسها؛ قد ردت أحُد إليها من السكينة ما سمح لها أن تفكر في معارضته ومناوأته. لذلك حرص على أن يقف من أخبار أهل المدينة ومن أخبار العرب جميعًا، على ما يمكنه من استعادة مكانة المسلمين وسطوتهم وهيبتهم في النفوس.
واتصل بمحمد من بعد ذلك أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي مقيم بنخلة أو بعرنة، وأنه يجمع الناس ليغزوه، فدعا إليه عبد الله بن أنيس وبعثه يتجسس حتى يقف على جلية الخبر، وسار عبد الله حتى لقي خالدًا وهو في ظعن يرتاد لهن منزلًا. فلما انتهى إليه سأله خالد: من الرجل؟ فأجابه: أنا رجل من العرب سمع بك وبجمعك لمحمد فجاءك لذلك. فلم يخف خالد أنه يجمع الجمع ليغزو المدينة. ولما رآه عبد الله في عزلة من الرجال وليس معه إلا أولئك النسوة استدرجه للمسير معه، حتى إذا أمكنته منه الفرصة حمل عليه بالسيف فقتله، ثم ترك ظعائنه منكبات عليه يبكينه، وعاد إلى المدينة فأخبر الرسول الخبر. وهدأت بنو لحيان من هذيل بعد موت زعيمها زمنًا، ثم فكرت تحتال لتثأر له.
في هذا الحين وفد رهط من قبيلة تجاورهم إلى محمد يقولون له: إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يعلموننا شرائعه ويقرئوننا القرآن. وكان محمد يبعث من أصحابه كلما دُعي إلى ذلك ليؤدوا هذه المهمة الدينية السامية، وليدعوا الناس إلى الهدى ودين الحق، وليكونوا لمحمد وأصحابه عونًا على خصومهم وأعدائهم، على نحو ما رأيت من ذلك كله فيمن بعثهم إلى المدينة على أثر العقبة الكبرى. لذلك بعث ستة من كبار أصحابه خرجوا مع الرهط وساروا معهم. فلما كانوا جميعًا على ماء لهذيل بالحجاز بناحية تدعى الرجيع، غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلًا. ولم يرع المسلمين الستة وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم؛ فأخذ المسلمون أسيافهم ليقاتلوا. لكن هذيلًا قالت لهم: إنا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب بكم مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد أدركوا أن الذهاب بهم إلى مكة فرادى إنما هو المذلة والهوان وما هو شر من القتل، فأبوا ما وعدت هذيل. وانبروا لقتالها، وهم يعلمون أنهم في قلة عددهم لا يطيقونه. وقتلت هذيل ثلاثة منهم ولان الثلاثة الباقون.
فأمسكت بتلابيبهم وأخذتهم أسرى، وخرجت بهم إلى مكة تبيعهم فيها. فلما كانوا في بعض الطريق انتزع عبد الله بن طارق أحد المسلمين الثلاثة يده من غل الأسر ثم أخذ سيفه؛ فاستأخر عنه القوم وطفقوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه، أما الأسيران الآخران فقدمت بهما هذيل مكة وباعتهما من أهلها. باعت زيد بن الدثنة لصفوان بن أمية الذي اشتراه ليقتله بأبيه أمية بن خلف؛ فدفع به إلى مولاه نسطاس ليقتله. فلما قدم سأله أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدًا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي! فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت من الناس أحدًا يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدًا. وقتل نسطاس زيدًا، فذهب شهيد أمانته لدينه ولنبيه.
أما خبيب فحبس حتى خرجوا به ليصلبوه؛ فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا؛ فأجازوه فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم وقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعًا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ورفعوه إلى خشبة؛ فلما أوثقوه إليها نظر إليهم بعين مغضبة وصاح: «اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا.» فأخذت القوم الرجفة من صيحته، واستلقوا إلى جنوبهم حذر أن تصيبهم لعنته، ثم قتلوه.
وكذلك استشهد خبيب كما استشهد زيد في سبيل بارئه وسبيل دينه ونبيه. وكذلك ارتفع إلى السماء هذان الروحان الطاهران وكان في استطاعة صاحبيهما أن يستنقذاهما من القتل إن رضيا الردة عن دينهما لكنهما في يقينهما بالله وبالروح وبيوم البعث، يوم تجزى كل نفس بما كسبت ولا تزر وازرة وزر أخرى، رأيا الموت، وهو غاية كل حي، خير ما يكون غاية للحياة في سبيل العقيدة وفي سبيل الإيمان بالحق؛ ولكنهما آمنا بأن دمهما الزكي الطهور الذي أريق على أرض مكة سيدعو إليها إخوانهم المسلمين يدخلونها فاتحين يحطمون أصنامها، ويطهرونها من رجس الوثنية والشرك، ويردون فيها إلى الكعبة بيت الله ما يجب لبيت الله من تقديس وتنزه عن أن يذكر فيه اسم غير اسم الله.
لا يقف المستشرقون من هذا الحادث وقوفهم عند أسيري بدر اللذين قتلهما المسلمون، ولا يحاولون أن يستنكروا هذا الغدر برجلين بريئين لم يؤخذا في حرب وإنما أخذا خداعًا وسارا بأمر الرسول ليعلما من غدروا بهما ومن أسلموهما إلى قريش بعد أن قتلوا زملاءهم غيلة وبغيًا. وهم لا يستنكرون ما صنعت قريش بالرجلين الأعزلين، مع أن ما صنعته بهما شر مثل للجبن وللعدوان الدنيء. ولقد كانت أولى مبادئ الإنصاف تقتضي المستشرقين، الذين أنكروا ما فعل المسلمون بأسيري بدر، أن يكونوا أشد استنكارًا لغدر قريش وغدر الذين أسلموا إليها الرجلين لقتلهما، بعد أن قتلوا الأربعة الرجال الذين جاءوا وإياهم إجابة لطلبهم ليدلوهم على الحق ويفقهوهم في الدين.
حزن المسلمون وحزن محمد لما أصاب أصحابهم الستة الذين استشهدوا في سبيل الله بغدر هذيل بهم، وأرسل حسان بن ثابت أشعاره يرثي فيها خبيبًا وزيدًا أحرَّ الرثاء. وازداد محمد تفكيرًا في أمر المسلمين وخشي إن تكررت مثل هذه الأمور أن تستخف العرب بشأنهم. ولا شيء أقتل لهيبتك من استخفاف غيرك بشأنك. وإنه لفي تفكيره إذ قدم عليه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة؛ فعرض محمد عليه أن يُسلم فلم يقبل، ولكنه لم يظهر للإسلام عداوة، بل قال: يا محمد، لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فخاف محمد على أصحابه من أهل نجد وخشي أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل بخبيب وأصحابه. ولم يقتنع ولم يجب طلب أبي براء، حتى قال: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا إلى أمرك. وكان أبو براء رجلًا مسموع الكلمة في قومه لا يخاف من أجاره عادية أحد عليه. وبعث محمد المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في أربعين رجلًا من خيار المسلمين. فساروا ونزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرَّة بني سليم، ومن هناك بعثوا حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب محمد فلم ينظر عامر الكتاب بل قتل الرجل واستصرخ بني عامر كي يقتلوا المسلمين. فلما أبوا أن يخفروا ذمة أبي براء وجواره استصرخ عامر قبائل أخرى أجابته وخرجت معه حتى أحاطوا بالمسلمين في رحالهم فلما رآهم المسلمون أخذوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، لم ينج منهم إلا كعب بن زيد؛ إذ تركه ابن الطفيل وبه رمق، فعاش ولحق بالمدينة، وإلا عمرو بن أمية الذي أعتقه عامر بن الطفيل عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. ولقي عمرو رجلين في الطريق حين عودته بعد انطلاقه، فحسبهما من القوم الذين عدوا على أصحابه، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وتابع مسيره حتى بلغ المدينة، فأخبر الرسول — عليه السلام — بما صنع فإذا الرجلان عامريان من قوم أبي براء، وإذا معهما عقد جوار من رسول الله اقتضاه أن يؤدِّي ديتهما.
وجِد محمد لقتلى بئر معونة أشد الوجد، وحزن من أجلهم أعمق الحزن، وقال: هذا عمل أبي براء، لقد كنت كارهًا متخوفًا وشق على أبي براء إخفار عامر بن الطفيل إياه، حتى لقد ذهب ابنه ربيعة فطعن عامرًا بالرمح انتقامًا منه لأبيه. وبلغ من حزن محمد أنه ظل شهرًا كاملًا يدعو الله بعد أداء فريضة الفجر لينتقم لهم من قتلتهم. وتأثر المسلمون جميعًا لهذه الكارثة التي أصابت إخوانهم في الدين. وإن آمنوا بأنهم جميعًا استشهدوا، وبأنهم جميعًا لهم الجنة.
ووجد أهل المدينة من المنافقين واليهود فيما أصاب المسلمين بالرجيع وبئر معونة ما أعاد إلى ذاكرتهم انتصار قريش بأحُد، وما أنساهم نصر المسلمين على بني أسد، وما أضعف في نفوسهم من هيبة محمد وأصحابه. وفكَّر النبي — عليه السلام — في هذه الحالة تفكير سياسي دقيق النظر بعيد مرامي الرأي. فليس شيء أشد على المسلمين يومئذ خطرًا من أن تضعف في نفوس مساكنيهم بالمدينة هيبتهم، وليس شيء يطمع قبائل العرب فيهم مثل أن تشعر بهذا الانقسام الداخلي يوشك أن يُثير حربًا أهلية إذا غزا المدينة غازٍ من جيرانها. ثم إنه رأى اليهود والمنافقين كأنهم يتربصون به الدوائر؛ فقدَّر أن لا شيء خير من أن يستدرجهم لتتضح نياتهم. ولما كان اليهود من بني النضير حلفاء لبني عامر، فقد ذهب إلى محلتهم على مقربة من قباء، في عشرة من كبار المسلمين بينهم أبو بكر وعمرو وعليٌّ، وطلب إليهم معاونتهم في دية القتيلين اللذين قتل عمرو بن أمية خطأً، ومن غير أن يعلم أن محمدًا أجارهما.
فلما ذكر لهم ما جاء فيه أظهروا الغبطة والبشر وحسن الاستعداد لإجابته. لكنه ما لبث أثناء تبسط بعضهم معه أن رأى سائرهم يتآمرون، ويذهب أحدهم إلى ناحية، ويبدو عليهم كأنهم يذكرون مقتل كعب بن الأشرف، ويدخل أحدهم (عمرو بن جحاش بن كعب) البيت الذي كان محمد مستندًا إلى جداره. إذ ذاك رابه أمرهم، وزاده ريبة ما كان يبلغه من حديثهم عنه وائتمارهم به. لذلك ما لبث أن انسحب من مكانه تاركًا أصحابه وراءه يظنون أنه قام لبعض أمره. أما اليهود فقد اختلط عليهم الأمر ولم يعودوا يعرفون ما يقولون لأصحاب محمد ولا ما يصنعون بهم. فإن هم غدروا بهم فمحمد لا ريب منتقم منهم شر انتقام. وإن هم تركوهم فلعل ائتمارهم بحياة محمد وأصحابه لا يكون قد افتضح فيظل ما بينهم وبين المسلمين من عهد قائمًا. وحاولوا أن يقنعوا ضيوفهم المسلمين بما يزيل ما قد يكون رابهم من غير أن يشيروا إلى شيء منه. لكن أصحاب محمد استبطئوه فقاموا في طلبه، فلقوا رجلًا مقبلًا من المدينة عرفوا منه أن محمدًا دخلها وأنه قصد توًّا إلى المسجد فيها، فذهبوا إليه.
ومكث القوم على ذلك أيامًا يتجهزون وإنهم لكذلك إذ جاءهم رسولان من عند عبد الله بن أبيٍّ يقولان: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يُوصل إليكم. وتشاورت بنو النضير في مقالة ابن أبيٍّ وهم أشد ما يكونون حيرةً؛ فمنهم من لم يكن له بابن أبيٍّ أية ثقة. ألم يعد بني قينقاع من قبل مثل ما يعد بني النضير اليوم، فلما جدَّ الجدُّ تخلى عنهم وولَّى مدبرًا؟ وهم يعلمون أن بني قريظة لا ينصرونهم لما بينهم وبين محمد من عهد. ثم إنهم جلوا عن ديارهم إلى خيبر أو إلى محلة قريبة، استطاعوا أن يعودوا حين يثمر نخيلهم إلى يثرب، يجنون ثمره ويعودون أدراجهم فلا يكونون قد خسروا كثيرًا. قال كبيرهم حيي بن أخطب: كلا بل أنا مرسل إلى محمد: إنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له، وما علينا إلا أن نرُم حصوننا نُدخل إليها ما شئنا، وندرِّب أزقتنا وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة. وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم.
وعبثًا انتظر اليهود نصر ابن أبيٍّ أو تقدم أحد من العرب لنجدتهم، حتى لم يبق لديهم ريبة في سوء مصيرهم إذا أصروا على متابعة القتال. فلما ملأ اليأس قلوبهم رعبًا، سألوا محمدًا أن يؤمِّنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة. فصالحهم محمد على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاءوا من مال أو طعام أو شراب، وليس لهم غيره. واحتمل اليهود على رأسهم حيي بن أخطب، فنزل خيبر منهم من نزل وسار آخرون إلى أذرعات بالشام، وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح بلغ خمسين درعًا وثلاثمائة وأربعين سيفًا، ثم كان ما خلَّت اليهود من الأرض التي كانوا يملكون خيرَ ما غنم المسلمون. على أنَّ هذه الأرض لم تعتبر أسلاب حرب، ولذلك لم تقسم بين المسلمين، بل كانت لرسول الله خاصةً يضعها حيث يشاء. وقد قسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار بعد أن استبقى قسمًا خصصت غلَّته للفقراء والمساكين. وبذلك أصبح المهاجرون في غنًى عن معونة الأنصار. وأصبح لهم مثل ثروتهم. ولم يشترك في القسمة من الأنصار إلا أبو دُجانة وسهل بن حنيف، فقد ذكرا فقرًا فأعطاهما محمد كما أعطى المهاجرين، ولم يُسلم من يهود بني النضير غير رجلين أسلما على أموالهما فأحرزاها.
كان كاتب سر النبي، إلى حين إجلاء بني النضير عن المدينة، من اليهود؛ ليتسنى له أن يبعث من الرسائل بالعبرية والسريانية ما يريده. فلما جلا اليهود خاف النبي أن يستعمل في أسراره غير مسلم، فأمر فتعلم زيد بن ثابت من شبان المدينة المسلمين اللغتين المذكورتين، وأصبح كاتب سر النبي في كل شئونه. وزيد بن ثابت هذا هو الذي جمع القرآن في خلافة أبي بكر، وهو الذي عاد فراقب الجمع حين اختلفت القراءات في خلافة عثمان، فوضع مصحف عثمان وأحرقت سائر المصاحف.
اطمأنت المدينة بعد إجلاء بني النضير عنها، فلم يعد المسلمون يخشون المنافقين فيها، واغتبط المهاجرون بما أصابوا من أرض اليهود؛ واغتبط الأنصار باستغناء المهاجرين عن معونتهم؛ وتنفسوا جميعًا الصعداء، وكانت فترة سكينة وهدوء وطمأنينة استراح إليها المهاجرون والأنصار جميعًا. وظلوا كذلك، حتى إذا استدار العام منذ أحُد ذكر محمد — عليه السلام — قولة أبي سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل.» ودعوته محمدًا للقائه ببدر مرة أخرى. وكان العام عام جدب. وكان أبو سفيان يود لو يؤجل اللقاء إلى عام آخر، فبعث نُعيمًا إلى المدينة يقول للمسلمين إن قريشًا جمعت جيشًا لا قِبَل لجيش في العرب بمواجهته لتحاربهم به حتى تقضي عليهم قضاءً لا يُعد ما تم بأحد إلى جانبه شيئًا. وبدا للمسلمين أن يجتنبوا الخطر، فأظهر الكثيرون الرغبة عن النهوض والسير لبدر. لكن محمدًا غضب لهذا الضعف والتراجع، وصاح بهم مُقسمًا أنه ذاهب إلى بدر ولو ذهب وحده.
لم يبق بعد هذه الغضبة العظيمة إلا أن يذوب كل تردد ويزول كل خوف وأن يحمل المسلمون سلاحهم وأن يذهبوا إلى بدر. واستعمل النبي على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، ونزل المسلمون بدرًا ينتظرون قريشًا مستعدين لقتالها. وخرجت قريش مع أبي سفيان من مكة في أكثر من ألفي رجل. لكن أبا سفيان بدا له أن يرجع بعد مسيرة يومين، فنادى في الناس: يا معشر قريش، إنه لا يُصلحكم إلا عام خصيب، وإن عامكم هذا جدب وإني راجع فارجعوا. ورجع الناس. وأقام محمد في جيش المسلمين ينتظرهم ثمانية أيام متتابعة اتَّجر المسلمون ببدر فيها فربحت تجارتهم، ثم عادوا إلى المدينة مستبشرين بفضل من الله ونعمة.
وكذلك محت غزوة بدر الآخرة أثر أحد محوًا تامًّا، ولم يبق لقريش إلا أن تنتظر عامًا آخر، رازحة تحت عار من جبنها لا يقل وطأة عن عار هزيمتها في بدر الأولى.
وأقام محمد بالمدينة مستريحًا إلى نصر الله إياه، مطمئنًّا إلى ما عاد للمسلمين من هيبتهم، حذرًا دائمًا غدرة العدو، باثًّا عيونه في كل النواحي. وإنه لكذلك إذ اتصل به أن جماعة من غطفان بنجد يجمعون له يريدون حربه. وكانت خطته أن يأخذ عدوه على غرة قبل أن يُعِد العدة لدفعه. لذلك خرج في أربعمائة من رجاله حتى نزل ذات الرقاع حيث اجتمع بنو محارب وبنو ثعلبة من غطفان. فلما رأوه طلع عليهم في عدة حربه مهاجمًا مساكنهم، تفرقوا تاركين وراءهم نساءهم ومتاعهم. واحتمل المسلمون ما استطاعوا، وعادوا أدراجهم إلى المدينة. على أنهم خافوا رجعة العدو عليهم فتناوبوا الحراسة ليل نهار. وجعل محمد يصلي بهم أثناء ذلك صلاة الخوف؛ فكان جماعة منهم يظلون مستقبلين العدو مخافة لحاقه بهم في حين يصلي الآخرون مع محمد لله ركعتين. ولم يبد للعدو أثر وعاد النبي وأصحابه إلى المدينة بعد غيابهم خمسة عشر يومًا عنها وهم بظفرهم جدُّ فرحين.
وخرج النبي بعد قليل من ذلك إلى غزوة أخرى هي غزوة دومة الجندل. ودومة الجندل واحة على حدود ما بين الحجاز والشام، تقع في منتصف الطريق بين البحر الأحمر وخليج فارس. ولم يقابل محمد القبائل التي أراد مقاتلتها هناك والتي كانت تُغير على القوافل؛ لأنها ما لبثت حين سمعت باسمه أن أخذها الفزع وولت مدبرة، وتركت للمسلمين ما احتملوا من غنائم. وأنت ترى من هذا التحديد الجغرافي لدومة الجندل مبلغ ما اتسع نفوذ محمد وأصحابه، وما بلغ إليه سلطانهم وخوف شبه الجزيرة إياهم، كما ترى كيف كان المسلمون يحتملون المتاعب في غزواتهم، مستهينين بالقيظ والجدب وقلة الماء، مستهينين بالموت نفسه، يحركهم إلى هذا النصر والظفر شيء واحد هو سبب قوتهم المعنوية: الإيمان بالله وحده لا شريك له.
آن لمحمد من بعد ذلك أن يطمئن بالمدينة عدة أشهر متتابعة، ينتظر فيها موعد قريش لعامه القادم — سنة خمس من الهجرة — ويقوم بأمر ربه، بإتمام التنظيم الاجتماعي للجماعة الإسلامية الناشئة، تنظيمًا كان يتناول عدة ألوف يومئذ ليتناول الملايين ومئات الملايين من بعد ذلك، ويقوم بإتمام هذا التنظيم الاجتماعي في دقة وحسن سياسة، يوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويُقر هو ما يتفق مع أمر الوحي وتعاليمه، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه يومئذ، وما ظل من بعد ذلك قائمًا على الأجيال والدهور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.